الفصل الثاني

عالَم الكمِّ محاصرًا

حتى ظهور مجهر المسبار الماسح لم يكن لدَينا تحكُّم مباشر في البِنية الذرية والجزيئية أو في التفاعلات التي تُعَد أساس العالم النانوسكوبي. وبالرغم من إمكانية استخدام تفاعلات كيميائية معقَّدة ومنمَّقة لتخليق مجموعة كبيرة من البِنى النانوية/الأجسام النانوية المُفصَّلة حسب الحاجة — ولا شك أن النانوكيد الوارد ذكرُه في الفصل الأول يُعَد استعراضًا رائعًا لقوة الكيمياء التخليقية (وسنرى قريبًا جدًّا أمثلة أخرى لإمكانيات التخليق الكيميائي المُبهرة) — وحدَه ميكروسكوب المسبار الماسح مَن يستطيع معالجة المادة بالطريقة الموضَّحة في شكل ٢-١.

يوضح ذلك الشكل بضع لقطاتٍ مما أسماه مُبتكروه أصغر فيلم في العالم، وهم فريقٌ بقيادة أندرياس هاينرخ في معامل أبحاث شركة آي بي إم في ألمادن. (هاينرخ — الذي يشغل حاليًّا منصب مدير مركز علوم النانو الكمومية (كيو إن إس) في سيول، بكوريا الجنوبية — هو مَن خَلَف دون آيجلر في منصبه في معامل ألمادن، وكان خيرَ خَلَف. فقد كان آيجلر، بمعاونة زميله إريك شفايتزر، أولَ مَن نجح في مُعالجة الذرَّات لصُنع شعار شركة آي بي إم الموضَّح في الفصل السابق.) كل نقطة مُضيئة في الأطر الموضحة أعلاه هي جزيء مفرد من أول أكسيد الكربون وُضِع في مكانه باستخدام رأس مجهر مسبار ماسح. لم تُصوَّر هذه الأطر فحسب، بل رُسِمت باستخدام مجهر المسبار الماسح، جُزَيئًا تلوَ الآخر. بثَّ فريق هاينرخ الحياة في شبيه نانوكيد، صُنِع بواسطة ميكروسكوب المسبار الماسح من خلال تقنية «الحركة المُتقطعة» التقليدية لصُنع الأفلام، وجرَت العملية في بيئةٍ فائقة التفريغ — في ضغطٍ لا يختلف كثيرًا عن الضغط في الفضاء — لضمان خلو التجربة من جميع المُلوثات المُمكنة، وفي درجة حرارة تعلو الصفر المُطلَق بنحو أربع درجات (لضمان أن الطاقة الحرارية لن تقلقل جزيئات أول أكسيد الكربون فتتحرك من مكانها).

fig4
شكل ٢-١: لقطات من فيلم «صبي مع ذرَّته»، أصغر فيديو صُنع بتقنية الحركة المُتقطعة في العالم، من تنفيذ فريق من علماء النانو في معامل أبحاث شركة آي بي إم (في ألمادن) بقيادة أندرياس هاينرخ.

ورغم أن فيلم «صبي مع ذرَّتِه» يُعَد استعراضًا مبهرًا للإمكانيات المُتطوِّرة التي أتاحها المسبار الماسح للتحكُّم في الوحدات البنائية للمادة، فإن علوم النانو تهتمُّ بالطبع بما هو أكثر من المرح والألعاب والفيديوهات الرائجة. فقُدرتنا على تصنيع بِنًى نانوية ذرةً تلوَ الأخرى باستغلال القوى بين الذرِّية (وبين الجزيئية) وتوجيهها تعني أننا نستطيع بناء حاويات للإلكترونات حسب الطلب. ولكل الأسباب التي ناقشناها في الفصل الأول، ما إن نتمكَّن من تطويق الإلكترونات وحصرها كيفما نريد، يُمكننا تحديد الخواص المطلوبة في المادة — بل وضبطها بدقَّة — على نحوٍ لم يكن من المُمكن تخيُّله قبل بزوغ فجر تكنولوجيا النانو.

إن التحكُّم في الإلكترونات بهذه الطريقة لا يُوصف بأقل من أنه تحقيق لأساسيات فيزياء الكم في المعمل. إن الحدود الفاصلة بين مجالَي تكنولوجيا الكم وتكنولوجيا النانو مبهمةٌ على نحوٍ شِبه دائم؛ فما إن نعمل في نطاق النانو، لا بد في العموم أن نأخذ في الاعتبار الطبيعة الكمومية للمادة؛ ولهذا فكثيرًا ما يمكن استخدام مُصطلَحي «نانو» و«كمومي» بالتبادل. (في الواقع يعتبر فريق هاينرخ في صدارة العامِلين على الأبحاث التي تجري على المجال الجامع بين تكنولوجيا الكم والنانو.) لكن لماذا يُوجَد هذا التداخُل الجوهري بين ميكانيكا الكم وتكنولوجيا النانو؟

تصنيع الموجات: التلاقي بين النانو وتكنولوجيا الكم

تكمُن فكرةُ أن المادة، في الظروف المناسبة، تُظهر خصائصَ موجية في جوهر ميكانيكا الكم. وليس المقصود بهذا أن المادة — سواء كانت جسيمات دون ذرية، أو ذرات، أو جزيئات، أو كرات بلياردو، أو كتبًا — هي موجات؛ كأن نقول مثلًا إن الإلكترونات نفسها تنتشِر كما تنتشر تموُّجات المياه على سطح بِركة. المقصود هو أن المادة تتصرَّف كما لو كانت موجة. ويعتمد مدى ظهور الخصائص الموجية جذريًّا على حجم الجسم. ولهذا السبب غالبًا ما تكون العلاقة بين تكنولوجيا النانو وفيزياء الكم علاقةً ترادُفية؛ فالظواهر الكمومية موجودة في كل مكان في نطاق النانو.

في قفزة هائلة للإبداع والخيال العِلمِيَّين، وضع الفيزيائي الفرنسي لويس دي بروي فرضيته (في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه التي قام بها في عام ١٩٢٤) القائلة إنه مثلما يُمكن اعتبار الضوء، الذي يسلك سلوك الموجات بوضوح، أشبه بسَيلٍ من الجُسيمات (أي الفوتونات)، كذلك يمكن للمادة، التي نتخيَّلها في المعتاد جسيماتٍ بحجم «كرات البلياردو»، أن تسلك سلوكَ الموجات. وقد كانت هذه النظرية الثورية مذهلة لبساطة المعادلة التي تحمِل اسم دي بروي، التي تُعَد من أعمدة فيزياء الكم:

في هذه المعادلة، هي الطول الموجي المُصاحب للجُسيم المادي المُحدَّد محل الدراسة، و هي ثابت بلانك — وهو عماد آخر من أعمدة ميكانيكا الكم (وسنتناوله بتفصيلٍ أكثر قريبًا جدًّا) — و هي كمية تحرُّك الجسيم. لا تسلك المادة سلوك الموجات في العالَم الماكروسكوبي من حولنا — فأنت لا تتعرَّض للحيود مثلًا عندما تمرُّ عبر الباب — لأننا ببساطة أكبر حجمًا مما يتطلَّبه ذلك. ووضع بعض الأرقام داخل معادلة دي بروي المذكورة أعلاه من شأنه أن يُبيِّن الأهمية المحورية لمسألة الحجم في عالَم الكم (وإن كان لا بد من التأكيد أن ما يلي مجرد حسبة مُرتجلة بالِغة التبسيط بغرض التوضيح فقط.)
لنأخُذ مثلًا إنسانًا متوسط الكتلة، ولتكن كتلته ٧٦ كيلوجرامًا (يتفاوت هذا الرقم نوعًا ما من دولةٍ إلى أخرى، وقد اخترت متوسط الكتلة المُعتمد في بريطانيا) يمشي بسرعة ١٫٥ متر في الثانية. كمية تحرك هذا الشخص المتوسط تساوي، ببساطة، حاصل ضرب كتلته في سرعته؛ أي إن كمية تحرُّكه تساوي ١١٤ كيلوجرامًا في الثانية. ما ينبغي إدراكه الآن هو أن ثابت بلانك رقم صغير جدًّا في الحقيقة؛ إذ يبلغ ٦٫٦٣ × ١٠ −٣٤ جول ثانية. إذا عوَّضنا بقيم و هذه في معادلة دي بروي، فسنجد أن الطول الموجي المُصاحب للإنسان العادي في منتهى الصغر: ١٠ −٣٦ أمتار. وهذا الطول أقلُّ من الطول المَوجي للضوء المرئي بنحو ٢٩ قيمة أُسِّية.
ثمَّة مقارنة مُذهلة أكثر لو تأمَّلنا التفاوت الهائل في الحجم بيننا وبين الكون المنظور. فالأخير قُطره يبلغ نحو ١٠٢٧، بينما أقف أنا حافيَ القدمَين بطول ١٫٧٨ متر؛ وهو طول متوسط بامتياز. بتعبير آخر، الاختلاف في الحجم بين الإنسان والكون المنظور بأكمله يبدو ضئيلًا مقارنةً بالاختلاف بين حجمنا وطول موجة دي بروي المصاحب لنا، الذي قيمته ١٠٣٦. وهذا هو السبب الأساسي الذي يجعل البشر لا يتصرَّفون كجُسيمات كمية؛ فنحن أكبر حجمًا مما يتطلَّبه ذلك.
غير أن العالَم صغير جدًّا في نطاق النانو بالفعل. فلنُكرر حسبتنا البسيطة على إلكترون، وكتلته ٩٫١١ × ١٠ −٣١ كيلوجرامات. ما القيمة التي سنختارها للسرعة؟ ثمة تنوُّع كبير في الإجابات عن سؤال «ما سرعة الإلكترون؟» (وهو سؤال يُشبه قليلًا النسخة الميكانيكية الكمية من سؤال «ما طول قطعة الخيط هذه؟») بحسب السياق. وسنختار سياقًا ملائمًا لنطاق اهتمامنا المنصبِّ على تكنولوجيا النانو. في عام ٢٠١٥، حدَّد فريق دولي من الباحِثين بقيادة راينهارد كينبرجر، أستاذ فيزياء الليزر والأشعة السينية بجامعة ميونيخ التقنية، سرعةَ إلكترون يتحرَّك داخل طبقة بالِغة الرقة من الماغنسيوم، سُمكها بضع ذرَّات فقط، فكانت ٥٠٠٠ كيلومتر في الثانية تقريبًا. إن أخذنا حاصل ضرب كتلة الإلكترون وسرعته، نجد أن كمية تحرُّكه صغيرة إلى حدٍّ لا يُمكن تصوُّره بالمقارنة بإنسان يتجوَّل بسرعة المشي العادية؛ إذ تبلغ ٤٫٦ × ١٠ −٢٤ كيلوجرامات في الثانية. وهذا يعني أن الطول الموجي الذي افترضه دي بروي المصاحب للإلكترون المذكور يبلغ نحو ٠٫١٤ نانومتر؛ وهي قيمة تناظر قطر ذرة. والاتساق بين طول موجة الإلكترون وقطر الذرة بالغُ الأهمية. فكما أن موجات الضوء تتعرَّض للحيود بفعل الأجسام ذات الأبعاد المقاربة لطولها الموجي (مما ينتج عنه ألوان الطيف التي تظهر على الوجه السفلي للأقراص المضغوطة على سبيل المثال)، فإن حزمةً من الإلكترونات تسقط على سطح بلورة ستتعرَّض للحيود بفعل البِنية البلورية الذرية.

