الفصل الثامن

روميو وجوليت

١

أحيانًا ما يبخس النقادُ قيمة روميو وجوليت، أُولى المسرحيات التراجيدية الأصيلة التي كتبها شيكسبير، ربما بسبب حبِّ الجمهور لها. وعلى الرغم من أنها تُمثل انتصارًا للنبرة الغنائية الدرامية، فإنَّ خاتمتها المأساوية تغتصبُ معظم الجوانب الأخرى للمسرحية، وتتركنا نضعُ تقديراتٍ غيرَ موفقة لمسئولية العاشقَيْن الصغيرَيْن عن فاجعتهما ومدى هذه المسئولية. ويُبدي هارولد جودارد أسفَه لأن عبارة البرولوج عن الحبيبَين اللذين عبَسَت لهما الأفلاكُ وأذاقَتهما كأسَ هلاك؛ «أدَّت إلى تسليم الدراما للمُنجِّمين»، وإن تكن مسئوليةُ هلاك جوليت الرائعة يتحمَّلها ما يزيد عن الأفلاك في مساراتها. وللأسف فإن هذه التراجيديا كثيرًا ما نتنازل عنها للمتاجرين بقضايا المرأة وقضايا السلطة، الذين يستطيعون الهجوم على النظام الأبَوي، بما في ذلك شيكسبير نفسُه، بسبب تعذيب جوليت.
وقد وضع توماس ماكالندون دراسةً عاقلة تُثلج الصدر في كتاب عُنوانه الكون التراجيدي عند شيكسبير (١٩٩١م)، يرصد فيه جذورَ الديناميَّات في عمل الكاتب، ويرى أنها تكمن في الصورتين المتنافستين للوجود عند هراقليطس وإمبدوكليس، وذلك بعد تهذيبهما في حكاية الفارس عند تشوسر. كان هراقليطس يقول إن طبع الأشياء التدفُّقُ المستمر، وكان إمبدوكليس يتصوَّر وجودَ صراع بين الحب والموت. ولقد كان تشوسر، أكثرَ مما كان أوفيد أو مارلو، كما سبق لي أن ذكرت، وَالدًا لأعظمِ أصالةٍ شيكسبيرية، ألا وهي ابتكار الشخصية الإنسانية، قضيتي الأولى في هذا الكتاب. إذ إن الرؤية الساخرة واللطيفة لدين الحب عند تشوسر، والتي تتبدَّى في قصته الشعرية طرويلوس وكريسيد أكثر مما تتبدَّى في حكاية الفارس (على الأرجح) تُمثل السياق الأساسي لروميو وجوليت؛ فإنَّ سخرية القدر تتحكم في الحبِّ عند تشوسر، مثلما سوف يحدث في روميو وجوليت. والطبيعة الإنسانية عند تشوسر تتفق في جوهرها مع رؤية شيكسبير لها؛ إذ إن أعمق الروابط بين أعظم شاعرَين إنجليزيَّين كانت رابطةَ المزاج النفسي، لا رابطة فكرية أو اجتماعية سياسية. فإما أن يموت الحب وإما أن يموتَ العشاق، وهاتان هما الإمكانيتان البرجماتيتان عند الشاعرين؛ إذ كان كلٌّ منهما حَكيمًا تجريبيًّا بما يتجاوز الحكمة.

وكان شيكسبير يختلف إلى حدٍّ ما عن تشوسر؛ إذ كان ينفر من تصوير موت الحب لا موت العشاق، هل نجد في كل ما كتَبه شيكسبير شخصًا يتخلى عن الحبِّ إلا هاملت؟ وعلى أية حال فإن هاملت يُنكر أنه أحبَّ أوفيليا يومًا ما، وأنا أُصدِّقه. وبحلول نهاية المسرحية نجد أن هاملت لا يحبُّ أحدًا، سواءٌ كان أوفيليا التي ماتت، أو أباه القتيل أو أمه المتوفَّاة أو يوريك المتوفَّى، ولنا أن نتساءل إن كانت هذه الشخصيةُ المخيفة يمكن أن تحبَّ أحدًا أو أحبَّت أحدًا يومًا ما. لو كانت ملهاوات شيكسبير قد امتدَّت إلى فصلٍ سادس، فلا شك أن الزِّيجات التي تنتهي بها كانت ستقترب من حالةِ اقتران شيكسبير نفسه بزوجتِه آن هاثاواي. وستبدو ملاحظتي هذه، بطبيعة الحال، هُراءً إن فهمتَها حرفيًّا، ولكن معظم جماهير شيكسبير — آنذاك والآن ودائمًا — لا تزال تعتقد أن شيكسبير يُصور الواقع بأسلوبٍ فريد. فإن المسكين فولسطاف لن يتوقَّف عن حب الأمير هال، وأنطونيو المسيحي المثالي سيظلُّ صَبًّا وامقًا لباسانيو، وأما من كان يحبه شيكسبير نفسه فلا نعرفه، ولكن السونيتات أكثرُ من مجرد خيال، والواضح أن شيكسبير لم يكن، من هذه الزاوية على الأقل، باردًا برودَ هاملت.

