الفصل الرابع

هنري السادس

لم يُحسَم الترتيبُ الزمني لكتابة مسرحيات شيكسبير إلا بصورةٍ تقريبية. وعندما قبلتُ اقتراح بيتر ألكسندر الذي يقول إن شيكسبير نفسَه هو الذي كتب النسخةَ الأصلية من هاملت، في ١٥٨٨-١٥٨٩م على ما نظن، فإنني وسعتُ اقتراح ألكسندر بأن حدَستُ أن نسخة هاملت الأولى ربما كانت من أوائل مسرحيات شيكسبير، وأنها كانت أقربَ إلى أن تُعتبر مسرحيةً تاريخية تتناول الانتقام، منها إلى تراجيديا انتقام. ولنا أن نستنتج ما كانت عليه هاملت الأولى، من نقصٍ مرجح، من فحصِ ما أصبحنا نُسميه (استنادًا إلى طبعة الفوليو الأولى) الجزء الأول من الملك هنري السادس [نكتبها اختصارًا هنري السادس (١)]. كتبت هذه المسرحية في ١٥٨٩-١٥٩٠م (ثم نقَّحها المؤلف بوضوحٍ في ١٥٩٤-١٥٩٥م) وهي سيئةٌ إلى الحد الذي ربما جعلَنا لا ننعي فقدان هاملت الأولى، ولا بد أنها كانت في ظني تُعادلها في السذاجة. وأما محاولات الباحثين لنسبةِ جانب كبير من هنري السادس (١) إلى روبرت جرين أو جورج بيل، وهما من صغار المؤلفين حقًّا، فلا تُقنعني، وربما يسرُّني أن أعتقد أن كُتَّابًا غيرَ مُجيدين قد اشتركوا في العمل مع شيكسبير اليافع. أما ما أسمعه في هذه المسرحية فأسلوبُ مارلو وبلاغته اللذان استُولِي عليهما بحماسٍ وشجاعةٍ شديدةٍ، ولكن من دون استقلال، كأنما كان الكاتب المبتدئ قد أسكَرَته مسرحيتا تمبرلين ويهودي مالطة. والسطور التي تَنْعَى وفاة هنري الخامس، تفتتح المسرحية بمَراثيه الجنائزية التي تُشبه مراثيَ تمبرلين الأكبر.
بدفورد :
فَلْتَلْبَسِي لَوْنَ الحِدَادِ المُدْلَهِمَّ أيَا سَمَاءْ،
وأَسْلِمِي النَّهَارَ لِلَّيْلِ البَهِيمْ،
وَيَا مُذَنَّبَاتِنَا يا مُنْذِرَاتٍ بالتَّغَيُّرِ الوَشِيكِ لِلزَّمَانِ والدُّوَلْ،
فَلْتَنْشُرِي خُصْلَاتِكِ البِلَّوْرَ في ثَبَجِ السَّمَاءْ،
ولْتَجْعَلِي مِنْها رُجُومًا لِلنُّجُومِ الثَّائِرَاتْ،
مِنْ بَعْدِ أنْ رَضِيَتْ بِمَوْتِ مَلِيكنَا هِنْري؛
فَذَاكَ هنري الخَامِسُ الَّذِي
لَمْ يَرْضَ صِيتُهُ العَظِيمُ اليَوْمَ أنْ يُعَمَّرْ،
ومَا فَقَدْنَا عَاهِلًا يَفُوقُهُ مَكَانَةً بِكُلِّ إنْجِلْتِرَةِ!