كان هذا النوع من الحيود تحديدًا هو ما قدَّم الدليل التجريبي الأول والدامغ على الطبيعة الموجية للإلكترونات، والمادة بأكملها بالتبعية. وفي تجربة رائدة نفَّذها العالِمان كلينتون دافيسون وليستر جيرمر، بشركة «ويسترن إليكتريك» (التي صارت فيما بعدُ «بيل لابز») منذ قرن، تعرَّضت إلكترونات للحيود من خلال بلورة نيكل لتشكل نمط حيود على شاشة فلورية. قبل اختراع مجهر المسبار الماسح بزمنٍ طويل، كان حيود الإلكترونات يُستخدَم لتحديد طريقةِ توزيع الذرات في المادة. (هذا لا يعني أن الفحص بمجهر المسبار الماسح حلَّ محل حيود الإلكترونات. بل على العكس تمامًا؛ فالمسبار الماسح وحيود الإلكترونات يُكمِّل كلٌّ منهما الآخر لإمدادنا بالمعلومات المطلوبة عن البِنية الذرية والجزيئية والنانوية للمادة.)

قد يُزعَم أن تَكوُّن أنماط الحيود ليس دليلًا مباشرًا على وجود موجات للمادة؛ فما نراه هو قيمٌ عظمى وقِيَم صغرى تُفسَّر بأنها ناشئة عن سلوك موجي، لكن ألا يُحتمَل أن يكون مصدر النمط شيئًا آخر؟ ثمَّة أسباب عديدة تجعلنا نُفسِّر منشأ نمط الحيود بأنه من تداخُل الموجات، لكن أبرز الأدلة على الخواص الموجية للمادة تأتي مُجددًا من الفحص بمجهر المسبار الماسح. لنلقي نظرةً عن كثبٍ على تلك اللقطات من فيلم «صبي مع ذرَّته». لاحظ كيف أن ترتيب ذرات أول أكسيد الكربون في كل لقطة محاطٌ بنمط من التموجات؛ حيث يصوِّر ميكروسكوب المسبار تداخل الموجات الإلكترونية. لقد صار بإمكاننا أن نرى السلوك الموجي للمادة أمام أعيُننا على شاشة كمبيوتر.

الأفضل من ذلك أن مجهر المسبار الماسح يُتيح لنا إنشاء حاويات للموجات الإلكترونية. فالذرَّات والجزيئات يمكن ترتيبها حسب الرغبة (فلا تخضع لأي قيود إلا من القوى بين الذرية والقوى بين الجزيئية على سطح العينة) بحيث تعكس الموجات وتُقيِّدها في حيزٍ مكاني معين. والمثال الأيقوني على هذا النوع من التقييد هو السياج الكمومي الموضَّح في شكل ٢-٢؛ حيث بُنيت حلقة ذات أبعاد نانوية من الذرات لحبس الإلكترونات داخلها. وكما كانت الحال مع شعار شركة آي بي إم في الفصل الأول، شيَّدت مجموعة دون آيجلر هذا السياج في معامل آي بي إم البحثية في ألمادن (إلا أن العمل هذه المرة كان بقيادة مايك كرومي، ويعمل الآن في جامعة بيركلي، وفيه استُخدِمت ذرات حديد على النحاس بدلًا من الزينون على النيكل.) وقد أُدرِجت أيضًا صورةٌ للموجات الموقوفة التي تتكوَّن عند هزِّ كوب القهوة برفقٍ على سبيل المقارنة. ربما تكون قد شاهدت هذا النمط المُميز الذي يتكوَّن من دوائر متَّحدة المركز يتكوَّن في كوب القهوة أو الشاي الخاص بك بينما تنتظر مغادرة القطار المحطةَ. فاهتزازات عربة القطار تنتقِل إلى السائل مما يتسبَّب في اهتزازه بالتبعية، ويُشكِّل تأرجُح السائل ذهابًا وإيابًا موجةً موقوفة؛ لأن القهوة «محبوسة» داخل الكوب.
fig5
شكل ٢-٢: على اليسار: سياج كمومي يتكوَّن من ٤٨ ذرة حديد على سطح بلورة من النحاس، وُضِعت كلٌّ منها في مكانها باستخدام رأس ميكروسكوب ماسح نافذ. يبلُغ قطر هذا السياج نحو ١٠ نانومترات، وقد صنعه مايك كرومي وزملاؤه في معامل أبحاث آي بي إم عام ١٩٩٣. ويمكن رؤية أدلة دامغة على وجود الخصائص الموجية للمادة في النطاق النانوي داخل هذه الحلقة من ذرَّات الحديد. على اليمين: موجة موقوفة تكوَّنت داخل كوب قهوة يتعرَّض للاهتزاز. النمط المتكون على سطح القهوة مطابق رياضيًّا للنمط المتكون داخل السياج الكمومي.

يمكننا أن نرى من نواحٍ عديدة أن الفيزياء التي ينشأ عنها النمط داخل السياج الكمومي مُشابهة جدًّا لذلك. فالموجات الإلكترونية تنعكس من سياج الذرات المحيط بها، وترتد جيئةً وذهابًا، وتتداخل مكوِّنة نمط الموجات الموقوفة الذي نراه داخل السياج. ويظل النمط واحدًا تمامًا، برغم الفارق الهائل في نطاق الأطوال (النانومتر في مقابل السنتيمتر)، ودرجات الحرارة (٤ كلفنات في مقابل درجة حرارة الغرفة، أي حوالي ٣٠٠ كلفن)، والضغط (بيئة فائقة التفريغ في مقابل الغلاف الجوي)، والمادة (النحاس الصلب في مقابل القهوة السائلة). (بل إنه النوع نفسه من الأنماط رياضيًّا؛ ويُعرف باسم دالة بيسيل.) ومن الجدير بالملاحظة هنا أن العامل المشترك الوحيد بين القهوة داخل كوبها والإلكترونات داخل سياجها هو التماثل في الحيز الذي يطوقهما؛ إذ يتخذ شكل دائرة في كلتا الحالتين.

بالرغم من التماثل الرياضي، فإن الموجة الموقوفة داخل السياج الكمومي لها شكل مختلف تمامًا عن نظيرتها الماكروسكوبية في كوب القهوة. ففي كوب القهوة، تُنتِج حركة السائل موجاتٍ حقيقية ملموسة. أما على المستوى الكمومي، فإن النمط المُتكوِّن داخل السياج هو نمط الموجة «الاحتمالية». فالقمم والقيعان، على الترتيب، تُمثل مناطقَ ذات احتمالية مرتفعة ومناطق ذات احتمالية مُنخفضة لإيجاد إلكترونات. والمجهر النافذ الماسح حسَّاس إلى حدٍّ مُذهل لوجود الإلكترونات أو غيابها تحت الرأس؛ لذلك يُمكنه أن يرصد التفاوت في الاحتمالية — أو الكثافة الاحتمالية — لا على مستوى الذرَّات فحسب، بل بتبايُن أصغر بكثيرٍ من حجم الذرة. وعلى عكس القهوة، يكون النمط المرصود داخل السياج الكمومي نمطًا ثابتًا؛ أي موجة مُتجمِّدة في الزمن لا تتغير. وفوق ذلك، ومع كل ذاك الحديث عن سمات النصوص العلمية المبسطة لفيزياء الكم من عدم اليقين والعشوائية وعدم القابلية للتنبُّؤ، فإن هذا النمط يُعبِّر عن تفاوتٍ احتمالي يمكن التنبُّؤ به بنجاح تام.

وكما قد تتصوَّر، إذا غيَّرنا شكل الحاوية، فإن النمط الذي تُكوِّنه الإلكترونات المحبوسة سيتغيَّر ليعبِّر عن التماثُل الجديد. ولكن ما قد يكون أهم من ذلك أن «طاقات» الإلكترونات تعتمد على شكلٍ وحجم البنية النانوية التي تحتويها. ولعل أفضل طريقةٍ لفهم ذلك هي من خلال تأمُّل المقابلات بين النطاق النانوي والعالم الماكروسكوبي مرة أخرى. فميكانيكا الكم في جوهرها نظريةٌ تتناول الموجات. ولذلك، فإن الكثير مما نفهمه عن الظواهر الموجية في العالم من حولنا يمكن تقليصه ليُساعدنا في تفسير سلوك المادة في نطاق النانو. وقد رأينا هذا بالفعل في الموجات داخل كوب القهوة. لنأخُذ الآن مثالًا أبسط، ألا وهو وتر الجيتار.