ويوجد عند شيكسبير عشاقٌ ناضجون، أبرزهم أنطونيو وكليوباترا، وهم يتخلَّون ببشاشةٍ عن العلاقة لأسبابٍ سياسية، لكنهم يعودون إليها عند انتحارِ كلٍّ منهما. وروميو وأنطونيو ينتحران لأنهما يتصوَّران خطأً أنَّ الأحبة موتى (ويتعثَّر أنطونيو في انتحاره مثلما يتعثرُ في كلِّ ما عداه). وأما أكثرُ الزيجات استنادًا إلى عاطفةٍ مشبوبة عند شيكسبير، أي بين مكبث وزوجته، فإنها توحي من طرْفٍ خفيٍّ بأنها تُواجه صعوباتٍ جنسية، على نحوِ ما سوف أبيِّن، وتنتهي بالجنون والانتحار للملكة مكبث، دافعةً زوجها الغاضبَ إلى تقديم رثاءٍ لها يتضمن أشدَّ التأملات غموضًا. ويسمع الشرير البارد إدموند، في مسرحية الملك لير، نفسَه يقول: «لكنَّ إدموند كان معشوقًا» عندما يدخل الحرسُ بجُثَّتَي جونريل وريجان.
ويُبدي شيكسبير انشغالًا لا ينتهي بالحبِّ المشبوب بين الجنسَين، وتجد الغيرةُ الجنسية بعضَ الفنانين الذين يُعبرون عنها تعبيرًا استعراضيًّا باهرًا، مثل عطيل وليونتيس، ولكن الهُوية الفعلية لعذابات الحب والغيرة من ابتكار شيكسبير، وهي التي هذَّبها بعد ذلك هوثورن وبروست. وكان شيكسبير، أكثرَ من أي مؤلف آخر، هو الذي علَّم الغربَ دروسًا في كوارث الحياة الجنسية، كما ابتكَر المعادلةَ التي تقول إن النزعة الجنسيَّة تغدو حبًّا جارفًا حين يعترضُها ظلُّ الموت. وكان لا بد أن تكون عند شيكسبير أنشودةٌ رفيعة عن الحب الجارف، تعتبر تسبيحًا غنائيًّا وله نبرةٌ تراجيكوميدية، تمتدحُ وتحتفل بالحب الصافي وتَنْعى دمارَه المحتوم. ولا تُجارَي روميو وجوليت، عند شيكسبير وفي الأدب العالمي، بصفتها رؤيةً للحب المتبادَل الذي لا يَعرف المهادَنة ويَفْنى بسبب مِثاليَّته وعمقه وشدته.
وتوجد بعض الأمثلة المتفرقة للواقعيَّة المتميزة في شخصيات شيكسبير قبل روميو وجوليت، مثل «لونص» في سيدان من فيرونا، والنغل فوكونبريدج في الملك جون، والملك ريتشارد الثاني، الذي دمَّر نفسه ويُعتبر شاعرًا ميتافيزيقيًّا. والرباعيَّة التي لدينا في روميو وجوليت، وتتكوَّن من جوليت ومركوشيو والمربية وروميو تفوق هذه الابتكارات المبكِّرة للشخصية الإنسانية عددًا وتتجاوزها. وترجع أهمية روميو وجوليت باعتبارها مسرحيةً إلى هذه الشخصياتِ الأربع ذَوات البناء النابض بالحياة.
من الأيسَر لنا أن نرى حيويةَ مركوشيو والمربية من أن نستوعبَ ونُتابع عظَمة الحب الجارف عند جوليت، والجهد البطولي الذي يبذله روميو حتى يقتربَ من رِفْعة الشعور بالحب وسُموِّه. كان شيكسبير يتمتع ببصيرةٍ نُبوئية دلته على ضرورة صرفِ انتباه جمهوره عن الفكاهات الساخرة البذيئة عند مركوشيو، حتى يتهيَّأ الجمهور لفهم جوليت، فإن سمَّوها صُلب المسرحية، وهو يضمن الطابَعَ المأساوي لهذه المأساة. ومن ثَم كان لا بد من قتلِ مركوشيو وإبعادِه عن الأحداث حتى تظلَّ مسرحية روميو وجوليت، أما إن أُبقِيَت مركوشيو في الفصلين الرابع والخامس فإن الصراع بين الحبِّ والموت لا بد أن يتوقَّف. إننا نَزيد من استثمارنا في مركوشيو لأنه مصدرُ تأمين لنا ضدَّ حِرصنا المستندِ إلى الحب الجارف على الوصول إلى الأجل المحتوم؛ أي إن وجوده في المسرحية يُحقق غرضًا مهمًّا، وكذلك وإن يكن الغرض جهمًا، وجود المربِّية، التي تُساعد على ضمانِ الكارثة الختامية؛ أي إن مركوشيو والمربية، وكلاهما مما يحبُّه الجمهور، شخصيتان سيئتان، من زاويتين مختلفتين وإن كانتا متكاملتَين. وربما يكون شيكسبير، في هذه الفترة من حياته العمَلية، غيرَ مدركٍ لمدى طاقاته الكبرى المتفتِّحة، ما دام مركوشيو والمربية يُواصلان «إغواء» الجماهير، والقراء والمخرجين والنقاد. وبراعتهما في التعبير اللُّغوي المتألق تجعلهما يُبشران بشخصيتَي تتشستون وجاكويز، بسخريتِهما المريرة، ولكنهما يُبشران أيضًا بالشريرَين المتلاعبين مِن ذَوي الفصاحة الخطرة، وهما ياجو وإدموند.

٢

بدأَت عظَمة شيكسبير بمسرحيتي خاب سعي العشاق (١٥٩٤-١٥٩٥م والمنقحة عام ١٥٩٧م) وريتشارد الثاني (١٥٩٥م)، وهما إنجازان مرموقان في الكوميديا والمسرحية التاريخية على التوالي. ولكن روميو وجوليت (١٥٩٥-١٥٩٦م) تجاوزَتْهما في النجاح، وذلك صحيح، وإن كنتُ لا أستطيع أن أَفْصِل في الامتياز بينهما وبين حلم ليلة صيف التي ألَّفها شيكسبير في الوقت نفسِه مع أول تراجيديا جادَّةٍ يكتبها. والإقبال الشعبي الدائم، الذي اكتسب الآن شدةً أسطورية لروميو وجوليت له ما يُبرره، ما دامت المسرحية أضخمَ احتفال بالحب الرومانسي في الأدب الغربي، وأشدَّ صورِه إقناعًا. وعندما تخطر المسرحية على بالي، من دون إعادة قراءتها وتدريسها، أو مشاهدة عرضٍ غير مقنع آخر، فإن أول ما أتذكره ليس الخاتمةَ الفاجعة، ولا مركوشيو ذا الحيوية الفائقة ولا المربِّية، بل إن ذِهني يتَّجه مباشرةً إلى المركز الحيوي، في المشهد الثاني من الفصل الثاني حيث الحوارُ المتوهج بين العاشقَين:
روميو :
فَلَأُقْسِمَنْ بِذَلِكَ البَدْرِ الَّذِي
يَكْسُو ذَوَائِبَ الأَشْجَارِ في البُسْتَانْ،
بِذَوْبِ قَطْرٍ من جُمَانْ!
جوليت :
أرجوكَ لا تُقْسِمْ بهذا القَمَرْ؛
فالبَدْرُ كَذَّابٌ أَشِرْ،
يُقَلِّبُ الوُجوهَ في مَدَارِهِ بِكُلِّ شَهْر،
وإنْ حَلَفْتَ بِهِ أَصَابَتْكَ الغِيَرْ.
روميو : وبماذا أُقْسِمْ؟
جوليت :
لا تُقْسِمْ أَبَدًا!
إنْ كُنتَ تُصِرُّ فَأَقْسِمْ بِكَرِيمِ خِصَالٍ في ذَاتٍ
أَعْبُدُها وأُقَدِّسُهَا … وَلَسَوْفَ أُصَدِّقُ قَسَمَكْ!
روميو : إنْ كانَ الحُبُّ الغَالِي بِفُؤَادِي …
جوليت :
أرجوكَ لا تُقْسِمْ! فَرَغْمَ فَرْحَتِي بالقُرْبِ مِنْكَ لا أَرَى
سَعَادَةً في الارْتِبَاطِ بَيْنَنَا في هَذِهِ اللَّيْلَة!
فَفِيهِ طَيْشٌ بالغٌ وسُرْعَةٌ مفاجِئَة،
كَأَنهُ البَرْقُ الذي يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِنَا،
مِنْ قَبْلِ أنْ نَقُولَ هَا هُوَهْ! تُصْبحْ عَلَى خَيْرٍ حَبِيبِي!
وَرُبَّما تَفَتَّحَتْ بَرَاعِمُ الحُبِّ الصَّغِيرَة عِنْدَمَا
تَهُبُّ أَنْفَاسُ الرَّبِيعِ الدَّافِئَة،
فَأَزْهَرَتْ وأَيْنَعَتْ عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ جَدِيدْ!
تُصْبِحْ عَلَى خَيْرٍ إذَنْ! وَلَيْتَ قَلْبَكَ الكَرِيمَ يعرفُ النَّعِيمَ
والسَّكِينَةَ التي تَشِيعُ في جَوَانِحِي!
روميو : هَلْ تَتْرُكِينَنِي وَبِي هَذَا الظَّمَأ؟
جوليت : وَكَيْفَ في هَذَا المَسَاءِ أُطْفِئُ الظَّمَأ؟
روميو : بِأَنْ تُقَدِّمِي عَهْدَ الوَفَاءِ في الهَوَى!
جوليت :
قَدَّمْتُه مِنْ قَبْلِ أَنْ تَطْلُبَهْ …
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَنَعْتُهْ … حَتَّى يُقَدَّمَ مِنْ جَدِيدْ!
روميو : تَبْغِين أنْ تَسْتَرْجِعِيهِ الآنَ، ما الأسبابُ يا حَبِيبَتِي؟
جوليت :
كيما أكونَ صَرِيحَةً وأَرُدَّه فَوْرًا إليْك،
لكنني لا أَبْتَغِي إلَّا الذي أَمْلِكُهُ؛
فَإنني سَخِيَّةٌ كالْبَحْرِ لَا سَاحِلَ لَهْ،
وحُبِّي العَمِيقُ مِثْلُهُ … لا غَوْرَ لَهْ،
وَكُلَّمَا أَعْطَيْتُ مِنْهُ زَادَ ما لَدَيَّ مِنْه،
كِلاهُما بلا حُدُودْ!
(٢ / ٢ / ١٠٧–١٣٥)
وتَكشُّفُ طبيعة جوليت هنا يمكن أن يُطلق عليه «التجلِّي» epiphany في دينِ الحب. ونحن لا نجد عند تشوسر شيئًا مثلَ هذا، ولا عند دانتي؛ إذ إن حبَّ بياتريس له يتجاوزُ الحياةَ الجنسية. هذا غيرُ مسبوقٍ في الأدب (وإن لم يكن غيرَ مسبوق فيما نرى في الحياة) فإن جوليت لا تتجاوز صفةَ البطلة البشرية. ومن الصعب أن نبتَّ فيما إذا كان المؤلف يُعيد ابتكارَ تمثيلِ أنثى مُحبةٍ صغيرة (لم تبلغ الرابعةَ عشرة بعد)، أو ربما يفعل ما يَزيد على ذلك. كيف تُقيم مسافةً بينك وبين جوليت؟ إنك لن تشعرَ إلا بالخجل إذا افترضتَ وجود سخرية في تأمُّلِ وعيها. ولقد أصاب هازليت، مدفوعًا بالحنين إلى أحلام الحبِّ المفقودة عنده، في التصوير الدقيق لروحِ ذلك المشهد، متفوقًا بذلك على أيِّ ناقد آخر، قائلًا:

 [إن شيكسبير] يُقيم العاطفة المشبوبة بين العاشقَين لا على أسُس الملذَّات التي تمتَّعا بها، بل على أسُس جميع الملذات التي لم يتمتَّعا بها.

إن جوليت تشير إلى الإحساس باللانهائية الذي لم يأتِ بعد، بل إننا لا نستطيع أن نشكَّ في أنها سخيةُ العطاء «كالبحر الذي لا ساحل له». وعندما تكرَّر روزاليند في كما تحب هذا التشبيه، نجد أنه يتَّسم بنغمةٍ تُحدد لنا اختلاف جوليت:
روزالند : يا بنت عمي، بنت عمي، بنت عمي! ليتك يا ابنة عمي الصغيرة اللطيفة تعرفين مدى عمق حبي! ولكن قلبي لا يسبر له غور ولا يعرف له قاع! مثل خليج البرتغال.
سيليا : الأحرى بكِ أن تقولي إنه لا قاعَ له، ما إن تسكن العاطفةُ فيه حتى تتسربَ وتضيع!
روزالند : لا بل إنني أدعو الآن كيوبيد، ذلك النَّغْل الخبيث ابن فينوس! مَن أنجبه الخيالُ وتشكَّل من نزوةٍ فخرج من رحم الجنون! إنني أدعو ذلك الغلام الكفيف الوغد الذي يخدع أبصارَ الجميع؛ لأن نور عينَيه انطفأ! أدعوه للحكم على مدى عمقِ غرامي!
(كما تحب، ٤ / ١ / ١٩٥–٢٠٥)

هذه أسمى الساخرات المتفكِّهات التي يمكن، فيما نتصور، أن تنصحَ روميو وجوليت أن «يموتا بالوكالة»، والتي تعرف أن النساء، والرجال أيضًا، «يَمُتْن من وقتٍ لآخَر، وأن الديدان قد أكَلَتهم، ولكن ليس بسببِ الحب». ولكن وا أسفا! فإنَّ روميو وجوليت استثناءان، وهما يموتان بسببِ الحب ويرفضان الحياة للذكاء والتفكُّه. ولا يسمح شيكسبير بأيِّ شيء مثلِ ذكاء روزاليند الفائق بأن يتدخَّل فيُفسد نشوة جوليت الأصيلة. وليس مركوشيو مؤهَّلًا، بسبب بذاءته الدائمة، لأن يُلقِيَ ظلالًا سوداءَ على مشاعرِ انتشاء جوليت؛ فلقد سبق أن بيَّنَت المسرحية مدى إمكانِ قِصَر حياة هذه السعادة. وفي إطار هذا السياق كله، وعلى الرغم من تحفُّظات شيكسبير الساخرة الخاصة، فإنه يسمح لجوليت بأن تُقدِّم أسمى إعلانٍ عن الحب الرومانسي في لغتنا:

جوليت :
كيما أكونَ صَرِيحَةً وأَرُدَّه فَوْرًا إليْك،
لكنني لا أَبْتَغِي إلَّا الذي أَمْلِكُهُ؛
فَإنني سَخِيَّةٌ كالْبَحْرِ لَا سَاحِلَ لَهْ،
وحُبِّي العَمِيقُ مِثْلُهُ … لا غَوْرَ لَهْ،
وَكُلَّمَا أَعْطَيْتُ مِنْهُ زَادَ ما لَدَيَّ مِنْه،
كِلاهُما بلا حُدُودْ!
(٢ / ٢ / ١٣١–١٣٥)
وعلينا أن نَقيس سائرَ المسرحية بهذه الأسطُر الستة؛ فهي تُمثل إعجازًا في الكبرياء المشروعة والحادَّة، وهي تطعن في الملاحَظة الملتوية التي يُبديها الدكتور جونسون على أشكال التطرُّف البلاغي في المسرحية كلها؛ إذ يقول: «إن أنفاسه العاطفية دائمًا ما تُلوثها بعض النقائص غير المتوقَّعة.» وتقول موللي ماهود: إن في روميو وجوليت ما لا يقلُّ عن مائةٍ وخمسٍ وسبعين توريةً وتلاعبًا بالألفاظ، وترى أنها مُلائمة للدراما الملغِزة «حيث يظلُّ الموت ردحًا طويلًا من الزمن منافسًا لروميو، ويفوز بها في النهاية»، بمعنى أنها نهايةٌ مناسبة لعاشقَين يَنشُدان انقضاءَ الأجل.
ولكن المسرحية لا يكاد يوجد بها ما يوحي بأن روميو وجوليت يعشقان الموتَ عِشقَهما لأنفسهما، ويمتنع شيكسبير عن إلقاء التبِعة على الأحقاد بين أفراد الجيل السابق، أو على العاشقين، أو على القدَر، أو الدهر، أو المصادفة، أو عوامل التضادِّ الكونية. وشعرت جوليا كريستيفا بقدرٍ من الشجاعة زاد عن حدِّه، فقررَت أن تُدلي بدلوها في الدِّلاء، فدخَلَت المعمعة لتُعلن أنها اكتشفت وجود «نسخة متحفظة في النص من الفيلم الياباني عالم الحواس»، وهو فيلم باروكي الطِّراز، يمزج بين الصادية والماسوكية.