جلوستر :
بَلْ ما عَرَفَتِ انْجِلْتِرَةُ مَلِيكًا حَتَّى زَمَنِه
كانَ مُهَابًا ذَا فَضْلٍ وجَدِيرًا أنْ يَأْمُرَ فَيُطَاعْ؛
إنْ يُشْهِرْ فُولَاذًا أَعْمَى ضَوْءُ النَّصْلِ رِجَالَهْ،
وذِراعَاهُ المُنْفَتِحَةُ أكبرُ مِنْ أَجْنِحَةِ التِّنيِّنْ،
أمَّا عَيْنَاهُ البَارِقَتَانِ بِنَارِ الغَضَبِ المُتَأَجِّجِ،
فَلَقَدْ كَانَتْ تَبْهَرُ أَبْصَارَ الأَعْدَاءِ فَيَنْهَزِمُونْ؛
فَالوَهْجُ يَفُوقُ ضَرَاوَةَ ضَوْءِ الشَّمْسِ
إذَا انْصَبَّ بِوَقْتِ الهَاجِرَةِ علَى كُلِّ مُحَيَّا،
أنَّى لِي أنْ أَصِفَهْ؟ لا يَقْدِرُ وَصْفٌ أنْ يَرْقَى لِفِعَالِهْ،
لَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ يَوْمًا إلَّا كانَ القَاهِرَ والظَّافِرْ!
إكستر :
إنَّا نُقِيمُ حِدَادَنا بِثِيَابِنَا السَّوْدَاءْ،
لِمَ لَا يَكُونُ النَّعْيُ فِينَا بالدِّمَاءْ؟
إذْ مَاتَ هِنْرِي ثُمَّ لَنْ يَحْيَا علَى مَرِّ الحِقَبْ،
ونُحِيطُهُ في نَعْشِهِ مِنَ الخَشَبْ،
ونَرَى انْتِصَارَ المَوْتِ نَصْرًا لَا يُشَرِّفُ صَاحِبَهْ؛
فَكَأَنَّنَا نُعْلِي الحِمَامَ بِرِفْعَةٍ مِنْ حَوْلِهِ ونُمَجِّدُهْ،
أوْ قُلْ كَأَنَّا بَعْضُ أَسْرَى المُنْتَصِرْ … وتَجَرُّهُمْ عَرَبَتُهْ!
عَجَبًا أَنَلْعَنُ مِنْ طَوَالِعِنَا المُسِيئَاتِ التي
حَاكَتْ مُؤَامَرَةً لِطَرْحِ المَجْدِ أَرْضًا عِنْدَنَا؟
(١ / ١ / ١–٢٤)
غَيِّرْ أسماء الملوك، واستبدِلْ سيثيا بإنجلترا، تجد لديك نصًّا مقبولًا لمارلو. لم يكن روبرت جرين يستطيع وضع هذه المحاكاة الرائعة لمارلو، ولم يشأ جورج بيل أن يُحاكيَ مارلو هذه المحاكاةَ السافرة. أما شيكسبير اليافع، في هذا النص وفي هاملت الأولى، فقد بدأ بكاريكاتيرات تاريخيةٍ تسخر من الطَّنْطنة البطولية. وتوجد في النص لمساتٌ غنائية معيَّنة، بل وبعض الموسيقى الفكرية التي تتجاوز ما لدى مارلو، لكنني أظنُّ أن هذه كانت نتيجةَ التنقيح الذي أجراه في ١٥٩٤-١٥٩٥م، وكان شيكسبير قد تخلى عن وليمته اللُّغوية الدسمة في خاب سعي العشاق، بل ونشك في أن المحاكاة الساخرة الفظَّة لجان دارك كان يمكن أن تخرج في هذه الصيغة الشعرية عام ١٥٨٩-١٥٩٠م [تقول جان دارك]:
مَكْتُوبٌ لي أنْ أُصْبِحَ سَوْطًا يُلْهِبُ ظَهْرَ إنْجِلْتِرَة،
وحِصَارُ البَلْدَةِ أَرْفَعُهُ هذِي اللَّيْلَةَ دُونَ مِرَاءْ،
ما دُمْتُ نَزَلْتُ مُقَاتِلَةً في هذِي الحَرْب؛
فانْتَظِرُوا صَيْفًا مُعْتَدِلَ الجَوِّ وأيَّامَ سُكُونٍ وصَفَاءْ،
المَجْدُ شَبِيهٌ بالدَّائِرَةِ المُنْدَاحَةِ في المَاءْ،
مَا تَفْتَأُ تَزْدَادُ بِهِ سَعَةً حَتَّى تَبْلُغَ أَقْصَاهَا،
فَإِذَا هي تَذْوِي حَتَّى تَتَلَاشَى،
وتَلَاشِي دَائِرَةِ انْجِلْتِرَةِ بَدَا بِوَفَاةِ العَاهِلِ هِنْرِي،
وسَيَعْقُبُهُ تَشْتِيتُ الأَمْجَادِ بِتِلْكَ الدَّائِرَةِ!