عندما ننقُر وترًا من أوتار الجيتار، فإننا نُثير موجاتٍ تظل قممها وقيعانها على موضعها على امتداد طول الوتر (وموضح مثال على هذا شكل ٢-٣)؛ وتُسمى هذه الموجات بالموجات الموقوفة، وتختلف عن الموجات المرتحلة، وهي النسخة الأحادية الأبعاد المُماثلة للموجات الموقوفة الثنائية الأبعاد التي رأيناها في السياج الكمومي وكوب القهوة في شكل ٢-٢. يأتي صوت الجيتار المُميز من مزيج من الموجات الموقوفة (أو النغمات التوافقية) العديدة؛ حيث يمكن أن يتردَّد صداه. ويُعزى اختلاف نفس النغمة، ولتكن مثلًا نغمة «دو الوسطى»، على الجيتار عنها في البيانو والكمان، أو أي آلة وترية أخرى تُفضِّلها، إلى أن كلَّ آلة لها مزيجها المُميز من النغمات التوافقية. فجرس ونغمة أي موسيقى — بل وأي صوت — يعتمد كليًّا على توليفات النغمات التوافقية.

الموجات والدوال الموجية في نطاق النانو

ما علاقة كل هذا بتكنولوجيا النانو وفيزياء الكم؟ له علاقة كبيرة. فمثلما ترتفع حدَّة النغمة الناتجة عن وتر الجيتار عند تقصير طول الوتر، تتغير طاقة الإلكترونات أيضًا بتقييد الموجات المُصاحبة لها في حيزٍ مكاني أصغر. فكلما قصر طول الوتر المُتذبذب، ارتفعت حدة الصوت؛ وكلما صغرت البنية النانوية، زادت طاقة الإلكترون. وباستخدام ميكروسكوب أنبوبي ماسح، يُمكننا بناء «أوتار» نانوية الأبعاد لتقييد الموجات الإلكترونية داخلها والتحكُّم في طاقتها بالتبعية. إلى جانب أن طاقة الإلكترون تكون مُنفصلة؛ أي مُكمَّاة، كما يحدث في الذرَّات، مع الفارق أن البنية النانوية يُمكنها بسهولة أن تحوي عشرات أو مئات أو حتى آلاف الذرات. وبالرغم من أن الجدول الدوري يُقدم لنا مجموعةً كبيرة من الذرات المختلفة للاختيار من بينها، فإن طاقات الإلكترونات في كلٍّ منها تكون ثابتةً بفعل الجهد الذي تُحدِّده النواة الذرية. لكن على العكس، تُتيح لنا تكنولوجيا النانو بناء «ذرات اصطناعية»؛ وهي بنًى نانوية ذات مستويات طاقة إلكترونية مُنفصلة قابلة للتوليف والضبط. تُعرف هذه الذرات الاصطناعية بأسماء مُتنوِّعة أيضًا، مثل النقاط الكمومية، والعناقيد النانوية، والجسيمات النانوية، والبلورات النانوية، ويمكن أن تُستخدَم لتشكيل بنًى وأجهزة ومواد حسب الطلب، باستخدام طريقة التصميم من أسفل لأعلى.

fig6
شكل ٢-٣: ثمة تَشابُهات كبيرة جدًّا بين الموجات الموقوفة التي تتكوَّن على أوتار الجيتار والموجات الاحتمالية المُصاحبة للإلكترونات في البِنى النانوية. الصور على اليمين في كل حالة توضح سلسلة (أو وترًا) من ٣٠ ذرة إنديوم، أُنشِئت باستخدام المجهر النافذ الماسح.
ثمة مثال رائع للغاية على هذا موضح في شكل ٢-٣، وهو مأخوذ من مجموعة أعمال ستيفان فولش البحثية في معهد باول-دروده لإلكترونيات الجوامد في برلين. صنع فريق فولش «وترًا» أحاديَّ الأبعاد من ذرات الإنديوم، ثم رصدوا الموجات الاحتمالية للإلكترونات المحبوسة باستخدام المجهر النافذ الماسح نفسه الذي صنع هذه البنية النانوية. يتراكب على هذا الوتر الذري المُوضَّح في شكل ٢-٣ قيمٌ مُتباينة للتوصيلية على امتداد طول الوتر؛ والتوصيلية هي تدفُّق الإلكترونات بين رأس المجهر النافذ الماسح والسلسلة. تتناسب التوصيلية طرديًّا مع الكثافة الاحتمالية؛ فكلما كانت منطقةٌ ما أكثرَ سطوعًا، زادت احتمالية إيجاد إلكترون فيها. يتطابق هذا النمط المُكوَّن من قِمَم وقيعان (أو عُقَد وبطون بلغة الموجات) على الوتر النانوي الموضَّح في شكل ٢-٣، مع النمط الذي نجده في أنساق الذبذبة العديدة (وتُعرف أيضًا بتردُّدات الرنين، أو النغمات التوافُقية، أو الأنساق الطبيعية للذبذبة)، التي تتكوَّن في وتر ماكروسكوبي مثبَّت من كِلا طرفيه. بعبارة أخرى، تُشاهَد نفس أنماط الموجات الموقوفة في المستوى الكمومي التي تُشاهَد في وتر جيتار مُتذبذب، وهذا دليل مباشر بصري ومحسوس لا على الطبيعة الموجية للمادة فحسب، بل أيضًا على الفاعلية الملحوظة للفيزياء الرياضية في توصيف أنظمة مُتباينة كهذه تقع في نطاقات شديدة التفاوت من الأطوال.
رغم وجود أوجه تشابُهٍ كثيرة جدًّا بين فيزياء وتر الجيتار وفيزياء الوتر النانوي؛ فهناك فارق أساسي بينهما هو ما يتسبَّب في قدْر كبير من «الغرابة» التي تُحيط بعالم الكم. فالموجات الإلكترونية على الوتر النانوي توَصَّف من خلالِ ما يُعرف في ميكانيكا الكم ﺑ «الدوال الموجية». ورغم الأهمية المحورية للدوال الموجية في ميكانيكا الكم، فإنها ليست بالشيء الذي يمكن رصده مباشرةً في أي تجربة. والسبب الأساسي لهذا هو احتواؤها على أعداد مُركَّبة، وهي أعداد تشمل الكمية التخيلية . نحن نكتب العدد المُركَّب على الصورة ؛ حيث و كلاهما عدد حقيقي. والجَذر التربيعي لعدد سالب ليس شيئًا يمكن قياسه في تجربة؛ فهو ليس عددًا حقيقيًّا. لكن يُمكننا أن نقيس الكمية ، حيث تُسمَّى «المُرافق المُركَّب» للعدد . إذا أخذنا حاصل ضرب عدد مركَّب، قيمة مركَّبة، مع مُرافقِه، فإننا بذلك نتخلص من العدد التخيلي، أي . بعبارة أخرى، عدد حقيقي؛ ولذا يمكن قياسه.
غير أن الدالة الموجية ليست مجرد عددٍ مركَّب؛ بل دالة من أعداد مركَّبة، أو دالة مركَّبة على سبيل الاختصار. الدالة الموجية نفسها، التي يُعبَّر عنها عادةً بالرمز الإغريقي أو «بساي»، ليست شيئًا يمكن رصدُه مباشرة في التجارب (لأنها دالة مركَّبة). لكن حاصل ضرب مع مرافقها المركَّب، أي ، يشكل دالة حقيقية — حقيقية بالمعنى الرياضي — ويُمكننا بالفعل رصدها تجريبيًّا. تصف هذه الدالة كيف تتغير احتمالية إيجاد جُسيم كموميٍّ ما — الإلكترون في حالتنا — في الزمان والمكان. ومن الجدير بالملاحظة أن المجهر النافذ الماسح يُمكنه تصوير هذه الخرائط الاحتمالية مباشرة. وهذه الآلية تنتج صورًا للدالة الحقيقية — التي تُعرف أيضًا بالكثافة الاحتمالية — وهذا ما نراه في الشكلَين ٢-٢ و٢-٣. (ثمة بعض التحفُّظات والاعتبارات الدقيقة في هذا المقام بخصوص دور رأس المجهر النافذ الماسح نفسه على سبيل المثال، لكن الشكلَين ٢-٢ و٢-٣ يُصوِّران توزيع الكثافة الاحتمالية بدرجةٍ جيدة جدًّا من التقريب.)

أظهرت تجربة فولش وآخرين (وتجارب مُماثلة سبقتها أجرتْها مجموعات أخرى تستخدم المجهر النافذ الماسح، ومنها على وجه الخصوص تجربة ويلسون وزملائه في جامعة كاليفورنيا بإيرفين) أن تغيير حجم الوتر الكمومي، ولو بإضافة أو إزالة ذرة واحدة، يُقيد الدالة الموجية الإلكترونية في حيزٍ مكاني أكبر أو أصغر. وقد طُبِّق هذا على بِنية نانوية أُحادية الأبعاد في هذه الحالة (الوتر)، لكن يُمكن بالسهولة ذاتها تطبيقه على بِنية ثنائية الأبعاد (السياج الكمومي)، أو جسم نانوي ثلاثي الأبعاد كما سنرى بعد قليل. وكلما قُيِّد الإلكترون أكثر؛ أي صغر الحيز المكاني الذي يُمكنه الحركة فيه بحُرِّية، زادت طاقته الحركية.

يمكن تفسير هذا أيضًا من خلال مبدأ الشك أو اللايقين الشهير لهايزنبرج أيضًا. إن تقييد الإلكترون في حيزٍ أضيق يعني أن موجته الاحتمالية أصبحت أقلَّ تمدُّدًا في المكان. بتعبيرٍ آخر، صارت القِيَم المُمكنة لموضع الإلكترون أقلَّ نسبيًّا، مما يعني أن النطاق المُمكن لقِيَم كمية تحرُّك هذا الإلكترون ارتفع بقدْر مُماثل، وفقًا لمبدأ هايزنبرج. وهذا الارتفاع في قِيَم كمية التحرك يُقابله ارتفاع في طاقة الإلكترون بدَورها. (يشار إلى أن هذا النوع من الشك أو عدم اليقين هو خاصية أساسية من خواص الموجات أيًّا كان وصفها وأيًّا كانت أبعادها، وليس مجرد نتيجة لعملية القياس. في غالب الأحيان يُختزل مبدأ الشك لهايزنبرج خطأً في وصف مبسط بأن «القياس يُسبب اضطرابًا في النظام». وتلك المُعضلة، المعروفة بمعضلة القياس، هي بلا شك جانبٌ جوهري من ميكانيكا الكم، لكنها مُختلفة تمامًا عن مبدأ عدم الشك لهايزنبرج.)

