مرحبًا بك في عالم الأقزام النانوية
من المُثير للإعجاب أيضًا أن النصفَين العلوي والسفلي لهيكل النانوكيد الجزيئي خُلِّق كلٌّ منهما على حدة، ثم «خُيِّطا» معًا عند الخصر، وكأنه وحش فرانكشتاين بأبعادٍ نانومترية. ويعتبر هذا إنجازًا مذهلًا للتخليق الكيميائي؛ إذ استعان بطريقةٍ دعاها البعض بالجراحة الجزيئية. ولكن لا يزال كثير من مُنتقدي تكنولوجيا النانو يزعمون أنه رغم ما يتَّسم به النانوكيد وأقرباؤه من إبهار وروعة، فلا يُوجَد الكثير مما قد يُعَد «جديدًا» فعلًا هنا. أليست تكنولوجيا النانو مجرَّد كيمياء متنكرة؟ أليس الأمر كله حالةً من الجهل الجماعي كما في قصة «ملابس الإمبراطور الجديدة» لكن على نطاقٍ أصغر؟ أليست الضجَّة المُثارة حولها أكبر من القيمة العلمية الحقيقية؟
إن هدفي في هذا الكتاب هو تجاوز الغلو، والتركيز على المبادئ العلمية الأساسية الكامنة في قلب علوم النانو، وتوضيح أن تكنولوجيا النانو علمٌ جديد ومشوق ومختلف بالرغم من انتقادات الرافضين لها (الصائبة أحيانًا). فبمقدورنا الآن تصوير كل ذرة على حدة ووضعها في مكانها بدقة؛ بل إن أحدثَ ما وصلت إليه تكنولوجيا النانو يتضمَّن الاستهداف الحاسوبي لروابط كيميائية مُفردة داخل جزيء واحد، وهو مستوًى من التحكُّم كان يبدو هدفًا مُستحيلًا قبل بضعة عقود. علاوة على ذلك، تتحوَّل هذه التطوُّرات العلمية على نحوٍ متزايد إلى تطوُّرات تكنولوجية (والعكس بالعكس)، لتخرج لنا قائمة من المنتجات تتنامى بلا انقطاعٍ تضم كلَّ شيء، من كريمات الوقاية من الشمس وحتى أجهزة الكمبيوتر المحمولة، ومن أجهزة تنقية المياه وحتى كرات الجولف، ومن الخلايا الشمسية إلى الأقمشة الذكية التي لا تُصيبها البقع أبدًا. وكما سنرى، أحيانًا ما تكون التطوُّرات التي تتحقق في تكنولوجيا النانو جديرةً بالضجة التي تُثيرها.
ولكن قبل أن نبدأ جولتنا الشاملة والسريعة في عالم النانو، يجب أن نُعرِّف ما نَعنيه بمصطلحَي «تكنولوجيا النانو» و«علوم النانو». تبدو هذه البداية مناسبةً تمامًا، إلا أن الاستقرار على تعريفٍ متَّفق عليه عالميًّا لتكنولوجيا النانو تبيَّن أنه مسألة صعبة إلى حدٍّ كبير. فكلمة «نانو» تُشير إلى وحدة النانومتر، ومقدارها ١٠-٩ متر. يعادل هذا الرقم نصف طول النانوكيد، أو لنُقارنه بشيءٍ عامٍّ أكثر، لو كان قطر بلية اللعب يُساوي نانومترًا واحدًا، لبلغ قطر الأرض حوالي متر. وكمقارنة مفيدة أخرى لتصوُّر مقدار «النانو»، خُذ في علمك أن سُمك الورقة يبلُغ نحو ١٠٠ ألف نانومتر. غير أن علوم النانو تشمل دراسة بِنى وأجهزة قد يكون عرضها أكبرَ بكثيرٍ من نانومتر واحد. كيف يمكننا إذن أن نتخيَّر الحد الأعلى (والأدنى في الواقع) للأحجام للتمييز بين علوم النانو وتكنولوجيا النانو من جهة، وتكنولوجيا الميكرو مثلًا من جهةٍ أخرى؟ اقترح البعض أن يكون الحد الأعلى للحجم في تكنولوجيا النانو ١٠٠ نانومتر. غير أن الأمر هنا لا يخلو من المشكلات كذلك؛ إذ قد نتساءل: «لِمَ لا يكون الحد ٥٠٠ نانومتر؟ أو حتى ١٠١ نانومتر؟ أو ٩٩ نانومترًا؟»
بدلًا من التحذلُق ومحاولة تعريف علوم النانو في إطار نطاقات طولية معيَّنة بلا طائل، طرحت الجمعية الملكية بلندن التعريف التالي في مقالٍ مُهم نُشِر في عام ٢٠٠٤:
علوم النانو هي دراسة ظواهر المواد وآليات معالجتها في نطاق أبعاد الذرَّات والجزيئات والجزيئات الضخمة، «حيث تختلف خواص المادة اختلافًا كبيرًا عن خواصِّها في نطاقِ أبعادٍ أكبر». أما تقنيات النانو فهي تصميم وتوصيف وإنتاج وتطبيق البِنى والأجهزة والأنظمة من خلال التحكُّم في شكلها وحجمها في نطاق النانومتر.