ما أَشْبَهَنِي بِسَفِينَةِ قَيْصَرْ … تِلْكَ المُتَبَاهِيَةَ الشَّمَّاءْ؛
إذْ كَانَتْ تَحْمِلُ قَيْصَرَ مَعَ طَالِعِهِ المَيْمُونِ الوَضَّاءْ.
(١ / ٢ / ١٢٩–١٣٩)
تشتهر جان دارك التي يُصورها شيكسبير بأنها أقربُ إلى فولسطاف من كونها نسمةَ صيفٍ تهبُّ في الشتاء! وهي تتَّسم بالبذاءة والسخف في بعض المشاهد، وبالشجاعة والصراحة في مشاهد أخرى، بحيث تقهر النقدَ صورتُها المذكورة. وشيكسبير لا يرسم لها صورةً متسقة، وربما كان ذلك يستعصي عليه في تلك اللحظة من تطوره. ومع ذلك فمن الخطر أن نستهينَ حتى بشيكسبير المبتدئ، وعلى الرغم مما تُثيره جان دارك من الحيرة، فهي شخصية لا تُنسى، حتى لغرابتها. لِم لا تجمع بين العَهْر الشيطاني وبين الزعامة الحربية السياسية؛ بفضل عبقريتها الريفية؟ إنها عاليةُ النبرة شرسةُ الطبع، ولكنها تُحقق نتائجَ معينة، وأما إحراق الإنجليز من غِلاظ الأكباد لها باعتبارها ساحرةً فلا يقصد به أن يأتيَ بأفضل صفات أي أحد. وباعتبارها فتاةً صاحبةَ صوت هادر؛ فإنَّ لها سِحرَها المريرَ الطَّعم، وهي أفضلُ بلا شك من بطل شيكسبير، طولبوت الشجاع المملِّ المضجِر. إن جان دارك أنثى مقاتلة، وهي محاربة تتميز بدهاءٍ يزيد عمَّا لدى الغلام البلطجي طولبوت، وإذا قامت بدورها ممثلةٌ مناسبة، فسوف تظل ذاتَ جاذبية كبيرة. مَن ذا الذي يريدها أن تُطنطن بالفضائل مثل الفتيات المقاتلات اللواتي يرضَين النوازع الصادية الماسوكية عند الرجال على شاشة التلفاز؟ ولا يتَّسم تصوير شيكسبير لجان دارك بأنه مُتضادٌّ غامض بقدرِ ما يوحي بأنه يستغلُّها؛ فهي تريد الانتصار، أما إن كان النصرُ سيأتي في الفِراش أم في ساحة القتال فأمرٌ ثانَوي. فالواقع أن الأحكام الأخلاقية التي تعتبر غريبةً على الدوام عند الرؤية الدرامية عند شيكسبير، تكشفها هنري السادس (١) باعتبارها مجردَ تعصب وطني. فالفرنسيون يرون أن جان دارك تمثل عودة ديبورا النبيَّة المقاتلة في الكتاب المقدَّس، والإنجليز يُدينونها باعتبارها كيركي الساحرة. ويوحي شيكسبير بنبرته البرجماتية بأن ذلك لا يُهم؛ لأن كلَّ صورة منهما ذاتُ قوة لا تكاد تُصدَّق، وتطغى على كل شخصية من الذكور، بمَن فيهم طولبوت. وهنا أقول إنني أختلف إلى حدٍّ كبير مع ليزلي فيدلر الذي كتب يقول «إن كل شيء في جان دارك يُثير غضبةَ شيكسبير». فالحقُّ أن شيكسبير، ولو في بداياته، لا يُبدي أيَّ عَداء لأيةِ شخصية من شخصياته؛ فتصويره لجان دارك تصوير كوميدي قلق، لكنه في جوهره فكاهي، ونسمعها أحيانًا تسخر سخريةً فعالة من التباهي الذكوري بالحرب، وقد تكون سخريتها فظَّة، بل قاسية، ومع ذلك فهي تنجح دائمًا دراميًّا، وعلى الرغم من إحراقها الشنيع على أيدي الإنجليز الحانقين، فإن روحها هي التي تنتصر لا طولبوت الشجاع. ونحن لا نستطيع دائمًا أن نُدرك سخرياتِ شيكسبير؛ فصورة جان دارك عنده صورةٌ كاريكاتورية مطموسة؛ إنْ قُورِنَت بالروعة الإنسانية في تصويره لفولسطاف، ومع ذلك تستبق قدرًا من الاحتقار العظيم الذي يُضمِره فولسطاف للزمن وللدولة.
