الفصل الخامس

الملك جون

١

ربما كانت مسرحية حياة الملك جون وموته قد كُتِبَت في وقت مبكر من حياة شيكسبير مثل عام ١٥٩٠م، أو في وقت متأخر مثل عام ١٥٩٥م أو حتى ١٥٩٦م — ولما كانت الأدلة ما فَتِئَت تتراكمُ على أن شيكسبير كان يجد يُسرًا شديدًا في تنقيحِ ما يكتب، ولا يقلُّ عن يُسر وضعه للمسرحيات؛ فإنني أظنُّ أنه كتب النسخة الأولى من الملك جون عام ١٥٩٠م، ثم أعاد صَوْغها صوغًا مُحكَمًا في ١٥٩٤-١٥٩٥م، فأنقذ المسرحيةَ بإضفاء الحيوية على تصويرِ فوكونبريدج النغل؛ أي الابن الذي أنجبَه ريتشارد قلبُ الأسد سفاحًا. والذي نتحدَّث عنه باعتبارِه «الشخصية الشيكسبيرية» لم يبدأ بشخصية كاريكاتورية، مبنيَّة بأسلوب مارلو، مثل ريتشارد الثالث، بل بشخصية فوكونبريدج في الملك جون، حيث يتكلم بلغته الخاصة به إلى حدٍّ كبيرٍ، ويجمع بين البطولة والكثافة الفكاهية، ويتمتع بكيانٍ نفسي باطني. ولكن وجود فوكونبريدج لا يستطيع إنقاذ الملك جون التي تُعتبر مسرحية مختلطة اختلاطًا كبيرًا؛ إذ يُنازل شيكسبير تأثير مارلو، ولا يفوز إلا حين يتكلم فوكونبريدج. وعلى الرغم من أن هذا النَّغْل لا يُمثل إلا صورةً تقريبية حية، إنْ قورن بهاملت في ١٦٠١م، فإنه يشترك مع هاملت وفولسطاف في الضخامة التي تجعلهما وإياه يتجاوزون نطاق المسرحيات التي يظهرون فيها. ومن المحتمل أن يشعر القراء أن الابن «الطبيعي» لريتشارد قلب الأسد جديرٌ بمسرحيةٍ أفضلَ من التي يجد نفسَه فيها. وبملكٍ يخدمه أفضلَ من عمه التعس، جون. ولما كنتُ رومانسيًّا لا رجاءَ في شفائي (والنقَّاد من أعدائي يتهمونني بالعاطفيَّة المسرفة)؛ فأودُّ أيضًا أن ينسى فولسطاف في نهاية مسرحية هنري الرابع/٢ الأمير هال الجاحد، وأن يذهب مبتهجًا إلى غابةِ آردنِّ في كما تحب. ومن الواضح أيضًا أن هاملت يستحق حياةً أفضلَ وموتًا أفضل مما تُهيِّئه له إلسينور في ظل حكم كلوديوس. ليست عظمةُ النَّغْل من نوع عظمة فولسطاف أو هاملت، ولكنها أصيلةٌ إلى الحد الذي يجعل كلَّ من حوله في الملك جون يبدو قزَمًا.
ويتحلَّى فوكونبريدج بلمسةٍ من اللماحية واللامبالاة عند فولسطاف؛ فهو أول شخصية عند شيكسبير يستطيع أن يأخذَ بألبابنا، خصوصًا لأن شيكسبير لم يسبق له أن قدَّم في مسرحية له صورةً مقنعة للشخصية الإنسانية. وليس من قَبيل المبالغة أن نقول إن النَّغْل في الملك جون يفتتح ابتكار شيكسبير للشخصية الإنسانية، موضوعِ هذا الكتاب. ما الذي أتاح كون فوكونبريدج واقعًا مثيرًا (أو وهمًا بذلك الواقع، إذا شئت)؟ إن الشخصيات الأخرى في الملك جون، بما فيهم جون نفسه، لا تزال تحمل وصمةَ البلاغة العاليةِ النبرة عند مارلو. ويعتبر فوكونبريدج النَّغْل بدايةً لعالم شيكسبير الخاص، والأصالة التي يتمتع بها، على صعوبةِ فصلها اليوم، أصبحَت المعيارَ الذي نرتكن إليه في تمثيل الشخصيات الخيالية.

ومن المناسب ألا يكون النَّغْل شخصيةً تاريخية؛ فالواقع أن شيكسبير صوَّره استنادًا إلى مجردِ لمحةٍ من المؤرخ هولينشيد، وكان لفيفٌ من مُعاصري شيكسبير، ومنهم بن جونسون (إذ يُعتبر أعظَمَهم إلى حدٍّ بعيد) ينسبون طريقةَ رسم الأشخاص عند شيكسبير إلى الطبيعة وإلى الفنِّ معًا؛ إذ رأوا في شيكسبير ما سوف نرى فيه، وإطلاقهم لفظ «الطبيعة» على ذلك يعني أنهم تنبَّئوا بأعظمِ ما نمتدحُ به شيكسبير، فلا يزال القارئُ العادي يعتبر أن أشخاصَ شيكسبير أقربُ إلى الطبيعة من الشخوص عند جميع المؤلفين الآخرين. والواقع أن لغة شيكسبير لا تعمد وحسبُ إلى التمثيل الدقيق للطبيعة، بل إنها تُعيد ابتكار «الطبيعة» بأساليبَ وصَفَها أ. د. ناطول، محقًّا، بأنها تسمحُ لنا أن نرى الكثيرَ في الشخصية الإنسانية، وهو ما كان قائمًا دون شكٍّ فيها، ولكننا لم نكن لنستطيع رؤيتَه لولا قراءتُنا لشيكسبير، ومشاهدةُ مسرحياته ممثلةً تمثيلًا متقنًا (وهو ما يزداد استبعادُه لأن المخرجين يُصْغون بكل أسفٍ للنقد الشائع الطراز).

