التفكيك التنازُلي، والبناء التصاعدي
«مزِّقوا الكتب يا أطفال. إنياك سيقضي على الرياضيات.»
كان هذا هو العنوان الرئيسي في صحيفة «فيلاديلفيا ريكورد» في عددها الصادر بتاريخ ١٩ فبراير ١٩٤٦. «إنياك» هو اختصار ﻟ «الكمبيوتر والمُكامل الإلكتروني الرقمي»، وهو إنجاز مُذهل طوَّره جون ماوشلي وجون بريسبر إيكرت من جامعة بنسلفانيا بتمويلٍ من الجيش الأمريكي. صُمِّم إنياك ليكون أولَ كمبيوتر رقمي متعدِّد الأغراض قابلًا للبرمجة، ويحتوي على ١٧٥٠٠ أنبوب مُفرغ موصَّل بعضها ببعض بواسطة نصف مليون وصلة لحام، وكان حجمه هائلًا. بلغ وزن إنياك نحو ٥٠ طنًّا، متفوقًا بذلك على سابقه كولوسوس — الذي جرى تطويره في حديقة بلتشلي بارك، المقر البالغ السرية لفك الشفرات في الحرب العالمية الثانية — بهامش كبير. (استُوحي كولوسوس من أعمال ألان تورينج، واستُخدِم لفكِّ شفرة رسائل المبرقة الكاتبة الألمانية، مما أسهم في تقصير مدة الحرب العالمية الثانية عدةَ أشهر وإنقاذ آلاف الأرواح.) وفي حين كان كولوسوس يحتاج مساحةً كمساحة غرفة المعيشة، كان إنياك أكبر من حجم منزل بقدْرٍ معتبر؛ فقد كان يحتلُّ مساحة تبلغ ١٦٧ مترًا مربعًا، في مقابل المنازل الإنجليزية حديثًا، التي تبلغ مساحتها المعيشية في المتوسط ٦٨ مترًا مربعًا.
تناقلت عناوين الصحف حول العالم نفس حماس «فيلاديلفيا ريكورد» تجاه إنياك؛ إذ وُصف بأنه عقل خارق، وحاسب روبوتي يعمل بسرعة البرق، ورياضياتي ميكانيكي تفوَّق على أينشتاين في التفكير وإعمال العقل. كان أداء إنياك مُبهرًا إلى حدٍّ لا مثيل له في وقته بلا شك؛ إذ كان بإمكانه تنفيذ التعليمات بمعدل ٥٠٠٠ أمر في الثانية بسرعة خارقة. لكن بالمقارنة نجد أن الهاتف الخلوي الذكي الآن بإمكانه عادةً أن يُعالج «مليارات» التعليمات في الثانية. حتى وإن لم تكن تحمل في جيبك هاتفًا خلويًّا من أحدث طراز، فإن سرعة معالج الآيفون منذ عام ٢٠١٠ في مستوى ١ جيجا هرتز (أي نحو مليار أمر في الثانية).
ثمَّة تلازُم بين التصغير وسرعة المعالجة؛ فكلما صغرت التقنية، صارت أسرع. فوحدات المعالجة الكامنة في صميم الهواتف وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة اللوحية يحتشد فيها عددٌ مذهل من المكونات الإلكترونية في حيز بالغ الصغر. وفيما يتعلق بحجم المكون وحده، فقد مهَّدت الإلكترونيات الميكروية الطريقَ للإلكترونيات النانوية منذ وقتٍ طويل. فمع بزوغ فجر صناعة أشباه الموصلات في أواخر الستينيات، صُغِّر حجم الدوائر المتكاملة ليصل إلى عشرات الميكرونات (أي عشرات الآلاف من النانومترات.) وبتسريع الأحداث بضعة عقود، نجد أن معالج إنتل ٨٠٣٨٦ الذي كان يعمل به حاسوبي الذي كتبتُ عليه كود مشروع تخرُّجي في الجامعة عام ١٩٩٠ كان حجم العنصر فيه ١٠٠٠ نانومتر. (في صناعة أشباه الموصلات، كان مُصطلح حجم العنصر تاريخيًّا يُستخدَم للدلالة على طول القناة المُمتدة بين ما يُعرف بوصلة المصدر ووصلة المصبِّ في الترانزستور. أما في الوقت الحالي، فقد بات مصطلح حجم العنصر يُعبِّر عن أصغر تركيب في الترانزستور.) وقد تخطَّت معالجات بنتيوم ٤، التي أصدرتها شركة إنتل عام ٢٠٠٤، حاجز الألف نانومتر من خلال ما يسمَّى بعملية التسعين نانومترًا. وبعد ١٥ عامًا، أعلنت شركة إنتل في ديسمبر ٢٠١٩ عن خططها لإنتاج معالجات بدقة تصنيع تبلغ ١٫٤ نانومتر بحلول عام ٢٠٢٩.