إذا حكمتَ بأن شيكسبير يُقدم لنا جان دارك في صورةٍ مفترًى عليها، فانظر مقدار النقص الذي كان يُمكن أن يَعيبَ هنري السادس (١) لو لم تكن فيها. إنها تخرج وهي تُردد ألفاظ السِّباب (من دون فصاحةٍ حقَّة)، ولكن المسرحية تظل مسرحيتها لا مسرحية طولبوت. إن ذلك القائد العام الشجاع يموت حاملًا جثمانَ ابنِه الباسل بين ذراعَيه، ولكن شيكسبير يفشل فشلًا ذريعًا في صَوغ كلمات طولبوت الأخيرة:
أقْبِلُوا الآنَ إذنْ. وَسِّدُوا الجُثْمَانَ صَدْرَ الوَالِدِ،
لمْ تَعُدْ رُوحِي تُطِيقُ الصَّبْر في آلامِهَا والمِحَنِ،
الوداعَ الآنَ أيُّها الجُنُود!
نِلْتُ مَا لَا بُدَّ أنْ ألْقَاهُ في زَمني،
وذِراعاي اللَّتانِ انْهَارتا مِنْ وَهَنِ،
تُصْبِحَانِ القَبْرَ لِلشَّابِّ الذي أَنْجَبْتُهُ جُونْ طُولْبُوتْ.
(٤ / ٧ / ٢٩–٣٢)

من المفترض أن هذه الأسطر كان المقصود بها أن تُمثل مشاعرَ أسًى بطوليَّة، وإنما فَشِلَت إما لأن شيكسبير لم يكن يحبُّ طولبوت، وهو مرجح، وإما لأن الشاعر والكاتب المسرحي لم يكن قد عرَف بعد كيف يُعبر عن مثلِ هذا الإحساس المتناقض ظاهريًّا. وأما الملك هنري السادس فيصبح شخصًا يُثير التعاطف الأصيل، وغير البطولي على الإطلاق في الجزأين الثاني والثالث، وأما في الجزء الأول فإنَّ ورَعه وأدبه شبه الطفولي، يُلمح الكاتب إليهما وحسب؛ إذ نادرًا ما يظهر على المسرح، وحتى حين يظهر، يكون ذلك منبئًا بكوارثَ في المستقبل. ولا يُنقذ الجزء الثانيَ إلا الفصلُ الرابع (اعتبارًا من المشهد الثاني وما يليه) وهو الذي يرسم صورةً حية لتمردِ جاك كيد. كانت الثورات الشعبية تُصيب شيكسبير بالرعب، ومع ذلك كانت تُحرر مُخيلتَه، والواقع أن كوميديا مشاهد كيد جديرة بشيكسبير؛ إذ إنها تقفُ على الحدود بين الكابوس والتمثيل الواقعي [المشهد نثري]:

كيد : كونوا شجعانًا إذن؛ فقائدُكم شجاعٌ ويتعهَّد بالإصلاح. لسوف يُباع في إنجلترا ببنسٍ واحد، سبعة أرغفة قيمة كلٍّ منها نصفُ بنس، وسوف يكبر كوز الجِعَة ذو الحلقات الثلاث ليصبحَ ذا حلقاتٍ عشر، حتى يرويَ عطشَ العطشان، بل إنني سأجعل قلة شرب الجِعَة جريمة! وسيكون أفرادُ المملكة جميعًا سَواسية، وسأطلق حصاني ليرعى الكلأَ في وسط مدينة لندن، في حيِّ تشيب سايد. وعندما أصبح ملكًا؛ إذ سأكون بالقطع ملكًا …
الجميع : حَفِظ الله جَلالَتَكم!