إن النَّغْل فوكونبريدج الشخصُ اللطيف الوحيد عند شيكسبير؛ فهو يختلف عن دون جون في مسرحية ضجة فارغة، وثيرستيز في طرويلوس وكريسيدا، والمرعب السامي إدموند في الملك لير. ومن المناسب والرائع أن تكون أولُ شخصية «طبيعية» حقًّا عند شيكسبير ابنًا طبيعيًّا لريتشارد قلب الأسد، الذي أصبح من أبطال الفولكلور الإنجليزي. فإن فوكونبريدج نفسَه ذو قلبِ أسد، وهو يثأر لوالده بقتلِ دوق النمسا، الذي كان قد أطلق أسدًا على أسيره الملك الإنجليزيِّ بطلِ الحروب الصليبية. ويتفق النقاد على أن جاذبية فوكونبريدج لجماهير إنجلترا تَرجع إلى أنه ذو دماءٍ ملَكية، ومع ذلك فلم ينتمِ إلى طبقة السادة إلا بفضل نشأته فيها، وبفضل والدته تحديدًا التي أغواها الملكُ ريتشارد الأول. وإذن فإن النَّغْل يرمز في مسرحية الملك جون لجميع الفضائل التي يحبُّها الشعب، ألا وهي الولاءُ للنظام الملكي، والشجاعة، والصراحة، والأمانة، ورفض التعرُّض للخداع، سواءٌ كان ذلك من جانبِ أمراء أجانب، أو كهَنةٍ من أبناء البلد، أو من جانب البابا وأتباعه. وعلى الرغم من أن شيكسبير يجعل النَّغْل يُقسِم أن يعبد «السلعة» أو المصلحة الشخصية المكيافيلية، فلا يُصدق فوكونبريدج ولا الجمهورُ هذا التعبير الذي ينمُّ على نفادِ الصبر. فالكشف الحقيقي عن ذات النَّغْل يُقدَّم إلينا في المشهد الأول من الفصل الأول، حيث نراه يُغيِّر هُوِيَّته من فيليب فوكونبريدج، وريثِ قطعة الأرض المتواضعة لوالده المفترَض، إلى السير ريتشارد بلانتاجينيت، المعدم ولكنه ابنُ والده الفعلي، نصف الإله المسمَّى ريتشارد قلب الأسد. يقول النغل:
كَرَمُ المَحْتِدِ عِنْدِي ازْدَادَ مِسَاحَةَ قِيرَاطٍ وَاحِدْ،
وتَضَاءَلَ ما أَمْلِكُهُ مِنْ أَرْضٍ عِدَّةَ أَفْدِنَةٍ.
إنْ أَتَزوَّجْ أجْعَلْ أي فَتَاةٍ صَاحِبَةَ العِصْمَة،
ويُحَيِّيني رَجُلٌ فَيَقُولْ «عِمْتَ صَبَاحًا يا سِيرْ رِيتشَارْد»،
وأَرُدُّ عَلَيْه «بَارَكَكَ المَوْلَى يا هَذَا!»
وإذَا كانَ اسْمُ الرَّجُلِ لدينا جُوْرجْ … فَأَنا أَدْعُوهُ هنا بيتَرْ؛
إذْ إنَّ حَدِيثَ النِّعْمَةِ يَنْسَى أَسْمَاءَ الأَشْخَاصْ،
فَتَذَكُّرُهَا يعني أَنَّكَ تَحْتَرِمُ الأَشْخَاصَ وتَخْتَلِطُ بِهِمْ
أَكْثَرَ مِمَّا يَقْضِي كَرَمُ المَحْتِدِ بِهْ.
فَإِذَا حَلَّ بِبَيْتِي صَاحِبُ تَرْحَالٍ
جَلَسَ إلَى مَائِدَتِي وبِيَدِهِ بَعْضُ خِلَالِهْ،
فَإِذَا امْتَلَأتْ بَطْنِي — بَطْنُ البَاشَا — بِطَعَامِي
وشَرَعْتُ أُمَصْمِصُ أَسْناني وأُسَائِلُ ذَاكَ الرحَّالَة،
أَبْدَأُ مُتَّكِئًا إذْ ذَاكَ علَى مِرْفَقِ يُمْنَاي:
«يا صَاحِبَنَا الأُسْتَاذْ! إنِّي أَتَوسَّلُ لَكْ»
تِلْكَ صِيَاغَةُ سُؤلِي وتَجِيءُ إجَابَتُهُ
مِثْلَ إجَابَةِ كُتُبِ الأَطْفَالْ: «يا سَيِّدْ! أنَا طَوْعُ بَنَانِكْ،
وأَنَا خَادِمُ مَوْلَاي وعَبْدُهْ!» فَيَجِيءُ سُؤَالي:
«كَلَّا! بَلْ إنِّي أَنَا يَا صَاحِبَ أَدَبٍ جَمٍّ طَوْعُ بَنَانِكْ!»
وبِذلِكَ يَنْطَلِقُ حَدِيثٌ مِنْ قَبْلِ إحَاطَةِ صَاحِبِنَا بِمُرَادِ السَّائِلِ
— باسْتِثْنَاءِ مُجَامَلَةٍ مُتَبَادَلَةٍ بَيْنَهُمَا — حَوْلَ جِبَالِ الأَلْبِ بأُورُوبَّا،
والآبينِينَ بإِيطَالْيا، وجِبَالُ البيرَانِيسِ بإِسْبانْيا،
والنَّهْرِ الدَّافِقِ «بُو» في إيطَالْيَا.
فَإِذَا بِالْوَقْتِ مَضَى واقْتَرَبَ عَشَاءُ النَّاسِ مَسَاءً،
وختامُ كَلَامِي وكَلَامِهْ.
لكنْ ذَاكَ هُوَ المُجْتَمَعُ الرَّاقِي،
ويُلَائِمُ رُوحِي الطَّامِحَةَ إلَى الرِّفْعَة،
لَيْسَ سِوَى ابْنِ سِفَاحٍ لِزِمَانِهْ،
مَنْ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يُنَافِقُ أَهْلَ العَصْر،
لكنِّي وبِغَضِّ النَّظَرِ هُنَا عَنْ حَالِي
سَأُنَافِقُ هذَا الزَّمَنَ بِحَقٍّ،
لَيْسَ فَقَطْ في العَادَاتِ وفي المَسْلَكِ،
أو في الأَشْكَالِ الظَّاهِرَةِ وفي المَلْبَسِ،
بلْ في الدَّافِعِ في البَاطِنِ عِنْدِي كي أَمْنَحَ
سُمًّا حُلْوًا حُلْوًا لِشِفَاهِ العَصْر،
وسأَنْوِي أنْ أَتَعَلَّمَهُ لا مِنْ أَجْلِ خِدَاعِ النَّاسِ
أو التَّغْرِيرِ بِهِمْ بَلْ حَتَّى أَتَجنَّبَ أي خِدَاعٍ لي،
وطَرِيقُ صُعودِي مَفْرُوشٌ بالأَمْثِلَةِ علَى ذلِكْ.
(١ / ١ / ١٨٢–٢١٦)

