روميو وجوليت
١
وكان شيكسبير يختلف إلى حدٍّ ما عن تشوسر؛ إذ كان ينفر من تصوير موت الحب لا موت العشاق، هل نجد في كل ما كتَبه شيكسبير شخصًا يتخلى عن الحبِّ إلا هاملت؟ وعلى أية حال فإن هاملت يُنكر أنه أحبَّ أوفيليا يومًا ما، وأنا أُصدِّقه. وبحلول نهاية المسرحية نجد أن هاملت لا يحبُّ أحدًا، سواءٌ كان أوفيليا التي ماتت، أو أباه القتيل أو أمه المتوفَّاة أو يوريك المتوفَّى، ولنا أن نتساءل إن كانت هذه الشخصيةُ المخيفة يمكن أن تحبَّ أحدًا أو أحبَّت أحدًا يومًا ما. لو كانت ملهاوات شيكسبير قد امتدَّت إلى فصلٍ سادس، فلا شك أن الزِّيجات التي تنتهي بها كانت ستقترب من حالةِ اقتران شيكسبير نفسه بزوجتِه آن هاثاواي. وستبدو ملاحظتي هذه، بطبيعة الحال، هُراءً إن فهمتَها حرفيًّا، ولكن معظم جماهير شيكسبير — آنذاك والآن ودائمًا — لا تزال تعتقد أن شيكسبير يُصور الواقع بأسلوبٍ فريد. فإن المسكين فولسطاف لن يتوقَّف عن حب الأمير هال، وأنطونيو المسيحي المثالي سيظلُّ صَبًّا وامقًا لباسانيو، وأما من كان يحبه شيكسبير نفسه فلا نعرفه، ولكن السونيتات أكثرُ من مجرد خيال، والواضح أن شيكسبير لم يكن، من هذه الزاوية على الأقل، باردًا برودَ هاملت.
٢
[إن شيكسبير] يُقيم العاطفة المشبوبة بين العاشقَين لا على أسُس الملذَّات التي تمتَّعا بها، بل على أسُس جميع الملذات التي لم يتمتَّعا بها.
هذه أسمى الساخرات المتفكِّهات التي يمكن، فيما نتصور، أن تنصحَ روميو وجوليت أن «يموتا بالوكالة»، والتي تعرف أن النساء، والرجال أيضًا، «يَمُتْن من وقتٍ لآخَر، وأن الديدان قد أكَلَتهم، ولكن ليس بسببِ الحب». ولكن وا أسفا! فإنَّ روميو وجوليت استثناءان، وهما يموتان بسببِ الحب ويرفضان الحياة للذكاء والتفكُّه. ولا يسمح شيكسبير بأيِّ شيء مثلِ ذكاء روزاليند الفائق بأن يتدخَّل فيُفسد نشوة جوليت الأصيلة. وليس مركوشيو مؤهَّلًا، بسبب بذاءته الدائمة، لأن يُلقِيَ ظلالًا سوداءَ على مشاعرِ انتشاء جوليت؛ فلقد سبق أن بيَّنَت المسرحية مدى إمكانِ قِصَر حياة هذه السعادة. وفي إطار هذا السياق كله، وعلى الرغم من تحفُّظات شيكسبير الساخرة الخاصة، فإنه يسمح لجوليت بأن تُقدِّم أسمى إعلانٍ عن الحب الرومانسي في لغتنا:
من الواضح أن شيكسبير كان يُخاطر إلى حدٍّ ما بأنْ ترَكَنا نحكم على هذه التراجيديا بأنفسنا، ولكن رفضه اغتصاب حرية جمهوره أتاح في آخِر المطاف كتابةَ المآسي العُليا الختامية. وأظن أنني لا أتكلم بلساني فقط حين أقول إن الحب الذي يجمع بين روميو وجوليت عاطفةٌ تتَّسم بكل الصحَّة والمعيارية التي يمكن للأدب الغربي أن يُقدمها لنا، وهي تنتهي بانتحارٍ متبادَل، ولكن السبب لا يرجع إلى أنَّ أيًّا من العاشقَين يشتهي الموتَ أو يمزج الكراهية بالرغبة.