إن مستوى التحكم الذي بات متاحًا لنا الآن ليس على مستوى النانو ولا الذرات فحسب، بل على مستوى الروابط الكيميائية المفردة حتى، وهو مستوًى مُدهش من التحكم. يُمكننا باستخدام ميكروسكوب ماسح تشييد بنًى نانوية ذرةً بذرَّة، و«ضبط» طاقات الإلكترونات التي نحتاج إليها ببساطة من خلال التحكُّم في حجم البنية. وكما أوضحنا في الفصل الأول، بمجرد أن نتمكن من التحكم في مواضع الإلكترونات وطاقاتها، يُمكننا تحديد وتوليف أي خاصية نريدها في المادة. أو كما فعل فريق ميشيل سيمونز بجامعة نيو ساوث ويلز، الذي كان له السبق في ذلك وكان أداؤه مميزًا ودقيقًا (وسنتحدَّث عنهم أكثر في الفصل الرابع)، يُمكننا استخدام ميكروسكوب المسبار الماسح لبناء أجهزة إلكترونية نانوية قادرة على العمل ذات دقَّةٍ ذرية، أو لتصنيع ترانزستورات تتكوَّن من ذرة واحدة، أو استكشافُ ما إذا كان قانون أوم يعمل حتى مستوى الذرات (وتبين أن هذا صحيح)، وتعيين الموضع الدقيق للذرات الشائبة المُنفردة في شِبه مُوصل للتحكُّم في توصيله الكهربي. لكن ثمة مشكلة كبيرة تتعلق بالقُدرة المُنقطعة النظير لميكروسكوب المسبار الماسح على تصوير العالَم المُتناهي الصغر والتحكم فيه؛ إذ يتَّسِم بالبطء الشديد في ذلك.

من التوالي إلى التوازي

صُنِّعت البِنى النانوية لتقييد الإلكترونات التي تناولناها حتى الآن في بيئاتٍ، أفضلُ ما توصف به أنها استثنائية؛ فقد صُنِّعت في درجات حرارةٍ لا تعلو الصفر المُطلق بأكثر من بضع درجات، وتحت ضغطٍ بالِغ التفريغ، وباستخدام عينات أُعِدَّ سطحها بحيث يخلو خلوًّا شبه تامٍّ من المُلوِّثات حتى المستوى الذري. ومثل هذه الأنواع من القيود تجعل تحوُّل النماذج الأولية للأجهزة النانوية إلى بيئاتٍ أقلَّ تساهُلًا في الحياة اليومية مسألةً في غاية الصعوبة؛ فلا أحد يودُّ أن يُضطَرَّ إلى تبريد هاتفه المحمول أو حاسوبه المحمول أو جهازه اللوحي إلى أربع درجات فوق الصفر المُطلق ليبدأ في العمل.

ولا تقلُّ مسألة زمن التصنيع إشكالًا. وثمة حسبة تقديرية بسيطة سريعة أخرى تُبرِز كم أن السرعة المحدودة للتقنية التي يقوم عليها ميكروسكوب المسبار الماسح الذي نستخدمه اليوم، لا سيما عندما يتعلق الأمر برصد الذرَّات ووضعها في مكانها ذرةً تلوَ الأخرى، تقف عائقًا أمام إنتاج الأجهزة على نطاقٍ واسع ومكثف. لنأخذ تقديرًا تقريبيًّا مُتفائلًا لتقدير الوقت المطلوب لتنفيذ كل عملية مُعالجة للذرات؛ ولنختَر مثلًا ثانيةً لكل ذرة. يُوجَد نحو ١٠١٤ ذرات في كل سنتيمتر مُربع على سطح بلورة السليكون. (تختلف كثافات الذرات على سطح المواد الأخرى بعض الشيء، لكنها تقع ما بين ١٠ −١٣ إلى ١٠ −١٥ سنتيمترات مربعة.) ولذلك، سيستغرق ميكروسكوب المسبار الماسح زمنًا في حدود ١٠١٤ ثوانٍ لتجميع طبقةٍ واحدة من الذرَّات مساحتها سنتيمتر مُربع واحد، إن أمسكنا بكل ذرة ووضعناها في مكانها. وهذا زمن طويل. بل طويل جدًّا.
إن تاريخ البشرية المُدوَّن بأكملِه تبلغ مُدته نحو ٥٠٠٠ عام، أي نحو ١٫٦×١٠١١ ثوانٍ. بعبارة أخرى، سيستغرق ميكروسكوب مسبار ماسح يعمل بكامل طاقته ٢٤ ساعة في اليوم و٣٦٥ يومًا وربع اليوم في العام — بتموضعٍ ذي دقَّةٍ ممتازة ومن دون أخطاء للذرات ذرةً بذرة — أي نحو ألف ضعف التاريخ المُدوَّن بأكمله لتصنيع طبقةٍ واحدة من الذرات. وحتى إن كان لنا أن نشهد زيادةً في سرعة هذه التقنية مليون مرة بحيث يستغرق الأمر ميكروثانية واحدة لوضع ذرةٍ واحدة في مكانها، تظل العملية بأكملها تستغرق ١٠٨ ثوانٍ. وهذا يعني أن الأمر يستغرق أكثر من ثلاث سنوات لتصنيع طبقة واحدة من الذرات في حجم طابع البريد؛ وهذا ليس بعرضٍ مُشجِّع يناسب تكنولوجيا تصنيعية قابلة للتطبيق.

غير أن علوم النانو ليست كلها تحتاج إلى هذه الظروف الصارمة وغير العملية لتنفيذها. فالطبيعة تستطيع تجميعَ عددٍ لا يُحصى من البلورات يحمل كلٌّ منها مئات الملايين من طبقات الذرات في إطارٍ زمني يبلغ دقائق أو أقل، دون الحاجة إلى قوة خارجية مثل ميكروسكوب المسبار الماسح لتوجيه كل ذرةٍ أو جزيء إلى مكانه مباشرة. لكنها بدلًا من ذلك تستخدِم القوى بين الذرية (أو بين الجزيئية أو كليهما معًا) التي تناولناها في الفصل الأول لتجميع الذرات أو الجزيئات المكونة للبلورات، بالطريقة المُلائِمة تمامًا لتقليل الطاقة الكلية إلى أدنى حدٍّ، في عمليةٍ تُعرَف بالتجميع الذاتي. تلعب الإنتروبيا، التي ترتبط بالعدد الكُلي لكل التشكيلات الذرية أو الجزيئية المُمكنة، دورًا كبيرًا أيضًا في عملية التجميع الذاتي التي سنتناولها أكثر في الفصل القادم.

لقد رأينا بالفعل أن التخليق الكيميائي الذي يشتمل على تفاعُلات في الطور السائل في بيئة عينة أبسطُ كثيرًا من ذلك (أي في أنابيب اختبار وكئوس زجاجية) يمكن استغلالها في إنتاج بِنًى نانوية مثل النانوكيد بمستوى تحكُّم استثنائي في بِنيتها الذرية. وهذه هي عملية التجميع الذاتي في إطارها العملي. فبدلًا من تحريك الذرات والجزيئات ببطءٍ لا يُطاق من خلال «القوة العشوائية» لمجهر المسبار الماسح، تُستغل القوى بين الذرية والقوى بين الجزيئية — وتُولَّف من خلال تعديلات كيميائية دقيقة (أو غير دقيقة في بعض الأحيان) — لتجميع البِنى النانوية والماكروية. وكما سنرى في الفصل المُقبل أيضًا، يمكن استخدام التجميع الذاتي لإنتاج تشكيلةٍ مُذهلة من البِنى النانوية المتفاوتة في الحجم والشكل والتماثل، يرتبط شكلها جوهريًّا بوظيفتها.

وما النانوكيد إلا مثال حديث جدًّا على قوة تأثير التخليق الكيميائي، في الطور السائل، والتجميع الذاتي في تكنولوجيا النانو. فمنذ ما يقرُب من ٢٠٠ عام، كان مايكل فاراداي، الذي يمكن وصفه بأنه أول مَن تَخصَّص في علوم النانو — أول من درسوا جسيمات الذهب النانوية. (غير أن فاراداي لم يستخدِم هذا المصطلح لتوصيف الجسيمات التي خلَّقها ودرسها، وبلا مبالاة عزا التأثيرات الملحوظة التي رصدها إلى «مجرد تبايُن في حجم الجسيمات».) لكن قبل ٣٠٠ عام من تجارب فاراداي، كان حرفيو الخزف في عصر النهضة في إيطاليا (وأماكن أخرى) يستفيدون من الجسيمات النانوية بغير علم لإنتاج طلاءات زجاجية ملوَّنة لتلميع الخزف. وقبل ذلك بألفي عام، تحديدًا في عام ٨٠٠ قبل الميلاد، كانت البِنية النانوية هي المسئول الأساسي عن اللون البنفسجي للمشغولات العاجية المصرية المَطلية بالذهب دون دراية من صُنَّاعها بذلك. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار تكنولوجيا النانو قديمةً قِدمَ العلم نفسه.

كل ذلك البريق …

لقد استغرقت هذا الصيف في دراسة الذهب؛ فلم أجد نفسي مُهيَّأً للعمل على مسائلَ أصعب وأقوى من ذلك. كان العمل في نِتاجه كقصة الجبل والفأر، يحوي عناصر في غاية الأهمية وأخرى أقل أهمية، وإن نشرتُه يومًا ووقع عليه ناظراك، يُمكنني القول إنك ستتَّفق معي: شفافية الذهب، وكيفية انقسامه إلى جزيئات، وتأثيره على الضوء.