وأنا أتبع هارولد جودارد إذ أسمع أيضًا وصْفَ مشروع شيكسبير الخاص باعتباره شاعرًا وكاتبًا مسرحيًّا في شعار النغل:

بل في الدافعِ في الباطن عِندي كي أمنَحْ
سُمًّا حُلوًا حُلوًا لشِفاه العصر،
وسأنوي أن أتعلَّمَه لا من أجل الناس،
أو التغرير بهم بل حتى أتجنَّبَ أيَّ خداع لي.
«السُّم» هنا ليس النفاقَ بل الحقيقة، والنغل وشيكسبير يؤكدان رفضهما لأن يُخدعا. ما حجمُ الأدب الإنجليزي الذي يخرج من مونولوج النغل؟ ففيه نستطيع أن تسمع مقدمًا صوت سويفت، وستيرن، وديكنز وبراوننج، وتقاليدَ مديدة ما زالت أصداؤها تتردَّد في القرن الذي ينصرمُ الآن. ولنا أن نعتبر أن السخرية الاجتماعية التي يُقدمها النغل، وهي الأصيلة عند شيكسبير (حاول أن تدرس هذا المونولوج في أيِّ عمل كتبه مارلو) من وراء ابتكار الساخر الهجَّاء الإنجليزي في الخارج، أو الرجل الحسَّاس المنزوي الذي يعود إلى الوطن ليرقبَ أحواله من دون خداعٍ أو أوهام. لا يتحدث أحدٌ في أعمال شيكسبير قبل فوكونبريدج بنبرةِ هذا الدافع الباطن، أو بنبرة «شائكة» بهذا الأسلوب الدقيق. وممَّا يساعد على منحِ هذه الشخصية أبعادَها الهائلة، أنه يتفوق على طولبوت في هنري السادس بكونه أولَ قائد شيكسبيري عظيم؛ فهو جندي يُمهد الطريق لعطيل في عظَمته قبل سقطته. يقول عطيل سطرًا واحدًا يضع به حدًّا لمشاجرةٍ في الشارع، قائلًا «فَلْتُغْمِدُوا السُّيُوفَ اللَّامِعَاتِ حَتَّى لا تُصِيبَهَا الأَنْدَاءُ بالصَّدَأْ». ونجد نبوءةً بصوت السُّلطة المذكور حين يحذر النَّغْل نبيلًا شهَر سيفَه فيقول له: «سَيْفُكَ لَامِعْ! اغْمِدْه إذَنْ يا سيد!»
وأعود إلى سؤالي الأول، وهو ما جعل إنجاز فوكونبريدج ممكنًا عند شيكسبير. كان بن جونسون منافسًا وصديقًا حميمًا لزميله الممثِّل وكاتب المسرح، وقد كتب تقريظًا له عند صدور طبعة الفوليو الأولى لأعماله قائلًا إن الطبيعة نفسَها تفخر بأبنيةِ شيكسبير، وهي إشارةٌ لا إلى موهبة شيكسبير الطبيعيَّة وحسب، بل أيضًا إلى الطريقة التي جسد بها الاستعارةَ الكبرى في حكاية الشتاء وهي «الفن نفسُه الطبيعة»، والنغل نفسُه الطبيعة؛ ومن ثَم فهو فنانٌ بالغ البراعة، واعٍ بما يفعل، بل قل إنه فعلًا مُتمَسرح. فعندما رفَضَت مدينة أنجييه السماحَ بدخول جيش ملك إنجلترة أو جيش ملك فرنسا، سمعنا فوكونبريدج يُلخص الموقف بأسلوبٍ ما لبث شيكسبير أن استغلَّه بدهاءٍ يزداد زيادةً مطَّرِدة. يقول فوكونبريدج:
أُقْسِمُ إنَّ هُؤلَاءِ البَائِسِينَ في أَنْجييه،
لَيَسْخَرُونَ مِنْكُمَا يا أيُّها المَلِكَانْ! فهمْ مُحَصَّنُونَ آمِنُونَ
فَوْقَ هذِهِ الأَسْوَارْ … كأنَّما همُو نَظَّارَةٌ في مَسْرَحٍ،
يُحَمْلِقُونَ أو تُشِيرُ أيْدِيهِمْ إلى مَشَاهِدِ الصِّرَاعِ الجَاهِدَة،
ومَنْ قَتَلْتُمُوهُ هَا هُنَا.
(٢ / ١ / ٣٧٣–٣٧٦)

لم يسبق فوكونبريدج في كل ما كتبه شيكسبير شخصٌ ذو طبع مسرحي سافِرٍ إلى هذا الحد، وهو الذي يُضيف إلى شماتة باراباس، المنعكِسةِ على ذاته، عند مارلو (ويُكررها هارون المغربيُّ وريتشارد الثالث) تأثيرًا مزدوجًا؛ إذ يجعل الممثلين (الفاعلين) يواجِهون الحدثَ (أي ما يفعلونه) بحيث يؤدِّي ذلك إلى تدمير الوهم وزيادته في الوقت نفسِه.

