الفصل الأول

مرحبًا بك في عالم الأقزام النانوية

«النانوبوتيان» هي عائلة من الجزيئات الكيميائية تأخُذ شكل الأجسام البشرية، من تصميم وتنفيذ ستيفاني إتش شانتو وجيمس إم تور، بمركز علوم وتكنولوجيا النانو بجامعة رايس. تُشكِّل هذه الجزيئات مثالًا واضحًا على التحكُّم الرائع الذي صار متاحًا الآن في وحدات البناء الذرية والجزيئية. ويوضح شكل ١-١ أحد أفراد هذه العائلة، وهو «النانوكيد». يبلغ طول النانوكيد نانومترين فقط، ليكون بذلك أصغر ١٠٠ مليون مرة تقريبًا من سكَّان جزيرة «ليليبوت» الأقزام الذين لا يتجاوز طولهم ستَّ بوصات، في رائعة جوناثان سويفت الخالدة «رحلات جاليفر». أو لصياغة الأمر في سياقٍ أكثر معاصرة، النقطة في نهاية هذه الجملة يبلغ قطرها نحو ١٥٠ ألف نانوكيد. وبعملية ليست ميكروسكوبية بل نانوسكوبية، وضعت كل ذرة من ذرات النانوكيد في مكانها من خلال تفاعلات تخليقية يقع عليها الاختيار تبعًا لما يجدُر وصفه بأنه مُخطط جزيئي، وينتج عن هذه العملية الكيميائية مليارات على مليارات من جزيئات النانوبوتيان المتطابقة المنبثقة من الحساء الكيميائي.

من المُثير للإعجاب أيضًا أن النصفَين العلوي والسفلي لهيكل النانوكيد الجزيئي خُلِّق كلٌّ منهما على حدة، ثم «خُيِّطا» معًا عند الخصر، وكأنه وحش فرانكشتاين بأبعادٍ نانومترية. ويعتبر هذا إنجازًا مذهلًا للتخليق الكيميائي؛ إذ استعان بطريقةٍ دعاها البعض بالجراحة الجزيئية. ولكن لا يزال كثير من مُنتقدي تكنولوجيا النانو يزعمون أنه رغم ما يتَّسم به النانوكيد وأقرباؤه من إبهار وروعة، فلا يُوجَد الكثير مما قد يُعَد «جديدًا» فعلًا هنا. أليست تكنولوجيا النانو مجرَّد كيمياء متنكرة؟ أليس الأمر كله حالةً من الجهل الجماعي كما في قصة «ملابس الإمبراطور الجديدة» لكن على نطاقٍ أصغر؟ أليست الضجَّة المُثارة حولها أكبر من القيمة العلمية الحقيقية؟

fig1
شكل ١-١: «نانوكيد»، أحد أفراد عائلة جزيئات النانوبوتيان، صنعه ستيفاني إتش شانتو وجيمس إم تور من مركز علوم وتكنولوجيا النانو بجامعة رايس. موضَّح على اليسار مُخطط للروابط الكيميائية، وعلى اليمين مُوضَّح التركيب الجزيئي المقابل له، حيث تُمثَّل ذرات الكربون والهيدروجين والأكسجين بكراتٍ سوداء وبيضاء ورمادية على الترتيب.

إن هدفي في هذا الكتاب هو تجاوز الغلو، والتركيز على المبادئ العلمية الأساسية الكامنة في قلب علوم النانو، وتوضيح أن تكنولوجيا النانو علمٌ جديد ومشوق ومختلف بالرغم من انتقادات الرافضين لها (الصائبة أحيانًا). فبمقدورنا الآن تصوير كل ذرة على حدة ووضعها في مكانها بدقة؛ بل إن أحدثَ ما وصلت إليه تكنولوجيا النانو يتضمَّن الاستهداف الحاسوبي لروابط كيميائية مُفردة داخل جزيء واحد، وهو مستوًى من التحكُّم كان يبدو هدفًا مُستحيلًا قبل بضعة عقود. علاوة على ذلك، تتحوَّل هذه التطوُّرات العلمية على نحوٍ متزايد إلى تطوُّرات تكنولوجية (والعكس بالعكس)، لتخرج لنا قائمة من المنتجات تتنامى بلا انقطاعٍ تضم كلَّ شيء، من كريمات الوقاية من الشمس وحتى أجهزة الكمبيوتر المحمولة، ومن أجهزة تنقية المياه وحتى كرات الجولف، ومن الخلايا الشمسية إلى الأقمشة الذكية التي لا تُصيبها البقع أبدًا. وكما سنرى، أحيانًا ما تكون التطوُّرات التي تتحقق في تكنولوجيا النانو جديرةً بالضجة التي تُثيرها.

ولكن قبل أن نبدأ جولتنا الشاملة والسريعة في عالم النانو، يجب أن نُعرِّف ما نَعنيه بمصطلحَي «تكنولوجيا النانو» و«علوم النانو». تبدو هذه البداية مناسبةً تمامًا، إلا أن الاستقرار على تعريفٍ متَّفق عليه عالميًّا لتكنولوجيا النانو تبيَّن أنه مسألة صعبة إلى حدٍّ كبير. فكلمة «نانو» تُشير إلى وحدة النانومتر، ومقدارها ١٠-٩ متر. يعادل هذا الرقم نصف طول النانوكيد، أو لنُقارنه بشيءٍ عامٍّ أكثر، لو كان قطر بلية اللعب يُساوي نانومترًا واحدًا، لبلغ قطر الأرض حوالي متر. وكمقارنة مفيدة أخرى لتصوُّر مقدار «النانو»، خُذ في علمك أن سُمك الورقة يبلُغ نحو ١٠٠ ألف نانومتر. غير أن علوم النانو تشمل دراسة بِنى وأجهزة قد يكون عرضها أكبرَ بكثيرٍ من نانومتر واحد. كيف يمكننا إذن أن نتخيَّر الحد الأعلى (والأدنى في الواقع) للأحجام للتمييز بين علوم النانو وتكنولوجيا النانو من جهة، وتكنولوجيا الميكرو مثلًا من جهةٍ أخرى؟ اقترح البعض أن يكون الحد الأعلى للحجم في تكنولوجيا النانو ١٠٠ نانومتر. غير أن الأمر هنا لا يخلو من المشكلات كذلك؛ إذ قد نتساءل: «لِمَ لا يكون الحد ٥٠٠ نانومتر؟ أو حتى ١٠١ نانومتر؟ أو ٩٩ نانومترًا؟»