٣
إن مركوشيو يشير هنا إلى روزالاين، حبيبةِ روميو قبل أن يحبَّ جوليت من النظرة الأولى، فتُشاركه حبَّه على الفور. كانت ثمرة «فم الزهرة» عندما تصل إلى النضج فتتفسَّخ، تُشبه عند العامة الأعضاءَ التناسلية للمرأة، والسياقُ يوحي رمزيًّا بالجماع، وبقية ألفاظ مركوشيو توحي ببذاءات أخرى، وهذه هي المقدمة المناقضة للمشهد الشهير الذي ينتهي بأسطر جوليت التي تقول:
ومركوشيو في أحسنِ حالاته كافرٌ بدين الحب ذو روحٍ سامية، مهما تكن سخريته:
وعلى الرغم من هذه النَّزعة لديه، فإنه ذو أسلوبٍ يجعله يتقبَّل جرحَه القاتل بشهامةٍ أي شخصية أخرى عند شيكسبير:
هذا حقًّا هو ما يغدو عليه مركوشيو في موته: لعنةً على روميو ابن أسرة مونتاجيو، وجوليت بنتِ أسرة كابيوليت؛ إذ تبدأُ اللعنة منذ هذه اللحظة في الإسراع حتى تصلَ إلى فاجعتها المزدوِجة الختامية. ونحن نرى أن شيكسبير لا يزال شيكسبير في أبْنِيته الدقيقة غيرِ البارزة، وإن كان أسلوبُه ما زال غنائيًّا أكثرَ مما ينبغي. والشخصيتان المرتبطتان بالموت في المسرحية أقربُ شخصياتها إلى التفكُّه والكوميديا، وهما مركوشيو والمربِّيَة — فالطابَعُ العدواني عند مركوشيو قد مهَّد لتدمير الحب، على الرغم من عدم وجودِ نوازعَ سلبية عند مركوشيو، وهو يموت بسببِ مفارقةٍ تراجيدية، فإن روميو تدخَّل في النزال مع تيبالت مدفوعًا بحبِّه لجوليت، وهي علاقةٌ لا يدري مركوشيو عنها شيئًا. أي إنَّ مركوشيو يذهب ضحيةَ ما يُعتبر العاملَ الرئيسي في المسرحية، ومع ذلك فهو يموت جاهلًا بما بين روميو وجوليت؛ فهذه مأساة الحب الرومانسي الصادق. أما في نظر مركوشيو فذلك هُراء؛ فالحب لديه لا يتجاوز «دخول الكُمَّثْرى فمَ الزهرة». وهكذا فالموتُ شهيدًا للحب، إن صحَّ هذا المجاز، من دون أن تؤمن بدين الحب، بل وأنت تجهل أيضًا ما تموت من أجله، يُمثل لمسةً ساخرة، وجروتسك تستبقُ السخرياتِ الرهيبةَ التي سوف تُدمر جوليت وروميو معًا في ختام المسرحية.
٤
وأما مُربِّيةُ جوليت فإنها على الرغم من حبِّ الجماهير لها شخصيةٌ أشدُّ قَتامةً من مركوشيو؛ فهي تُشاركه البرودَ في باطنها، حتى تجاه جوليت التي ربَّتها، ولُغتها تأسِرُنا، مثل لغة مركوشيو، ولكن شيكسبير يَمنحهما طبيعتَين خفيَّتَين تختلفان اختلافًا كبيرًا عن شخصيَّتَيهما الإنسانيتين المتدفقتين. فبَذاءة مركوشيو التي لا تتوقَّف قناعٌ لما يمكن أن يكون ميلًا جِنسيًّا مِثليًّا مكبوتًا، وهو مثلَ طابَع العنف عنده يمكن أن يُشير إلى هروبٍ من الحساسية الحادة التي تتجلَّى في حديثه عن الملكة ماب؛ وذلك حتى تتحوَّل هذه أيضًا إلى البذاءة. وأما شخصية المربية فهي أشدُّ تعقيدًا، فمذهب الحيوية الذي يتجلَّى في أولِ حديثٍ كامل لها، إلى جانب نهر اللغة الدفَّاق لديها، يخدَعاننا:
إن حديثها ينمُّ عن حَصافةٍ وليس بسيطًا كما يتبادرُ إلى الذهن أولًا، بل ويكاد يوحي بالمرارة؛ لأننا نجد ما يُنفِّرنا من المربية أصلًا. فإن جوليت، مثل سوزان ابنةِ المربية، أعلى مِن أن تستحقَّها المربية، ويتضمَّن وصفُ الفطام ما يدعو إلى القلق؛ إذ إننا لا نسمع نبرات الحب.
ويؤخِّر شيكسبير كلَّ كشف نهائي آخَر عن طبيعة المربية حتى نصل إلى المشهد الحاسم الذي تخذلُ فيه جوليت. ولا بد من الاستشهاد بالحوار كاملًا؛ لأن صدمة جوليت تُمثل شيئًا جديدًا عند شيكسبير، فالمربية كانت أقربَ شخصٍ إلى جوليت طيلة الأعوام الأربعة عشر من عُمرها، وفجأةً تتبيَّن جوليت أنَّ ما كان يبدو إخلاصًا ورعايةً شيءٌ آخر:
(تخرج المربية.)