ويتولَّى أبطالُ شيكسبير، اعتبارًا من فوكونبريدج (أي ريتشارد الثاني، وجوليت، ومركوشيو، وبوطوم، وشايلوك، وبورشيا) تمهيدَ الطريق لظهورِ فولسطاف؛ بإظهارهم عمقًا في الوجود يَزيد كثيرًا عن عمقِ سياقاتهم الدرامية. فهم يوحون جميعًا بأنَّ لديهم إمكانياتٍ كامنةً لا تتطلَّبُها المسرحياتُ الخاصة بكلٍّ منهم. النَّغْل ينبغي أن يُصبح ملكًا؛ لأن مسرحية الملك جون لا تتضمَّن أحدًا على الإطلاق يتَّسم بصفات ملكية. وكان ينبغي لريتشارد الثاني أن يُصبح شاعرًا ميتافيزيقيًّا؛ والحيوية التي يتَّسم بها مركوشيو جديرةٌ بالتعبير عن نفسِها تعبيرًا يتجاوز الألفاظَ الفاحشة؛ وأما بوطوم فهو ذو طبعٍ نفسي متَّزن متفائل، ولديه صبرٌ يكاد يكون خارقًا، بل ويصلح لبناء حلم لا قاع له؛ واستماتة شايلوك في طلبِ الثأر لما يَلْقاه من إهاناتٍ وشتائم، يمكن أن تتجاوزَ حدودَ الهزلية الشريرة، إذا تخلى المرءُ عن التفسير الحرفي لكلِّ شيء، وأما جوليت وبورشيا فتستحقَّان زوجَين أقربَ إلى المساواة معهما من روميو وباسانيو. فبعد أن تجاوز شيكسبير مرحلةَ تأثُّره بمارلو، لم يَعُد يجعل الدور مناسبًا للمسرحية، بل أصبح يخلق شخصياتٍ إنسانيةً من المحال أن تسَعَها أدوارها: إنها تتَّسم بالضخامة لا بسببِ أية مبالغات أو جوانب تطرف ممَّا نجده عند مارلو، بل بسبب الأرواح الدفاقة الفياضة، والتي يتجاوز معناها المجموعَ الكلِّي لأفعالها. وفولسطاف يُمثل أولَ ذروة من هذه الذُّرى؛ لأن إتقانه للُّغة إتقانٌ أكثرُ من مطلَق، ولكن هذه الشخصيات، اعتبارًا من شخصية النَّغْل هنا، تتمتَّع جميعًا بالفصاحة الفردية الكافية للتنبُّؤ بما سوف يأتي: إنها شخصيات «تعتبر من الفنَّانين الأحرار في ذَواتهم» (كما يقول هيجيل عن شخوص شيكسبير) ويستطيعون الإيحاء بأنهم يعملون مُحاولين صُنع مسرحياتهم الخاصة. عندما نُواجه هاملت، وياجو، وإدموند، ولير وإدجار ومكبث وكليوباترا، لا نستطيع أن نقول واثقين إنهم لا يحملون فنًّا حُرًّا للذَّات يتجاوز ما وضَعه شيكسبير فيما يبدو وحَسْب لهم. إنهم يتَخطَّون في تحدٍّ تعدُّدَ العوامل الشكلية والمجتمعية، موحين إلينا بأنَّ كل ما يتعلق بالحبكة تعسُّفي، في حينِ أن الشخصية الإنسانية، مهما تكن شيطانية، تعالية، ولا يَشي بها في المقام الأول إلا ما في الباطن. إن لديهم دخيلةً ينطلقون منها، حتى وإن لم يستطيعوا أن يعودوا في جميع الأحوال إلى أعمقِ وأبعدِ سَرائرهم. وهم لا يُختزَلون قطُّ فيُرادَفون بأقدارهم، بل إنهم يَزيدون كثيرًا، وإلى حدٍّ بالغ، عمَّا يحدث لهم. ففي كلٍّ منهم جوهرٌ يسود: إن الأبطال الشيكسبيريين الرئيسيين لهم أرواحٌ من المحال إطفاءُ جَذْوتها.

٢

لم يُدافع الكثيرُ من النقاد عن شخصية الملك جون عند شيكسبير، وأعظمهم أ. ج. هونيجمان الذي يَبْخس قدرَ فوكونبريدج النغل؛ حتى يُعلِيَ من مكانة الملك جون باعتباره بطلَ المسرحية. إذ يرسم له هونيجمان صورةَ السياسي الداهية، الذي يحاول أن يعرف ثمنَ كل فرد ويشتري وَلاءه به، لكنه يتَّسم أيضًا ﺑ «عاطفةٍ مشبوبة لا يُكبَح جماحها، ونفاق مخاتل في قلبه». ولنا أن نتَّفق مع هونيجمان في نظرته الثاقبة التي تقول إن هذه العناصرَ النفسيةَ المتناقضة، أثناء نشاطها المعتاد، تؤدِّي إلى أن يظلَّ جون «مُلْغزًا ومُدْهشًا» في أعين الجمهور.

ولكن جون في معظم الأحوال يظل مُلغِزًا عَبوسًا ومُدهِشًا تَعِسًا؛ فهو يتوسَّط صورَ الملكة إليانور، والدتَه الفظيعة الشتامة ذاتَ الصورة الكاريكاتورية المرسومة بأسلوبِ مارلو، والصورة الشيكسبيرية لدخيلة النَّغْل الزاهي المتبهرج.

أما الجاذبية الخاصة لجون في أعيُنِ جمهورِ شيكسبير، فكانت تَرجع إلى إشارة الملك الغامضةِ إلى المعضِلات السياسية للملكةِ إليزابيث. كان آرثر، ابنُ أخي جون، الوريثَ الشرعي لريتشارد قلب الأسد، مثلما كانت ماري ملكةَ اسكتلندا يمكن اعتبارها الوريثةَ الشرعيَّة للملك هنري الثامن، بعد فترَتَي الحكم القصيرتَين لإدوارد، الأخِ غير الشقيق لإليزابيث، وأختِه غير الشقيقة ماري. أي إنَّ عناصر التوازي موجودةٌ بلا مِراء، بين الملك جون والملكة اليزابيث الأولى: الحرمان من المشاركة الكنَسية، وانطلاق أسطولِ أجنبي للهجوم على إنجلترا، بل والمكائد التي كان النُّبلاء الإنجليز يُدبرونها ضدَّ الملوك «المغتصِبين» للعرش، وهم الذين كانت القواتُ الغازية تنتوي التخلصَ منهم بعد قضاء مُهمتهم.