الاقتباس أعلاه مأخوذٌ من خطابٍ أرسله فاراداي إلى صديقه، الكيميائي الألماني كريستيان فريدريك شونباين، في بداية عام ١٨٥٦ ويتميز بما فيه من تواضُع. من الواضح أن فاراداي قد ظلَم نفسه كثيرًا، بالنظر إلى أن هذا العمل الذي يتحدَّث عنه لم يكن دراسةً رائدة لطريقة تفاعل الضوء مع المواد ذات التركيب النانوي فحسب، بل شمل أيضًا تخليق جسيماتٍ نانوية تخليقًا موجهًا محكومًا لأول مرة. وبالرغم من أن مايكل فاراداي يشتهر أكثرَ بعمله الرائد في الكهرباء والمغناطيسية، فهو في حقيقة الأمر مؤسِّس مجال الكيمياء الغروية بأكمله — ومن ثَم فهو من أرسى أُسسَ كيمياء النانو — بينما كان يدرُس الخواص البصرية لمعلقات جسيمات الذهب دون الميكروسكوبية في الماء.

باتت الوسائل التي استخدمها فاراداي، أو النسخ المُعدَّلة منها، الآن منهجًا قياسيًّا معتمدًا لتصنيع جسيمات الذهب النانوية، وهي سهلة بما يكفي؛ حتى إن أيَّ فيزيائي ضعيف في الكيمياء مِثلي يُمكنه تنفيذ خطوات تركيبها. ففي سبيل إنتاج جسيمات نانوية، صنع فاراداي محلولًا مُعلقًا غرويًّا، ينتج عن تبدُّد مادة في طورٍ ما وتحلُّلها داخل مادة أخرى في طور مختلف، وهذه المادة في حالتنا هي جسيمات الذهب الصلبة (العديمة الذوبان) التي تتكتَّل في الماء. يمكن تكوين هذا النوع من معلق الذهب الغروي بمزج مركبات كيميائية عادية جاهزة متاحة للشراء — مثل كلوريد الذهب، وهيدروكسيد الصوديوم، وحمض الستريك — ولذا يمكن لطلبة الثانوية تصنيعه. ومما يُميز عملية التصنيع هذه استقرار المعلق الغروي الناتج وطول مدة بقائه. فقد يستغرق الأمر سنواتٍ عديدة حتى تبدأ جسيمات الذهب في التكتُّل بعضها مع بعض لتترسَّب وتنفصل عن المحلول؛ لأن شحنة كل جسيم من هذه الجسيمات تتسبَّب في استقرار المحلول الغروي وتمنع الجسيمات النانوية من الاقتراب الشديد بعضها من بعض. ولدَينا في ثلاجةٍ في أحد معاملنا بضع حاويات تحتوي على معلقات من جسيمات الذهب النانوية صنعها طلابٌ في الثانوية المتقدمة خلال المدرسة الصيفية منذ أكثر من عقد، وما زال شكلها كما كان يوم أن صنعوها ولم يتغير. وما يُثير الإعجاب أكثر أن أحد معلقات الجسيمات النانوية الأصلية التي صنعها فاراداي، وعمرها الآن ١٨٠ عامًا، محفوظة في المعهد الملكي في لندن، وما زالت محتفظة بحُمرتها التي تُشبه حمرة الياقوت رغم مرور نحو قرنَين.

حُمرة الياقوت؟ ألا ينبغي أن يكون لون الذهب ذهبيًّا؟ كلَّا، ليس في العالم النانوي. عندما يختزل حجم الذهب من بلورةٍ كبيرة الحجم إلى بلورات نانوية عرضها بضعة نانومترات (أو بضع عشرات من النانومترات)، فإنه يفقد لونه وبريقه المُميَّزين ويُصبح أحمر داكنًا بدلًا من ذلك. وهذا التغيير الجذري في اللون، وتبعات هذا على تفاعل الضوء مع المادة «الدقيقة الحبيبات»، هو ما أبهر فاراداي. لكن لم يتسنَّ تفسير الفيزياء الكامنة وراء لُغز الألوان هذا تفسيرًا كاملًا إلا مع ظهور فيزياء الكم في بدايات القرن العشرين. ومرة أخرى، كانت الخصائص المَوجية للمادة هي المسئولة عن التغير الجذري في لون الذهب.

لذلك كنتُ حتى الآن أتجاوز الحديث عن جانبٍ مهمٍّ من جوانب الموجات التي رأيناها داخل السياج الكمومي في شكل ٢-٢؛ وهو أن هذه الأنماط المُتكوِّنة لن تتكوَّن على أي سطح هكذا. فقد انتقى كرومي وزملاؤه سطحَ النحاس بالذات بعناية؛ لأن الإلكترونات هناك تتجوَّل بحُرية في الواقع. وفي غياب أي قيود، كحلقة ذرات الحديد التي تُكوِّن السياج، أو الذرات أو الجزيئات الشائبة، أو عيوب في البلورة، سيكون بإمكانها أن تتحرَّك عبْر البلورة بأكملها بلا عائق إلى حدٍّ كبير. وبسبب هذه الحرية في حركة الإلكترونات، يُعبِّر الفيزيائيون عن هذا النظام باسم «غاز الإلكترونات الحر» (أو «غاز فيرمي الحر»؛ تكريمًا للفيزيائي الذي أسهم بالكثير والكثير في فهمنا لسلوك المادة). ويعتبر غاز الإلكترونات — ويشار إليه أحيانًا ﺑ «بحر الإلكترونات» أيضًا — سِمةً في الكثير من البلورات الفلزية؛ منها النحاس والذهب.
إن حرية الإلكترونات في التجول عبر بلورة الذهب تعني أن الإلكترونات تستجيب بصورةٍ جماعية لأي اضطراب أو استثارة، كموجة مغناطيسية مثلًا؛ أي ضوء مرئي. فإذا سلَّطت ضوءًا على كتلة ماكروسكوبية من الذهب (أو النحاس أو الفضة وما إلى ذلك)، تتأرجح الإلكترونات جيئةً وذهابًا في حركةٍ مُتزامنة بفعل المجال الكهربائي السريع التذبذُب للضوء. وفوق ذلك، يُصاحب هذا «التأرجح» مستويات طاقة منفصلة، تمامًا كما هي الحال مع مستويات الطاقة المُكمَّاة لإلكترونٍ مُقيد في وتر نانوي. والمصطلح المُستخدَم للتعبير عن هذا التذبذُب المُكمَّى هو البلازمون. وإن كان تردُّد الضوء الساقط (الذي يرتبط بطوله الموجي ، من خلال العلاقة ، حيث هي سرعة الضوء) قريبًا من معدَّل تذبذب الإلكترونات، فإننا نحصل على ما يُعرف ﺑ «الرنين البلازموني».

والرنين ظاهرة تَلوح باستمرار عبر كلِّ مجالات العلوم والهندسة، بغضِّ النظر عن نوع النظام أو النطاق الكمومي. فكئوس النبيذ تُصدِر رنينًا عند نفس درجة الصوت لنغمة موسيقية مُعينة (حتى تصل إلى حدِّ الانفجار)، والجسور تتداعى لأن تردُّد رنينها يتوافق مع تردُّد القوة الدافعة المؤثِّرة عليها (سواء كانت هذه القوة هي قوة الرياح أو قوة خطوات أقدام متزامنة)، والأرجوحة ترتفع بالأطفال أعلى وأعلى حين تُضخ الطاقة الممنوحة للأرجوحة بالمعدل المطلوب (لكن دون انفجار ولا تداعٍ هذه المرة كما نأمل)؛ وكل هذه الأمثلة أنظمة رنين تُبدي أعلى استجابةً لها عند تردُّدٍ معين. وتتعرَّض الإلكترونات في جسيمات الذهب النانوية للرنين على النحو ذاته عند وصول القوة الدافعة إلى التردُّد المضبوط. ومرةً أخرى، يمكن ضبط الرنين البلازموني ببساطةٍ من خلال تغيير حجم البنية النانوية، مع العلم بأن البنية في هذه الحالة جسيمات نانوية ثلاثية الأبعاد وليس سياجًا كموميًّا ثنائيَّ الأبعاد أو وترًا أحاديَّ الأبعاد. فالإلكترونات تُقيَّد كلما صارت الجسيمات النانوية أصغر، مما يُقلِّل الحيز الذي يُمكنها أن تتذبذب فيه ويرفع تردُّد الرنين.

يرتبط لون الذهب ارتباطًا مباشرًا بتردُّد الرنين البلازموني. فهذا التردُّد يُحدِّد الطول الموجي للضوء الذي سيُمتص بقوة أكبر. على سبيل المثال، عندما يكون عرض الجسيمات النانوية للذهب ٣٠ نانومترًا، يؤدي الرنين البلازموني إلى تعزيز امتصاص الضوء في نطاق اللونَين الأزرق والأخضر للطَّيف المرئي؛ حيث يكون أقصى امتصاص عند طول موجي يُقارب ٤٥٠ نانومترًا. وبدلًا من ذلك ينعكس الضوء الأحمر، الذي يتميز بطولٍ موجيٍّ أقل بكثير (في حدود ٦٥٠–٧٠٠ نانومتر)، مما يُفضي إلى لون حمرة الياقوت المُميز هذا الذي أذهل فاراداي يومًا، والذي يعكس الخصائص شِبه الموجية للمادة في المستويات الكمومية والنانوية.

إن هذا الاعتماد على الحجم لا يظهر من خلال الرنين البلازموني للجسيمات النانوية فحسب؛ فكقاعدة عامة، كلما صغرت الأجسام، زاد التردُّد الذي يحدث عنده الرنين. جرِّب أن تضرب بقوة على مسطرةٍ مُثبَّتة عند حافة منضدة أو مكتب، وكما نعلم تعتمد حدَّة النغمة الناتجة على طول الجزء الحُر الذي يهتز. فكلما صغر الجزء المُعلَّق في الهواء من المسطرة، ارتفع تردُّد الاهتزاز. ومع الاستمرار في تصغير حجم الجسم إلى الأبعاد النانوية، لن يكون تردُّد رنينه الميكانيكي في حدود عشرات من الهرتز كالمسطرة المهتزة، ولا مئات من الهرتز كتردُّد رنين كأس النبيذ أو الشوكة الرنانة، بل سيكون في عداد الملايين من الهرتز (ميجاهرتز) أو أكثر. وهذا المستوى من التردُّدات يرتبط أكثر في المعتاد بحيزٍ مختلف عن حيِّز الضوء المرئي في الطيف الكهرومغناطيسي، ألا وهو موجات الراديو. والجدير بالملاحظة هنا أن الأجسام النانوية يُمكنها أن تتذبذب ميكانيكيًّا بمعدَّلات مرتفعة نسبيًّا عن معدلات تذبذب المجال الكهربي لموجات الراديو.