من الواضح أن شيكسبير كان يُخاطر إلى حدٍّ ما بأنْ ترَكَنا نحكم على هذه التراجيديا بأنفسنا، ولكن رفضه اغتصاب حرية جمهوره أتاح في آخِر المطاف كتابةَ المآسي العُليا الختامية. وأظن أنني لا أتكلم بلساني فقط حين أقول إن الحب الذي يجمع بين روميو وجوليت عاطفةٌ تتَّسم بكل الصحَّة والمعيارية التي يمكن للأدب الغربي أن يُقدمها لنا، وهي تنتهي بانتحارٍ متبادَل، ولكن السبب لا يرجع إلى أنَّ أيًّا من العاشقَين يشتهي الموتَ أو يمزج الكراهية بالرغبة.

٣

يعتبر مركوشيو أشهرَ سارقٍ للمشهد في كلِّ ما كتبه شيكسبير، ويقول قولٌ مأثورٌ [متواترٌ] (يرويه درايدن) إن شيكسبير أعلن أنه اضطُرَّ إلى قتل مركوشيو؛ خشيةَ أن يقتل مركوشيو شيكسبير، ومِن ثَم المسرحية. وكان الدكتور جونسون على حقٍّ حينَ امتدح مركوشيو بسبب لماحيتِه ومرحه وشجاعته، وأظنُّ أن الناقد العظيم اختار أن يتَجاهل أن مركوشيو أيضًا بذيءٌ قاسٍ وميَّال إلى الشجار. وعندما يظهر مركوشيو يعدنا بأنه يلعب دورًا كوميديًّا عظيمًا، ولكنه يُزعجنا أيضًا بأنشودته الفذَّة عن الملكة ماب التي تبدو في البداية أقربَ إلى الانتماء إلى حلم ليلة صيف أكثرَ من انتمائها إلى روميو وجوليت:
مركوشيو :
إذَنْ فَقَدْ زَارَتْك بالأمْسِ المليكةُ «ماب»،
تِلْكَ التي تُوَلِّدُ الأطْفالَ عِنْدَ الجَانْ،
ولا يَزِيدُ حَجْمُها عَنْ حَبَّةِ العَقِيقْ،
في خَاتَمٍ مُنَمَّمٍ في أُصْبُعِ العَمِيدْ؟
وَفَوْقَ أَنْفِ كُلِّ نَائِمٍ وَحِيدْ،
تَمُرُّ في مَرْكَبَةٍ من قِشْرِ بُنْدُقَة،
تَجُرُّها الذَّرَّاتُ مُؤْتَلِقَة،
نَجَّارُهَا السِّنْجَابُ أَوْ يَرَقَة؛
فَهُمَا اللَّذانِ تَخَصَّصَا مُنْذُ الأَزَلْ،
في مَرْكَبَاتِ الجَانْ!
عَجَلَاتُها … أَسْلَاكُها مِنْ أَرْجُلِ العَنَاكِبِ الطَّوِيلَة،
وغِطَاؤُهَا من بَعْضِ أَجْنِحَةِ الجَرَادْ،
ولِجَامُها مِنْ خَيْطِ بَيْتِ عَنْكَبٍ صَغِيرْ،
أَطْوَاقُها أَشِعَّةٌ سَالَتْ مِنَ البَدْرِ المُنِيرْ،
وَسَوْطُها مِنْ عَظْمِ جُنْدُبٍ صَغِيرٍ طَرْفُه مِنَ الحَرِيرْ،
مَرْكَبَةٌ تَقُودُها بَعُوضَةٌ في مِعْطَفٍ رَمَادِي،
ولا يَزِيدُ حَجْمُهَا عَنْ نِصْفِ دُودَةٍ صَغِيرةٍ،
تُزِيلُهَا الكَسُولُ من أُصْبُعِهَا،
وَهَكَذا في هَذِهِ الأُبَّهةِ المُنَمَّقَة،
تَخُبُّ في خَوَاطِرِ العُشَّاقِ كُلَّ لَيْلَة،
فَيَحْلُمُون بالغَرَامْ!
وَفَوْقَ أَرْجُلِ الرِّجَالِ في البَلَاطْ —
كي يَحْلُمُوا بالانْحِنَاءْ!
وَرُبَّمَا مَرَّتْ عَلَى أَصَابعِ المُحامِي كي يَرَى
حُلْمَ الأُجورِ الباهِظَة،
وربما مَسَّتْ شِفَاهَ الحَالِمَاتِ بالقُبَلْ،
لكنَّها تَسْتَاءُ من طَعْمِ الحَلَاوَةِ الذي يَشِيعُ في أَنْفَاسِهِن،
وغالبًا ما تَبْتَلِيها بالبُثُورْ!
وربما مَرَّتْ على أَنْفِ وَزِيرٍ كي يَشُمَّ رَوْحَ مَظْلَمَة
(يخرجُ مِنْها بِعُمُولَة!)
أو رُبَّمَا تَأْتِي بِذَيْلِ خِنْزِيرٍ كَبِيرٍ؛
كي تُدَغْدِغَ أَنْفَ قِسِّيسٍ شَرِهْ،
حَتَّى يَرَى حُلْمَ المَزِيدِ مِنَ العَطَايَا!
أو رُبَّما مَرَّتْ على جِيدِ المُقَاتِلِ فانْثَنَى
يَشْتَاقُ أنْ يَجْتَزَّ أعناقَ الأَعَادِي،
وباختراقِ كُلِّ سُورٍ أو كمينٍ … والْتِمَاعَةِ المُهَنَّدِ!
وبالشَّرَابِ في كُئُوسٍ عُمْقُها خَمْسَةُ أَذْرُعْ،
وعِنْدَهَا تَعْلُو طُبُولُ الحَرْبِ في أُذْنَيْه،
فَيَهُبُّ في فَزَعٍ لِيَتلو دَعْوَةً أو دَعْوَتَين،
ويعودُ للنَّوم الهَنيء! هَذِي إذَنْ «مابُ» التي
تُضَفِّر الخُصْلَاتِ في شَعْرِ الخُيولِ إذَا أَتَى اللَّيْلُ البَهِيمْ،
وَتَعْقِدُ العُقَدَ الصَّغِيرَة في شُعُورِ العَاهِرَاتِ،
فإنْ فَكَكْنَ شُعُورَهُنَّ أَتَتْ بِشَرٍّ مسْتَطِيرْ!
هذي هي الشَّمْطَاءُ تأتي للبَنَاتِ إذا رَقَدْنَ على السَّرِيرْ؛
حتى تُعَلِّمَهُنَّ فَنَّ الحَمْلِ أولَ مَرَّةٍ
كَيْمَا يُجِدْنَ تَحَمُّلَ الآلامِ.
هذي هي الجنِّيَّةُ …
(١ / ٤ / ٥٣–٩٤)
وهنا يُضطرُّ روميو إلى مقاطعته؛ فالواضح أن مركوشيو لا يتوقَّف إن بدأ الكلام. وهذه الرؤيةُ الزِّئبقية للمليكة ماب؛ حيث من المحتمل أن يكون المقصودُ بالمليكة «العاهرة»، وحيث يُشير لفظ ماب إلى جنِّية كلتية (أي اسكتلندية) كثيرًا ما تظهر في صورةِ وهجٍ فوق المستنقَعات؛ رؤيةٌ تتَّفق تمامًا مع شخصية مركوشيو. فهي كما يُصورها القابلة التي تولد أحلامَنا الجنسيَّة؛ أي إنها تُساعدنا على أن «نلد» تخيُّلاتنا العميقة، وهي فيما يبدو تتميزُ بسحرٍ طفولي أثناء جانبٍ كبير من وصف مركوشيو لها. لكنه ما دام يُعتبر مثالًا رئيسيًّا للذين يصفُهم د. ﻫ. لورنس بأنهم لديهم «الجنس في الرأس»؛ فإن مركوشيو يُهيِّئنا لاعتبار «ماب» كابوسًا أو عفريتًا يتسبَّب في حمل العَذارى. وحين يُقاطعه روميو قائلًا إنك تتحدث عن «لا شيء» (nothing) فإنه يشير إلى الكلمة العامِّية المبتذَلة التي تُطلق على حِرِ المرأة، وهكذا فإنَّ الولوع القهريَّ عند مركوشيو بالبذاءة يستخدمُه شيكسبير استخدامًا رائعًا ليُمثل الاختزال الذي يهبط بالعاطفة المشبوبة السامية الصادقة عند روميو وجوليت. ونحن نسمع مركوشيو قبل أول لقاء بين الحبيبين يُقدم لنا تورياتٍ بالغةَ البذاءة والحيوية:
إنْ كَانَ الحُبُّ هُنَا أَعْمَى فَلَسَوْفَ يَحِيدُ عَنِ المَرْمَى،
وإذَنْ فَلْيَجْلِسْ صَاحِبُنَا تَحْتَ الشَّجَرَة،
وَيُمنِّي النَّفْسَ بِأَنْ تُصْبحَ مَعْشُوقَتُهُ ثَمَرَة؛
مِمَّا تَدْعُوهُ ذَوَاتُ اللَّهْوِ فَمَ الزَّهْرَة!
رُوْميو! لَيْتَ حَبِيبَتَكَ فَمُ الزَّهْرَة؛
كي تُصْبِحَ أَنْتَ الكُمَّثْرَى!
(٢ / ١ / ٣٣–٣٨)

