الفصل التاسع

يوليوس قيصر

١

قرأتُ يوليوس قيصر مثل كثيرٍ غيري من الأمريكيِّين أبناء جيلي، في المدرسة الإعدادية؛ أي عندما كنتُ في الثانيةَ عشرة تقريبًا. كانت أولَ مسرحية قرأتُها لشيكسبير، وعلى الرغم من أنني لم ألبَث أن قابلتُ مكبث وحدي، وسائر أعمال شيكسبير في العام التالي أو العامَين التاليين، فإنَّ هالةً غريبة لا تزال قائمةً كلما عُدت إلى يوليوس قيصر، وكانت المسرحيةَ المفضَّلةَ للتدريس في المدارس في تلك الأيام؛ بسبب بنائها الشديدِ الإحكام، وطابَعِها المباشر ظاهريًّا، وبساطتها النسبيَّة. وكلما عدتُ إلى قراءتها وتدريسها، ازدادَت في نظري دقةً وغموضًا، لا في الحبكة، بل في الشخصية.
ومن أشدِّ الصعوبات تفسيرُ موقف شيكسبير من بروتوس وكاشيوس، بل ومن قيصر نفسه، ولكن ذلك أحدُ جوانب القوة في هذه المسرحية الرائعة. وأقول «قيصر نفسه» مع أنَّ دوره دورٌ ثانوي فيما كان ينبغي أن يُسمى مأساةَ ماركوس بروتوس. فلقد اضطُرَّ شيكسبير، بسبب الدور الحاسم الذي ينهض به قيصرُ في التاريخ، أن يُطلق اسمَه على المسرحية؛ فهو أعلى الرجالِ رُتبةً فيها. فمسرحية هنري الرابع بجُزأَيها تنتمي إلى فولسطاف وهال، ولكنها سُمِّيَت باسم المليكِ الحاكم فيها، على نحوِ ما كان شيكسبير الكاتب المسرحي يفعله عمومًا. ولا يظهر قيصر في الواقع إلا في ثلاثةِ مشاهد، ويتكلم أقلَّ من ١٥٠ سطرًا، وهو يقتل في المشهد الأول من الفصل الثالث؛ أي: في منتصَف المسرحية تمامًا. ومع ذلك فهو يسودها كلَّها، وَفْق ما يشهد به بروتوس عندما يُبصر كاشيوس المنتحر:
أُوَّاهُ يوليوسْ قيصَرْ! ما زلتَ ذا بأسٍ شديد!
وما زالتْ روحُك طَليقة
تُوَجِّهُ سُيُوفَنا إلى أَحْشَائِنَا
(٥ / ٣ / ٩٤–٩٦)
وكان هازليت يرى أن يوليوس قيصر «أقلُّ إثارةً للاهتمام من كوريولانوس»، ويتَّفق معه كثيرٌ من النقاد المحْدَثين، لكنني لستُ منهم. فإن مسرحية كوريولانوس، على نحوِ ما بيَّن هازليت أولًا، تُعتبر تأملًا عميقًا في السياسة والسلطة، ولكنَّ بطلَها يبهرنا بسبب محنتِه أكثرَ مما يبهرنا بوعيه المحدود. وأما بروتوس فإنه أولُ مفكرٍ عند شيكسبير، وألغاز طبيعته متعدِّدة الوجوه، وكان هازليت رائدًا في القول بأن يوليوس قيصر عند شيكسبير لا يتَّفق مع «الصورة التي ترسمه في تعليقاته»، وهي ملاحظةٌ كرَّرها جورج برنارد شو بنبرةٍ أقسى:

من المحال على أيِّ ناقد ولو كان ذا فكرٍ قانوني صارم؛ ألَّا يشعرَ بالنفور القائم على احتقارٍ غاضب حين يُبصر هذه الصورةَ الممسوخة لذلك الرجل العظيم الذي يبدو فيها متفاخرًا أبلَه، وأما العُصبة المنحطَّة من المخرِّبين الذين قتَلوه فهم يُمتدَحون باعتبارهم سياسيِّين ووطنيين، ولن تجد فيما يقوله يوليوس قيصر عند شيكسبير جملةً واحدة تليق به، ولا أقول تليق بمكانته الرفيعة، بل بأيِّ رئيس عاديٍّ لجمعيةٍ من الجمعيات الديموقراطية الفاسدة للأمريكيين الأصليين.

كان شو يُمهد الطريق لمسرحيته قيصر وكليوباترا (١٨٩٨م) التي لم يُكتب لها البقاءُ قرنًا واحدًا، وامتدَّ عمر يوليوس قيصر إلى ما يَزيد على أربعةِ قرون، ومسرحية شيكسبير بها عيوب، ولكن مسرحية شو لا يكاد يكون بها غيرُ العيوب؛ فمصدرُ شيكسبير، وهو ترجمة نورث لتاريخ بلوتارخوس، لا يُصوِّر قيصرَ في حالةِ أفول، ولكنَّ بصيرة شيكسبير الواثقةَ رأَت أنَّ مسرحيته تحتاج، على وجه الدقة، إلى أفولِ نجم قيصر؛ أي إلى مزيجٍ مقبول إلى أقصى حدٍّ من لحظات الجلال والضعف.

وعلى الرغم من أن هذه الصورة لقيصر مُقنِعة فإنها عسيرةُ الفهم. ما الذي يسَّر للمتآمرين قتْلَه إلى هذا الحد؟ إنه يتمتَّع بسلطةٍ تكاد تكون مُطلقة، فأين جهازه الأمني؟ بل أين حُرَّاسه؟ بل قد يوحي الموقفُ بأن يوليوس قيصر، وَفْق صورته هنا، كان يسعى، على مستوًى من المستويات، للشهادة، باعتبارها طريقًا إلى الرُّبوبية، وإلى التدعيم الدائم للإمبراطوريَّة. ولكن هذه المسألة تظلُّ غامضة، مثل مسألة أُفول نجم قيصر. ولكن شيكسبير لا يُولي الصدارةَ في مسرحيته لتاريخ بلوتارخوس، بل يولي الصدارةَ للحبِّ الذي يتمتَّع به الزعيمُ لا من جانبِ مارك أنطوني والشعب الروماني وحَسْب، بل من جانب بروتوس نفسِه، الذي يُكِنُّ لقيصر حبَّ ولَدٍ لِوالدِه، ويُبادله قيصر ذلك الحبَّ بحبٍّ أقوى. والذي يُقدمه بروتوس إلينا بأسلوبٍ معيَّن، يُقدمه أنطوني بأسلوبٍ آخَر، ويُقدمه كاشيوس بأسلوبٍ ثالث، وبسلطةٍ سلبية، بمعنى أن عظَمة قيصر لا مِراء فيها، مهما يكُن أفولُه، ومهما يكن ردُّ فعل المرء إزاءَ طموحاته الملكية.

