تمهيد

«نانو: كلمة مُشتقة من فعل يوناني معناه «جذب التمويل للأبحاث».»

أُقرُّ بأني مُتخصص في علوم النانو، لكني لا أُنكر أني أُحب تعريف كلمة «نانو» الساخر المذكور أعلاه الذي صاغه جورج سميث، أستاذ علم المواد المُتفرغ بجامعة أكسفورد. تُسلِّط نبرة سميث المُتهكِّمة الضوءَ على مسألة مُهمة تُهدد أيَّ مقدمة تتعرَّض للجانب العلمي والتكنولوجي للعالَم المُتناهي الصِّغر؛ فالقابعون على الجانب المتشكك يجادلون بأن تكنولوجيا النانو ليست أكثر من مجرد تطبيق عملي للكيمياء المُتقدمة وفيزياء الجوامد وعلم المواد، أو جميعها معًا، حتى باتت كلمة «نانو» المُنتشرة الآن على نطاق واسع بوصفها بادئةً تسبق كثيرًا من المُصطلحات، أداةً تسويقية جذَّابة أكثرَ منها توصيفًا علميًّا. وقد عبَّر كيفين كيلهر عن هذا بأسلوب ينمُّ عن بُعد نظر في مقاله «لهذا السبب لم يَعُد أحد يتحدَّث عن تكنولوجيا النانو» المنشور في مجلة «تايم» في أكتوبر ٢٠١٥ قائلًا:

من بين كل صيحات وهوس الاستثمار خلال العقود القليلة الأخيرة، لم ينتهِ أيٌّ منها بالخيبة والفشل الذريع مثلما فعل جنون الاستثمار في أسهم شركات تكنولوجيا النانو. قبل عشر سنوات كان أصحاب رأس المال المُغامر يتسابقون للاستثمار فيها، وازدهر كثيرٌ من الشركات الناشئة التي تحمِل كلمة «نانو» ضمن اسمها، بل وأُطلقت بضعة صناديق تمويلية في مجال تكنولوجيا النانو أملًا في اللحاق برَكْب هذا المجال الصاعد.

واليوم؟ لم يَعُد أحد في أسواق الأوراق المالية يتحمَّس عندما يسمع عبارة «تكنولوجيا النانو».

حتى علماء النانو أنفسهم سئموا الضجَّةَ المُبالَغ فيها المُثارة حول علوم النانو. بعد أن طُلب منِّي تأليف هذا الكتاب بقليل، نُشرت ورقة علمية عن المادة المُعجزة الجرافين (انظر الفصل الثالث) في دورية «إيه سي إس نانو» العلمية المرموقة الصادرة عن الجمعية الكيميائية الأمريكية، وكان عنوان البحث لاذعًا حدَّ البراعة: «هل يرفع من قدرة الجرافين على الحفز الكهربي أي هراء نضعه فيها؟» (إل وانج، زد سوفر، إم بوميرا، دورية «إيه سي إس نانو» ١٤، ٢١ (٢٠٢٠)).

منذ ظهور علم النانو في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، كان لدى مُجتمع علماء المجال استعدادٌ بالِغ لتقديم وعود مُبالَغ فيها عن الإمكانيات التطبيقية لاكتشافات النانو في الواقع، سواء كان الحديث عن الاكتشافات الجوهرية للمجال أو الأبحاث العادية. وفي الوقت ذاته قُرِنت كلمة «نانو» بمجموعةٍ لا تُحصى من الأسماء والأفعال، وغالبًا ما كان ذلك محاولةً لإضفاء بريقٍ عصري مُلائم على بحث أو طلب تمويل: فلدَينا جسيماتٌ نانوية، وأنابيب نانوية، وعناقيد نانوية، وفقاعات نانوية، ورقائق نانوية، ومكعَّبات نانوية، وجيتارات نانوية، والقرصنة النانوية، والنحت النانوي، والطب النانوي، والإلكترونيات النانوية، وتكنولوجيا النانو الحيوية، والبناطيل النانوية؛ بل ولدَينا حتى عائلة من الخضراوات النانوية (كرنب نانوي، وبروكلي نانوي، وقرنبيط نانوي وجزَر نانوي؛ وليس هذا من قبيل المزاح)، وهذه المصطلحات صيغت واستُخدمت في المقالات العلمية أو في مقالات تبسيط العلوم أو كليهما، التي تتحدَّث عن التطورات في تكنولوجيا النانو. وهذه القائمة لا تشمل كلَّ الأمثلة بالتأكيد. (يُمكننا أن نعتبرها عينةً «نانوسكوبية» من الأمثلة لا أكثر.)

يقتبس ديفيد بيروبي في كتابه «صيحة النانو» (عن دار «بروميثيوس بوكس» للنشر عام ٢٠٠٦) تصريحًا للسيناتور الأمريكي رون وايدن أثناء حديثه في إحدى جلسات الاستماع لمشروع قانون أبحاث وتطوير تكنولوجيا النانو للقرن الحادي والعشرين (الذي وقَّعه الرئيس جورج بوش الابن في ديسمبر ٢٠٠٣) يقول فيه:

الدعابة المنتشرة الآن في الوسط العِلمي هي أن الجميع باتوا يعملون على مستوى النانو. فكما كان الجميع في التسعينيات يضعون «دوت كوم» في نهايات الأسماء التجارية، يُضيف الجميع الآن وصف «نانو» إلى مَبحثهم العلمي.