إن مركوشيو يشير هنا إلى روزالاين، حبيبةِ روميو قبل أن يحبَّ جوليت من النظرة الأولى، فتُشاركه حبَّه على الفور. كانت ثمرة «فم الزهرة» عندما تصل إلى النضج فتتفسَّخ، تُشبه عند العامة الأعضاءَ التناسلية للمرأة، والسياقُ يوحي رمزيًّا بالجماع، وبقية ألفاظ مركوشيو توحي ببذاءات أخرى، وهذه هي المقدمة المناقضة للمشهد الشهير الذي ينتهي بأسطر جوليت التي تقول:

اصْبَحْ علَى خَيْرٍ إذَنْ! أقولُ طَابَتْ لَيْلَتُكْ!
إنَّ وَدَاعَ الحُبِّ حُزْنٌ يكْتَسِي الأَفْرَاحْ؛
فَلَيْتَنِي أُوَدِّعُكْ … حَتَّى يُشَقْشِقَ الصَّبَاحْ!

ومركوشيو في أحسنِ حالاته كافرٌ بدين الحب ذو روحٍ سامية، مهما تكن سخريته:

بنفوليو : ها هُو روميو! ها هو روميو!
مركوشيو : كأنه رنجةٌ مجفَّفة، ليس فيها بَطارخ: قد تحوَّل جسده البشري إلى جسد سمكة! ألا ترى أنه يعشق القصائد التي تَسيل من قلم بترارك؟ إن (لورا) — بالنسبة لحبيبته — ليست سوى خادِم! (مع أن حبيبها كان أفضلَ منه في كتابة الغزَل) أما «دايدو» بالنسبة لها — فلم تكن إلا دميمة … وكليوباترا غجَريَّة! و«هيلين» و«هيرو» مجردُ تافهاتٍ ساقطات! وكذلك ثيسبي — رغم عيونها الزرقاء!
(٢/٣٧–٤٤)

وعلى الرغم من هذه النَّزعة لديه، فإنه ذو أسلوبٍ يجعله يتقبَّل جرحَه القاتل بشهامةٍ أي شخصية أخرى عند شيكسبير:

روميو : هَوِّنْ عليكَ يا رَجُلْ … إنَّه خدشٌ بسيط …
مركوشيو : حقًّا … ليس عَميقًا كالبئر … أو واسعًا كبابِ الكنيسة ولكنه يكفي … يكفي لقتلي على الأقل … وأرجو أن تسألَ عنِّي غَدًا في عُنواني الجديد … بين القبور! أؤكِّد لك إنني قد شُوِيتُ في هذه الدنيا واستويت. لَعَنَ الله الأُسْرتين …
(٣ / ١ / ٩٦–١٠١)

هذا حقًّا هو ما يغدو عليه مركوشيو في موته: لعنةً على روميو ابن أسرة مونتاجيو، وجوليت بنتِ أسرة كابيوليت؛ إذ تبدأُ اللعنة منذ هذه اللحظة في الإسراع حتى تصلَ إلى فاجعتها المزدوِجة الختامية. ونحن نرى أن شيكسبير لا يزال شيكسبير في أبْنِيته الدقيقة غيرِ البارزة، وإن كان أسلوبُه ما زال غنائيًّا أكثرَ مما ينبغي. والشخصيتان المرتبطتان بالموت في المسرحية أقربُ شخصياتها إلى التفكُّه والكوميديا، وهما مركوشيو والمربِّيَة — فالطابَعُ العدواني عند مركوشيو قد مهَّد لتدمير الحب، على الرغم من عدم وجودِ نوازعَ سلبية عند مركوشيو، وهو يموت بسببِ مفارقةٍ تراجيدية، فإن روميو تدخَّل في النزال مع تيبالت مدفوعًا بحبِّه لجوليت، وهي علاقةٌ لا يدري مركوشيو عنها شيئًا. أي إنَّ مركوشيو يذهب ضحيةَ ما يُعتبر العاملَ الرئيسي في المسرحية، ومع ذلك فهو يموت جاهلًا بما بين روميو وجوليت؛ فهذه مأساة الحب الرومانسي الصادق. أما في نظر مركوشيو فذلك هُراء؛ فالحب لديه لا يتجاوز «دخول الكُمَّثْرى فمَ الزهرة». وهكذا فالموتُ شهيدًا للحب، إن صحَّ هذا المجاز، من دون أن تؤمن بدين الحب، بل وأنت تجهل أيضًا ما تموت من أجله، يُمثل لمسةً ساخرة، وجروتسك تستبقُ السخرياتِ الرهيبةَ التي سوف تُدمر جوليت وروميو معًا في ختام المسرحية.