كيد : أشكركم أيها الطيبون! سوف يُلغى العملُ بالنقود، ويأكل الجميع ويشربون على حسابي، وسوف أجعلهم جميعًا يلبسون زيًّا موحدًا؛ حتى يكونوا على وِفاق كالإخوة، ويعبدوني بصفتي مولاهم.
الجزار : أولُ شيء نفعله أن نقتل جميعَ المحامين.
كيد : فعلًا! ذلك ما أنتوي أن أفعلَه. أليس من المؤسف أن يستخدم جلد الحمل البريء في صُنع الرقِّ الذي يُكتب عليه؟ وأن يتسبَّب هذا الرق بالمكتوب عليه في إفلاس رجل أو القضاء عليه؟ يقول بعضُ الناس إن النحلة تلسع، لكنني أقول إن شمع النحل هو الذي يلسع؛ فقد استخدمتُ الشمع ذات يوم في ختم وثيقة، ولم أعُد من يومها الرجلَ الذي كُنْتُه. ما هذه الضجَّة؟ مَن هناك؟

(يدخل بعض الناس يسوقون أمامهم موثق تشيثام.)

النساج : هذا موثق تشيثام! إنه يستطيع القراءةَ والكتابة! ويستطيع الحساب!
كيد : يا للبشاعة!
النساج : قبَضْنا عليه وهو يُعِدُّ دفاتر للأولاد.
كيد : هذا وغد!
النساج : لديه دفترٌ في جيبه فيه حروفٌ حمراء.
كيد : فعلًا! فهو ساحرٌ يستحضر الأرواحَ والعفاريت!
(٤ / ٢ / ٦١–٨٧)
إن الغوغاء سوف يشنقون الشاعر سِنَّا في يوليوس قيصر بسبب اسمه وشعره الركيك، وهم هنا يشنقون المحامين وكلَّ مَن يعرف القراءة والكتابة؛ «اشنقوه وعلِّقوا حول رقبته قلمَه ودواةَ الحبر!» هو الأمر الذي أصدرَه كيد، ومِن ثم يُساق الموثَقُ المسكينُ إلى حيث يُعدَم. والشعار الرائع الذي يرفعه كيد هو «لكننا نُحقق النظام عندما نبتعد إلى أقصى حدٍّ عن النظام» وهو استباقٌ رائع للشعار الفوضوي الذي وضعه باكونين، ويقول «الولع المشبوب بالتدمير ولعٌ خلَّاق.» ويضع شيكسبير كيد على القمة في هجومِ هذا المتمرد على اللورد ساي، قبل قطع رقبة ساي وتعليق رأسه على عمود:

لقد أَفْسَدْتَ شبابَ المملكة بخيانةٍ شنيعة حين أَنْشَأْتَ مدرسةً لتعليم القراءة والكتابة باللاتينية، وإذا كان أجدادنا في الماضي لا دفاترَ لديهم بل ألواحٌ يَخُطُّون عليها وعِصِيٌّ مُدرَجة يحسبون بها، تسبَّبتَ أنت في استخدام الطباعة، بل إنك بنيتَ مصنعًا للورق، وهو ما لا يليق بالملك ولا بتاجه ولا بوقاره. وسوف نُثبت أمامك أنك أحطتَ نفسك برجال يتكلمون عادة عن «اسم» و«فعل» وعن أمثال تلك الكلمات البشعة التي لا تحتمل أذنٌ مسيحية الاستماعَ إليها. ولقد عَيَّنْتَ قضاةً يستدعون الفقراءَ للحضور أمامهم وسؤالهم عن أشياءَ لم يستطيعوا الإجابةَ عنها. أضِف إلى ذلك أنك أدخلتَهم السجن، وشنقتَ منهم مَن لا يستطيع القراءة، مع أن ذلك وحده أعظمُ ما يُبرِّر بقاءهم في قيد الحياة.