يبدو إذن أنه حتى قبل عقدَين (في وقت تأليف هذا الكتاب) كنا قد سمِعنا ما يكفي وزيادة من المُسمَّيات المصحوبة بكلمة «نانو» الطنَّانة. قد يكون من المنطقي إذن أن نتساءل إن كانت تكنولوجيا النانو ليست أكثرَ من مجرد خدعة ووهْم. أهي حقًّا مجرد حالة من الضجة والغلو والغطرسة؟ أم إنَّ ثمَّة شيئًا جوهريًّا يتم وراء الكواليس ولا نراه؟ أيُمكن أن تكون كل هذه المليارات من الجنيهات/الدولارات/اليوروهات (اختر العملة التي تشاء) التي أنفقتها الحكومات حول العالم للاستثمار، ومراكز الأبحاث المُعتمدة التي ظهرت بين عشيةٍ وضحاها كما يبدو، والتزايد المطرد في الدوريات العلمية التي تحمل كلمة «نانو» بطريقةٍ أو بأخرى في اسمِها، هل يمكن أن يكون كل ذلك خدعة؟

ستقدم هذه «المقدمة القصيرة جدًّا» الحُجج الداعمة لتكنولوجيا النانو في مواجهة كل هذا التهكُّم. وبغضِّ النظر عن الانتقادات المُبررة التي قد تُوجَّه في استخدام هذه الكلمة، سنرى أن العلوم والتكنولوجيا على المستوى النانوي — وسنتناول بشيءٍ من التفصيل ما تعنيه هذه العبارة عمليًّا — تُعَد مع ذلك مجالات بالِغة التشويق ورائدة، بل وثورية، للبحث والتطوير. فجزء هائل من العالَم المحيط بنا، بما في ذلك كل جوانب تكنولوجيا الحوسبة التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين، ينطوي على العلوم والهندسة على مستوى النانومتر.

لقد باتت تكنولوجيا النانو الآن الأساس الذي يدعم الكيفيةَ التي نسبِر بها أغوار المادة ونتحكَّم فيها بطرقٍ لم نكن نتخيَّلها حتى قبل جيلٍ من الآن، بداية من الأساسيات حتى التطبيقات العملية، ومن أدقِّ مسائل ميكانيكا الكم حتى ارتداد كُرات التنس. إن هذا الكتاب هو محاولتي للوقوف على جوهر عِلم النانو، وتوضيح أسباب اختلاف علوم النانو عن مجالات العلوم التقليدية — وإن كانت مزيجًا منها أيضًا — وتسليط الضوء على بعضٍ من أروع الجوانب البحثية في هذا المجال. تتراوح هذه الجوانب من معالجة المادة الموجَّهة بالكمبيوتر على مستوى الروابط الكيميائية المُفردة، وحتى تطويرِ آلاتٍ نانوية تعمل عن طريق تسخير علماء النانو مبادئَ التصميم في الطبيعة.

وفي مجالٍ يتطوَّر بمثل هذه السرعة كتكنولوجيا النانو، لا يسعني سوى تقديم لمحةٍ سريعة عن أحدثِ ما ورد فيه وقت تأليف الكتاب. كان هدفي أن تكون الأمثلة التي تَخيَّرتها لتناول هذا العلم أحدثَ ما يمكن، لكن أعتقد أنه إذا اقتضتِ الحاجة يومًا نشْرَ طبعةٍ جديدة من هذا الكتاب، فسيكون هذا في القريب العاجل.

بصفتي قارئًا نهِمًا لهذه السلسلة، فقد سُرِرت حين تلقيتُ دعوة من لاثا مينون، مُحرِّر تكليف أول في دار نشر جامعة أكسفورد، لكتابة مقدمة قصيرة جدًّا لتكنولوجيا النانو. كان ذلك منذ أربعة أعوام. لذا أودُّ أن أُعبِّر عن خالص امتناني للاثا وزميلها جيد ديكسون، مُحرر المشروعات في دار نشر جامعة أكسفورد، لصبرهما الجمِّ على إخلافي لمواعيد التسليم طوال هذه المدة. فتعديلات لاثا وتعقيباتها لم يكن لي غِنًى عنها طوال الوقت، سواء فيما يتعلَّق بإيجاد النبرة الصحيحة للسلسلة أو حذف استطراداتي الثرثارة البعيدة عن الموضوع. فهذه السلسلة تتطلَّب الدخولَ في صلب الموضوع بأسرعِ ما يمكن — وهو ما لا أُجيده تمامًا — وقد ساعدت تعديلات لاثا وجيد ومقترحاتهما المفيدة جدًّا في تقليص كتابي إلى الحجم المطلوب. وممتنٌّ للغاية كذلك للمُراجعين المجهولي الاسم الذين راجعوا المُقترح الأوَّلي للكتاب وكذلك المُسوَّدة النهائية لتعليقاتهم ونصائحهم التي أفادتني كثيرًا.

فيليب موريارتي
نوتنجهام، مارس ٢٠٢٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