٤

وأما مُربِّيةُ جوليت فإنها على الرغم من حبِّ الجماهير لها شخصيةٌ أشدُّ قَتامةً من مركوشيو؛ فهي تُشاركه البرودَ في باطنها، حتى تجاه جوليت التي ربَّتها، ولُغتها تأسِرُنا، مثل لغة مركوشيو، ولكن شيكسبير يَمنحهما طبيعتَين خفيَّتَين تختلفان اختلافًا كبيرًا عن شخصيَّتَيهما الإنسانيتين المتدفقتين. فبَذاءة مركوشيو التي لا تتوقَّف قناعٌ لما يمكن أن يكون ميلًا جِنسيًّا مِثليًّا مكبوتًا، وهو مثلَ طابَع العنف عنده يمكن أن يُشير إلى هروبٍ من الحساسية الحادة التي تتجلَّى في حديثه عن الملكة ماب؛ وذلك حتى تتحوَّل هذه أيضًا إلى البذاءة. وأما شخصية المربية فهي أشدُّ تعقيدًا، فمذهب الحيوية الذي يتجلَّى في أولِ حديثٍ كامل لها، إلى جانب نهر اللغة الدفَّاق لديها، يخدَعاننا:

عدةُ أيامٍ أو عدة ليالٍ … المهم أنها ستبلغ
الرابعة عشرة عشيَّةَ أولِ أغسطس القادم …
كانت هي وسوزان يرحمُها الله من نفسِ السن،
وقد انتقلت سوزان إلى رحاب الله،
لم أكن أستحقُّها! المهم أنها — كما قلت —
ستبلغ الرابعةَ عشرة ليلةَ أول أغسطس،
نعم … ستُصبح في تلك السن، أذكر ذلك جيدًا.
لقد مضى على الزلزال الآن أحدَ عشَر عامًا.
وقد فطَمتُها في ذلك اليوم. لن أنسى ذلك أبدًا —
ذلك اليوم بالذات من أيام السنَة —
لأنَّني كنتُ قد وضَعت الشِّيحَ على ثَدْيِي،
وجلستُ في الشمس بجانبِ جدار بُرج الحمام.
كنتَ أنت وسيدي مُسافرَين في مانتوا —
نعم، ما زال عقلي في رأسي، ولكن — كما قلت —
عندما ذاقت الشِّيحَ على حَلمَةِ ثَدْيِي،
وأَحَسَّتْ بمرارته — يا للصغيرة العزيزة —
ليتك شاهدتِيها وهي تغضبُ وتترك الثديَ في الحال!
«تحركي!» صاح برج الحمام! ولم يكن هناك داعٍ
فيما أعتقد حتى يأمرني بالهرب!
وقد مضى على ذلك الوقت إحدى عشرة سنَة!
كانت تستطيع حينئذٍ أن تقفَ وحدها، وقسَمًا بالصليب
كانت تجري وتتواثب مِن حولي،
بل إنها سقطت في اليوم السابق وجرَحَت جَبينها،
وعندها أسرع زوجي — يرحمه الله —
وكان رجلًا مرحًا — فحمَل الطفلة بين ذراعَيه،
وقال لها «هل وَقَعْتِ على وجهك اليوم؟
سوف تستلقينَ على ظَهْرِكِ عندما يكبر عقلُك!
ألن تَفعلي ذلك يا جولي؟» وقسمًا بالبتول
كَفَّت العفريتةُ الصغيرة عن البكاء وقالت: «بلى»!
والآن سوف تصْبحُ تلك الفكاهةُ حقيقةً واقعة!
أؤكد لك أنني لو عشتُ ألف سنة
فلن أنسى ذلك مطلقًا «ألن تفعَلي ذلك يا جولي؟»
وعندها كَفَّت البلهاءُ الصغيرة عن البكاء وقالت: «بلى»!
(١ / ٣ / ١٦–٤٨)

إن حديثها ينمُّ عن حَصافةٍ وليس بسيطًا كما يتبادرُ إلى الذهن أولًا، بل ويكاد يوحي بالمرارة؛ لأننا نجد ما يُنفِّرنا من المربية أصلًا. فإن جوليت، مثل سوزان ابنةِ المربية، أعلى مِن أن تستحقَّها المربية، ويتضمَّن وصفُ الفطام ما يدعو إلى القلق؛ إذ إننا لا نسمع نبرات الحب.

ويؤخِّر شيكسبير كلَّ كشف نهائي آخَر عن طبيعة المربية حتى نصل إلى المشهد الحاسم الذي تخذلُ فيه جوليت. ولا بد من الاستشهاد بالحوار كاملًا؛ لأن صدمة جوليت تُمثل شيئًا جديدًا عند شيكسبير، فالمربية كانت أقربَ شخصٍ إلى جوليت طيلة الأعوام الأربعة عشر من عُمرها، وفجأةً تتبيَّن جوليت أنَّ ما كان يبدو إخلاصًا ورعايةً شيءٌ آخر:

جوليت :
رَبَّاهُ لُطْفًا بِي … مُرَبِّيَتِي! كَيْفَ نَحُولَ دُونَ ذَلِكَ الزَّوَاجْ؟
لَدَيَّ زَوْجٌ لايَزَالُ فَوْقَ الأَرْضْ،
وَعَهْدِي الذي أَقْسَمْتُ أنْ أَصُونَهُ مَا زَالَ في السَّمَاءْ،
لَا يَسْتَطِيعُ ذَاكَ العَهْدُ أَنْ يَعُودَ ثَانِيًا لِلَأرْضِ مَا لَمْ يَتَّجِهْ
زوجي إلَى السَّمَاءِ كي يُعِيدَهْ!
أَرْجُوكِ سَرِّي عَنْ فُؤَادِي … قَدِّمِي لي النُّصْحَ والمَشُورَة،
مَا أَرْفَعَ السَّمَاءَ عَنْ تَدْبِيرِ هَذِهِ المُؤَامَرَاتْ
إزَاءَ مَخْلوقٍ ضَعِيفٍ مِنْ عِبَادِ الله مِثْلِي!
ماذا تقولين إذَنْ؟ أما لَدَيْكِ ما يَسُرُّنِي؟
بعضَ العَزَاءِ يا مُرَبِّيَة!
المربية :
حقًّا! إليكِ ما يحلُّ المشكلَة:
روميو في المَنْفَى، وأراهنُ بكلِّ شيء أنه لن يَجرؤ
على العودة للمطالبة بحقِّه فيك.
وإذا فعل فلا بد أن يكونَ ذلك سرًّا.
وما دام الحالُ كذلك فأعتقد أنَّ أفضلَ حل
هو أن تتزوَّجي الكونت باريس.
ما أَروعَه من سيدٍ مهذَّب!
ليس روميو إنْ قورن به إلا سقَطَ المتاعِ!
إنَّ عينه يا سيدتي خضراءُ وجميلةٌ وبرَّاقة،
مثل عين العُقاب! يا ويحي! يا ويحي!
أعتقد أنَّكِ موفَّقةٌ في هذا الزواج الثاني وستَسعَدين به؛
فهو أفضل من الأول — وحتى إذا لم يكن كذلك،
فإن زوجك الأول ميت، أو هو في عداد الأموات،
ما دام يعيشُ ولا فائدةَ منه.
جوليت : أتقولين ذلك من قلبِك؟
المربية : ومِن روحي أيضًا، أو فلتحلَّ اللعنةُ عليهما معًا!
جوليت : آمين!
المربية : ماذا قلتِ؟
جوليت : إن مواساتَك لي مواساةٌ عجيبة ورائعة! اذهبي إلى والدتي وأخبريها أنَّني أغضبتُ والدي، ومِن ثَمَّ خرجتُ إلى صومعة القسِّ لورنس كي أعترفَ له وأستغفرَ لذنبي.
المربية : قطعًا … سأفعل ذلك … وهذا تصرف حكيم.