بدلًا من التحذلُق ومحاولة تعريف علوم النانو في إطار نطاقات طولية معيَّنة بلا طائل، طرحت الجمعية الملكية بلندن التعريف التالي في مقالٍ مُهم نُشِر في عام ٢٠٠٤:

علوم النانو هي دراسة ظواهر المواد وآليات معالجتها في نطاق أبعاد الذرَّات والجزيئات والجزيئات الضخمة، «حيث تختلف خواص المادة اختلافًا كبيرًا عن خواصِّها في نطاقِ أبعادٍ أكبر». أما تقنيات النانو فهي تصميم وتوصيف وإنتاج وتطبيق البِنى والأجهزة والأنظمة من خلال التحكُّم في شكلها وحجمها في نطاق النانومتر.

لقد ركَّزت على الجملة المِفتاحية هنا، التي، رغم أنها ما زالت غامضةً إلى حدٍّ ما، فإنها تلمس صميمَ ما يُميز علوم وتكنولوجيا النانو. فمن خلال تغيير حجم جسمٍ ما ببساطة على مستوى الذرات أو الجزيئات، أو الجزيئات الضخمة الواردة ضِمن تعريف الجمعية الملكية المذكور أعلاه، يمكن تغيير خواصِّه جذريًّا. وكما سنرى لاحقًا، فهذه التغيرات القائمة على الحجم قد تكون مذهلةً للغاية عندما يُصبح حجم جُسَيمٍ نانوي مُماثلًا للطول الموجي لإلكتروناته؛ وذلك حين تلعب فيزياء الكم دورًا محوريًّا.

رغم أن الأفضل إذن أن نتجنَّب تعريفات علوم النانو في إطار حدود صارمة للنطاقات الطولية، فمِن «القواعد الأساسية» المُفيدة في هذا المقام أنه إذا لم يكن بالإمكان دراسة التركيب أو العملية محل الاهتمام باستخدام الفحص المجهري الضوئي العادي، فهي إذن نانوسكوبية وليست ميكروسكوبية. وسنرى بعد قليلٍ أن مجال تكنولوجيا النانو يَدين بأغلب أصوله — إن لم يكن كلها — لاختراع نوعٍ جديد تمامًا من الميكروسكوبات الفائقة الوضوح بوسعها تمييز الذرات والجزيئات كلٌّ على حدة، لكن من دون استخدام أي أدواتٍ بصرية إطلاقًا (أي لا عدسات ولا مرايا … وما إلى ذلك).

ينبع الابتكار الحقيقي من تجاوز الحدود التقليدية، وهذا ما تتفوَّق فيه علوم النانو وتكنولوجيا النانو؛ فعلى المستوى النانومتري، تتلاشى الحدود المُصطنَعة (والتاريخية في معظمها) بين الفيزياء والكيمياء والأحياء وعلم المواد. فعند فحص التركيب الإلكتروني لذرةٍ مفردة، أو التلاعُب بروابط كيميائية فردية داخل جزيءٍ ما، أيندرج عملُنا ذاك تحت الفيزياء أم الكيمياء أم علم المواد؟ ماذا لو كنا نؤثِّر على جزءٍ معيَّن من جزيء أحد البروتينات بواسطة قوةٍ ما لكي نقيس مُقاومته الميكانيكية، أو نُحاول مطَّ خيط حمضٍ نووي ونرصد استجابته؟ أيندرِج هذا تحت علم الأحياء أم الفيزياء أم الكيمياء؟ أم إنه مجال بحثي مُتعدد التخصُّصات، يُمثل مزيجًا محفزًا للفكر، وثوريًّا في أفضل الأحوال، من العلوم التقليدية، تنبثِق منه رؤًى ونظريات لن تُتاح ببساطة لو علِقنا في صومعة تخصُّص مُعيَّن بمعزل عن البقية؟

إن التداخل المعرفي هو حجر الأساس لتكنولوجيا النانو، لكن كل علماء النانو يأتون إلى المجال حامِلين متاعهم من تخصُّصهم الأصلي. فمجموعتنا البحثية المُتخصِّصة في علوم النانو في جامعة نوتنجهام، على سبيل المثال، تتألف بشكلٍ شِبه كاملٍ من فيزيائيين، إلا أن أغلب (إن لم يكن كل) عملِنا البحثي يمكن وصفه بالمِثل بأنه ينتمي إلى الكيمياء الفيزيائية أو علم الأسطح أو علم المواد. لكن «نشأتي» على الفيزياء تعني أن تركيزي خلال الكتاب سيميل أكثرَ قليلًا نحو الجوانب الفيزيائية من تكنولوجيا النانو، وإن كنتُ بالتأكيد لن أُعرِض عن العلوم الحيوية.