لقد ركَّزت على الجملة المِفتاحية هنا، التي، رغم أنها ما زالت غامضةً إلى حدٍّ ما، فإنها تلمس صميمَ ما يُميز علوم وتكنولوجيا النانو. فمن خلال تغيير حجم جسمٍ ما ببساطة على مستوى الذرات أو الجزيئات، أو الجزيئات الضخمة الواردة ضِمن تعريف الجمعية الملكية المذكور أعلاه، يمكن تغيير خواصِّه جذريًّا. وكما سنرى لاحقًا، فهذه التغيرات القائمة على الحجم قد تكون مذهلةً للغاية عندما يُصبح حجم جُسَيمٍ نانوي مُماثلًا للطول الموجي لإلكتروناته؛ وذلك حين تلعب فيزياء الكم دورًا محوريًّا.
رغم أن الأفضل إذن أن نتجنَّب تعريفات علوم النانو في إطار حدود صارمة للنطاقات الطولية، فمِن «القواعد الأساسية» المُفيدة في هذا المقام أنه إذا لم يكن بالإمكان دراسة التركيب أو العملية محل الاهتمام باستخدام الفحص المجهري الضوئي العادي، فهي إذن نانوسكوبية وليست ميكروسكوبية. وسنرى بعد قليلٍ أن مجال تكنولوجيا النانو يَدين بأغلب أصوله — إن لم يكن كلها — لاختراع نوعٍ جديد تمامًا من الميكروسكوبات الفائقة الوضوح بوسعها تمييز الذرات والجزيئات كلٌّ على حدة، لكن من دون استخدام أي أدواتٍ بصرية إطلاقًا (أي لا عدسات ولا مرايا … وما إلى ذلك).
ينبع الابتكار الحقيقي من تجاوز الحدود التقليدية، وهذا ما تتفوَّق فيه علوم النانو وتكنولوجيا النانو؛ فعلى المستوى النانومتري، تتلاشى الحدود المُصطنَعة (والتاريخية في معظمها) بين الفيزياء والكيمياء والأحياء وعلم المواد. فعند فحص التركيب الإلكتروني لذرةٍ مفردة، أو التلاعُب بروابط كيميائية فردية داخل جزيءٍ ما، أيندرج عملُنا ذاك تحت الفيزياء أم الكيمياء أم علم المواد؟ ماذا لو كنا نؤثِّر على جزءٍ معيَّن من جزيء أحد البروتينات بواسطة قوةٍ ما لكي نقيس مُقاومته الميكانيكية، أو نُحاول مطَّ خيط حمضٍ نووي ونرصد استجابته؟ أيندرِج هذا تحت علم الأحياء أم الفيزياء أم الكيمياء؟ أم إنه مجال بحثي مُتعدد التخصُّصات، يُمثل مزيجًا محفزًا للفكر، وثوريًّا في أفضل الأحوال، من العلوم التقليدية، تنبثِق منه رؤًى ونظريات لن تُتاح ببساطة لو علِقنا في صومعة تخصُّص مُعيَّن بمعزل عن البقية؟
إن التداخل المعرفي هو حجر الأساس لتكنولوجيا النانو، لكن كل علماء النانو يأتون إلى المجال حامِلين متاعهم من تخصُّصهم الأصلي. فمجموعتنا البحثية المُتخصِّصة في علوم النانو في جامعة نوتنجهام، على سبيل المثال، تتألف بشكلٍ شِبه كاملٍ من فيزيائيين، إلا أن أغلب (إن لم يكن كل) عملِنا البحثي يمكن وصفه بالمِثل بأنه ينتمي إلى الكيمياء الفيزيائية أو علم الأسطح أو علم المواد. لكن «نشأتي» على الفيزياء تعني أن تركيزي خلال الكتاب سيميل أكثرَ قليلًا نحو الجوانب الفيزيائية من تكنولوجيا النانو، وإن كنتُ بالتأكيد لن أُعرِض عن العلوم الحيوية.