إن قيصر أعظمُ شخصية كُتب لشيكسبير أن يُصوِّرها؛ أي الشخص الذي يتمتَّع بالأهميَّة التاريخية التي دامت أكثرَ من غيرها (ربما باستثناء أوكتافيوس، هنا وفي أنطونيو وكليوباترا). ولكن أوكتافيوس لم يُصبح بعد أوغسطس قيصر، ويتجنَّب شيكسبير إضفاءَ العظَمة عليه، في المسرحيتين، بل ويرسم له صورةً منفرة إلى حدٍّ ما؛ فهو يُمثل السياسيَّ البالغ النجاح. وأما يوليوس قيصر عند شيكسبير فقد يُبدي البلاهة أحيانًا أو حتى السخف، ولكنه شخصيةٌ تحظى بالقَبول والحبِّ الشديد؛ فهو ذو خير، لكنه خطر. وهو بطبيعة مشغولٌ بذاته، وذو وعيٍ دائم بأنه قيصر، وربما كان يشعر بتأليهه مُقدمًا. وعلى الرغم من أنه قد يُصاب بالعمى الشديدِ أحيانًا، فإنَّ تقديره لكاشيوس يدلُّ على أنه أفضلُ محلل لشخصية إنسانٍ آخر في كل ما كتبه شيكسبير:

قيصر : أنطونيو!
أنطونيو : لَبَّيْكَ قيصر!
قيصر :
أريدُ في حاشيتي رِجالًا سِمانًا،
مُسْبَلَةً شُعُورُهُمْ، ينَامون اللَّيل!
أما كاشيوس فهو نَحِيلٌ يَنْطِقُ الجوعُ في وَجْهِه،
ويُفَكِّرُ أكثرَ ممَّا ينبغي — وهؤلاء الرجالُ مَصْدَرُ خطَر!
أنطونيو :
لا تَخْشَ منه بأسًا يا قيصر! فليس بِخَطَرٍ على الإطلاق،
بل هو من أشرافِ الرُّومان وهو رقيقُ الحاشية!
قيصر :
ليته كان أقلَّ نحولًا! ولكنني لا أخشاه!
لكنْ لو كان لَمِنْ يحملُ اسمي أن يخافَ،
لتحاشيتُ كاشيوس … ذلك الهزيلَ النَّحيلْ!
إنه كثيرُ القراءَةِ، دقيقُ المُلَاحَظةِ،
يَنْفُذُ ببصيرته إلى الدَّوافعِ الحقيقيَّة لِمَا يفعلُه النَّاس!
وهو يَنفِرُ من اللَّهو واللَّعب — على عكسِك يا أنطونيو —
وهو لا يَسْتَمِعُ إلى الموسيقى! ونادرًا ما يبتسم
فإذا ابتسم بَدَتْ بسمتُه كأنما كانت ساخرةً من ذاتِه،
أو كأنما يعتب على نَفْسِهِ التي اهْتَزَّتْ فابتسمت!
إن أمثالَه من الرِّجَالِ يَفْزَعُونَ إن رَأَوْا
مَنْ هُوَ أعظمُ منهم؛ ولذلك فهم مَصْدَرُ خطرٍ داهم!
إني أُحَدِّثُك عن مَصدرِ الخوفِ لا عمَّا أخاف منه؛
فأنا دائمًا قيصر. انتقِلْ إلى يميني حتى أسمعَك؛
فأذني اليسرى صمَّاء، وقل لي حقًّا رأيَك فيه.
(١ / ٢ / ١٨٨–٢١١)

إن قيصر دقيقٌ وأنطونيو غيرُ دقيق، ومن المستبعَد أن يجدَ شيكسبير أسلوبًا أفضلَ لإثبات حِدَّة النظرة السيكولوجية التي مكَّنَت قيصرَ من أن يُصبح سياسيًّا عظيمًا كما كان قائدًا عسكريًّا عظيمًا، ومع ذلك فالحديث نفسُه يشير إلى علةٍ من العلل المتعددة التي بدأتْ تتكالب عليه، وهي الصَّمَم، إلى جانب ازدياد مَيل قيصر إلى الإشارة إلى ذاتِه بضمير الغائب «فأنا دائمًا قيصر» أمَّا كاشيوس، فهو مثل كثيرٍ من الأبيقوريين الرومان، بيوريتانيُّ النزعة ويُجسد روح الاستياء، ويُشْقيه أن يتأمَّل أيةَ عظَمةً تتجاوزه. وأما بروتوس فهو رِواقي؛ إذ إنه لا يحسد ما ينعم به قيصر من بهاءٍ ولكنه يخشى إمكانَ قيام سلطةٍ غير محدودة، حتى ولو كانت في يدَي قيصر العقلانيِّ الذي يُقدر المسئولية. والحديث المنفرد الذي يُعبر فيه عن ذلك الخوف أفضلُ شيء من نوعه كتَبه شيكسبير حتى هذه اللحظة، ويتَّسم بالدقة الرائعة، خصوصًا الجملة التي كتبها بالفنط الثقيل:

بروتس :
لا بدَّ من مَوْتِه إذن! أَمَّا من ناحيتي
فليس في نفسي ما يَدفَعُني إلى النَّيلِ منه
إلا المصلحةَ العامَّة. إنه يريد أن يُتوَّجَ مَلِكًا!
والسؤالُ هُوَ كَمْ سيُغيرُ ذلك من طبيعَتِه؟
إن ضوءَ النَّهَارِ هو الذي يُخْرِجُ الأفعى من جُحْرِها؛
مِمَّا يستوجبُ الحَذَرَ عندَ المَسِير! نُتَوِّجُهْ؟
لا بأس! ولكننا بذلك نُكْسِبُه شوكةً يلسعُ بها،
ويُحْدِثُ الضَّرَرَ حسبما يَشَاء!
آفةُ العَظَمةِ أنها تَنْزِعُ الرَّحْمَةَ من قلب السُّلْطان!
والحَقُّ أن قيصرَ لم يَسْمَحْ لأهوائه أن تَتَحَكَّم في عقله!
ولكنَّ التَّجرِبةَ تُثبتُ لنا أَنَّ التظاهرَ بالتواضُعِ هو السُّلَّمُ
الذي يَرْتقيه الشابُّ الطموحُ للوصولِ إلى غايتهِ!
إنه يُقبِلُ عليه فيصعدُ حتى يَصِلَ
إلى أعلى درجةٍ ثُمَّ يُديرُ للسُّلَّم ظَهْرَه،
وتَتَعَلَّقُ عيناهُ بالسَّحاب، مُزْدَرِيًا الدرجاتِ الدُّنْيا
التي صَعَدَ عليها! وقد يفعلُ قيصرُ ذلك!
وينبغي أن نتَحاشاهُ قبل وُقُوعِه!
ولمَّا كان حَنَقُنَا عليه لا يقومُ على ذريعةٍ مقبولةٍ الآن؛
لأنه لم يَتَبَدَّلْ بعد، فينبغي أن تُصَاغَ الحُجَّةُ
على النَّحْوِ التَّالي: إن سلطانَه الحاليَّ إذا زاد،
انتهى به إلى سُلوكِ هذا المَسْلَكْ؛
ومن ثَمَّ فهو يُشْبِهُ بيضةَ ثعبانٍ،
إذا أفرخَتْ خَرَجَ منها ثعبانٌ من طبيعتِه أن يَلْدَغَ!
ومن ثَمَّ لا بد من قَتْلِه قبل أن يَخْرج من البيضة!
(٢ / ١ / ١٠–٣٤)

لا يتَّفق القولُ المبنيُّ على الحَدْس: «وقد يفعل قيصر ذلك!» مع الكلمات التالية: «ينبغي أن نتَحاشاه قبلَ وقوعه.» ولكنَّ الصادم لنا بصفةٍ خاصةٍ أن يُمارس بروتوس خِداعَ النفسِ السافرَ قائلًا: «ولما كان حنَقُنا عليه لا يقوم على ذريعةٍ مقبولة الآن/فينبغي أن تُصاغ الحُجة على النحو التالي.» معنى هذا الكلام أنه لا توجد شكوى مقبولةٌ الآن من قيصر، و«صَوغ الحجة» معناه ابتداعُ حجةٍ لا أساس لها، ناجمةٍ عن القلق الذي يُساورك، ثم الاعتقاد بأنها مقبولة. أي إنَّ قيصر، على عكس ما تُثبته حياتُه العملية كلُّها، سوف يصبح طاغيةً ظالمًا وغيرَ عقلاني؛ لأن بروتوس يعتقد ذلك وحسب.

لماذا يصوغ بروتوس واعيًا تلك الخرافة؟ إذا نحَّينا حفْزَ كاشيوس له، وجدنا أنَّ بروتوس، على ما يظهر، يحتاجُ إلى القيام بدورِ تزعُّمِ مؤامرةٍ لاغتيال قيصر. وللمرء أن يعتبر كتاب فرويد الطوطم والتابو، إعادةَ كتابةٍ لمسرحية يوليوس قيصر. فالطوطم هنا هو الأبُ الذي لا بد من قتله، وأن يُقسَّم جُثمانه وتلتهمَه حشودُ أبنائه. وعلى الرغم من أن أوكتافيوس كان ابنَ قيصر المتبنَّى ووريثَه، فالرواياتُ التاريخية تقول إن بروتوس كان «ابنًا طبيعيًّا» [أي ابنَ سِفاحٍ] لقيصر، وقد أشار الكثيرُ من النقاد إلى أوجُه التشابه التي يُصوِّرها شيكسبير بين الرجلَين. وأنا أرفض قطعًا ما يقوله فرويد عن التماهي بين هاملت وأوديب، وأقول بل إن بروتوس، ومكبث من بعده، هما اللذان يتجلَّى في موقفهما عناصرُ الجمع بين عاطفتَين متناقضتين تجاه الحاكمين اللذين يُمثلان الأبوَين لهما.

والوطنية عند بروتوس تُعتبر في ذاتها عيبًا من نوعٍ ما؛ إذ إنه يُبالغ في التماهي الذاتيِّ مع روما؛ فشأنه شأنُ قيصر. ومن الغريب أن بروتوس، أثناء انتظاره للزيارة الليلية من جانبِ كاشيوس والمتآمرين الآخَرين، يُصبح فجأةً نبوءةً لمكبث، وذلك في حديثٍ منفرد آخَر ينتمي في الفصل الأول، فيما يبدو، إلى مكبث:

ما بينَ النزوعِ للفعل الرهيب وارتكابه،
تَمُرُّ الأيامُ كأنَّها كابوسٌ مخيفٌ أو حلمٌ مُفْزِعْ،
تَنْخَرِطُ فيه الروحُ في نقاشٍ حادٍّ مع أعضاءِ الجسَد،
وتبدو فيه دولةُ الإنسانِ كأنَّها مملكةٌ صغيرةٌ،
تُعاني من ثَوْرةٍ داخلية.
(٢ / ١ / ٦٣–٦٩)

ويستبق بروتوس، لعدةِ لحظات، مُخيلةَ مكبث التي ترسُم له المستقبلَ، عندما يتحدَّث مكبث عن «دولة الإنسان» في الفصل الأول، المشهد الثالث، قائلًا: «فذاك خاطرٌ — وقتلُه للآن لا يعدو الخيال -/يُزعزع استواءَ دولةِ الإنسان في وَحدتِها» (١٣٩-١٤٠). ولا يتمتَّع مكبث بالطاقاتِ العقلانية التي يتمتع بها بروتوس، ولا يتمتَّع بروتوس بنِطاق المخيلة الذي يتمتَّع به قاتلُ الملك الاسكتلندي، ولكنهما يَكادان ينصهران معًا. أما الاختلاف فهو أن «دولة الإنسان» عند بروتوس تتَّسم بالوحشة وعدم تلقِّي المساعدة أكثرَ من «دولة الإنسان» عند مكبث، بمعنى أنَّ مكبث «فاعل» يُنفذ إرادةَ قُوًى سماويةٍ تتجاوز قُوى الربَّة هِيكَات والساحرات. وأما بروتوس المفكر الأبيقوري، فهو لا يتأثر بقوًى خارقة، ولكن بموقفه المتضادِّ في ذاته، والذي نجح في تَفاديه. فإن حبَّه لقيصر يتضمَّن عنصرًا سلبيًّا أشدَّ قتامةً وظُلمةً من استياء كاشيوس من قيصر، بمعنى أن بروتوس يُخفي موقفه المتضادَّ في ذاته إزاءَ قيصر؛ باختيار الإيمان بخرافة، وهي فكرةٌ غيرُ محتملةِ الوقوع تقول إن قيصر عندما يضع تاجَ الملك على رأسه سوف يصبح صورةً أخرى للطَّاغية تاركوين. ولكن هذه الخرافة ليست نوعَ الوجود الذي نسمعُ عنه من قيصر في حديثه الأخير، عندما يرفض التماساتِ المتآمرين المنافقين بالسماح لشخصٍ أن يعود من المنفى:

قيصر :
لو أنِّي مِثلُكُم لتأثَّرتُ بكلامِكم،
لو كنتُ أتوسلُ إلى الناسِ أن يُغَيِّروا آراءَهم،
لنَجَحَ توسُّلكم في تغييرِ رأيي …
ولكني ثابتٌ كالنَّجْم القُطْبيِّ،
لا يُضَارِعُه نجمٌ في السماءِ
في رُسوخِه وثباتِ مَوْقِعِه.
إنَّ السَّمواتِ مُرصَّعةٌ بما لا يُحصى من النُّجومِ المُتَلألئة،
كُلُّها من النَّار، وكُلُّها يَسْطعُ،
ولكنَّ نجمًا واحدًا بينها لا يُغيِّر مكانَه …
وهكذا شأنُ الأرض … إنها حافلةٌ بالرِّجال،
والرجالُ من لحُمٍ ودَمْ، ولهم عُقول!
لكنَّني لا أعرفُ مِنهم إلَّا واحدًا
لا يتَزحْزحُ عن مَوقعِهِ ولا تَنْفُذُ إليه السِّهام،
ولا يَهُزُّه ما يَهُزُّ النَّاس — وهو أنا.
فَلْأُثْبِتْ لَكُمْ ذلك ولَو في هذا الحادثِ الصَّغِير؛
فلقد قَرَّ رأيي على نَفي سِمْبِرْ،
وما زال رأيي أَنْ يَظَلَّ في مَنْفاه.
(٣ / ١ / ٥٨–٧٣)
بعض النقاد يُفسرون هذا الحديث باعتباره عبثيًّا أو دليلَ عجرفةٍ، لكنه ذهبٌ إبريز، قد يرى قيصرُ في ذاته مثلًا أعلى، ولكن وصفه دقيق. فهو النجم القطبيُّ لعالمه، ويعتمد حُكمه، من زاويةٍ معينة، على الاتساق. أي إنَّ جوهر هذا الحديث يَكمُن في إعلائه للمَراتبيَّة الطبيعية، التي أصبحَت سياسية. فلا يوجد «متفوِّق طبيعي» على قيصر، ورُتبته الأصيلة قد مدَّت نفسها في اتجاه الدكتاتورية. وقد يقول المتشككون إن الجانب السياسيَّ هنا يتنكَّر في صورة «الوضع الطبيعي»، ولكن اليسر الطبيعي يُمثل موهبةَ قيصر العُظمى التي يحسدُه كاشيوس عليها حسدًا شديدًا. وهكذا فإن يوليوس قيصر، لا بروتوس ولا كاشيوس، هو الفنَّان الذي يتمتَّع بالحرية في ذاته؛ في حياته وفي مماته. والانطباعُ الكامن عند الجمهور الذي يقول إن قيصر هو الكاتب المسرحيُّ يوحي إلينا بفكرةٍ مثيرة؛ أي إنَّ موته تضحيةٌ طوعيةٌ في سبيل المثَل الأعلى الإمبراطوري. وأنا أصفُ هذه الفكرةَ بأنها مثيرةٌ لأنها تَخفض من شأن بروتوس، ما دامَت قصته على ضوءِ ذلك لم تَعُد مأساة. وأحيانًا ما يخطر لي أن شيكسبير نفسَه — المتخصص في الملوك والشيوخ والأشباح — كان يؤدِّي دور يوليوس قيصر على المسرح. فإن قيصر يريد التاج ويريد (طبقًا لما يقوله بلوتارخوس) أن يقوم بفتوحاتٍ جديدة في بارثيا، وشيكسبير يوشكُ أن يكتب مآسيَه الكبرى: هاملت وعطيل والملك لير ومكبث وأنطونيو وكليوباترا. والانفصال الهادئ لموقف الكاتب المسرحيِّ في يوليوس قيصر يُتيح له استجماعَ قُواه في الباطن، وربما كان ذلك مماثلًا لقيامِ قيصر باستجماع قُواه الباطنة من أجل الفتوح. إن المذهب القيصري والتراجيديا، أُولى الأعمال الصادقة من هذا النوع منذ أثينا القديمة، سوف ينتصران معًا. وليس قيصر الضحيةَ الحقيقية في المسرحية، بل إنَّ بروتوس وكاشيوس هما الضحيَّتان الحقيقيتان، وعلى غِرار ذلك نقول إن المنتصرين ليسوا مارك أنطونيو وأوكتافيوس، فهذان يتدرَّبان هنا استعدادًا لصِراعهما الكونيِّ في أنطونيو وكليوباترا. والواقع أن الفائزَين هما قيصر وشيكسبير، ومن اللائق أن تُصور أشهر سطورٍ في هذه التراجيديا قيصر بأروعِ كلماته:
قيصر :
يموتُ الجبناءُ ألفَ مرةٍ قبلَ موتهم،
أما الشُّجْعَانُ فلا يذوقونَ طعْمَ المَوْتِ إلا مرةً واحدة،
ما أغربَ أنْ يخافَ الناسُ الموت!
إنه النهايةُ المحتومةُ ولا مَهربَ من وُقُوعِه!
(٢ / ٢ / ٣٢–٣٧)

ولكنَّ هذا يختلف عن قول هاملت «الاستعداد كلُّ شيء»؛ إذ إن هاملت يَعني شيئًا أكثرَ فعالية؛ أي رغبة الروح على الرغم من ضعف الجسد. وعندما يُراهن قيصر على الخلود يعود إلى صورةٍ بلاغية لا تليق برِفْعته، وهي صورةٌ كان يمكن لهاملت أن ينتقدَها:

قيصر :
قد فَعَلَت الآلهةُ ذلك حتى نَشْعُرَ بعارِ الجُبْن!
والعبرةُ من هذا هو أن قيصرَ سيكونُ مثلَ القربان،
لا قلبَ له … إنْ هو قبعَ في منزلِه اليومَ خوفًا وهلَعًا!
لا … لن يقبعَ قيصرُ في المنزل … فالخطرُ يعلمُ حقَّ العِلْم
أن قيصرَ أشدُّ منه خطرًا! أَسَدَانِ وُلدا في يومٍ واحد!
لكنِّي أكبرُ منه وأشدُّ هَوْلًا … وسوف يخرجُ قيصر!
(٢ / ٢ / ٤١–٤٨)
وهذه الطَّنطنة التي سَخِر منها بن جونسون تؤدِّي غرضًا مهمًّا، ألا وهو الحَيلولة دون أن يقتربَ قيصر من قلب الجمهور اقترابًا يؤدِّي إلى إبعاد بروتوس وتغريبِه بصورةٍ كاملة. فإن بروتوس عند شيكسبير يصعب تحديدُ صفاته. فمِن الخطأ، بوضوح، أن نُسميَه بطلًا شرِّيرًا، فلا شيء فيه من شخصيات مارلو. ومع ذلك فهو يبدو «قديم الطراز»، مثل قيصر، وعلى عكس مارك أنطونيو وأوكتافيوس. وقد يكون من المحال القولُ بأنه بطلٌ تراجيدي رِواقي، ولم يكن تايتوس أندرونيكوس مثلَ ذلك الشخص، كما رأينا وعلى عكسِ ما يقوله الكثيرُ من النقاد. وقد يُحاول بروتوس تغليبَ العقل على العاطفة، ولكنه من الزاوية البرجماتية يَطْعن قيصرَ (وتقول بعض الروايات إنه طعَنه في أعضائه التناسلية) ثم يُعاني صيحاتِ الغَوغاء الأولى «فلْيَصبح قيصر!» بعد استماعهم إلى خُطبته العجيبة التي يشرح فيها قتل يوليوس قيصر، الصديقِ العزيز إن لم يكن الْوَالدَ الخفي، ولكنَّ إعزازه يقلُّ عن إعزاز بروتوس لروما.

إن بروتوس لغزٌ محير إلى الحدِّ الذي يجعله شخصيةً شائقة رائعة في نظر شيكسبير ونظرِنا، من يقُل إنه تخطيطٌ أوَّلي لهاملت يُدمِّر بروتوس المسكين، فليست لديه ذرةٌ من اللماحية، أو اللامبالاة، أو سِحرِ الشخصية [الكاريزما]، وإن كان كلُّ واحد في المسرحية، بوضوح، يعتبره صاحبَ الكاريزما الرُّومانية، بعد قيصر. إن مارك أنطونيو يتمتَّع بحماسٍ أكبر كثيرًا، وكاشيوس يتفوَّق عليه في حدَّة الطبع، فمن يكون، وما يكون بروتوس؟ إنْ أجاب بنفسه عن هذا السؤال قال إن بروتس هو روما؛ أي «روما بروتوس»، وهي عبارةٌ تقول لنا ما يتجاوز كثيرًا ما نطلب، وأقلَّ كثيرًا مما نطلبه في الوقت نفسِه. «فالشرف» الروماني مُجسَّد في بروتوس، أليس حاضرًا بقدرٍ هائل في يوليوس قيصر؟ إن قيصر سياسي، وبروتوس يُصبح زعيمًا لمؤامرة، وهي صورةٌ متطرفة من السياسة، ومع ذلك فإن بروتوس لا طاقة له على التغيُّر. وعمَاه الغريب يُسيطر عليه حتى النهاية:

أبناء وطني! لَشد ما يُسعد قلبي،
أنَّني ما عرَفتُ رجلًا طول حياتي إلا أخلصَ الوُدَّ لي.
(٥ / ٥ / ٣٤-٣٥)

هذه الكلماتُ القليلة بالغةُ الإثارة، لكنها قد تدفعُ الجمهورَ إلى أن يسأل: هل كنتَ مخلصًا ليوليوس قيصر؟ الواضح أن بروتوس يُعاني من قلقٍ أكبر مما يعترف به، وكلماته أثناء احتضاره تقول:

قيصر! فلْتهدَأ روحُك الآن.
ما أقدمتُ على قتلك بمِثل هذه النوايا الطيبة.
(٥ / ٥ / ٥١-٥٢)

وعندما يموت كاشيوس، فإننا لا نلمح الروحَ نفسها، لكننا نجد إعلانًا مُوازيًا:

أوَّاه يا قيصر! لقد ثأَرْت الآن!
أقول بل بالسيف نفسِه الذي قتَلَك.
(٥ / ٣ / ٤٥-٤٦)

ويُقدِّم شبح قيصر نفسه إلى بروتوس، بعبارة رائعة تقول «روحك الشريرة يا بروتوس» والواقع أن قيصر وبروتوس يشتركان في روحٍ واحدة. وربما لم ينظر شيكسبير في روح الشرِّ القيصري، لكنه ترك تلك المسألةَ غامضة. فإن بروتوس يقول بأسلوب استنهاضِ الهمم: «إننا نقف جميعًا ضدَّ روح قيصر»، موجِّهًا ألفاظَه إلى مرءوسيه من المتآمرين في الفصل الثاني، فهل يفعلون ذلك؟ وهل يستطيعون ذلك؟ إن موقف شيكسبير السياسي، مثل موقفِه من الدِّين سيظلُّ إلى الأبد مجهولًا. وأتصور أنه لم يكن لديه موقفٌ محدد من السياسة أو الدين، بل رؤية وحسب للإنسان، أو لما يُشكل المزيدَ من الصفات الإنسانية. ويوليوس قيصر الذي يُصوِّره شيكسبير إنسانُ حقٍّ بمعنى الكلمة، وحسبما يتراءى له، أكبرُ من إنسان، أو ربٌّ من البشر. وكانت عبقريتُه — في التاريخ، وعند بلوتارخوس، وعند شيكسبير — تتمثَّل في إدماجِ روما في ذاته. ويُحاول بروتوس عبثًا أن يمزجَ نفسه بروما، لكنه يظلُّ بالضرورة بروتوس؛ إذ إن قيصر قد اغتصَب روما إلى الأبد. وأظن أن جانبًا من مفارقة شيكسبير، في المسرحية، تكمنُ في إيحائه بأنه لا يستطيع أيُّ روماني، مهما تصدق نواياه، أن يُناهض روح قيصر، مثلما لم يستطع أيُّ إنجليزي أن يناهض روح الملكة إليزابيث. كانت روما قد طابَت لقيصر، مثلما طابت إنجلترا، ومِن بعدها اسكتلندا للحكم المطلق لأسرة تيودور-ستيوارت. ولهارولد جودارد عباراتٌ ساحرة يجعل فيها فولسطاف وروزاليند وهاملت نوَّابًا لشيكسبير في وصفِ قيصر؛ فأما فولسطاف فيُشير إلى «صاحبنا ذي الأنف المعقوف من روما»، وروزاليند تتكلَّم عن «المزهوِّ المتباهِي»؛ أي المتفاخر الذي يقول «جئتُ ورأيتُ فانتصرت»، وهاملت في مشهدِ المقبرة يؤلِّف الأبياتَ التالية:

قَيْصَرُ الجَبَّارُ ماتْ … أَصْبَحَ اليَوْمَ تُرَابَا،
قَدْ يَسُدُّ ثُغْرَةً … قدْ تَقِي لَذْعَ الهَوَاءْ،
ذَلِكَ الطِّينُ الَّذِي … مَلَأَ الدُّنْيا ارْتِعَابَا،
رَمَّمَ الحَائِطَ حَتَّى … يَنْتَفي بَرْدُ الشِّتَاءْ.

إذا كان شيكسبير قد تَماهى مع أية شخصياتٍ لديه فالمحتمل أنه تماهَى مع هذه الشخصيات الثلاث، ولكن ذلك لا يُقرِّبنا من قيصر ولا من بروتوس. ومع ذلك فأنا لا أثقُ فيما يقوله النقادُ عن المبادئ السياسية لشيكسبير — ولا أحد يظهر من يوليوس قيصر بحيث يدفعُنا إلى الإعجاب الشديد به! فإن قيصر يوشك أن ينهار، وبروتوس يُعاني من تشويشٍ خطر، ولا يستطيع المرءُ المفاضَلة بين كاشيوس من ناحية، وبين مارك أنطوني وأوكتافيوس من ناحيةٍ أخرى؛ فالجميع سياسيُّون مُنحطُّون. والمفترض أن بروتوس وكاشيوس يرمزان للجمهورية الرومانية، ولكن خُططهما الفعلية تصلُ إلى ذروتها، فيما يبدو، في قتل قيصر، وأما هتافاتهم التالية «السلام! الحرية! الخلاص!» فساخرةٌ مضحكة. وأما بروتوس، أنبلُ رومانيٍّ بينهم، فقد شاع عوارهُ البلاغي في خُطبته الجنائزية، خصوصًا عندما يقول للجمهور «لما كان قيصر يُحبُّني فأنا أبكيه» بدلًا من «لما كنت أحبُّ قيصر». وخُطبة مارك أنطونيو الرائعة قد تكون أشهرَ مشهدٍ في شيكسبير، ومع ذلك فإنها تخطو نصفَ خطوةٍ وحسب في الطريق إلى ياجو. لا أستطيع أن أُخرج من أُذُنَي رنين أروع تعبير ختامي بليغ على لسان أنطونيو:

مَا أَبْشَعَ السُّقُوطَ آنَذَاكَ يا بَنِي الوَطَنْ!
فَعِنْدَهَا سَقَطْتُ مِثْلَكُمْ وكُلُّنَا سَقَطْنَا جَمْعَا.
(٣ / ٢ / ١٩٢-١٩٣)

هذا أعظمُ نصر ظفرَ به قيصر؛ أي نشر أسطورته بفضل فصاحةِ أنطونيو الخَطِرة. فبعد أن مات، إذا بقيصر يلتهمُ روما كلَّها.

وبحلول نهاية المسرحية نجدُ أن بروتوس بدوافعَ «نبيلة» وإن تكن مُتضادَّة، قد قتَل قيصر، وأن أنطونيو يدفعه طلبُ الثأر والظفَر بالسلطة، إلى خلقِ غَضْبةِ حنقٍ تُشبه غضبةَ ياجو؛ إذ يقول: «أواه يا رب الخراب قد صحوتَ فانطلقت/ولا أبالي أيَّ دربٍ تسلك!»

كان شيكسبير دائمًا على حذرٍ من سُلطة الدولة التي اغتالت مارلو وعذَّبَت كيد حتى مات في رَيْعانه مثل مارلو؛ ولذلك يُقدم لنا فكاهةً جميلة حين تنقضُّ الدَّهْماء الغاضبةُ على الشاعر المسكين سِنَّا، ويجرُّونه لأن اسمه يتفق مع اسم أحد المتآمرين، وتَصيح الغوغاء «مزِّقوه لِشِعره السخيف! مزِّقوه لشِعره السخيف!» بحيث يُكابد سنَّا الشاعرُ مصيرَ مارلو وكيد نفْسَه. لم يكن شيكسبير، على الرغم من عدم اشتغاله بالسياسة، يريد أن يُمزقه الطَّغامُ إرْبًا بسبب شِعره الجيِّد، أو حتى بسبب أشعاره الرائعة. فمسرحية يوليوس قيصر كانت ولا تزال مسرحيةً متعمَّدةَ الغموض.

٢

مأساة يوليوس قيصر مسرحية ذات حبكةٍ جميلة، وذاتُ أشعار باهرة، لكنها تبدو باردةً للكثير من خير النقاد؛ إذ يُبدي أعظمُ النقاد طُرًّا، الدكتور صمويل جونسون، ملاحظةً حَصيفة تقول إن شيكسبير أخضعَ نفسَه لموضوعه:

في هذه المأساة فِقراتٌ كثيرة جديرة بالتقريظ، ويحتفل الناس في كل مكان بالشِّقاق والمصالحة بين بروتوس وكاشيوس، لكنني لم أشعر قطُّ بالإثارة الشديدة أثناء قراءتها، وأعتقد أنها إلى حدٍّ ما باردةٌ وغير مؤثرة إذا قورنَت ببعضِ مسرحيات شيكسبير الأخرى؛ فإن استمساكه بالقصة الحقيقية والأخلاق الرومانية، فيما يبدو، قد عاق الانطلاقَ الطبيعي لعبقريته.