بعد الإعلان عن انحيازي هذا، فلنبدأ الآن جولتنا السريعة في عالم النانو بتقديم الأداة المُميزة التي سبق أن أشرتُ إليها أعلاه، وهي مجهر المسبار الماسح. لميكروسكوبات المسبار أهميةٌ بالِغة للتمكن من رسم خريطةٍ للمادة والتحكُّم فيها على المستوى الذري ودون الجزيئي. وبالفعل يزعم كثيرٌ من علماء النانو على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم العلمية — وهو زعم له ما يُبرِّره — أن عام ١٩٨١ هو عام انطلاق تكنولوجيا النانو، نتيجةً لاختراع ميكروسكوب المسبار الماسح في ذلك العام في مُختبرات أبحاث شركة آي بي إم في مدينة روشليكون، بزيورخ. لا تسمح لنا ميكروسكوبات المسبار الماسح بقياس القوى بين الذرَّات والجزيئات فحسب، بل تسمح أيضًا بالتحكُّم في هذه التفاعُلات بين الذرية وبين الجزيئية؛ لنتمكَّن من تحريك المادة بدقةٍ متناهية تُضاهي دقةَ حجم الذرات (بل وأدق من ذلك).

يُمكننا، باستخدام مجهر مسباري حديث الطراز، أن ندفع الذرات ونجذبها وننكزها ونهمزها ونلتقِطها كلٌّ منها على حِدة، وكل ذلك من خلال تحكُّم حاسوبي وبدقةٍ تعجز قدرات أي جهازٍ علمي آخر عن مُضاهاتها. لكن ما معنى أن ندفع ذرةً أو نجذبها؟ ما القوى التي تدخل في هذه العملية؟ كم من الطاقة تحتاج؟ وكيف لنا أن نبذل قوًى ونوجِّهها في مثل هذا الحيز الضئيل؟

استشعار القوة

من الناحية المفاهيمية، يُمكن اعتبار ميكروسكوب المسبار، من منظورٍ معين، أقلَّ تعقيدًا بكثير من نظيره الضوئي التقليدي. فبدلًا من تحييد موجات الضوء بالطريقة الصحيحة تمامًا لتكوين صورةٍ مكبَّرة، يُتيح لنا ميكروسكوب المسبار الماسح رؤيةَ الذرات الفردية وتحريكها، عن طريق تحريك رأسٍ مُدبَّب متناهي الدقة جيئةً وذهابًا على سطحِ عينة (انظر شكل ١-٢). في البداية يكون الرأس عبارة عن سلكٍ معدني مسنون (غالبًا ما يكون من مادة التنجستين، وإن كان من الشائع استخدام الذهب ومزيج من البلاتين والإريديوم أيضًا.) لكن كثيرًا ما سوف تلتحِم ذرة من سطح العيِّنة بطرف هذا الرأس، سواء عمدًا أو بالخطأ؛ وعندما تجري هذه العملية وفقًا لتخطيطٍ وتنفيذٍ مُحكَمَين، فإنها تُسمَّى التشكيل الوظيفي للرأس، وتُوفِّر درجةً عالية من التحكُّم في البِنية الذرية للرأس.
fig2
شكل ١-٢: يستطيع ميكروسكوب المسبار الماسح تصوير المادة والتحكُّم فيها بدقةٍ ذرية مُتناهية، عن طريق تحريك رأسٍ فائق الحدة، يلتحم بذرَّةٍ مفردة، على مقربةٍ شديدة من سطحٍ ما.
الصورة على اليمين في شكل ١-٢ هي أول تطبيق عمَلي للكتابة باستخدام الذرات، نفَّذه دون آيجلر وإريك شفايتزر من معامل أبحاث آي بي إم عام ١٩٩٠. كل وحدة لامعة هي ذرة زينون (على سطح فائق البرودة من النيكل) وُضعت في موضعها باستخدام استراتيجية «الانزلاق» الموضَّحة في الرسم الكاريكاتيري. تُوضِّح الأسهم في هذا الرسم كيف يتحدَّد موضع كل ذرةٍ على حدة، من خلال تغيير المسافة الفاصلة بين الرأس والعينة، ومن ثم التحكُّم بمقدار القوة المتبادلة بين المسبار والذرة محل المُعالجة. في البداية يُقرَّب الرأس من العينة — مما يزيد التفاعل بينَه وبين الذرة المستهدفة — ثم يُحرَّك موازيًا للسطح لمسافةٍ ثابتة فيأخذ الذرة معه. في نهاية خطوة المعالجة، يتراجع الرأس عائدًا إلى ارتفاعه الأوَّلي (ارتفاع التصوير). وعن طريق إبقاء المسافة بين المسبار والسطح صغيرة جدًّا — أقل من واحد نانومتر في العموم؛ أي بضعة أقطار ذرية أو أقل — يمكن رسم خريطة للتفاعُلات بين الذرَّات الموجودة عند رأس المسبار، والذرَّات عند سطح العينة أسفل منه ذرةً بذرة. بل يمكن في الواقع أن تُصبح دِقة التباين أفضلَ بكثير من التباين في ذرةٍ واحدة؛ فكما سنرى بعد قليل، فإن أحدث التطوُّرات في المجال يرسم خريطة للبِنية الكيميائية، أي الروابط الكيميائية، «داخل» الجزيئات المُفردة.

يعتمد شكل التفاعُل بين المسبار والعينة على ما نريد توصيفه وقياسه تحديدًا. وتوجَد الآن عائلة مُتنامية من الميكروسكوبات المسبارية، كلٌّ منها مصمَّم بدقة ليستغلَّ واحدة أو أكثر من القوى والتفاعلات القائمة بين الذرَّات، أو الجزيئات أو الجسيمات النانوية (وهي كُتَل بالِغة الصغر من المادة تتراوح بين بضع ذرات إلى بضعة آلاف منها؛ وسنتناول هذا باستفاضة أكثر لاحقًا) أو بينها جميعًا.