بعد الإعلان عن انحيازي هذا، فلنبدأ الآن جولتنا السريعة في عالم النانو بتقديم الأداة المُميزة التي سبق أن أشرتُ إليها أعلاه، وهي مجهر المسبار الماسح. لميكروسكوبات المسبار أهميةٌ بالِغة للتمكن من رسم خريطةٍ للمادة والتحكُّم فيها على المستوى الذري ودون الجزيئي. وبالفعل يزعم كثيرٌ من علماء النانو على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم العلمية — وهو زعم له ما يُبرِّره — أن عام ١٩٨١ هو عام انطلاق تكنولوجيا النانو، نتيجةً لاختراع ميكروسكوب المسبار الماسح في ذلك العام في مُختبرات أبحاث شركة آي بي إم في مدينة روشليكون، بزيورخ. لا تسمح لنا ميكروسكوبات المسبار الماسح بقياس القوى بين الذرَّات والجزيئات فحسب، بل تسمح أيضًا بالتحكُّم في هذه التفاعُلات بين الذرية وبين الجزيئية؛ لنتمكَّن من تحريك المادة بدقةٍ متناهية تُضاهي دقةَ حجم الذرات (بل وأدق من ذلك).
يُمكننا، باستخدام مجهر مسباري حديث الطراز، أن ندفع الذرات ونجذبها وننكزها ونهمزها ونلتقِطها كلٌّ منها على حِدة، وكل ذلك من خلال تحكُّم حاسوبي وبدقةٍ تعجز قدرات أي جهازٍ علمي آخر عن مُضاهاتها. لكن ما معنى أن ندفع ذرةً أو نجذبها؟ ما القوى التي تدخل في هذه العملية؟ كم من الطاقة تحتاج؟ وكيف لنا أن نبذل قوًى ونوجِّهها في مثل هذا الحيز الضئيل؟
استشعار القوة
يعتمد شكل التفاعُل بين المسبار والعينة على ما نريد توصيفه وقياسه تحديدًا. وتوجَد الآن عائلة مُتنامية من الميكروسكوبات المسبارية، كلٌّ منها مصمَّم بدقة ليستغلَّ واحدة أو أكثر من القوى والتفاعلات القائمة بين الذرَّات، أو الجزيئات أو الجسيمات النانوية (وهي كُتَل بالِغة الصغر من المادة تتراوح بين بضع ذرات إلى بضعة آلاف منها؛ وسنتناول هذا باستفاضة أكثر لاحقًا) أو بينها جميعًا.
هذا يعني أن تكنولوجيا النانو تضرب بجذورها كلِّها في دراسة ومعالجة التفاعلات الكهرومغناطيسية (بما فيها القوى الكهروستاتيكية) بين الذرَّات والجزيئات؛ لذا فلا حاجةَ لنا هنا للالتفات إلى الجاذبية ولا القوى النووية القوية أو الضعيفة. بدلًا من ذلك ينصبُّ جلُّ تركيزنا على القوى الكهرومغناطيسية المُتبادلة بين «الإلكترونات». لكن جزءًا كبيرًا للغاية من العالَم من حولنا محكوم في الأساس بالتفاعُلات بين الإلكترونات، وهذا يشمل كل جهازٍ إلكتروني أو كهربائي؛ بما في ذلك كل هاتف ذكي وكل كمبيوتر محمول وكل جهازٍ في المطبخ.