ولكن شيكسبير كان يُدرك الخطرَ الكامن في تشبيه إليزابيث بالملك جون ذي المصيرِ السيئ، مهما يكُن التشبيهُ غيرَ صريح، ومن ثَم فقد دفَعه حذَرُه إلى عدم المغالاة في الإيحاء بالتوازي. لقد هُزم الأسطول الإسباني، المسمَّى «الأرمادا»، ثم شتَّتتْه العواصفُ في جزر هبرديز الاسكتلندية، في صيف عام ١٥٨٨م، ثم اجتاحت الشائعاتُ لندن عام ١٥٩٥م، قائلةً إن أسطولًا إسبانيًّا جديدًا تتجمَّع سُفنه في ميناء لِشْبونه. وأما إذا كانت مسرحية الملك جون، باعتبارها مسرحيةَ «أرمادا» من نوعٍ ما قد كُتبَت على الأرجح في عام ١٥٩٠م أو في عام ١٥٩٥م فقضيةٌ لا يمكن البتُّ فيها اعتمادًا على الأحداث الخارجية وحدها. وأنا أميل إلى الاتفاق مع بيتر ألكسندر وهونيجمان على أن الملك جون كانت مصدرًا (لا وريثةً) لمسرحيةٍ مجهولةِ المؤلف عُنوانها الحكم المضطرب لجون ملك إنجلترا (١٥٩١م) وهي ذاتُ روح أقربَ إلى مارلو من شيكسبير.
وعلى الرغم من نجاحِ مسرحية الملك جون لشيكسبير جماهيريًّا، فقد اختلفَت حظوظها في القرون التالية وتفاوتَت تفاوتًا كبيرًا. ويَحْدُس هونيجمان أنَّ أول عُروضها، من جانب فرقتين معًا هما فرقة اللورد سترينﭻ وفرقة اللورد أدميرال، شهدَت الممثل إدوارد ألن (الذي قام بدور تمبرلين في مسرحية مارلو) وقام بدور جون هنا، وريتشارد بيربيدج (الذي لعب هاملت فيما بعد) ولعبَ دور فوكونبريدج النَّغْل هنا. كان أفضلُ عرضٍ للملك جون هو الذي شاهدتُه في ١٩٤٨م في ستراتفورد، وكان الممثل أنطوني كويل هو الذي لعب دورَ النغل، والممثل روبرت هيلبمان يلعب دور جون. وعلى الرغم من أن المسرحية (بسبب وجودِ النغل) تبدو لي أعظمَ كثيرًا من ريتشارد الثالث (١٥٩٢-١٥٩٣م)؛ فلستُ أدهشُ من أنها لا تُقدَّم على المسرح إلا في حالاتٍ بالغة القلة بالقياس إلى ريتشارد الثالث التي تتمتع بإقبالٍ جماهيري لا حدَّ له. وتتَّسم الملك جون ببعض التناقض العجيب؛ إذ إن جانبًا كبيرًا منها يتكون من هجومٍ وسِباب لفظي بأسلوبِ مارلو، ولكنَّ بها جانبًا أكبرَ يتَّسم بظلالِ المعاني الدقيقة والثباتِ في ذاكرة القارئ أو السامع. وأنا أربِطُ بين هذا اللغز في المسرحية بأكبرِ ألغاز شيكسبير قاطبةً وهو النسخة الأولى المفقودة من هاملت؛ إذ إنني أتبع ريادةَ بيتر ألكسندر معتقدًا بأن العمل «المفقود» ينتمي إلى شيكسبير نفسه، وأن جانبًا منه قد أُدرِج في نصوص هاملت التي بين أيدينا الآن. واللغز المشترك طبيعةُ التلمذة المعقَّدة لشيكسبير على مثالِ مارلو، وهي علاقة التأثير الوحيدة التي كُتِب لها أن تُربِكَ أعظمَ الكُتَّاب جميعًا، وأشَدَّهم أصالةً في آخر المطاف.