يُصنِّف الفيزيائيون القوى إلى أربع فئاتٍ أساسية: قوى الجاذبية والقوى النووية القوية، والقوى النووية الضعيفة، والقوى الكهرومغناطيسية. لكن حين يتعلَّق الأمر بنطاق الأبعاد النانوية، غالبًا ما تكون التفاعُلات الكهرومغناطيسية هي المُهيمنة بهامشٍ لا بأس به. ويُمكننا بحسبةٍ تقريبية بسيطة أن نُوضِّح مدى قِلة تأثير الجاذبية، على سبيل المثال، على التفاعل بين ذرتَين أو جُزيئين. يُمكننا بمعادلة بسيطة، تُعرَف باسم قانون كولوم، حساب مقدار القوة الكهروستاتيكية ، بين شحنتَين مُتماثلتَين، ، تفصل بينهما المسافة . ( هنا ثابت.)
لنتخيَّل مثلًا ذرتَين إحداهما فقدت إلكترونًا والأخرى اكتسبت إلكترونًا، وصار لديهما مُحصِّلة شحنة، وبذلك أصبحت كلتاهما أيونًا. ومن الأمثلة الجيدة على هذا مثال الأيونين و ؛ حيث الأول أيون صوديوم ذو مُحصِّلة شحنة موجبة والآخر أيون كلور ذو مُحصلة شحنة سالبة؛ وذلك نظرًا لفقدان الأول إلكترونًا واكتساب الآخر إلكترونًا. سنفترِض أن الأيونين و تفصل بينهما المسافة ذاتها التي تفصل بينهما في بلورة NaCl (ملح الطعام)؛ أي ٠٫٢٣٦ نانومتر.
يمكن بسهولةٍ حساب القوة الكهروستاتيكية بين الأيونَين و إذا عوَّضنا بالقِيَم المناسبة في المعادلة أعلاه. إذا قُمنا بذلك فسنجد أن مقدار القوة حوالي ٤ نانونيوتن (nN). وهذه القيمة ضئيلة جدًّا مقارنةً بوزن الإنسان العادي البالِغ مثلًا (إذ تبلغ مئات النيوتنات). لكن هذه القوة النانوية هائلة إذا ما قُورنت بقوة الجذب بين الذرات.
لحساب قوة الجاذبية المناظرة ، بين أيونَي و ، سنستخدِم قانون نيوتن للجذب، الذي يُشبه قانون القوة الكهرومغناطيسية كثيرًا في صيغته:
حيث هي المسافة مرة أخرى، و و هما كتلتا أيونَي الصوديوم والكلور على الترتيب، و ثابت يُعرَف باسمِ ثابت الجذب العام. تبلغ قوة الجاذبية بين هذه الذرات ١٠ −٤٢ نيوتن؛ وهي قيمة أصغر من أن نتصوَّرها. إذا أخذنا النسبة بين القوة الكهروستاتيكية وقوى الجاذبية بين الأيونين و ، نجد أن في كلٍّ منهما تلغي إحداهما الأخرى، ونحصل في النهاية على معاملٍ قيمته ١٠٣٣. وهذا ليس مجرد رقمٍ كبير، بل هو رقمٌ ضخم لدرجة مُذهلة وصادمة (وذلك لأن كتلة الذرات ضئيلة جدًّا بالفعل). الدور الوحيد الذي تلعبه الجاذبية في تجارب علوم النانو في المعتاد هو الحفاظ على ثبات المعدَّات — والعلماء — على الأرض بقوة (لأنها أجسام ذات كتلةٍ كبيرة تتكون من عددٍ لا يُحصى من الذرات والجزيئات).
ينطبق الأمر ذاته على القوى النووية القوية والضعيفة، التي تتَّسم بتأثيرٍ قوي للغاية بين بروتونات ونيوترونات النواة الذرية؛ فنطاقات القوى والطاقة التي ندرُسها ونستخدِمها في تكنولوجيا النانو لا تقترِب بأي حالٍ من الحد النووي. قبل الدخول في مقارنةٍ تفصيلية بين المستوى النانوي والمستوى النووي، يجب أن نستعرِض أنسب الوحدات التي يمكن استخدامها لقياس الطاقة. برغم أن الوحدة القياسية لقياس الطاقة هي الجول، فإن هذه الوحدة على مقياس النانومتر والمقياس دون الذري تُعطي قيمةً تقريبية للغاية لدرجةٍ تجعلها غير ذات نفع. لذا نستخدِم بدلًا منه وحدةَ الإلكترون فولت (eV) لقياس الطاقة؛ حيث ١ إلكترون فولت هي الطاقة التي يكتسبها الإلكترون عندما يتسارع خلال فرق جهد قدره ١ فولت. ولكن ما هو أهم بكثيرٍ من تعريف الكتب للإلكترون فولت، في سياق تكنولوجيا النانو، أن طاقة الرابطة الكيميائية العادية تساوي نحو بضعةٍ من الإلكترون فولت؛ فانقسام زوج من الذرات يتطلَّب دفعةً من الطاقة بهذه القيمة. وهذا يختلف جذريًّا عن مئات الملايين من الإلكترون فولت (ما يعادل نحو ١٠٠ ميجا إلكترون فولت) التي تُميز طاقة الارتباط بين مكونات النواة الذرية.