في عام ٢٠١٩، تمكَّن العلماء في جامعة لانكستر وجامعة أكسفورد من إجراء قياسٍ مباشر للتذبذُب الميكانيكي لأنبوب كربون نانوي لا يتجاوز قطره ٣ نانومترات معلَّق بين وصلتَين معدنيتَين. بعبارة أخرى، لقد قاموا بتصنيع نظيرٍ نانوي مباشر لوتر جيتار حُر. ووجدوا أن أنبوب الكربون النانوي (الذي سنتناوله بمزيدٍ من التفصيل في الفصل الخامس) يتعرَّض للرنين عند تردُّد ٢٣١ ميجاهرتزا، وهي نغمة عالية لدرجةٍ لا تُعقل؛ حتى إنه ما من كائن على الأرض يُمكنه سماعها، بما في ذلك تلك الكائنات التي تحظى بأعلى عتبات سمع عند مجموعةٍ من التردُّدات، وهي الدلافين والخفافيش وعُثث الشمع، والتي يسع سمعها ترددات عالية تصل إلى ١٦٠ كيلوهرتزًا، و٢٥٠ كيلوهرتزًا، و٣٠٠ كيلوهرتز على التوالي.

ينتشر التذبذب والتردُّد في كل مكانٍ في نطاق النانو؛ فالطاقة الحرارية عند درجة حرارة الغرفة كافية لهزِّ الذرات والجزيئات والبِنى النانوية ما يجعلها في حركة دائمة. ولكن حتى عند أقل درجة حرارة وصلنا إليها على الإطلاق، وهي ٥٠٠ نانوكلفن تقريبًا — وهي درجة أبرد بأكثر من مليون مرة من درجة حرارة الفضاء السحيق، وتبلغ ٢٫٧ كلفن — يظل هناك اهتزاز في نطاق النانو. ولا يُمكننا أبدًا أن نُجمِّد هذا الاهتزاز؛ لأن هذا من شأنه أن يخرق مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج؛ فكون الحركة الاهتزازية صفرًا يعني أن موضع الجسم مُحدَّد تمامًا، مما يعني أن كمية تحرُّكه تمتدُّ في حيِّزٍ واسع لا نهائي من القِيَم المُمكنة.

الذرات الاصطناعية: علوم النانو الصفرية الأبعاد

دعمت المعادن والفلزات النهضةَ التكنولوجية للبشرية منذ ما قبل العصور الكلاسيكية بكثير؛ فعصورُ ما قبل التاريخ تُحدَّد وتُعرَّف من نواحٍ كثيرة من خلال استغلال مُختلِف المعادن. لذا ربما لا يكون من المُستغرَب أن المعادن ما زالت تلعب دورًا مركزيًّا في تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين؛ حتى إن البعض أشاروا إلى الاهتمام الشديد بجزيئات الذهب النانوية ﺑ «حمَّى الذهب الثانية». فالرنين البلازموني للجسيمات النانوية الفلزية الذي تناولناه فيما سبق لا يقتصر استعماله على البصريات والإلكترونيات الضوئية النانوية، بل تتنوَّع استخداماته داخل تكنولوجيا النانو الحيوية والكيمياء النانوية في سياقاتٍ عديدة بما فيها أنظمة الاستشعار وحفز التفاعُلات الكيميائية، بل وتَستخدِم هوائياتِ استقبالٍ نانويةً. وبصفة خاصة، عندما ترتبط الجزيئات — بما في ذلك الجزيئات الحيوية الضخمة مثل البروتينات والأجسام المضادة — بسطح جسيم نانوي فلزِّي، فإنها تؤثِّر على التذبذب الجمعي للإلكترونات، وبذلك تُغيِّر تردُّد وشدة الإشارة البلازمونية. وفي أفضل الأحوال، يمكن استخدامُ هذا التعديل الذي يطرأ على البلازمون، جنبًا إلى جنب مع تقنيات التحليل الطيفي الأخرى، نوعًا من البصمة الجزيئية لتعيين النوع الكيميائي الذي ارتبط بسطح الجسيمات.

وما هذا إلا جزء صغير جدًّا من تطبيقات الجسيمات النانوية الفلزية في عِلم النانو، وسنعود لاحقًا لتناول بضعة أمثلة أخرى عليها. أما عندما يتعلَّق الأمر بتكنولوجيا المعلومات، فإن الهيمنة لأشباه الموصلات، لا المعادن. فالسليكون — وليس الفضة أو الصوديوم أو الفولاذ مثلًا — هو ما دفع صناعة الإلكترونيات الميكروية منذ بدايتها في أوائل الستينيَّات من القرن الماضي وحتى الوصول إلى نظيرتها من الإلكترونيات النانوية في القرن الحادي والعشرين. فلِمَ حدث ذلك؟

تتمتَّع أشباه المُوصلات بميزة أساسية على المعادن عندما يتعلق الأمر بالإلكترونيات؛ إذ يمكن تعديل توصيليتها الكهربية وضبطها. فالمعتاد عند الحديث عن تدفُّق الإلكترونات أن المعادن «تعمل دائمًا»، في حين ترجع هيمنة أشباه الموصلات في إلكترونيات الجوامد، وبالتبعية على صناعات المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، لسهولة تعديل توصيليتها الكهربية وإطفائها (ومن ثَم تشغيلها مجددًا). تنبع قدرة أي مادةٍ على توصيل الكهرباء — أو عدمها — من طريقة توزيع طاقات الإلكترونات المُكوِّنة لها فحسب. يمكن أن نفهم سبب هذا بالبدء أولًا بذرتَين ثم إضافة المزيد من الذرات تباعًا، لنخلق بذلك جسيمًا نانويًّا بطريقة التصميم من أسفل إلى أعلى، وتدبُّر كيفية تغيُّر توزيع الإلكترونات بتغير الحجم.

هل تتذكَّر الجهد بين الذري الذي تناولناه في الفصل الأول؟ في تلك الحالة افترضنا أن الذرَّات تفاعلت بعضها مع بعض تفاعلًا ضعيفًا من خلال اضطرابات الإلكترونات المكوِّنة لها. وفي سبيل فهم الخواص الإلكترونية للمواد، لا بدَّ أن نذهب إلى أبعدَ من هذه التفاعُلات الضعيفة، وإن كانت شائعة، ونُفكِّر فيما يحدث بالضبط عندما تتكوَّن الروابط الكيميائية. عند تفاعل ذرتَين من خلال قوى فان دير فالز، لا تتكوَّن رابطة فِعلية بينهما؛ وهو ما يُوصَف بأنه تفاعل فيزيائي لا تفاعل كيميائي. (توصف الذرات المُثبتة في موضعها على سطحٍ ما بهذه الطريقة — كما في شعار آي بي إم الذي يتكوَّن من ذرات زينون على سطح من النيكل — بأنها خاضعة لامتزازٍ فيزيائي لا امتزاز كيميائي.) أما عندما تتكوَّن رابطة تساهمية، فإن الإلكترونات المساهمة في العملية لا تكون مُقيدة بذرَّتها الأم، بل تتمدَّد سحابتها الاحتمالية الكمومية وتنتشِر عبر الجزيء الناتج. ولهذا الأمر تبعات مُهمة على التوصيلية الكهربية للجزيء، الذي يُصبح جسيمًا نانويًّا بإضافة المزيد من الذرات، ثم يُصبح في النهاية مادةً صلبة (يمكن تخيُّلها كأنها جزيء ضخم جدًّا) إن أضفنا المزيد.

المُخطط التوضيحي في شكل ٢-٤ يُغني عن ألف كلمة هنا. لتبسيط الأمور وتوضيحها سنتأمَّل الهيدروجين بإلكترونه الوحيد. لكل ذرة هيدروجين مُنفردة في شكل ٢-٤(أ)، يمكن تعيين احتمالية إيجاد الإلكترون في حيزٍ مكاني معيَّن حول النواة من خلال دالة رياضية تُعرَف بالمدار (أو الأوربتال) الذري. والمدار الذري في جوهره هو الدالة الموجية لإلكترونٍ واحد. أما بالنسبة إلى الإلكترونات المُقيدة داخل السياج (شكل ٢-٢) أو «الوتر النانوي» (شكل ٢-٣)، فتمثل الذرة شكلًا آخر من التقييد الكمومي. فالنواة، في هذه الحالة، تُنشئ الجهد الكهروستاتيكي الذي يُقيد الإلكترون.
fig7
شكل ٢-٤: من مستويات الطاقة إلى نطاقات الطاقة. (أ) تُدمَج ذرتا هيدروجين، لكلٍّ منهما إلكترون واحد في المدار الذري 1s، لتكوين جزيء هيدروجين. يؤدي هذا إلى تكوين مدارَين جزيئِيَّين؛ ينتج أحدهما، وهو مدار الترابط، عن التداخل البنَّاء بين المدارات الذرية، والآخر هو المدار المضاد للترابط وينتج عن التداخُل الهدَّام بينها. (ب) تطور مستويات الطاقة لتكوين نطاقات الطاقة. مع زيادة عدد الذرات من اليسار إلى اليمين يزداد عدد مستويات الطاقة كذلك، حتى تُصبح كمية المادة كبيرة كفاية لدرجةٍ لا تظلُّ معها المستويات منفصلة، بل تُشكِّل نطاقاتٍ مُتصلة على نحوٍ فعَّال.
تقلُّ طاقة مدار الترابط الجزيئي عن طاقة المدار الذري في كلٍّ من ذرتَي الهيدروجين المُنفصلتَين على حدة. وهذه هي القوة التي تحفز تكوُّن الرابطة الكيميائية في المقام الأول؛ لأن طاقة النظام تنخفِض عند تداخُل المدارات الذرية معًا. ويشغل كِلا الإلكترونين (بواقع إلكترون من كل ذرة هيدروجين) المدارَ الجزيئي. وكما هو موضح في شكل ٢-٤(أ)، ينتج عن مدار الترابط الجزيئي احتماليةٌ مُرتفعة لإيجاد الإلكترون بين البروتونين؛ إذ تعمل الشحنة الإلكترونية باعتبارها «مادة لاصقة» تربط الذرتَين معًا. أما المدار المضاد للترابط، فيُصاحبه احتمالية عالية جدًّا لأن يتجنَّب الإلكترون المنطقة بين البروتونَين. وكما يُوحي الاسم، فإن الإلكترون إن وجد نفسه في المدار المضاد للترابط، تفقد الرابطة الكيميائية استقرارها ويمكن للجزيء أن يتفكَّك إلى ذرَّاته المكونة له مرة أخرى.