وكان جونسون محقًّا إلى حدٍّ بعيد؛ إذ إنَّ شيئًا ما كان يكبح جِماح شيكسبير، وإن كنتُ لا أعتقد أنه كان كتاب بلوتارخوس الذي ترجَمه نورث، أو المذهب الرِّواقي الروماني، بل لا بد أن نسعى إليه في غيرِ هذين العاملَين، وربما يكون ذلك في المناظرة الدائرة حول جواز قتل الطُّغاة، على نحوِ ما يقول به روبرت ميولا. فعندما شرَع شيكسبير في كتابة المسرحية كان البابوات قد أعلَنوا حرمان الملكة إليزابيث من الرحمة وكان الكاثوليك يُدبرون مؤامرةً لاغتيالها. وقُصارى ما يوصَف به يوليوس قيصر أنه كان طاغيةً حميدًا، وخصوصًا بالقياس إلى حُكم الإرهاب الذي مارَسه أنطونيو وأوكتافيوس لاحقًا باعتباره سياسةً معتمَدة. وربما يكون شيكسبير يضعُ حدودًا دقيقة رهيفة للحكم على الطغيان؛ إذ مَن ذا الذي يستطيع البَتَّ فيما إذا كان أحدُ الملوك طاغيةً أم لا؟ فالناسُ غوغاء، والطرَفان في الحرب الأهلية التي اندلعَت بعد موت قيصر، أسوأُ فيما يبدو من قيصر، وهو ما يوحي بمناصرةٍ برجماتيةٍ للملكة إليزابيث. لكنني غيرُ واثق من أن المناظرةَ حول قتل الطغاة كانت العاملَ الأول الذي كبَح انطلاق شيكسبير في هذه المسرحية، على الرغم من حذَرِه من السلطة المفزِعة للدولة.

وأظن أن مسرحية يوليوس قيصر بها فجوةٌ عجيبة؛ إذ إننا نحتاج إلى أن نعرفَ المزيد عن العلاقة بين قيصر وبروتوس، وأن نتجاوز ما يسمح لنا شيكسبير بمعرفته. فإن قيصر يقتل الموت عندما يوجِّه بروتوس — بروتوس الذي ينتمي إليه — الطعنةَ النهائية، قائلًا: «اسقط إذن يا قيصر!» ويُكرر بلوتارخوس ذكر الشائعات التي نشَرها سيوتونيوس والتي تقول إن بروتوس كان ابنًا طبيعيًّا لقيصر [أي ابنَ سِفاح]. ونحن ندهش من أن شيكسبير لم ينتفع بهذه الإمكانية الدراميَّة الكبرى، وعلينا قطعًا أن نسأل: لِمَ لا؟ لقد ابتعَد شيكسبير عن الإشارة إلى العلاقة بين الأب والابن (والتي يعرفها كلُّ فرد قرأ بلوتارخوس مثله من أفراد الجمهور) إلى الحد الذي جعَله يرفض السماحَ لقيصر وبروتوس بأيِّ تلاقٍ مهمٍّ حتى نراهما معًا في مشهد القتل. أما لقاؤهما الوحيد قبل ذلك، فنرى فيه حوارًا عاديًّا إلى درجةٍ عجيبة، حيث يسأل قيصر عن الساعة، ويردُّ بروتوس قائلًا إنها الثامنة صباحًا، ومن ثَم يقول قيصر: «أشكر لكم عناءكم ومجاملتكم»! وأما حوارهما التالي فهو آخِر الحوارات؛ إذ يركع بروتوس ويُقبل يد قيصر («لا تملقًا» كما يؤكِّد ببلاهة) بل باعتبارها جانبًا من الْتِمَاسٍ خادع للسماح بعودة بوبليوس سمبر من المنفى. ويشعر قيصر بصدمةٍ تجعله يَصيح غاضبًا «ماذا تقول يا بروتوس؟» ثم يشير فيما بعدُ إلى أنه لا يخضع حتى لبروتوس هاتفًا: «ألم يركع بروتوس عبثًا؟» ومن ثَم فإن العلاقة بين قيصر وبروتوس لا يُكتب لها الانطلاق عند شيكسبير؛ فالمؤلف يتجنَّبها كأنما كانت ستؤدِّي، بلا داعٍ، إلى تعقيدِ مأساة قيصر ومأساة بروتوس.
وربما يكون هذا، للأسف، من أخطاء شيكسبير النادرة؛ إذ إن الجمهور إذا تأمَّل الموقفَ فسوف يُدرك غياب شيء كان لا بد أن يتصدَّر المسرحية، مثلما أظنُّ أن الدكتور جونسون أدركه. والواقع أن بروتوس في حديثه المنفرد في بستانه، وفي أحاديثَ أخرى، يَشي بموقف يتضمَّن تضادًّا تجاه قيصر، وهو الذي لا يشير إليه شيكسبير إشارةً مُضمرة في أي موقع في المسرحية. فلو كان الكاتب المسرحي يخشى إضافةَ جريمةِ قتل الأب إلى جريمة قتل الملك، لكان عليه أن يُقدم وصفًا بديلًا للعلاقة الخاصة بين قيصر وبروتوس، لكنه لا يُقدم أيَّ شيء على الإطلاق. ويقول أنطونيو في خطبته الجنائزية إن بروتوس كان «ملاكًا في عين قيصر» (أي: حبيبه وربما أيضًا روحه)، ويُضيف إن الشعب يعرف ذلك، ولكنه لا يُقدم أسبابًا للحبِّ الشديد الذي كان يُكنُّه قيصر لبروتوس. كان من المفترض، بوضوح أن يعرف الغوغاء، مثلُ الجمهور ذلك، فكأنما قام إدموند بنفسه في الملك لير باقتلاع عيني جلوستر.