هذا يعني أن تكنولوجيا النانو تضرب بجذورها كلِّها في دراسة ومعالجة التفاعلات الكهرومغناطيسية (بما فيها القوى الكهروستاتيكية) بين الذرَّات والجزيئات؛ لذا فلا حاجةَ لنا هنا للالتفات إلى الجاذبية ولا القوى النووية القوية أو الضعيفة. بدلًا من ذلك ينصبُّ جلُّ تركيزنا على القوى الكهرومغناطيسية المُتبادلة بين «الإلكترونات». لكن جزءًا كبيرًا للغاية من العالَم من حولنا محكوم في الأساس بالتفاعُلات بين الإلكترونات، وهذا يشمل كل جهازٍ إلكتروني أو كهربائي؛ بما في ذلك كل هاتف ذكي وكل كمبيوتر محمول وكل جهازٍ في المطبخ.

لماذا الألماس أقسى من الطين؟ بسبب القوة النسبية لروابط الألماس الكيميائية؛ أي قوة التفاعلات بين الإلكترونات. لماذا الزجاج شفَّاف بينما الذهب ذهبي اللون؟ بسبب تفاعل الضوء الذي يُعتبر موجة كهرومغناطيسية (أو عدم تفاعُله نسبيًّا)، مع «الإلكترونات» في كلٍّ منهما. لماذا يُعَد الحديد مادة مغناطيسية بينما الألومنيوم يبدو وكأنه لا يُلقي بالًا لتأثير أي مغناطيس في الجوار؟ بسبب الخواص الميكانيكية الكمومية للإلكترونات. لماذا يوصل سلك نحاسي الكهرباء في حين لا يحمل البلاستيك الذي يُغلِّفه أيَّ تيار كهربي؟ مرة أخرى، تكمن الإجابة في توزيع الإلكترونات في كلٍّ من المادتَين.

إن التفاعُلات بين الإلكترونات هي أساس العالم المادي بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات بكل جوانبها؛ ولذا يُولي قدرٌ هائل من علوم وتكنولوجيا النانو اهتمامًا خاصًّا لقياس سلوك الإلكترونات وتعديله. فمن خلال التحكُّم في الإلكترونات وحبسها، يُمكننا «ضبط» خواص أي مادة، كتغيير لونها وقوَّتها وتوصيلها للكهرباء، وقُدرتها التفاعلية الكيميائية، واستجابتها لعددٍ من المؤثرات كالحرارة والضوء والشد. وتكنولوجيا النانو تمنحنا الأدوات اللازمة لتصميم وتنفيذ مواد تُطلَب لأغراضٍ مُعينة، تم التحكُّم في بِنيتها النانوية أو الذرية أو الجزيئية، أو جميعها، من الأسفل إلى الأعلى؛ أي ذرة تلوَ الأخرى. والوصول إلى هذا المستوى من الدقة يتطلَّب التحكُّم في القوى بين الذرية وفهمٍ عميق لكيفية اعتماد هذه القوى على المسافات بين الذرات بالضبط.

عند هذه النقطة، سوف ألتفت إلى اقتباسٍ ملائم لحديثنا للغاية لريتشارد فاينمان، الفيزيائي والحكَّاء وعازف طبول البونجو الشهير من القرن العشرين. يحظى فاينمان بذكرٍ شِبه دائم في معرض أي حديثٍ عن تكنولوجيا النانو، وذلك بفضل خُطبةٍ تميَّزت ببُعد النظر، كان قد ألقاها بعد العشاء أمام الجمعية الفيزيائية الأمريكية عام ١٩٥٩، عنوانها «هناك مُتَّسع كبير في القاع»، تنبَّأ خلالها تنبؤًا مثيرًا للاهتمام بذلك النوع من معالجة الذرات المفردة، الذي لم يَعُد ممكنًا فحسب، بل بات أساسيًّا على نحو متزايد في كثير من مناحي علوم وتكنولوجيا النانو. وقد بات الاقتباس من هذه الخطبة عند تناول تكنولوجيا النانو أمرًا متكررًا حدَّ الملل؛ لذا سأتغاضى عن هذا المصدر بالذات الآن. وسأتوجَّه بدلًا من ذلك إلى كتاب فاينمان الشهير «محاضرات في الفيزياء»؛ حيث يصِف التركيبَ الذريَّ للمادة وطبيعة التفاعُلات بين الذرَّات باعتبارها أهمَّ معلومة علمية اكتشفتها البشرية:

إن حلَّت على البشرية فاجعةٌ ما دُمِّرت على أثرها كل معارفنا العلمية، ولم تنجُ إلا جملةً واحدة تُورَّث للأجيال التالية من المخلوقات، فما الجملة التي من شأنها أن تحوي أكبرَ قدْر من المعرفة في أقل عددٍ من الكلمات؟ أعتقد أنها الفرضية الذرية (أو الحقيقة الذرية، أو سَمِّها ما شئت) القائلة بأن كل شيءٍ يتكوَّن من ذرات؛ وهي جسيمات صغيرة تتحرك حركة دائمة، فيجذب بعضها بعضًا عندما تكون المسافة الفاصلة بينها صغيرة، لكنها تتنافر عند انضغاط بعضها داخل بعض.

لماذا تتجاذب الذرَّات عندما «تكون المسافة الفاصلة بينها صغيرة» لكنها تتنافر عند «انضغاط بعضها في بعض»، على حدِّ تعبير فاينمان؟ إجابة هذا السؤال محوريةٌ لتكنولوجيا النانو.