٣

من العيوب الواضحة في الملك جون أنها تنقسم إلى مسرحيتَين؛ أي الفصول ١–٣، والفصلان ٤-٥، وعندما قدَّم جون بلانبيد تحليله لهذه الظاهرة جاء بفكرةٍ مفيدة تقول إنه يعتبر النَّغْل ساخرًا هجَّاءً يرتجل كلامَه في الفصول الثلاثة الأولى بحيث يؤنسِنُ (humanizes) الدراما لنا، وأما في العالم الفوضويِّ في الفصلَين الرابع والخامس فإن جون يتشتَّت نفسيًّا مُصابًا بنوعٍ ما من الهستيريا، ويبدو النَّغْل حائرًا مُشوشًا، على الرغم من مواصلةِ كفاحه وإخلاصه الشديد لجون. ورغم ذِكر بلانبيد لذلك فإن شيكسبير يُلمح إلى أن ارتباط النَّغْل بجون (فهو عمُّه) يقوم أساسًا على عاطفة البُنوَّة، ويُكرر نسقَ علاقة جون بوالدته الفظيعة إلينور، الذي يُساعد موتُها على الإسراع بانهيار جون. وإذا قام المخرج بتفسير الدَّورَين تفسيرًا صحيحًا وأدَّاهما الممثلان أداءً مُقْنِعًا، فإن الدَّورَين لن تقلَّ إثارتهما وقوتهما في الفصلين الرابع والخامس؛ ومن ثَم فلا أظن الانقسام إلى جُزأَين، على الرغم من غرابته، عيبًا في آخِر المطاف. لم يَعُد فوكونبريدج يُمتعنا إمتاعًا كبيرًا في الجزء الثاني، واتكاؤه على حياتِه الباطنة يزداد كلما اكتسى لونًا قاتمًا (على نحوِ ما سوف أبين)، فهو يفتتحُ «طريقة جديدة» لشيكسبير، وهي التي سوف يُقدِّسها الجمهور حين يُجسدها السير جون فولسطاف. في الفصل الثاني، أمام مدينة أنجييه المعاصرة، يُسجل النَّغْل ردَّ فعله على الصفقة المريبةِ التي عقَدها الملك جون مع ملك فرنسا في أعظم مونولوج له، وهو خطابٌ حول ما يُسميه «البضاعة» (commodity)؛ أي المال أو الثراء، ولكنه يقصد بالثراء المصالحَ الشخصية الدنيوية والفوائد السياسية:
ذَا عَالَمٌ مَجْنُونْ! مَلِكَانِ مَجْنُونَانْ! وتِلْكَ صَفْقَةٌ مَجْنُونَة!
أَرادَا جُونُ أنْ يَحُولَ دُونَ أنْ يَنَالَ آرثرْ حَقَّهُ،
في كُلِّ أَرْضِ المَمْلَكَة … فَإِذْ بِهِ يُبْدِي التَّخَليَ رَاضِيًا عَنْ جَانِبٍ مَنْها.
أمَّا نَظِيرُهُ الفِرِنْسي الذي ارْتَدَى دِرْعَ الضَّمِيرْ،
وهَبَّ مَدْفُوعًا بِحُبِّ الخَيْرِ والإحْسَانِ في حَمَاسٍ لِلْقِتَالِ
جُنْدِيًّا بِعَيْن الله … فإنَّهُ أَصْغَى إلى وَسْوَسَةِ الخَنَّاسْ،
ذَاكَ الذي يُغَيِّرُ المَقَاصِدْ … ذلِكَ الشِّرِّيرُ والخَبِيثْ،
ذَاكَ الوَسِيطُ فَاتِنُ النُّفُوسِ المُؤْمِنَاتِ دَائِمًا،
مَنْ يَنْقُضُ العُهُودَ كُلَّ يَوْمٍ فَائِزًا بَيْنَ الجَمِيعِ،
كالمُلُوكِ ها هُنَا والمعْوِزِينَ والشُّيُوخِ والشَّبَابِ والعَذَارَى،
مَاذَا لَدَى العَذْرَاءِ مِنْ ذُخْرٍ تَخَافُ أنْ يَضِيعَ إلَّا كَوْنُهَا عَذْرَاءْ؟
لكنَّ ذلِكَ الخَبِيثَ قد يَغُشُّهَا حَتَّى يَضِيعَ مِنْ يَدِ المِسْكِينَة.
إنَّمَا إبْلِيسُ سَيِّدٌ لَهُ وَجْهٌ صَبِيحٌ يَعْرِضُ الثَّرَاءْ،
وذلِكَ الثَّرَاءُ سِرُّ الانْحِرَافِ في العَالَمْ؛
فالعَالَمُ الذي في ذَاتِهِ يُؤَكِّدُ اتِّزَانَهُ بالفِطْرَة،
وسَوْفَ يَجْرِي في اسْتِوَاءٍ فَوْقَ أَرْضِهِ المُسْتَوِيَة؛
حَتَّى تَلُوحَ هذِهِ الغِوَايَة … أيِ التَّفَاوُتُ الذي يَنْفي اسْتِوَاءَ الأَرْض،
جَالِبًا لِكُلِّ شَر! فَإِنَّهُ مُسَيْطِرٌ علَى تَحَرُّكِ الأَشْيَاءِ فَوْقَهَا،
بَلْ إِنَّهُ المَصْلَحَةُ الشَّخْصِيَّة! فَهذِهِ تَفُوزُ وَحْدَهَا بالأَوْلَوِيَّة،
تَفُوزُ فَوْقَ كُلِّ غَايَةٍ أُخْرَى وكُلِّ وُجْهَةٍ وكُلِّ مَجْرَى!
وجَاءَ الانْحِرَافُ نَفْسُهُ … ذَاكَ الثَّرَاءْ! ذَاكَ البَذِيء والوَسِيطْ!
وإنَّهُ لَكِلْمَةٌ تُغَيِّرُ الأَحْوَالَ كُلَّها … قَدْ جَاءَنَا مُرَفْرِفًا
علَى جُفُونِ العَاهِلِ الفِرِنْسي … ذَلِكَ المُتَقَلِّبْ!
فَإِذْ بِنَا نَرَاهُ نَاكِثًا عَهْدًا بِتَقْدِيمِ المَعُونَة،
والاعْتِزَامَ لِلْقِتَالِ في حَرْبٍ شَرِيفَة،
وإذْ بِهِ مُوَافِقٌ علَى صُلْحٍ حَقِيرٍ بَلْ ومَرْذُولُ الشُّرُوطِ!

•••

فَلْأَسْأَلْ لمَ أَهْجُو مَا أَدْعُوهُ ثَرَاءً؟
ذَاكَ لأَنَّ الثَّرْوَةَ لَمْ تَخْطُبْ وُدِّي بَعْد،
لا أُنْكِرُ أنَّي أَعْجَزُ عَنْ أَنْ أَقْبِضَ كَفِّي،
إنْ جَاءَتْ بَعْضُ دَنَانِيرَ وعَلَيْهَا صُوَرُ مَلَائِكَةٍ،
وتُرِيدُ تَحِيَّةَ رَاحَةِ كَفِّي!
لكنَّ يَدِي ما دَامَتْ لَمْ يَنْشُدْهَا ذَهَبٌ لِلآنْ،
تَجْعَلُنِي مِثْلَ فَقِيرٍ مِسْكِينٍ أَهْجُو أَصْحَابَ المَالْ،
وإذَنْ ما دُمْتُ فَقِيرًا فَلَسَوْفَ أُوَاصِلُ هَجْوِي
وأَقُولُ بِألَّا يَعْلُوَ إثْمٌ فَوْقَ الثَّرْوَة،
فَإِذَا جَاءَتْنِي الثَّرْوَةُ قُلْتُ بأنْ لَا إثْمَ سِوَى الفَقْرِ!