(تخرج المربية.)

جوليت :
يا لَلشَّمْطَاءِ المَلْعُونَة! يا لَلشَّيْطَانَةِ ذَاتِ الشَّرِّ العَاتِي!
أيُّ الإثْمَيْنِ أَشَدُّ وأَنْكَى؛ تَحْرِيضِي كي أَحْنِثَ بِالْعَهْد،
أَمْ ذَمُّ قَرِينِي بِلِسَانٍ غَنَّاهُ مَدَائِحَ،
وَدَعَاهُ فَتًى فَوْقَ الوَصْفِ أُلُوفَ المَرَّاتْ!
بُعْدًا لَكِ يا نَاصِحَتِي! لَنْ أُطْلِعَكِ عَلَى أَسْرَارِي بَعْدَ اليَوْمْ!
وَسَأَذْهَبُ لِلْقِسِّيسِ لأعْرِفَ إنْ كَانَ لَدَيْهِ عِلَاجْ،
أمَّا إنْ عَجَزَتْ كُلُّ الأَدْوِيَةِ فَفي المَوْتِ شِفَاءْ،
وَلَدَيَّ القُوَّةُ لِتَنَاوُلِ ذَاكَ التِّرْيَاقْ.

(تخرج)

إن العبارة التي تحمل أكثرَ من الغم والأسى المعتاد «ما أرفعَ السماء عن تدبيرِ هذه المؤامرات/إزاءَ مخلوق ضعيفٍ من عباد الله مثلي!» تجد الردَّ عليها في «السُّلوان» الذي تُقدمه المربية: «إنه أفضلُ من الأول … وحتى لو لم يكن كذلك/فإن زوجَك الأول ميت». وحُجة المربية سليمةٌ إن كان التوافقُ مع «مقتضى الحال» كلَّ شيء، ولكن ما دامت جوليت عاشقة، فإننا نسمعُ رفضًا قاطعًا للمُربية، انطلاقًا من قولها «آمين» حتى عبارتها الساخرة «إنَّ مواساتك لي مواساةٌ عجيبة رائعة!» فالمربية فعلًا «شمطاءُ ملعونة» و«شيطانةٌ ذات شرٍّ عاتٍ»، ولن نسمعَ صوتها بعد ذلك حتى «تموت» جوليت ميتتَها الأولى في المسرحية. وهي تدفعنا، مثل مركوشيو، إلى الشكِّ في كل قيمة ظاهرة في التراجيديا، باستثناء التزام العاشقَين ببعضهما البعض.

٥

إن جوليت، لا روميو ولا حتى بروتوس في يوليوس قيصر، تموتُ ميتتها الثانيةَ تبشيرًا بروعةِ هاملت الساحرة. وأما روميو فإنه على الرغم من أنه يتغيَّر إلى حدٍّ بعيد تحت تأثير جوليت، يظلُّ خاضعًا للغضب ولليأس، وهو يتحمَّل قدرًا من المسئولية عن الفاجعة بما يُوازي ما يتحمَّله مركوشيو وتيبالت. وروميو يَصيح بعد أن قتل تيبالت واصفًا نفسَه بأنه «أبلهُ يلهو به القدَر!» ولما كانت جوليت تتمتع بالقدر الذي يُتيحه لها موقفُها من البراءة تقريبًا، فإننا نتذكَّر صيحتها حين تدعو «القدر أن يتلطف». وربما يتذكر أيَّ متفرج أو قارئ، أكثرَ من أي شيء آخر، مشهدَ المحاورة في الفجر بين روميو وجوليت بعد ليلةِ زفافهما الوحيدة:

جوليت :
مَاذَا؟ أَتَعْتَزِمُ الرَّحِيلْ؟ لَمْ يَقْتَرِبْ بَعْدُ النَّهَارْ!
قَدْ كَانَ ذَاكَ صَوْتَ بُلْبُلٍ وَلَيْسَ قُبَّرَة،
لَكِنَّ أُذْنَكَ التي تَخَافُ كُلَّ صَوْتٍ أَخْطَأَتْ!
بَلْ إنَّهُ يُغَنِّي كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى شُجَيْرَةِ الرُّمَّانْ،
في آخِرِ البُسْتَانْ،
قَدْ كَانَ ذَاكَ بُلْبُلًا وَثِقْ بِمَا أَقُولُ يَا حَبِيبِي!
روميو :
كَانَتْ بَشِيرَةَ الصَّباحِ القُبَّرَة — لَا لَيْسَ ذَاكَ بُلْبُلًا!
هَيَّا انْظُرِي حَبِيبَتِي: تِلْكَ الخُيُوطُ مِنْ نُورِ النَّهَارِ مِنْ غَرَامِنَا تَغَارْ،
بَلْ إنَّهَا قَدْ طَرَّزَتَ أَطْرَافَ مُزْنِ الشَّرْقِ كي تُفَرِّقَ الأَحِبَّة!
ذَابَتْ شُمُوعُ اللَّيلِ واشْرَأَبَّ وَجْهُ الصُّبْحِ بَسَّامًا،
عَلَى ذُرَى الجِبَالِ وَسْطَ مَهْمَهِ الضَّبَابْ،
لَا بُدَّ أنْ أَنْجُو بِنفسي، أَوْ أَمُوتُ لَوْ بَقِيتْ!
جوليت :
ذَاكَ الضِّياءُ لَيْسَ نورَ الصُّبح! بَلْ إنَّني لَوَاثِقَة!
قُلْ إنَّه شِهَابٌ أَرْسَلَتْهُ الشَّمْسُ كي يُضِيءَ شُعْلَتَكْ،
في لَيْلَةٍ كَهَذِهِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ لِمَانْتُوا،
فَلْتَنْتَظِرْ حَتَّى يَحِينَ مَوْعِدُ الرَّحِيلْ!
روميو :
فَلْيَقْبِضُوا عَلَيَّ بَلْ وَلْيَقْتُلونِيَهْ؛
فَسَوْفَ أَغْدُو رَاضِيًا مَا دُمْتِ أَنْتِ رَاضِيَة،
وَهَكَذَا أَقُولُ هَذَا الضَّوْءُ لَيْسَ عَيْنَ الصُّبْحْ،
بَلِ انْعِكَاسٌ شَاحِبٌ لِطَلْعَةِ البَدْرِ المُنِيرْ،
وَلَا اللُّحُونُ الخَافِقَاتُ في أَرْجَاءِ قُبَّةِ السَّمَاءِ،
مِنْ فَوْقِ رَأْسَيْنَا غِنَاءُ القُبَّرَة؛
إذْ إنَّ حُبِّي لِلْبَقَاءِ أَقْوى مِنْ إرَادَةِ الرَّحِيلْ،
أَقْبِلْ إذَنْ وَمَرْحَبًا يا أَيُّهَا الهَلَاكُ هَذِهِ إرَادَةُ الحَبِيبْ،
رُوحِي! نَعُودُ لِلْحَدِيثْ؟ لَمْ يَطْلُعِ النَّهَارُ بَعْدْ!
جوليت :
لَا بَلْ أَتَى! هَيَّا … لِتَرْحَلْ مِنْ هُنَا … تَوَّا!
أَمَّا الَّذي يَشْدُو بِأَلْحَانٍ نَشَازٍ فَهْوَ قُبَّرَة،
تَسْتَخْرِجُ الأَنْغَامَ أَنْشَازًا قَبِيحَةً مُنَفِّرَة،
وَمَنْ يَقُولُ إنَّ لَحْنَهَا فَوَاصِلٌ مُسْتَعْذَبَة،
أَقُولُ إنَّها قَدْ فَصَلَتْ بَيْنَنَا،
وَمَنْ يَقُولُ إنَّهَا تَبَادَلَتْ مَعَ الضَّفَادِعِ الكَرِيهَةِ العُيُونْ،
أَقُولُ لَيْتَها تَبَادَلَتْ بَعضَ النَّقِيقِ والغِنَاءْ؛
إذْ إنَّ ذلكَ الصَّوْتَ الذي يُطَارِدُكْ … كَأَنَّه اللَّحْنُ الَّذِي
تَصْحُو عَلَى أَنْغَامِهِ غَدَاةَ لَيْلَةِ الزِّفَافْ.
هَيَّا إلى الرَّحِيلِ؛ فَالضِّيَاءُ في السَّمَا في كُلِّ لَحْظةٍ يَزْدَادْ!
روميو : وَكُلَّمَا زَادَ الضِّيَاءُ زَادَتِ الأَحْزَانُ ظُلْمَة!
(٣ / ٥ / ١–٣٦)