روابط قريبة

يوضح الرسم البياني الرئيسي في شكل ١-٣ مدى التغيُّر الذي يطرأ على القوة بين ذرتَي زينون مع تغيُّر المسافة الفاصلة بينهما. وقد اخترت الزينون تحديدًا لمكانته البالغة الأهمية في تاريخ تكنولوجيا النانو؛ فهو أول ذرة نجحنا في وضعها في مكانها بدقة باستخدام التحكم الحاسوبي (انظر شكل ١-٢). عندما تكون قيم كبيرة، يكون التفاعل بين ذرات الزينون ضعيفًا جدًّا؛ إذ تكون القوة (وطاقة الوضع) المُرتبطة بهذا التفاعل بينها محدودةً جدًّا، وتستمرُّ في التناقُص وتظلُّ تقترب من الصفر كلما تزايدت المسافة بين الذرَّات. أما إذا قُرِّبت الذرات بعضها من بعض، بدلًا عن ذلك، فإنها تُشعِر بتفاعل تجاذُبي فيما بينها، وتزداد القوة سالبيةً حتى تصِل إلى أدنى حدٍّ لها. (عندما تكون القوة سالبةً فهذا يُشير إلى تجاذب، بينما يُولِّد التنافر قوةً موجبة.) ومع تقريب الذرتَين أكثر، تبدأ القوة في الازدياد حتى تصل قيمتها إلى صفر مجددًا، وعند هذا الحد تُصبح الذرتان على «مسافة الاتزان». عندئذٍ تصبح الذرتان قريبتَين كفايةً للتفاعُل معًا، لكن دون محصلة قوة؛ إذ يحدُث توازن بين القوى المؤثِّرة عليهما. (وسأوضح بعد قليل مصدر هذه القوى المتضادة.) ومسافة الاتزان هي ما يُحدِّد «طول الرابطة» بين ذرتَين أو جزيئَين متفاعلَين.
إذا حاوَلْنا الآن تقريبَ الذرتَين أكثر من ذلك؛ أي تقليل المسافة بينهما إلى ما دون قيمة مسافة الاتزان، تُصبح القوة موجبةً وتتزايد بسرعة هائلة مع أقل تغيير في المسافة بين الذرتَين. فالتفاعل يُحدِث تنافرًا شديدًا؛ حتى إن حركة الذرتَين بعضهما نحو بعض لمسافة طفيفة — ليست دون النانومتر فقط، بل دون الأنجستروم كذلك — تتسبَّب في تزايدٍ هائل في القوة (والطاقة). (الأنجستروم يساوي ٠٫١ نانومتر. وهي وحدة يستخدمها العلماء المُهتمون بدراسة التركيب الذري للمواد على نطاقٍ واسع؛ لأن أطوال الروابط الكيميائية تبلُغ في المعتاد بضعة أنجسترومات.) وهذا المزيج من التجاذُب والتنافر في التفاعل هو ما يُعطي الشكل المُميز لمنحنى القوة في مقابل المسافة الموضَّح في الشكل ١-٣. فإذا أردنا كسر الرابطة الكيميائية، نحتاج إذن إلى توفير قدرٍ كافٍ من الطاقة — ولتكن مثلًا في صورة حرارة أو ضوء (أي إشعاع كهرومغناطيسي) أو حتى قوة ميكانيكية موجَّهة بدقة كما سنرى بعد قليل — حتى يُسمَح للذرتَين بالتغلُّب على التفاعل المتبادل بينهما والإفلات إحداهما من الأخرى.
fig3
شكل ١-٣: التغيُّر في القوة المتبادلة بين ذرتين بتغيُّر المسافة بينهما، محسوب باستخدام نموذج لينارد-جونز للجهد الموضَّح في النص. يوضح الشكل المدرَج داخله قياسات تجريبية مكافئة، معنونة ﺑ «نقطة التقاء الذرتَين»، ومقارنة كلٍّ منها بجهد لينارد-جونز المناسب للقوة بين الذرية في ثلاثة أزواجٍ مختلفة من ذرات الغازات الخاملة: زينون-زينون، وكربتون-زينون، وأرجون-زينون.
تم حساب شكل ١-٣ من خلال معادلة تجريبية في غاية البساطة لتوصيف التأثيرات المُتبادلة بين الذرَّات تُعرف باسم جهد لينارد-جونز، نسبةً إلى عالِم الرياضيات والفيزياء النظرية البريطاني جون إدوارد لينارد-جونز. يُستخدَم نموذج جهد لينارد-جونز كثيرًا جدًّا لتمثيل التفاعُلات المتبادلة بين ذرات الغازات الخاملة كالزينون، وهو غاز نبيل. قد تتساءل هنا لماذا يُوجَد تفاعُل بين ذرتَي الزينون أصلًا ما دام أنها ذرات خاملة، وهو سؤال منطقي. كثيرًا ما نستخدِم الغازات الخاملة في التطبيقات التي تستلزِم بالضرورة عدم حدوث تفاعُل كيميائي؛ لأن الغازات الخاملة لها أغلفة تكافؤ أو أغلفة إلكترونية كاملة. علاوة على ذلك، لا تُوجَد محصلة شحنة؛ لأننا نتعامل مع ذرات متعادلة (وليس أيونات مثل و ). ولكن يظل التجاذب بين ذرات الزينون قائمًا على حدِّ وصف فاينمان. فما السبب؟

تُصوِّر الذرات في العموم كأنها نظام شمسي مُصغر، به نواة في المركز وإلكترونات تدور حولها في مدارات مُحدَّدة بدقة. وهذا ما يُعرف بنموذج بور، نسبةً إلى الفيزيائي الدانماركي نيلز بور، وهو تصوُّر للذرة ظهر قبل الآن بأكثر من قرنٍ بقليل. ورغم أن هذا النموذج ليس بلا جدوى تمامًا — إذ ما زال كثير من العلماء يُصوِّرون الذرة بهذا الشكل في الغالِب — فإن به أخطاء فادحة. فالإلكترونات لا تدور ككواكب صغيرة تدور حول نجم. وتُخبرنا ميكانيكا الكم أن أفضل طريقةٍ لتصوير الإلكترونات هي وصفها كسُحب احتمالية يعتمد شكلها العام على طاقة الإلكترون. سنتحدَّث أكثر وبمزيدٍ من التفصيل عن دور ميكانيكا الكم في تكنولوجيا النانو في الفصل القادم، أما الآن فالجانب الأساسي من ميكانيكا الكم المُرتبط بحديثنا عن القوى بين الذرِّية هو أن «التذبذب» هو السمة الأساسية لما يحدُث في العالم النانوي. فالسحابة الاحتمالية التي تصِف مواضع الإلكترونات تعني أننا يمكن أن نجد الإلكترونات في مواضعَ مختلفة تمامًا عبر الذرة، على عكس المدارات المُحدَّدة المعتادة في نموذج بور.