يتَّسِم المدار المضاد للترابط كذلك بارتفاع مستوى طاقته. وهذا يعني أن حالة الطاقة الدنيا للإلكترون، التي تُعَد الحالة «الطبيعية» له — وتسمَّى في ميكانيكا الكم الحالة الأرضية — هي عندما يشغَل الإلكترون مدار الترابط. لذا لا بد من ضخِّ دفقةٍ من الطاقة حتى يشغَل الإلكترون المدارَ المضاد للترابط. قد تكون هذه الطاقة في صورة طاقة حرارية (أي بالتسخين)، أو في صورة فوتونات؛ إذ يمكن تفكيك الجزيء من خلال اختيار الضوء ذي الطاقة المطلوبة لإثارة الإلكترونات من مدار الترابط إلى المدار المضاد للترابط. وهذا النوع من التفكيك الضوئي تحديدًا هو المسئول عن تكوُّن طبقة الأوزون؛ حيث تنشطر جزيئات الأكسجين إلى الذرَّات المكوِّنة لها. غير أنه ليس بالضرورة أن يتسبَّب امتصاص الضوء (أو أي صورة أخرى من صور الطاقة) في انقسام الجزيء تمامًا. بل قد تتسبَّب الطاقة المُمتصَّة في إعادة تنظيم الروابط، وهذا أيضًا يحدُث من خلال تغيير طريقة شغل الإلكترونات للمدارات المختلفة. وقد استُخدِم هذا النوع من الكيمياء الضوئية في كثيرٍ من مجالات تكنولوجيا النانو لتصنيع البِنى النانوية.

الأرقام النانوية السحرية

كما رأينا في الفصل الأول، ينصُّ مبدأ باولي للاستبعاد على أنه لا يمكن أن يُوجَد إلكترونان في الحالة الكمومية نفسها. لا يعني هذا أنهما لا يمكن أن تكون لهما الطاقة نفسها، كما قد يتوهَّم المرء خطأً من نصِّ المبدأ. بل يمكن أن يكون للإلكترونَين الطاقة نفسها ويشغلا المدار الجزيئي نفسه، ما دام مقدار «اللف المغزلي» لكل إلكترونٍ مختلفًا عن الآخر. يكفينا في الوقت الحالي أن نتعامل مع اللفِّ المغزلي باعتباره مُصطلحًا كموميًّا؛ إذ يمكن أن يكون اتجاه اللف المغزلي إما لأعلى أو لأسفل. سنناقش اللفَّ المغزلي بمزيدٍ من التفصيل في الفصل الخامس في سياق الحديث عن الإلكترونات المغزلية، وهي جزءٌ مُهم من تكنولوجيا النانو، أما في الوقت الحالي، فإن كلَّ ما نحتاج إلى معرفته عن اللف المغزلي هو أنه إحدى خواص الجسيمات الكمومية ويُحدِّد كيفية تفاعل الجسيمات بعضها مع بعض.

لا تخفى عنا فكرة أن الشحنات تتحكم فيما إذا كان سيحدُث تنافُر أو تجاذُب بين جُسيمَين. فنحن نعتبر هذا أمرًا مسلَّمًا به في العموم؛ لأننا تعلَّمناه في سنٍّ مُبكِّرة نسبيًّا، وكثيرًا ما كان ذلك من خلال واحدةٍ من حِيَل الحفلات التي يُستخدم فيها بالون نحكُّه بشعرِنا. لكن اسأل نفسك هذا السؤال: من أين تأتي هذه الشحنة بالأساس؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر السهل تمامًا. اللف المغزلي، شأنه شأن الشحنة الكهربية، إحدى خواص الإلكترونات — والجُسيمات وأجسام كمومية أخرى — التي يتجذَّر أصلها بعُمق داخل الفيزياء الأساسية، لكن تأثيرها يمكن اختزاله في قواعدَ بسيطةٍ جدًّا. فكما يُمكننا أن نختصر هذه الفيزياء الأساسية المُعقَّدة في عبارة «الشحنات المُتشابهة تتنافر، والشحنات المختلِفة تتجاذب»، يُمكننا كذلك التعامُل مع اللف المغزلي باعتباره وسمًا لجُسيم لا أكثر.

لِنعُد إلى مثال جزيء الهيدروجين، وقد بتنا الآن نفهم كيف، ولِمَ، تُكوِّن الذرات روابطَ تساهمية؛ فتكوين الرابطة ينتج عنه مدار جزيئي طاقته أقلُّ من طاقة المدارات الذرية. يفضل الإلكترونان أن يكونا في الحالة الأرضية، ومِن ثَم يشغَل كلاهما مدارَ الترابط ذا الطاقة الأدنى. أحد الإلكترونَين يكون اتجاهُ لفِّه المغزلي لأعلى والآخر لأسفل، كما هو مُوضَّح بالأسهم في شكل ٢-٤(أ)، وما يجعل هذا مُمكنًا أن الإلكترونَين ليست لهما الحالة الكمومية نفسها (بسبب اختلافهما في اتجاه اللف المغزلي)، بالرغم من تَساوي طاقتَيهما.

السؤال الآن: ماذا يحدُث لو أضفنا مزيدًا من الذرات؟ ماذا لو استمررنا في إضافة الذرات بحيث نبني جسيمًا نانويًّا أولًا، ثم نُواصِل إضافة الذرات حتى نخلق كتلةً صلبة؛ أي قطعة ماكروسكوبية من المادة تُرى بالعين المجردة؟ إن مبدأ باولي للاستبعاد يعني أنه لا يمكن أن تنهار حالة كل الإلكترونات لتُصبح في الحالة الموجية نفسها. وكان أول مَن أدرك أن مبدأ باولي للاستبعاد هو الركيزة لاستقرار المادة في الكون كله أساسًا، هو باول إيرنفست (١٨٨٠–١٩٣٣)، وهو فيزيائي نمساوي هولندي ذو إسهاماتٍ ضخمة في الميكانيكا الإحصائية وميكانيكا الكم. فلولا مبدأ الاستبعاد، لصارت الذرات قابلة للانضغاط بعضها في بعض بلا نهاية. بعبارة أخرى، مبدأ باولي هو ما يُحدِّد نطاق الأطوال في المادة، وكون الذرات والجزيئات أجسامًا ذات أبعادٍ نانوية ينبع في الأساس من الطبيعة غير الاجتماعية للإلكترونات نتيجة لمبدأ الاستبعاد.

بالرغم من أن الهيدروجين أبسط عنصر مُمكن لأنه يحمل إلكترونًا وحيدًا، فإنه يكون أعقد كثيرًا عندما يتعلق الأمر بإضافة المزيد من الذرات لجُزيئه . فذرَّة الهيدروجين تفاعلية جدًّا؛ وكما رأينا توجد قوة كبيرة تدفع إلكترونه الوحيد ليجد لنفسه شريكًا. وهذا يعني أن الهيدروجين يكوِّن وحدات مستقرة بسهولة. لا يُوجَد الهيدروجين الغازي في صورة مجموعةٍ من الذرات، على عكس الغازات الخاملة كالزينون؛ وذلك بسبب نشاطِه الكيميائي التفاعُلي العالي. وبدلًا من ذلك يُكوِّن الهيدروجين جزيئات . وهذه الجزيئات بدَورها يُمكنها أن تتفاعل بعضها مع بعض لتكوين هيدروجين صلب عند درجات حرارة مُنخفضة بما يكفي (١٤ درجة فوق الصفر المطلق)، لكنها تظل وحدات متمايزة تترابط معًا بفعل قوى لندن التشتُّتية الضعيفة، التي عرضناها في الفصل الأول. أما إذا رفعنا الضغط، فتقول التنبُّؤات النظرية إن الهيدروجين يُمكن أن يُكوِّن شبكة بلورية، وهي طور صلب تشكِّل فيه ذرات الهيدروجين شبكةً بلورية مُنتظمة ومُمتدة تترابط معًا بفعل الإلكترون الذي يعمل كمادةٍ لاصقة. غير أن ذلك يحتاج إلى ظروف قصوى «للغاية»، بما فيها ضغط أعلى ملايين المرات من الضغط الجوي من أجل «تحفيز» ذرات الهيدروجين على الخروج من حالة جزيء .
لحُسن الحظ، تكوِّن مجموعة كبيرة أخرى من العناصر شبكاتٍ بلورية بسهولة أكبر بكثير، منها الذهب والسليكون. لنتأمل ما يحدث عند إضافة مزيدٍ من الذرات لتكوين جزيء ثلاثي (أي عنقود نانوي من ثلاث ذرات)، يتبعه جزيء رباعي، ثم خماسي … وهكذا حتى الوصول إلى جُسيم نانوي يتكوَّن من مئات الذرات. لا يمكن أن تشغل جميع الإلكترونات الحالة الكمومية نفسها؛ لذا تظهر مستويات طاقة جديدة كلما زِدنا حجم العنقود، حتى تسع هذه المستويات عدد الإلكترونات المُتزايد. وهذا موضح في شكل ٢-٤(ب). وكلما أضفنا مزيدًا من الذرات، ازداد عدد مُستويات طاقة الإلكترونات التي تظهر. يُشبه ذلك إلى حدٍّ كبير تنامي التركيب الإلكتروني للعناصر في الجدول الدوري، باستثناء أننا لا نزيد حجم النواة بإضافة مزيدٍ من البروتونات والنيوترونات؛ بل نُضيف ذراتٍ كاملة إلى العنقود.
أما بخصوص الذهب، فتميل الجسيمات النانوية الأصغر من ١٢ ذرة إلى تكوين بنًى ثنائية الأبعاد (تُشبه نوعًا ما «الوتر» الثنائي الأبعاد المُكوَّن من ذرات الإنديوم الموضَّح في شكل ٢-٣.) أما الجسيمات الأكبر من هذا، فتُكوِّن بِنًى ثلاثية الأبعاد «شبه كروية»، تكون أكثر استقرارًا عندما يُكافئ العدد الكلي لإلكترونات التكافؤ في العنقود — أي أضعف الإلكترونات ارتباطًا بذرَّاتها التي تدخل في تكوين الروابط — عددًا «سحريًّا» مُعينًا. بتعبيرٍ آخر، بعض العناقيد أكثر استقرارًا بكثير من غيرها؛ لأنها تحمِل العدد المطلوب من الإلكترونات بالضبط. وهذه الظاهرة هي ذاتها التي يقوم عليها الجدول الدوري بأكملِه، باستثناء أن الذرَّات في تلك الحالة ذراتٌ مُفردة، لا عناقيد عديدة الذرات، ينبع استقرارها المُعزَّز من كونها تحمِل العدد المطلوب من الإلكترونات.