ربما أدى هذا التجاهلُ إلى إحساس شيكسبير بالإحباط بسبب ما نشعر به من حيرةٍ إزاء ذلك، وأتساءل إذا لم يكن تجاهل العلاقة المعقَّدة بين قيصر وبروتوس عاملًا مساعدًا في خلقِ الطابع المحيِّر للمسرحية. والأوضاع الراهنة توحي بأن العلاقة الخاصة بين قيصر وبين بروتوس تجعلنا نتصوَّر أن بروتوس لا أوكتافيوس هو الوريثُ الحقيقي لقيصر. لا شك أن بروتوس يُعْلي كثيرًا من مكانةِ ذاته، وأنَّ لديه إحساسًا بما كتَبه القدر، وهو إحساس يتجاوزُ انحداره الرسمي من بروتوس الكبير الذي طرَد عصبة تاركوين. فلو أنه يعرف أنه في الواقع ليس بروتوس بل قيصر، لأحسَّ بفخر مزدوج وبتضادٍّ مضاعفٍ في موقعه. وعلى الرغم من أن بروتوس يقول بعد القتل إن «دَيْنَ الطموح» قد سُدِّد، فإنه فيما يبدو يتحدث عن دَيْن آخر. وشيكسبير لا يستبعد أيًّا من هذه الاحتمالات ولا يُدرج أيَّها في الحدث. ولكن علاقة الأب بالابن يُمكنها أن تُلقيَ الضوء على جوانب الغموض في بروتوس، كما لا يمكن لغيرها إزالةُ ذلك الغموض. وأعود إلى سؤالي: لماذا اختار شيكسبير عدم إدماج هذه العلاقة في المسرحية؟

إن مِثل هذه العلاقة كان يُمكنها، على الأقل، أن تمنح بروتوس دافعًا شخصيًّا بالغَ القوة يسمح باستجابته لغوايةِ الانضمام إلى مؤامرة كاشيوس، وربما يكون دافعًا لنشأة ظنونٍ لا نهاية لها، فالوطنيةُ هي القضية المهيمنة عند بروتوس؛ إذ يرى أنَّ مهمته إنقاذُ روما العريقة النبيلة من القيصرية. ويرفض شيكسبير إيلاءَ الصدارة لسبب وصف بروتوس بأنه «ملاك في عينَي قيصر»، على الرغم من أن «التصدير» المذكورَ كان، على نحوٍ ما سوف أحاول تِبْيانَه فيما بعد، من أعظم الوسائل الأصيلة التي استحدثَها شيكسبير، ويعتبر أشدَّ العناصر التي تتعرض للحذف في فن شيكسبير. وهكذا فإن رفض شيكسبير تصدير [أي: إيلاء الصدارة] لسبب وصف بروتوس بأنه «ملاك عند قيصر» أو تقديم أية لمحة توحي بذلك السبب، يعني أن المؤلفَ يسمح على الأقل لنخبةٍ من أفراد الجمهور بأن يفترض أن بروتوس ابنٌ طبيعي لقيصر. وما دام كاشيوس صِهرًا لبروتوس، فنحن نفترض أنه يعلم ذلك أيضًا، وهو ما يمنح قوةً خاصة لحديثه الشهير الذي يقوم بدورٍ محوري في إقناع بروتوس بالانضمام إلى المؤامرة:

كاشيوس :
ولِم لا؟ إنه لَيركبُ متن الدُّنيا كالتمثال الهائلِ
الذي تتضاءلُ تَحْتَه الأشياء! بينما نمضي — نحنُ صغارَ
الرِّجال — تحتَ أقدامِه وفي ظِلِّ ساقَيْه العِمْلاقَتَيْن،
نُفَتِّشُ عن قُبُورٍ نُواري فيها خِزْي ضَآلَتِنا!
يستطيعُ الإنسانُ أحيانًا أن يُمْسِكَ بِزِمامِ قَدَرِه!
يا صديقي بروتس! ليستِ الطوالعُ والنجومُ مسئولةً
عَمَّا نحنُ فيهِ من ضآلةٍ وضَعَة … بل العيبُ فينا نحن!
بروتس وقيصر … بمَ تتميزُ كَلِمَةُ قيصر؟
ولماذا يَرِنُّ هذا الاسمُ في الأسماع أكثرَ من اسمِك؟
اكتبهُما معًا تجدْ أنَّ اسمَكَ لا يقلُّ جمالًا عنه …
انْطِقهُمَا … تَجِدْ أنَّه لا يقلُّ عُذوبةً في الشِّفاه …
زِنْهُمَا … تَجِد أنَّه لا يَقِلُّ ثِقْلًا عنه!
استَخْدِمْهُمَا في إحضارِ الجان … تَجِدْ أَنَّ اسمَ بروتس
لا يَقِلُّ قدرةً على استحضارِ الأرواح عن اسم قيصر!
والآن أَسْتَحْلِفُكَ بجميعِ الآلهَةِ معًا أن تُخْبِرَني
ما نوعُ اللَّحْمِ الذي يأكلُه قيصرُنا هذا
ليبلغَ هذه الضخامةَ والعظَمة؟! عارٌ عليك زَمَانَنَا
واهًا لكِ يا روما إذْ فقَدتِ سُلَالَاتِ الأشْراف!
وَهَلْ شَهِدْنا منذُ عهدِ الطوفانِ الأكبر
عصرًا لم يَلمَعْ فيه سِوَى رِجُلٍ واحد؟
وماذا يقولُ المؤرِّخونَ عن روما اليوم؟
هل يقولونَ إنَّ ساحاتِها الشاسعةَ
لا تتَّسعُ إلَّا لرجلٍ واحد؟
ألا تزالُ روما العظيمةَ الفسيحةَ
وليس بها إلا رجلٌ واحد؟
لقد سمعنا أنا وأنت آباءنا يتحدَّثون
عن جَدِّكَ بروتس الذي حَكَمَ روما يومًا ما،
وكان يستطيعُ منازلةَ الشيطانِ نفسِهِ؛
حتى يذودَ عن سُلْطانِه كأنه ملكٌ متوَّج!
(١ / ٢ / ١٣٣–١٥٩)
المسرحية حافلةٌ بالمفارقات الرائعة، والسطر الذي يتضمَّن أروعَها هو إن اسم «بروتوس لا يقلُّ قدرةً على استحضار الأرواح عن اسم قيصر»؛ لأن شبح قيصر سوف يُقدم نفسه قائلًا: «روحك الشريرة يا بروتوس». وسوف تنشأ توريةٌ ساخرة وجَسورة أخرى حين يتحدَّث كاشيوس عن «آبائنا». إن بروتوس شخصيةٌ لم يكتمل رسمها؛ لأن شيكسبير يستغلُّ غموضَ العلاقة بين قيصر وبروتوس، من دون الاستشهاد بما يمكن أن يُعتبر أهمَّ عنصر فيها. إن مسرحية يوليوس قيصر ذاتُ أهمية خفية؛ باعتبارها دراسةً لما يوحي بقتل الأب، ولكن شيكسبير يرفض الصَّوغ الدرامي لهذا العبء الخفيِّ في وعي بروتوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