تعني اضطرابات الإلكترونات بدورها إمكانيةَ حدوث خلل في توزيع الشحنة الكهربية داخل الذرة في أي لحظة، مما يتسبَّب في تكوُّن ثنائي قطب كهربي؛ أي انفصال الشحنات إلى مُحصلة شحنة سالبة وأخرى موجبة. ففي المناطق التي ترتفع فيها احتمالية إيجاد إلكترون، تكون سالبية شحنة الذرة أعلى قليلًا، أما عندما تؤدي الاضطرابات إلى انخفاض احتمالية إيجاد إلكترون في منطقةٍ ما فهذا يعني أن المنطقة ستكون مُحصلة شحنتها موجبة. وتَكوُّن ثنائي قطب على ذرةٍ ما (أو جزيء) يستحثُّ تكوُّن ثنائي قطب معاكس في ذرة أخرى، مما يَنتج عنه تجاذب. وهذا التأثير هو ما يُعرف بقوى لندن التشتتية، نسبةً إلى الفيزيائي فريتز لندن الذي فسَّر أصلَ قوة التجاذب هذه عام ١٩٣٠، وهي مسئولة عن التجاذب الذي يحدُث حتى بين الذرات المتعادلة كهربيًّا. (لا بد أن أُنوِّه إلى أنه رغم أن ظاهرة ثنائي القطب المُستحث هي التفسير المعتدُّ به لظهور قوى لندن التشتُّتية، فإن نموذج لندن الذي طُرح عام ١٩٣٠ أعقدُ من هذا بكثير؛ إذ يشمل حسابات ميكانيكية كمومية تفصيلية تذهب إلى أبعد من مفهوم التفاعل بين ثنائيات القطب بكثير.)

إن كان لجزيءٍ ما ثنائي قطب بالفعل — كجزيء الماء ( ) أو فلوريد الهيدروجين (HF) مثلًا — فإن ثمة خللًا «استاتيكيًّا» في توزيع الشحنة بالفعل، مما سينتُج عنه نوعٌ إضافي من التفاعل بين ثنائيات القطب يعمل إلى جانب التفاعل الناتج عن قوى التشتُّت. بالمثل، تختلف حالة الأيونات — أو الروابط الأيونية، حيث يحدث انتقال لشحنة إلكترونية — عن الذرات والجزيئات المُتعادلة كهربيًّا؛ إذ سيحدث فيها تفاعل إلكتروستاتيكي قوي على أساس الشحنة التي يحمِلها كلُّ نوع منها. أما إن كانت الرابطة التساهمية — وهي رابطة يحدُث فيها تشارك في الإلكترونات — هي المُهيمنة على التفاعل، فلا بد إذن أن نأخذ في الاعتبار كيف ستتراكب السحابتان الإلكترونيتان وتتمازجان حتى يتسنَّى لنا تكوين فهم مُتكامل لكيمياء وفيزياء الكم.
تتألف الروابط الكيميائية في العموم من مزيجٍ من كل هذه التأثيرات؛ إذ نجد أن روابط قليلة جدًّا هي التي تعتبر تساهُمية بالكامل أو أيونية بالكامل على سبيل المثال. ولكن بالرغم من كل هذه التعقيدات، فإن القوة الكهرومغناطيسية هي ما يحكم التفاعل بين الذرات في كل الحالات، كما أنها جميعًا تتبع نفس الشكل العام لمنحنى الطاقة مقابل المسافة، الذي يتتبَّع ما يسمَّى «بئر الجهد»، الذي يُحدِّد مقدار الطاقة اللازمة لفصل ذرتَين إحداهما عن الأخرى (أو مدى قوة التفاعل بينهما)، وأدنى قيمة في هذه البئر تظهر عند مسافةٍ قدرُها طول الرابطة في حالة الاتزان، حيث مُحصلة القوة تساوي صفرًا. يلاحَظ في شكل ١-٣ التشابُه بين المنحنيات، وكذلك تغيُّر موضع القيمة الصغرى في منحنى القوة مقابل الزمن في كل حالة (وهذه القيمة تُمثل المسافة بين الذرتَين في حالة الاتزان.) (رُصدت هذه البيانات التجريبية باستخدام مجهر القوة الذرية، وهي مأخوذة من أعمال شيجيكي كاواي (بالمركز الدولي لهندسة البِنية النانوية للمواد، تسوكوبا، اليابان) ومعاونيه.)