يمكننا التعبير مجازيًّا عن السبب الأساسي وراء وجود أعمدة في الجدول الدوري بأن الإلكترونات الموجودة في الذرَّات تكون «متراصَّة» في أغلفة، بحيث يُسمح بوجود عددٍ محدود فقط من الإلكترونات في كلِّ غلاف. إن نموذج الأغلفة هذا هو محض خيال، شأنه شأن تصوُّر بور للذرة، إلا أن أخذ هذا المفهوم في الاعتبار مفيد جدًّا؛ لا سيما أنه يُفسِّر الكثير من معضلات الكيمياء. أخصُّ بالذكر منها أن خمول الغازات الخاملة يرجع بالكامل إلى اكتمال أغلفتِها الإلكترونية، وهذا يظهر في أعدادها الذرية وهي: ٢ (في الهيليوم)، و١٠ (في النيون)، و١٨ (في الأرجون)، و٣٦ (في الكربتون)، و٥٤ (في الزينون)، إلخ. والمقصود بوصف هذه الأعداد بأنها سحرية أن الذرة عندما تحمل هذا العدد بالذات من الإلكترونات تكون أقلَّ نشاطًا وتفاعُلية بكثيرٍ من الذرات المجاورة لها في الجدول الدوري. وتأثير العدد السحري الذي رأيناه في جُسيمات الذهب النانوية (وغير الذهب كذلك) مُشابِه للغاية، فعندما يكون غلاف إلكترونات التكافؤ مُكتملًا، يُعزِّز هذا استقرار الجسيمات بدرجةٍ هائلة. وهذا أحد الأسباب وراء الإشارة إلى الجُسيمات النانوية كثيرًا بأنها ذرَّات اصطناعية (أو ذرَّات مُصمَّمة)؛ فالعنقود بأكمله يتصرَّف وكأنه ذرَّة ضخمة. يُمكننا نظريًّا أن نُصمم جدولًا دوريًّا جديدًا نتحكَّم من خلاله في التركيب الإلكتروني للجُسيمات النانوية، ومن ثَم في طبيعتها الكيميائية، بإضافة ذرات أو نزعها.

غير أن الأعداد السحرية للجُسيمات النانوية لا يلزم أن يكون مصدرُها إلكترونيًّا فقط. فقد يأتي تعزيز الاستقرار مما يُطلَق عليه الأعداد السحرية الفراغية؛ حيث تحمل بِنية الجُسيم ما يكفي من الذرات لضمان توزيع الذرات توزيعًا مُنخفِض الطاقة يُقلل طاقة سطح الجسيم. تميل الذرات للتجمع بطبيعتها وتُفضِّل أن تكون محاطةً بذرات مجاورة على أن تكون بمفردها. وهذا من شأنه أن يُعزِّز الاستقرار لأغلفة كاملة من الذرات نفسها، لا الإلكترونات فحسب.

انتبه إلى الفجوة

عند إضافة ذرات إلى جُسيم نانوي، لا تتأثر مدارات الترابط وحدَها؛ بل إن عدد المدارات المُضادة للترابط والمسافة بينها يتغيَّران كذلك. وفي سبيل تفسير حدوث هذا تفسيرًا كاملًا، يتطلَّب الأمر جولةً مطولة عبر المناهج الجامعية في ميكانيكا الكم وفيزياء/كيمياء الجوامد، لكن ما يحدُث في الأساس هو تداخُلات بنَّاءة وتداخلات هدَّامة بين موجات الإلكترونات المختلفة بطرق شتَّى مع ازدياد حجم الجُسيم النانوي. وهذا من شأنه أن يُغير طريقة توزيع طاقة المدارات. وكما يحدُث مع جزيء الهيدروجين، تُملأ مدارات الترابط في الجسيم النانوي بالإلكترونات، بينما تظلُّ المدارات المضادَّة للترابط خاوية. وهذا يعني وجودَ فجوة في الطاقة بين الحالات المشغولة بالإلكترونات والحالات الشاغرة. وكلَّما واصلنا إضافة الذرات إلى الجُسيم النانوي، يزداد عدد حالات الطاقة كما هو مُوضَّح في شكل ٢-٤؛ لأن مبدأ باولي للاستبعاد يمنع كل الإلكترونات من شغل نفس الحالة.
عندما نُضيف عددًا من الذرَّات يكفي لصنع مول من المادة، أي ٦٫٠٢٢×١٠٢٣ ذرات، يُصبح عدد مستويات طاقة الإلكترونات كبيرًا جدًّا فلا يعود بمقدورنا اعتبار هذه المستويات حالاتٍ مُنفصلة. فتتكوَّن نطاقات عوضًا عن المستويات كما هو موضَّح أيضًا في شكل ٢-٤. في حالة أشباه المُوصلات كالسليكون، يُوجَد نطاق تكافؤ ممتلئ بالإلكترونات (مُنبثقة من مدارات الترابط) ونطاق توصيل شاغر، لكن يُمكنه استقبال إلكترونات. لا تُحدِّد الفجوة في الطاقة — وتُعرف باسم فجوة النطاق — بين هذين النطاقَين مدى توصيلية المادة للكهرباء فحسب، بل تُمثِّل الأساس للخصائص الضوئية للمادة كذلك. ففوتونات الضوء يُمكنها إثارة الإلكترونات من نطاق التكافؤ إلى نطاق التوصيل، لكن بشرط أن تكون طاقتها كافية «لرأب الفجوة».
ثمَّة علاقة عكسية بسيطة بين الطول الموجي للضوء وطاقة الفوتون :
حيث ترمز إلى سرعة الضوء. يُصاحب الأطوال الموجية الأقصر طاقات أعلى. وإذا كانت طاقة الفوتون أقل من طاقة فجوة النطاق، فلا يمكن للضوء إثارة الإلكترونات، وباستثناء حدوث انعكاسات على سطح البلورة، سينفذ الضوء خلال المادة شبه الموصلة. ولكن إذا استمررنا في تقليل الطول الموجي للضوء الساقط، فستحين لحظة تُكافئ فيها طاقة الفوتون طاقة فجوة النطاق أولًا، ثم تتخطَّاها بعد ذلك. وهذا يعني أن الضوء الآن بات بمقدوره إثارة انتقالات إلكترونية، ومن ثَم يمكن أن تمتصَّه بلورة المادة شِبه الموصلة بدلًا من النفاذ خلالها إلى الناحية الأخرى. ويُستهلَك كل فوتون — أي كل دفقةٍ من الطاقة — عندما يتسبَّب في إثارة إلكترون إلى نطاق التوصيل.

تبلغ طاقة فجوة النطاق في السليكون نحو ١٫١ إلكترون فولت، بينما يتراوح طيف الضوء المرئي بين ما يقارب ١٫٥ إلكترون فولت (لفوتونات الضوء الأحمر) إلى ٣ إلكترون فولت (للطرف الأزرق من الطيف المرئي). وهذا يعني أن السليكون يمتص الطيف المرئي بأكمله — مُتجاهلين بذلك مسألة انعكاسات الضوء عن السطح مرةً أخرى — وبهذا يكون السليكون بلورةً معتمة يبدو لونها رماديًّا داكنًا. أما ثاني أكسيد السليكون، ففجوة النطاق فيه أكبر بكثير؛ إذ تكون في حدود ٩ إلكترون فولت عادة (ولهذا يُوصف بأنه مادة عازلة لا شِبه موصل). وهذا الرقم يتجاوز بكثيرٍ طاقة فوتونات الطيف المرئي؛ ولهذا لا يمتصُّ ثاني أكسيد السليكون ضوءًا له هذه الطاقة. ولهذا يكون الزجاج شفافًا، حيث يغلب ثاني أكسيد السليكون على تركيبه.

تتَّسِع فجوة النطاق كلما تناقص حجم الجُسيم النانوي، بسبب التقييد الكمومي. والجسيمات النانوية المصنوعة من مواد شِبه موصلة يمكن ضبطها على الطول الموجي للضوء لتمتصه، وذلك بتغيير حجمها ببساطة. وفي ذلك إثبات مُذهل لقوة ومرونة تكنولوجيا النانو؛ فالتغيُّرات في الحجم وحدَها كفيلة بتغيير خواص المادة جذريًّا على نحوٍ يمكن رؤيته بوضوح. وبإمكان خبراء تكنولوجيا النانو حاليًّا استخدام التقييد الكمومي على نحوٍ روتيني في تطبيقات الإلكترونيات البصرية، بدايةً من الخلايا الشمسية القائمة على الجسيمات النانوية وحتى أجهزة التليفزيون العالية الوضوح. غير أن الجُملة السابقة لا تُوَفِّي تلك العملية الطويلة التي تُصاحب نقْل أي جهاز مُبتكر عالي التقنية إلى الحيز التجاري حقَّها. فالطريق في غاية الوعورة من النموذج الأوَّلي للجهاز النانوي في المعامل البحثية وحتى اعتماده في العالم الأوسع بنجاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