لماذا الألماس أقسى من الطين؟ بسبب القوة النسبية لروابط الألماس الكيميائية؛ أي قوة التفاعلات بين الإلكترونات. لماذا الزجاج شفَّاف بينما الذهب ذهبي اللون؟ بسبب تفاعل الضوء الذي يُعتبر موجة كهرومغناطيسية (أو عدم تفاعُله نسبيًّا)، مع «الإلكترونات» في كلٍّ منهما. لماذا يُعَد الحديد مادة مغناطيسية بينما الألومنيوم يبدو وكأنه لا يُلقي بالًا لتأثير أي مغناطيس في الجوار؟ بسبب الخواص الميكانيكية الكمومية للإلكترونات. لماذا يوصل سلك نحاسي الكهرباء في حين لا يحمل البلاستيك الذي يُغلِّفه أيَّ تيار كهربي؟ مرة أخرى، تكمن الإجابة في توزيع الإلكترونات في كلٍّ من المادتَين.
إن التفاعُلات بين الإلكترونات هي أساس العالم المادي بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات بكل جوانبها؛ ولذا يُولي قدرٌ هائل من علوم وتكنولوجيا النانو اهتمامًا خاصًّا لقياس سلوك الإلكترونات وتعديله. فمن خلال التحكُّم في الإلكترونات وحبسها، يُمكننا «ضبط» خواص أي مادة، كتغيير لونها وقوَّتها وتوصيلها للكهرباء، وقُدرتها التفاعلية الكيميائية، واستجابتها لعددٍ من المؤثرات كالحرارة والضوء والشد. وتكنولوجيا النانو تمنحنا الأدوات اللازمة لتصميم وتنفيذ مواد تُطلَب لأغراضٍ مُعينة، تم التحكُّم في بِنيتها النانوية أو الذرية أو الجزيئية، أو جميعها، من الأسفل إلى الأعلى؛ أي ذرة تلوَ الأخرى. والوصول إلى هذا المستوى من الدقة يتطلَّب التحكُّم في القوى بين الذرية وفهمٍ عميق لكيفية اعتماد هذه القوى على المسافات بين الذرات بالضبط.
عند هذه النقطة، سوف ألتفت إلى اقتباسٍ ملائم لحديثنا للغاية لريتشارد فاينمان، الفيزيائي والحكَّاء وعازف طبول البونجو الشهير من القرن العشرين. يحظى فاينمان بذكرٍ شِبه دائم في معرض أي حديثٍ عن تكنولوجيا النانو، وذلك بفضل خُطبةٍ تميَّزت ببُعد النظر، كان قد ألقاها بعد العشاء أمام الجمعية الفيزيائية الأمريكية عام ١٩٥٩، عنوانها «هناك مُتَّسع كبير في القاع»، تنبَّأ خلالها تنبؤًا مثيرًا للاهتمام بذلك النوع من معالجة الذرات المفردة، الذي لم يَعُد ممكنًا فحسب، بل بات أساسيًّا على نحو متزايد في كثير من مناحي علوم وتكنولوجيا النانو. وقد بات الاقتباس من هذه الخطبة عند تناول تكنولوجيا النانو أمرًا متكررًا حدَّ الملل؛ لذا سأتغاضى عن هذا المصدر بالذات الآن. وسأتوجَّه بدلًا من ذلك إلى كتاب فاينمان الشهير «محاضرات في الفيزياء»؛ حيث يصِف التركيبَ الذريَّ للمادة وطبيعة التفاعُلات بين الذرَّات باعتبارها أهمَّ معلومة علمية اكتشفتها البشرية:
إن حلَّت على البشرية فاجعةٌ ما دُمِّرت على أثرها كل معارفنا العلمية، ولم تنجُ إلا جملةً واحدة تُورَّث للأجيال التالية من المخلوقات، فما الجملة التي من شأنها أن تحوي أكبرَ قدْر من المعرفة في أقل عددٍ من الكلمات؟ أعتقد أنها الفرضية الذرية (أو الحقيقة الذرية، أو سَمِّها ما شئت) القائلة بأن كل شيءٍ يتكوَّن من ذرات؛ وهي جسيمات صغيرة تتحرك حركة دائمة، فيجذب بعضها بعضًا عندما تكون المسافة الفاصلة بينها صغيرة، لكنها تتنافر عند انضغاط بعضها داخل بعض.
لماذا تتجاذب الذرَّات عندما «تكون المسافة الفاصلة بينها صغيرة» لكنها تتنافر عند «انضغاط بعضها في بعض»، على حدِّ تعبير فاينمان؟ إجابة هذا السؤال محوريةٌ لتكنولوجيا النانو.