المشهد في ذاته ذو جمالٍ أخَّاذ، لكنه أيضًا تلخيصٌ دقيقٌ لمأساةِ هذه التراجيديا؛ إذ إن المسرحية كلَّها يمكن اعتبارها أنشودةَ طلوع الفجر، ولكنها في غيرِ موقعها الصحيح، ومن المحتمل أن يشعر الجمهورُ بالحيرة، إلا إذا كان المخرج حَصيفًا، وأن ينتابَهُ الشكُّ حين تتوالى الأحداثُ ولا يقع كلٌّ منها إلا في أبعدِ الأوقات ملاءمةً لها. ومشهد الفجر بين روميو وجوليت يبعث على القلق الشديد؛ لأن العاشقَين ليسا من المتمرِّسين في علاقاتِ ما يُسمى «الحبَّ الرفيع» من خلال طقوسٍ نمطية. فالعاشق الممارسُ لذلك النوع من الحب يُواجه إمكانية القتل الحقيقية إذا تجاوزَ موعد رحيله؛ لأن شريكته زوجةٌ زانية. ولكن جوليت وروميو يعرفان أن الموت بعد طلوع الفجر سوف يكون عقابًا لروميو لا بسبب الزنى، بل بسبب الزواج وحَسْب. والتحدِّي الدقيق في مسرحية شيكسبير أن كلَّ شيء يُعادي العاشقَين: أُسرَتاهما والدولة، وموقف اللامبالاة من الطبيعة، وصُروف الدهر، والاتجاه النكوصيُّ للعاملَين الكونيَّين المتضادَّين، وهما الحبُّ والشِّقاق. وحتى لو كان روميو قد تجاوز غضبَه، ولو لم يكن مركوشيو والمربية مطبوعَين على الشجار ودسِّ أنفَيهما في شئون الآخرين؛ فإن العوامل القائمة ضدَّ انتصار الحب تظل أكبرَ مما ينبغي. هذه هي أنشودة الفجر المضمَرة التي أصبحَت سافرةً في صيحة روميو ضدَّ الأضداد المذكورة «وكلما زاد الضياءُ زادت الأحزانُ ظلمة!»

ما الذي كان شيكسبير يُحاول الانتفاعَ به باعتباره كاتبًا مسرحيًّا يؤلِّف روميو وجوليت؟ لم تكن التراجيديا تأتي بسهولةٍ إلى شيكسبير، ومع ذلك فإن الطابَع الغنائيَّ والعبقرية الكوميدية لا تستطيعان أن توقِفا بزوغَ الفجر الذي سوف يصبح ظلمةً مدمِّرة. كان في طوق شيكسبير، من خلال تعديلاتٍ قليلة أن يُحول روميو وجوليت إلى مسرحيةٍ بسَّامة مشرقة مثل حلم ليلة صيف. فلو هرَب العاشقان الصغيران إلى مانتوا أو بادوا، لما أصبَحا من ضحايا فيرونا، أو ضحايا سوء التوقيت، أو ضحايا العامِلَيْن الكونيَّيْن المتضادَّيْن، اللذين يؤكدان سُلطانهما. ولكن هذا التعديل كان يمكن أن يكون غيرَ محتملٍ لنا ولشيكسبير؛ فالعاطفة المشبوبة المطلقة عند روميو وعند جوليت لا يمكنها الاقترانُ بالكوميديا. قد تكتفي الكوميديا بالحياة الجنسيَّة وحَسْب، ولكن ظل الموت يجعل الحبَّ الجارف رفيقًا للتراجيديا. صحيحٌ أن شيكسبير في روميو وجوليت يتفادى سخريةَ تشوسر، ولكنه يستعير من حكاية الفارس الفكرةَ التشوسرية التي تقول إننا دائمًا ما نفي بمواعيدَ لم نتعهَّد بها، وهنا نجد الموعدَ الساميَ الذي يفي به باريس وروميو في الضريح الذي من المفترض أن يكون ضريحَ جوليت، وهو الذي سرعان ما يُصبح قبرَها الفعليَّ وقبرَهما معًا. وأما ما يبقى على خشبة المسرح في ختام هذه المأساة فهو أسًى عبَثي: القس لورنس التعِس، الذي دفَعه الخوفُ إلى التخلي عن جوليت، ومونتاجيو الأرملُ الذي يُقسم أن يُقيم تمثالًا لجوليت من الذهَب الخالص، ويُقسم كابيوليت وزوجته أن يضَعا حدًّا للعداوة التي انتهَت بخمسة قتلى وهم مركوشيو، وتيبالت، وباريس، وروميو، وجوليت. وينبغي أن تهبط الستارةُ الختامية لأيِّ إخراج صحيح للمسرحية على هذه المفارَقات الختامية، ويجب أن تُقدَّم باعتبارها مفارقات، لا باعتبارها صورًا للمصالحة. وتعتبر روميو وجوليت، مثل يوليوس قيصر بعدها، ساحةَ تدريبٍ يُعلِّم شيكسبير فيها نفسَه عدمَ الندم ويُعَبِّد الطريقَ إلى تراجيدياته الخمسِ الكبار؛ ابتداءً من هاملت ١٦٠٠-١٦٠١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