(تخرج)
إن العبارة التي تحمل أكثرَ من الغم والأسى المعتاد «ما أرفعَ السماء عن تدبيرِ هذه المؤامرات/إزاءَ مخلوق ضعيفٍ من عباد الله مثلي!» تجد الردَّ عليها في «السُّلوان» الذي تُقدمه المربية: «إنه أفضلُ من الأول … وحتى لو لم يكن كذلك/فإن زوجَك الأول ميت». وحُجة المربية سليمةٌ إن كان التوافقُ مع «مقتضى الحال» كلَّ شيء، ولكن ما دامت جوليت عاشقة، فإننا نسمعُ رفضًا قاطعًا للمُربية، انطلاقًا من قولها «آمين» حتى عبارتها الساخرة «إنَّ مواساتك لي مواساةٌ عجيبة رائعة!» فالمربية فعلًا «شمطاءُ ملعونة» و«شيطانةٌ ذات شرٍّ عاتٍ»، ولن نسمعَ صوتها بعد ذلك حتى «تموت» جوليت ميتتَها الأولى في المسرحية. وهي تدفعنا، مثل مركوشيو، إلى الشكِّ في كل قيمة ظاهرة في التراجيديا، باستثناء التزام العاشقَين ببعضهما البعض.
٥
إن جوليت، لا روميو ولا حتى بروتوس في يوليوس قيصر، تموتُ ميتتها الثانيةَ تبشيرًا بروعةِ هاملت الساحرة. وأما روميو فإنه على الرغم من أنه يتغيَّر إلى حدٍّ بعيد تحت تأثير جوليت، يظلُّ خاضعًا للغضب ولليأس، وهو يتحمَّل قدرًا من المسئولية عن الفاجعة بما يُوازي ما يتحمَّله مركوشيو وتيبالت. وروميو يَصيح بعد أن قتل تيبالت واصفًا نفسَه بأنه «أبلهُ يلهو به القدَر!» ولما كانت جوليت تتمتع بالقدر الذي يُتيحه لها موقفُها من البراءة تقريبًا، فإننا نتذكَّر صيحتها حين تدعو «القدر أن يتلطف». وربما يتذكر أيَّ متفرج أو قارئ، أكثرَ من أي شيء آخر، مشهدَ المحاورة في الفجر بين روميو وجوليت بعد ليلةِ زفافهما الوحيدة:
المشهد في ذاته ذو جمالٍ أخَّاذ، لكنه أيضًا تلخيصٌ دقيقٌ لمأساةِ هذه التراجيديا؛ إذ إن المسرحية كلَّها يمكن اعتبارها أنشودةَ طلوع الفجر، ولكنها في غيرِ موقعها الصحيح، ومن المحتمل أن يشعر الجمهورُ بالحيرة، إلا إذا كان المخرج حَصيفًا، وأن ينتابَهُ الشكُّ حين تتوالى الأحداثُ ولا يقع كلٌّ منها إلا في أبعدِ الأوقات ملاءمةً لها. ومشهد الفجر بين روميو وجوليت يبعث على القلق الشديد؛ لأن العاشقَين ليسا من المتمرِّسين في علاقاتِ ما يُسمى «الحبَّ الرفيع» من خلال طقوسٍ نمطية. فالعاشق الممارسُ لذلك النوع من الحب يُواجه إمكانية القتل الحقيقية إذا تجاوزَ موعد رحيله؛ لأن شريكته زوجةٌ زانية. ولكن جوليت وروميو يعرفان أن الموت بعد طلوع الفجر سوف يكون عقابًا لروميو لا بسبب الزنى، بل بسبب الزواج وحَسْب. والتحدِّي الدقيق في مسرحية شيكسبير أن كلَّ شيء يُعادي العاشقَين: أُسرَتاهما والدولة، وموقف اللامبالاة من الطبيعة، وصُروف الدهر، والاتجاه النكوصيُّ للعاملَين الكونيَّين المتضادَّين، وهما الحبُّ والشِّقاق. وحتى لو كان روميو قد تجاوز غضبَه، ولو لم يكن مركوشيو والمربية مطبوعَين على الشجار ودسِّ أنفَيهما في شئون الآخرين؛ فإن العوامل القائمة ضدَّ انتصار الحب تظل أكبرَ مما ينبغي. هذه هي أنشودة الفجر المضمَرة التي أصبحَت سافرةً في صيحة روميو ضدَّ الأضداد المذكورة «وكلما زاد الضياءُ زادت الأحزانُ ظلمة!»