(٤ / ٧ / ٣٠–٤٤)

وتؤدي «المدارس» و«الفعل» و«الاسم» إلى السخرية الكبرى من «مزيَّة رجال الدين»، التي كانت تسمح لمَن يعرفون قراءة اللاتينية بالنجاة من الشنقِ والتشويه، حتى إن ثبتَت عليهم التهمة، على نحوِ ما حدث لبن جونسون. ومهما يكن نفورُ شيكسبير [من كيد ممثِّل الطَّغَام] فإنه يُبدي تعاطفًا دراميًّا معه، بحيث يجعل المتمرد يقول عباراتِ وداعٍ عند احتضاره أبلغَ من كلام طولبوت المحتضَر؛ يقول كيد:

فَلْتَذْبُلِي أَيَّتُهَا الحَدِيقَة!
ولْتُصْبِحِي مِنْ هذِه السَّاعَة
مَقْبَرَةً لِكُلِّ مَنْ يَعِيشُ في هذَا المَكَانْ؛
لأنَّ رُوحَ كِيدَ فَاضَتْ هَا هُنَا دُونَ انْهِزَامْ!
(٤/١٠/٦٥–٦٧)
يُمثل جاك كيد بالنسبة للجزء الثاني من هنري السادس ما تُمثله جان دارك للجزء الأول؛ فهما يُمثلان كلَّ ما تحفظه الذاكرة. أما الملك هنري السادس المسكين وزوجته الزانية المشاكسة، الملكة مارجريت، فلا يُهِمَّاننا إلا حين تُوبخه؛ «مِمَّ خُلقتَ؟ إنك لا تَقْوى على القتال ولا على الفِرار!» والمنتمون إلى يورك، بمن فيهم الفظيع الذي سوف يُصبح ريتشارد الثالث، لا نستطيع التمييزَ بينهم وبين الموالين للعرش الملكي. ويتغير هذا الحال في الجزء الثالث، وهو الذي يخلو من جان دارك ومن كيد، ولكنه يبدو لي أفضلَ المسرحيات الثلاث (ودكتور جونسون كان يُفضل الجزء الثاني). فوجود ريتشارد يُغير الحال، فيختلط الجميع في توافقٍ من الجعجعة الصاخبة المميزة لمارلو، حتى في حديث الملك هنري الأحدب الخبيث الذي يَنْعى حاله، فهو يُنقح أسلوبَ مارلو حتى ينجحَ في صَوْغ نغمةٍ أكثرَ تعبيرًا عن تفرده. يقول هنري:
قُلْ كَأني في غَابَةِ الشَّوْكِ تَائِهْ،
قَاطِعًا لِلْقَتَادِ والشَّوْكُ قَاطِعْ!
نَاشِدًا مَخْرَجًا وضَالًّا عَنِ الدَّرْبِ،
جَاهِلًا فُرْجَةَ الهَوَاءِ الطَّلِيقِ!