روابط قريبة
تُصوِّر الذرات في العموم كأنها نظام شمسي مُصغر، به نواة في المركز وإلكترونات تدور حولها في مدارات مُحدَّدة بدقة. وهذا ما يُعرف بنموذج بور، نسبةً إلى الفيزيائي الدانماركي نيلز بور، وهو تصوُّر للذرة ظهر قبل الآن بأكثر من قرنٍ بقليل. ورغم أن هذا النموذج ليس بلا جدوى تمامًا — إذ ما زال كثير من العلماء يُصوِّرون الذرة بهذا الشكل في الغالِب — فإن به أخطاء فادحة. فالإلكترونات لا تدور ككواكب صغيرة تدور حول نجم. وتُخبرنا ميكانيكا الكم أن أفضل طريقةٍ لتصوير الإلكترونات هي وصفها كسُحب احتمالية يعتمد شكلها العام على طاقة الإلكترون. سنتحدَّث أكثر وبمزيدٍ من التفصيل عن دور ميكانيكا الكم في تكنولوجيا النانو في الفصل القادم، أما الآن فالجانب الأساسي من ميكانيكا الكم المُرتبط بحديثنا عن القوى بين الذرِّية هو أن «التذبذب» هو السمة الأساسية لما يحدُث في العالم النانوي. فالسحابة الاحتمالية التي تصِف مواضع الإلكترونات تعني أننا يمكن أن نجد الإلكترونات في مواضعَ مختلفة تمامًا عبر الذرة، على عكس المدارات المُحدَّدة المعتادة في نموذج بور.
تعني اضطرابات الإلكترونات بدورها إمكانيةَ حدوث خلل في توزيع الشحنة الكهربية داخل الذرة في أي لحظة، مما يتسبَّب في تكوُّن ثنائي قطب كهربي؛ أي انفصال الشحنات إلى مُحصلة شحنة سالبة وأخرى موجبة. ففي المناطق التي ترتفع فيها احتمالية إيجاد إلكترون، تكون سالبية شحنة الذرة أعلى قليلًا، أما عندما تؤدي الاضطرابات إلى انخفاض احتمالية إيجاد إلكترون في منطقةٍ ما فهذا يعني أن المنطقة ستكون مُحصلة شحنتها موجبة. وتَكوُّن ثنائي قطب على ذرةٍ ما (أو جزيء) يستحثُّ تكوُّن ثنائي قطب معاكس في ذرة أخرى، مما يَنتج عنه تجاذب. وهذا التأثير هو ما يُعرف بقوى لندن التشتتية، نسبةً إلى الفيزيائي فريتز لندن الذي فسَّر أصلَ قوة التجاذب هذه عام ١٩٣٠، وهي مسئولة عن التجاذب الذي يحدُث حتى بين الذرات المتعادلة كهربيًّا. (لا بد أن أُنوِّه إلى أنه رغم أن ظاهرة ثنائي القطب المُستحث هي التفسير المعتدُّ به لظهور قوى لندن التشتُّتية، فإن نموذج لندن الذي طُرح عام ١٩٣٠ أعقدُ من هذا بكثير؛ إذ يشمل حسابات ميكانيكية كمومية تفصيلية تذهب إلى أبعد من مفهوم التفاعل بين ثنائيات القطب بكثير.)
لقد غطَّينا جزئية «… يجذب بعضها بعضًا عندما تكون المسافة الفاصلة بينها صغيرة …» من الجملة العلمية الأكثر بلاغة في رأي فاينمان. لكن ماذا عن قوله «… تتنافر عند انضغاط بعضها داخل بعض» في توصيف التفاعُل بين الذرِّي؟ فكيف يحدُث هذا؟
باولي يُقاوم الدفع
يرجع التفاعل التجاذُبي الذي يُقرِّب بين الذرات أساسًا إلى التفاعل بين شحنات «متباينة». لذا قد تتصوَّر أن التنافُر بين ذرتَين (أو جُزيئين) عندما يُصبحان على مسافة أقل من مسافة الاتزان يرجع ببساطةٍ إلى تنافر شحنات «متشابهة». وهذا بالفعل جزء مما يُسبِّب التنافر، لكنه يبعد كثيرًا عن القصة الكاملة. فالسبب الأساسي الذي يجعل ذرتَين أو جزيئين يقاومان بشدة تقريبهما لمسافةٍ أقل من طول الرابطة عند الاتزان يرجع في الحقيقة لواحدة من القواعد الأساسية في ميكانيكا الكم؛ ألا وهي: مبدأ باولي للاستبعاد.