•••

ما دَامَتِ المُلُوكُ إنْ أتَى الثَّرَاءُ تَفْقِدُ الإيمَانْ؛
فإنني أَقُولُ كُنْ يا مَالُ ربًّا لي وسَوْفَ أَعْبُدكْ.
(٢ / ١ / ٥٦١–٥٩٨)

إنه لن يعبدَ الثراءَ بطبيعة الحال، بل سوف يستمر في «تقديم اسمٍ حُلو حلو لشفاهِ العصر»، ومع ذلك فإنَّ ظل «الثراء» يبدأ منذ الآن في إلقاءِ ظلالٍ معتمة تغشى حيويَّتَه الفياضة. فعندما يُرسله جون لسرقةِ الأديرة الإنجليزية، يتغنَّى قائلًا:

لنْ يَمْنَعَنِي نَاقُوسٌ وكِتَابٌ وشُمُوعْ؛
إنْ تَحْفِزْنِي الفِضَّةُ والذَّهَبُ علَى فِعْلٍ مَمْنوُعْ!
(٣ / ٢ / ٢٢-٢٣)
ليس هذا بالطبع أفضلَ ما يقوله فوكونبريدج، ولكنْ مَن في مسرحية الملك جون يستحقُّ اهتمامَ النَّغْل باستثناء آرثر المسكين؟ ويُقارن هارولد جودارد، بحكمته، حديثَ فوكونبريدج عن «الثراء» بحديثِ شيكسبير نفسِه عن الزمان والسياسة في سونيتتين رائعتين هما ١٢٣ و١٢٤، وتبدو لي رقم ١٢٤ خصوصًا كأنها شرحٌ للموقف الأصيل عند النَّغْل في تحدِّي الخضوع لمقتضيات الزمان؛ يقول شيكسبير:١
لَوْ كَانَ الحُبُّ الغَالي في قَلْبِي وَلَدًا لِظُرُوفٍ مُتَعَاقِبَةٍ،
لَافْتَقَرَ إلَى الوَالِدِ وغدَا ابْنَ سِفَاحٍ لحُظُوظٍ مُتَقَلِّبَةٍ،
مِمَّا يَجْلِبُهُ الزَّمَنُ مِنَ الحُبِّ ومَا يَجْلِبُهُ مِنْ بَغْضَاءْ؛
أي أنْ يَغْدُوَ عُشْبًا بَيْنَ الأَعْشَابِ الضَّارَّةِ أوْ زَهْرًا بَيْنَ زُهُورٍ فَيْحَاءْ!

•••

كَلَّا! بَلْ يُبْنَى الحُبُّ بَعِيدًا عَنْ أَيَّةِ أَحْدَاثٍ طَارِئَةٍ؛
إذْ لَيْسَ يُعاني أو يَسْقُطُ مَهْمَا تَكُنِ الحَالْ؛
أي إنْ لَقِي البَسْمَةَ خَادِعَةً مِنْ طَاغِيَةٍ ذِي أُبَّهَةٍ،
أوْ لَقِي عُبُوسًا مِنْهُ يُهَدِّدُ بالحَبْسِ بِقَاعٍ مُظْلِمَةٍ،
أوْ إنْ يَدْفَعْهُ الزَّمَنُ المُغْوِي لِأَسَالِيبَ مُعَمَّمَةٍ.

•••

لا يَخْشَى الحُبُّ أَحَابِيلَ سِيَاسَاتٍ بَاطِلَةٍ،
تَسْتَنِدُ إلى فَتَرَاتِ هَنَاءٍ مِنْ أَقْصَرِ سَاعَاتٍ عَاطِلَةٍ،
بَلْ تَعْلُو هَامَتُهُ وَحِيدًا بِشُمُوخِ الأَفْكَارِ العَاقِلَةِ؛
فلا يَنْمُو في الحَرِّ ولا يَغْرَقُ في الأَمْطَارِ الهَاطِلَةِ،
وشُهودِي حَمْقَى الزَّمَنِ كما أَدْعُوهُمْ؛
فَمَتَاعُ الدُّنْيَا يُغْوِيهمْ فإذَا هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ،
ثم يَتُوبُونَ ويَلْقَوْنَ المَوْتَ بِلَا إِثْمٍ فِيهمْ!
ويعتبر كل مَن في مسرحية الملك جون، باستثناء النَّغْل وآرثر البريء، ممَّن يسميهم شيكسبير «حمقى الزمان» حيث يعني لفظُ «الحمقى» «الضحايا». فعلى الرغم من استماتة جون الذي تُسيطر عليه أمُّه، فإنه لا يُمثل — لا هو ولا أيٌّ من المرأتين «الملكيتَين» اللتين تدفعهما دوافعُ جنونية، وهما إليانور وكونستانس — أولَ حمقى الزمَن في المسرحية؛ فتلك الصفة يجب أن تُطلَق على المندوب البابوي، الكاردينال باندولف، الصورة التي تُبشر بشخصية يوليسيس في طرويلوس وكريسيدا، بل وتُذكرنا تذكيرًا أشدَّ بشخصية ياجو؛ فإن شيكسبير يتعمَّد أن يجعل الجمهور يكرهُ باندولف كلما تكلم، ولكن باندولف، الداعية الأكبر «للثراء» و«المداهنة السياسية»، هو الوحيد الذي ينتصرُ في هذه المسرحية. ولا يعني هذا أن النَّغْل قد هُزم، ولكن موت الغلام آرثر، وعلامات الضعف المنحرفة واللانهائية في شخصية جون، هي التي تترك في النهاية أثرَها في النغل، ذي الحيويَّة الفيَّاضة من بينِ أوائل مُبتكِري الشخصية الإنسانية عند شيكسبير:
هيوبرت : مَنْ أَنْت؟
النغل :
خُذْ مِنَ الأَسْمَاءِ ما تَشَاءْ،
فإنْ أَرَدْتَ وُدِّي العَمِيقَ قُلْ:
إني سَلِيلُ الأُسْرَةِ المَالِكَةِ!
(٥ / ٦ / ٩–١١)

إن هذا الالتواءَ في تأكيد الهُوية الذاتية بعيدٌ إلى حدٍّ بالغٍ عن تمثيلِ هُوية فوكونبريدج، الذي نلمح في كلِّ مكان احتفاله وتوكيده لكونه الابنَ الطبيعي لريتشارد قلب الأسد. ولكن حبه لجون باعتباره وَالدًا ملكًا يُكلفه كثيرًا؛ فليس جون ابنَ أمه بالأسلوب البطولي لكوريولانوس. فالواقع أن جون خائنٌ رِعْديد، حتى لو وافقنا على التقدير العالي الذي يتمتَّع به سياسيًّا في نظر هونيجمان. والمؤرِّخون لا يذكرون جون اليوم إلا لأنه أُرْغِمَ على قَبول الماجنا كارتا؛ أي وثيقة الحقوق للبارونات، وهو موضوعٌ لم يجده شيكسبير ذا أهميةٍ على الإطلاق إلى الحدِّ الذي جعله لا يشير إليه ألبتَّة. والواقع، أساسًا، أن جون عند شيكسبير، يتنازل عن الحكم للنغل، بأسلوبٍ برجماتي، وذلك في أسوأ الأوقات؛ أي إنه يُفوض ابن أخيه في جميع السلطات حتى يُمارسها ضدَّ الفرنسيين وضد النبلاء الإنجليز المتمردين، قائلًا «لك أن تتولى تنظيم الأحوال هنا في الوقت الحاضر». وأجمل امتداح للنغل بصفته مقاتلًا يأتي على لسان سولزبري، وهو من المتمردين، في لحظةِ يأس، قائلًا:

إنَّما الشَّيْطَانُ ذَاكَ النَّغْلُ مَنْ يُدْعَى هُنَا فُوكِنْبِرِيدْج،
دَانَ يَوْمُ النَّصْرِ لَهْ … وعلَى الرَّغْمِ مِنَ الحِقْدِ عَلَيْه!
(٥ / ٤ / ٤-٥)

وعلى عكس جميع التوقُّعات؛ يستطيع النَّغْل وحده تقريبًا أن يحافظ على مجدِ أبيه الفعلي، قلب الأسد. ويختتم شيكسبير المسرحيةَ بأن يجعل النَّغْل يتغنَّى بالوطن بصيحةِ بوق تتردَّد أصداؤها، ومِن خلفها موسيقى الملك المحتضَر، الذي ينطق بأسطرٍ لا تُنسى على الرغم من آلام جسمه المسموم. فحين يسأله الأمير هنري عن حاله يقول الملك:

مَسْمُومٌ مُلْتَهِبُ الأَحْشَاءِ وفي حُكْمِ الأَمْوَاتِ ومَهْجُورٌ مَنْبُوذْ،
أَفَلَنْ يَطْلُبَ مِنْكُمْ أَحَدٌ بَرْدَ شِتَاءٍ أنْ يَأْتِي
ليَدُسَّ أَصَابِعَهُ الثَّلْجِيَّةَ في بَطْنِي؟
أفَلَنْ يَجْعَلَ أَحَدٌ أَنْهَارَ المَمْلكَةِ تُغَيِّرُ مَجْرَاهَا؛
لِتَمُرَّ بِصَدْرِي المُوَقَدْ؟ أوْ يتَوَسَّلُ لِشَمَالِ الأَرْضِ
بأنْ يَجْعَلَ كُلَّ رِيَاحٍ قَارِسَةِ البَرْدِ تُقَبِّلُ شَفَتِي المُحْتَرِقَة؛
حَتَّى أَحُوَز رَاحَةَ ابْتِرَادْ؟ لكَنَّكُمُو بُخَلَاءْ،
وجُحُودُكُمُ البَالِغُ يَحْرِمني ذلِكْ.
(٥ / ٧ / ٣٥–٤٣)
هذه هي اللحظة الوحيدة التي نُشفق فيها على جون، ولكن شيكسبير يُبعدنا بمسافةٍ معينة عن التعاطف؛ إذ إن الراحة التي نستطيع أن نُقدمها لا تَزيد عن «راحة باردة» (cold comfort) [أي لا تكاد تعتبر راحة]. ولكن هذه المسافة تختفي عندما يَصيح النَّغْل صيحةَ المعركة التي تختتمُ بها المسرحية:
أَرْجُو اقْتِصَارَنَا هُنَا في الحُزْنِ والأَسَى علَى مَا ينبغي،
لَا مِثْلَمَا فَعَلْنَا سَالِفًا بِكَرْبِنَا وبُؤْسِنَا،
أَقُولُ إنَّ انْجِلْتِرَا مَا خَضَعَتْ — كَلَّا ولَنْ تَخْضَعْ —
لِغَاصِبٍ يَدِبُّ فَوْقَ أَرْضِهَا بِكبْرِيَاءْ،
إلَّا إذَا كَانَتْ أَعَانَتْ أوَّلًا بِجُرْحِ نَفْسِهَا.
أمَّا وقَدْ عَادَ إِلَيْهَا هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءْ،
فَلَوْ تَكَاتَفَ الجُنُودُ مِنْ أَرْكَانِ هذَا العَالَمِ الثَّلَاثَة
بِكُلِّ مَا لَدَيْهِمْ مِنْ سِلَاحْ،
فَسَوْفَ في غَدٍ هُنَا نَسْحَقُهُمْ.
ولَنْ يُصِيبَنَا ضُرٌّ إذَا ظَلَّتْ بِلَادُ انْجِلْتَرا
صَادِقَةً مُخْلِصَةً لِنَفْسِهَا وحَسْب.
(٥ / ٧ / ١١٠–١١٨)
وهذا الخطاب أفضلُ شعريًّا، فيما يبدو من خُطبة جونت عن «الجزيرة ذاتِ الصولجان»، وخُطبة هنري الخامس «نحن القِلَّة السعيدة»، وربما أكون متأثرًا بحبِّي للنغل فوكونبريدج أكثرَ كثيرًا من حبي لجونت أو خائن فولسطاف، ولكن صورة «جرح النفس» أعلى من أيٍّ من صور الخِطابين. فالمعنى السافر أن النَّغْل يُشير إلى أن المتمرِّدين عادوا إلى السلطة الملكية، ولكن الصورة تضمُّ بوضوح شخصيةَ جون الهستيرية وطابَعَه الخلقي المشكوك فيه، على الأقل وفقًا لحكم شيكسبير الخاص. إن روح كريستوفر مارلو لا تزال تُسيطر على الملك جون، وفوكونبريدج وحده هو الذي يُفلت من تفضيل مارلو للتعبير عن الظاهر. وأما جون نفسه فشخصيةٌ كارتونية تنتمي جزئيًّا إلى مارلو، وغير مُرْضية بهذا الوصف، ويعجز «دافعه الباطن عن تقديم سمٍّ حلوٍ حلو لشفاه العصر».
١  من سونيتات شيكسبير، ترجمة محمد عناني، القاهرة ٢٠١٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