تاجُ إنْجِلْتِرَا يَلُوحُ لِعَيْني،
وأَنَا أَسْتَمِيتُ في البَحْثِ عَنْهُ،
مُنْزِلًا ذلِكَ العَذَابَ بِنفسي!
هذِهِ لَحْظَةٌ أُقَرِّرُ فِيهَا
أنْ أُزِيحَ العَذَابَ حُرًّا طَلِيقًا،
أو أَشُقَّ الطَّرِيقَ بالسَّيْفِ شَقَّا،
سَافِكًا لِلدِّمَاءِ في الدَّرْبِ سَفْكَا!
أسْتَطِيعُ ابْتِسَامَ ثَغْرِي خِدَاعًا،
وأنا أَقْتُلُ الذي أبْتَغِيهِ،
بَلْهَ أنِّي أَصِيحُ صَيْحَةَ رَاضٍ،
بالذي يُحْزِنُ الفُؤَادَ ويُضْنِي،
وأُسِيلُ الدُّمُوعَ كِذْبًا على الخَدِّ،
رَاسِمًا مُبْتَغَى زَمَاني بوَجْهِي،
مُغْرِقًا في البِحَارِ بَحَّارَةً؛
قُلْ حُشُودًا تَفُوقُ كُلَّ ضَحَايَا
أَغْرَقَتْهُمْ عَرُوسُ بَحْرِ الغِوَايَة،
سَوْفَ يَزْدَادُ مَنْ يَمُوتُونَ إنْ لُحْتُ علَى
مَنْ قَضَوْا إذْ رَأَوْا عُيُونَ السَّعَالِي!
سأُحاكي نِسْطُورَ في كُلِّ خُطَبَة،
وأَفُوقُ المُحْتَالَ «أُولِيسَ» مَكْرًا،
وسَأَغْزُو كمِثْلِ سِينُونَ طُرْوَادَة،
أوْ بِلَادًا جَدِيدَةً مِثلْ طُرْوَادَة،
وأَزِيدُ الحِرْبَاءَ ألْوَانَ مَكْرٍ،
مُبْدِلًا مَظْهَرِي لِكَسْبِ المَزَايَا،
سَأُضَاهي برُوتْيُوسَ خَادِعًا لِلْبَرايَا،
وسَأُلْقِي عَظِيمَ دَرْسٍ على السَّفَّاحِ مَكْيَافيلْ!
إنْ كُنْتُ أَسْطِيعُ إنْجَازَ ذلِكْ،
كَيْفَ لا أَسْتَطِيعُ أنْ أَكْسِبَ الآنَ
أي تَاجٍ أُرِيدُهْ؛
إنْ يكُنْ نَائِيًا وفي فَلَوَاتٍ بَعِيدَة،
سَوْفَ آتِي بِهِ لدُنْيَا جَدِيدَة!
(٣ / ٢ / ١٧٤–١٩٥)
إننا لا نزال نسمع في هذه السطور باراباس الذي يُصوره مارلو؛ أي يهودي مالطة، الذي لن ينفصل عن المكيافيل في مسرحية ريتشارد الثالث، ولكن المبالغات توحي بدرجةٍ أكبر من الحماس المعرفي الذي يُضْفيه شيكسبير على أحاديث الهجاء والهجوم من جانب الملكة مارجريت. فلقد وصلَت إلى حدود الجنون، وريتشارد ساحرٌ بجنون، ما دام موجودًا على الصفحة أو على خشبة المسرح. وقتل الملك هنري السادس، في برج لندن، يقوم به ريتشارد بحماسٍ يُذكر له، وبعد ذلك يُكافئنا بنبوءة علمانيةٍ بصدد مستقبله:
لَيْسَتْ عِنْدِي شَفَقَة … لا حُبَّ لَدَيَّ ولا خَشْيَة،
هنري قالَ الحَقَّ بِهذَا الوَصْفِ لِذَاتِي،
مَا أكْثَرَ ما قَالَتْ لِي أُمِّي:
إني جِئْتُ إلَى الدُّنْيَا مَادًّا سَاقَيَّ أمَامِي!