يعتبر مبدأ باولي إحدى الركائز التي يقوم عليها كوننا بأكمله. فلولا مبدأ باولي للاستبعاد، لما كان لدَينا الجدول الدوري للعناصر، ولتصرَّفت المادة بطريقة مختلفة تمامًا. فمبدأ باولي للاستبعاد هو السبب الأساسي الذي يمنعك عن أن تخترق كرسيك وأنت جالس — أو تخترق الأرض إن تصادف وكنت واقفًا — بينما تقرأ هذه الجملة. يعود أصل هذا المبدأ إلى نظرية الحقل الكمومي، ويتطلَّب الأمر مزيجًا من الفيزياء النسبية وميكانيكا الكم لفهمه فهمًا كاملًا إلى حدٍّ معقول. ولِحُسن الحظ لا نحتاج إلى التعمُّق في هذا الموضوع كثيرًا لتحقيق مقصدنا هنا. فيمكن التعبير عن مبدأ باولي للاستبعاد بطريقةٍ أبسط كثيرًا كالآتي: لا يمكن لإلكترونَين أن يشغلا الحالة الكمومية نفسها. (إن مجال مبدأ الاستبعاد أكبرُ بكثير من ذلك في الحقيقة؛ لأنه لا ينطبق على الإلكترونات فقط، بل على فئة كاملة من الجسيمات الكمومية تسمَّى بالفرميونات. وكما أكَّدنا عدة مرات فيما سبق، ينصبُّ تركيزنا الأساسي في تكنولوجيا النانو على الإلكترونات.)
هذا يعني أن الإلكترونات ستبذل كلَّ ما في وسعها لتجنُّب بعضها إن كان لها جميعًا نفس الخصائص الكمومية (وأخص بالذكر منها خاصيةً تُعرف باسم اللفِّ المغزلي، وهي المسئولة عن المغناطيسية (النانوية) التي سنتناولها في الفصل الرابع). تبدو الإلكترونات في ضوء هذا المبدأ كأنها كائنات في غاية الانطوائية. ومبدأ باولي للاستبعاد هو المسئول عن أغلب التنافر الذي يحدث بين ذرتَين أو جُزيئين عند تقريبهما لمسافة أقل من المسافة الطبيعية المُستقرة. ومبدأ باولي للاستبعاد هو أيضًا ما يتسبَّب في قوة رد الفعل التي تمنعك من المشي خلال الأجسام الأخرى أو اختراقها. فالقوى على مستوى النانو لها تأثير يمتدُّ إلى العالم الماكروسكوبي المرئي من حولنا (بل وأبعد من ذلك.)
أكثر من مجرد نظرية
على الرغم من أن نظرية تفسير القوى بين الذرية والقوى بين الجزيئية المُوضَّحة أعلاه مُدعَّمة بأدلةٍ تجريبية تضمَّنت استخدام تجمعات هائلة من الذرات أو الجسيمات المتفاعلة (في الحالة الصلبة أو السائلة أو الغازية)، لم نتمكن من سبر هذه التفاعلات ذرةً بذرة إلا مع ظهور ميكروسكوب المسبار الماسح في بداية الثمانينيات. وقد بات ميكروسكوب المسبار الماسح الآن يُتيح لنا بصورةٍ روتينية قياسَ القوى المتبادلة بين الذرات والجزيئات ليس فقط بدقة ذرية، بل بدقة دون ذرية. لا أعني بكلمة «دون ذرية» أننا نسبر التركيب النووي للذرة — تذكَّر أننا على بُعد قِيَم أُسِّية كبيرة عن مستويات الطاقة المعتادة في القوى التي تؤثِّر على الجسيمات داخل النواة — لكني أعني أننا نستطيع أن نتبيَّن التفاوتات في القوة والطاقة في مستوياتٍ أصغر بكثيرٍ من قطر ذرة.