لقد غطَّينا جزئية «… يجذب بعضها بعضًا عندما تكون المسافة الفاصلة بينها صغيرة …» من الجملة العلمية الأكثر بلاغة في رأي فاينمان. لكن ماذا عن قوله «… تتنافر عند انضغاط بعضها داخل بعض» في توصيف التفاعُل بين الذرِّي؟ فكيف يحدُث هذا؟

باولي يُقاوم الدفع

يرجع التفاعل التجاذُبي الذي يُقرِّب بين الذرات أساسًا إلى التفاعل بين شحنات «متباينة». لذا قد تتصوَّر أن التنافُر بين ذرتَين (أو جُزيئين) عندما يُصبحان على مسافة أقل من مسافة الاتزان يرجع ببساطةٍ إلى تنافر شحنات «متشابهة». وهذا بالفعل جزء مما يُسبِّب التنافر، لكنه يبعد كثيرًا عن القصة الكاملة. فالسبب الأساسي الذي يجعل ذرتَين أو جزيئين يقاومان بشدة تقريبهما لمسافةٍ أقل من طول الرابطة عند الاتزان يرجع في الحقيقة لواحدة من القواعد الأساسية في ميكانيكا الكم؛ ألا وهي: مبدأ باولي للاستبعاد.

يعتبر مبدأ باولي إحدى الركائز التي يقوم عليها كوننا بأكمله. فلولا مبدأ باولي للاستبعاد، لما كان لدَينا الجدول الدوري للعناصر، ولتصرَّفت المادة بطريقة مختلفة تمامًا. فمبدأ باولي للاستبعاد هو السبب الأساسي الذي يمنعك عن أن تخترق كرسيك وأنت جالس — أو تخترق الأرض إن تصادف وكنت واقفًا — بينما تقرأ هذه الجملة. يعود أصل هذا المبدأ إلى نظرية الحقل الكمومي، ويتطلَّب الأمر مزيجًا من الفيزياء النسبية وميكانيكا الكم لفهمه فهمًا كاملًا إلى حدٍّ معقول. ولِحُسن الحظ لا نحتاج إلى التعمُّق في هذا الموضوع كثيرًا لتحقيق مقصدنا هنا. فيمكن التعبير عن مبدأ باولي للاستبعاد بطريقةٍ أبسط كثيرًا كالآتي: لا يمكن لإلكترونَين أن يشغلا الحالة الكمومية نفسها. (إن مجال مبدأ الاستبعاد أكبرُ بكثير من ذلك في الحقيقة؛ لأنه لا ينطبق على الإلكترونات فقط، بل على فئة كاملة من الجسيمات الكمومية تسمَّى بالفرميونات. وكما أكَّدنا عدة مرات فيما سبق، ينصبُّ تركيزنا الأساسي في تكنولوجيا النانو على الإلكترونات.)

هذا يعني أن الإلكترونات ستبذل كلَّ ما في وسعها لتجنُّب بعضها إن كان لها جميعًا نفس الخصائص الكمومية (وأخص بالذكر منها خاصيةً تُعرف باسم اللفِّ المغزلي، وهي المسئولة عن المغناطيسية (النانوية) التي سنتناولها في الفصل الرابع). تبدو الإلكترونات في ضوء هذا المبدأ كأنها كائنات في غاية الانطوائية. ومبدأ باولي للاستبعاد هو المسئول عن أغلب التنافر الذي يحدث بين ذرتَين أو جُزيئين عند تقريبهما لمسافة أقل من المسافة الطبيعية المُستقرة. ومبدأ باولي للاستبعاد هو أيضًا ما يتسبَّب في قوة رد الفعل التي تمنعك من المشي خلال الأجسام الأخرى أو اختراقها. فالقوى على مستوى النانو لها تأثير يمتدُّ إلى العالم الماكروسكوبي المرئي من حولنا (بل وأبعد من ذلك.)

أكثر من مجرد نظرية

على الرغم من أن نظرية تفسير القوى بين الذرية والقوى بين الجزيئية المُوضَّحة أعلاه مُدعَّمة بأدلةٍ تجريبية تضمَّنت استخدام تجمعات هائلة من الذرات أو الجسيمات المتفاعلة (في الحالة الصلبة أو السائلة أو الغازية)، لم نتمكن من سبر هذه التفاعلات ذرةً بذرة إلا مع ظهور ميكروسكوب المسبار الماسح في بداية الثمانينيات. وقد بات ميكروسكوب المسبار الماسح الآن يُتيح لنا بصورةٍ روتينية قياسَ القوى المتبادلة بين الذرات والجزيئات ليس فقط بدقة ذرية، بل بدقة دون ذرية. لا أعني بكلمة «دون ذرية» أننا نسبر التركيب النووي للذرة — تذكَّر أننا على بُعد قِيَم أُسِّية كبيرة عن مستويات الطاقة المعتادة في القوى التي تؤثِّر على الجسيمات داخل النواة — لكني أعني أننا نستطيع أن نتبيَّن التفاوتات في القوة والطاقة في مستوياتٍ أصغر بكثيرٍ من قطر ذرة.

هذا المستوى الاستثنائي من الدقَّة الذي بات الآن مُمكنًا في ضوء أحدثِ ما توصَّلت إليه علوم النانو موضَّح في الشكل المدرَج داخل شكل ١-٣. لقد صار بالإمكان الآن سبرُ نموذج جهد لينارد جونز — وكل النماذج الأخرى لتوصيف التفاعلات بين الذرات والجزيئات بالطبع — بقُدرة على التحكُّم في المسافة بين الذرية حتى مستوى البيكومتر (١٠ −١٣   أمتار)، وهي دقةٌ تُعادل نحو واحد على مائة من قطر الذرة. وهذه القدرة على رسم خريطة للمادة ومعالجتها بهذا المستوى الاستثنائي من التفصيل باتت الآن تُستخدَم روتينيًّا في معامل علوم النانو وتكنولوجيا النانو حول العالم. وأتاح هذا رؤًى أعمق للعالم الكمومي الذي يقوم عليه جزء ضخم من تكنولوجيا النانو؛ إذ أتاح أبحاثًا كانت حتى عدة عقود مضت في عِداد «التجارب التخيلية» التي من المُستبعَد أن نتمكن من تنفيذها معمليًّا أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