أَتَظُنُّ بأني ما كُنْتُ بِذِي عَقْلٍ؛
إذْ أَسْرَعْتُ لأَسْحَقَ مُغْتَصِبَ حُقُوقٍ نَمْلِكُهَا؟
إني يَوْمَ وُلِدْتُ تَعَجَّبَتِ القَابِلَةُ وصَاحَتْ بَعْضُ النِّسْوَة:
«رُحْمَاكَ يَسُوعُ بِنَا! قَدْ وُلِدَ بأَسْنَانٍ في فَمِهِ!»
ذاكَ صَحِيحٌ ودَلَالَتُهُ السَّافِرَةُ هُنَا
إني سَأُزَمْجِرُ وأَعَضُّ وأَلْعَبُ دَوْرَ الكَلْبِ،
وإذَنْ مَا دَامَ البَارِئُ قد شَكَّلَ جِسْمِي هذا التَّشْكِيلْ،
فادْعُ جَهَنَّمَ تَجْعَلْ لِي نَفْسًا شَائِهَةً تَتَّفِقُ مع البَدَنِ،
إني لا أَخَ لي بلْ لا أُشْبِهُ أي أخٍ،
أمَّا زَعْمُ رِجَالٍ وَخَطَ الشَّيبُ لِحَاهُمْ أنَّ الحُبَّ شُعُورٌ رَبَّانِي؛
فَكَلَامٌ يَنْطِبقُ علَى مَنْ تَتَشَابَهُ خِلْقَتُهُمْ؛
أي لَا يَنْطَبِقُ عَليَّ! فأنَا ذَاتٌ مُتَفَرِّدَةٌ مِنْ غيْر نَظِيرْ!
أكلارِنْسُ احْذَرْ! إنَّكَ تَحْجُبُ عَنِّي الضَّوْء،
لكنِّي سَوفَ أَجِئُ بِيَوْمٍ مُلْتَفًّا بِظَلَامٍ دَامِسْ؛
إذْ أَنْشُرُ بَيْنَ النَّاسِ نُبُوءَاتٍ عَنْك
تَجْعَلُ إدْوَارْد يَخْشَى أنْ يُقْتَلْ،
ثُمَّ أُزِيلُ مَخَاوِفَهُ بِقَضَائِي بالمَوْتِ عَلَيْك،
رَاحَ المَلِكُ الأَكْبَرُ هنري وكَذَلِكَ الابْنُ أَمِيرُهُ،
دَوْرُكَ حَانَ إذَنْ يا كلَارِنْس … ويَلِيكَ البَاقُونْ!
لا أَحْسَبُ إلَّا أنِّي شَرُّ النَّاسِ إلَى أنْ أُصْبِحَ أَحْسَنَهُمْ!
والآنَ سَأُلْقِي جُثْمَانَكَ يا هِنْرِي في إحْدَى الغُرَفِ الأُخْرَى،
وأُحِسُّ بِنَصْرِ هذَا اليَوْمِ وقَدْ حَلَّ بِكَ الأَجَلُ المَحْتُومْ.
(٥ / ٦ / ٦٨–٩٣)
«أنا ذاتٌ متفردة» هو شعارُ ذلك الأحدب، وتبدو لي هذه العبارة المبرِّرَ الجماليَّ الأول لمسرحيات هنري السادس، والمسرحيات لا تحيا الآن إلا من أجلِ الثلاثيِّ جان دارك، وجاك كيد، وريتشارد، وجميعهم دراساتٌ شيكسبيرية في تصوير الشر، وجميعُهم شخصياتٌ فكاهية حيَّة. وتدين مسرحية ريتشارد الثالث، في نقاط قوتها أو في أوجُه قصورها، بطاقتها وفكرها المتلألئ للمختبِر الذي تُمثله مسرحيات هنري السادس الثلاث. وهذا مبرِّر كافٍ لانغماسِ شيكسبير في حروب الوردتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