هذا يعني أن تقليص حجم العنصر قد بلغ نحو خمس قِيَم أُسية، فيما يُعَد مستوًى مذهلًا من الابتكار التقني الدءوب الذي تكهَّن به جوردن مور، المدير التنفيذي السابق (والشريك المؤسِّس) لشركة إنتل، من قبل أن يُصبح لوجود تكنولوجيا النانو أي تصوُّر بزمنٍ طويل. ينص قانون مور على أن عدد الترانزستورات في دائرة متكاملة يتضاعف كل عامَين تقريبًا. ورغم أن نبوءة مور توصف دومًا بأنها قانون، فقد خلا تكهُّن مور من أي شيءٍ جوهري؛ فهو ليس من فئة قوانين نيوتن أو قوانين الديناميكا الحرارية الأول والثاني والثالث على سبيل المثال؛ إذ لم يُشتق مباشرة من مبادئ فيزيائية أو كيميائية. بل يقوم استدلاله المنطقي الأساسي على حجج اقتصادية. غير أن الإمكانيات الحاسوبية آخذة في التطوُّر والزيادة من عام إلى آخر منذ أواخر الستينيات بما يتوافق مع ما قد يستحسن وصفه بحَدْس مور الاستكشافي. لعبت تكنولوجيا النانو دورًا أساسيًّا في ضمان استمرارية هذا التقدُّم، لكن المفارقة أن علوم النانو نفسها تعتبر أيضًا سببًا في الموت البطيء الذي يواجِه قانون مور.
التكنولوجيا التنازلية
تتميز مصانع أشباه الموصلات ببيئاتٍ تحظى بمستوًى استثنائي من التعقيم. فالنبائط تُصنَّع في غُرَف في غاية النظافة؛ حيث تخضع ظروف بيئة المعمل لتنظيمٍ دقيق للحد من تلوُّثها بالجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء، وللتحكُّم في درجة الحرارة، وضغط الهواء وتياره، والرطوبة، والاهتزاز، والضوضاء، والإضاءة. وهذا المستوى العالي من التحكُّم في البيئة ليس من أجل صالح علماء تكنولوجيا النانو العامِلين على أشباه الموصلات بداخلها. فالغُرَف النظيفة ضرورية لوقاية النبائط ذات البِنية النانوية حتى من أدقِّ ذرات الغبار. فحجم العنصر دون العشرة نانومترات في التكنولوجيا الحديثة لأشباه الموصلات يعني أن أي ذرة غبار غير مرئية، والتي يبلُغ حجمها المُعتاد آلاف النانومترات، ستكون عملاقةً بالمقارنة بحجم العنصر وقد تُسبِّب أضرارًا جسيمة أثناء عملية مُعالجة النبيطة.
إلى جانب ذلك، ورغم أن الطباعة الليثوغرافية الضوئية هي الإجراء المُعتمد في هذه الصناعة، فإنها كثيرًا ما تتكامل مع تقنيات تنازُلية أخرى خلال مراحل التصميم وإعداد النماذج الأولية من عملية إنتاج الرقاقة. ويأتي في طليعة هذه التقنيات استخدام شعاع أيوني مركَّز لتذرية المادة حتى مستوى النانو. والشعاع الأيوني المركَّز في جوهرِه هو إزميل أو آلة خراطة نانوية. يستخدم شعاع عالي الطاقة من الأيونات، عادةً ما يكون من الجاليوم، ويُركَّز باستخدام عدسات كهروستاتيكية ليُسلط على الموضع المراد في عيِّنة أو نبيطة، فيكشط المادة في الموضع المحدَّد. ويمكن طبع أشكال شتى على العينات عن طريق مسح العينة بالشعاع ذهابًا وإيابًا. بالإضافة إلى دور تقنية شعاع الأيونات المُركَّز في صناعة أشباه الموصلات، فإنها تُستخدَم كذلك على نطاق واسع لتحضير العينات للفحص المجهري لنفاذ الإلكترونات (الذي يُشبه الفحص بمجهر المسبار الماسح في قُدرته على الوصول إلى تباين على مستوى الذرات، وإن كان من خلال طريق أقل مباشرة). ينبغي أن تكون هذه العينات رقيقةً للغاية — عادةً ما تقارب ١٠٠ نانومتر — كي تكون شفَّافة بالنسبة إلى الإلكترونات العالية الطاقة؛ وتُعتبر تقنية شعاع الأيونات المركَّز أداةً فعالة لترقيق العينات إلى المستوى المطلوب.
في البداية تُغطى رقاقة نظيفة من السليكون، بطبقتها الواقية من أكسيد السليكون، بطبقة من مادة حساسة للضوء تُعرف بالمادة المقاومة للضوء. تُعد المواد المقاومة للضوء تكنولوجيا كاملة في حد ذاتها، بحيث يمكن أن نفرد «مقدمة قصيرة جدًّا» لمناقشة أُسس علم المواد والكيمياء والفيزياء التي تقوم عليها مقاومات الضوء. باختصار، عندما تتعرض المادة المقاومة الحساسة للضوء لضوءٍ فوق بنفسجي، تتغير بِنيتها الكيميائية عند المواضع التي تُعرَّض للضوء، وذلك بإعادة تنظيم الروابط وجعل المادة قابلة للذوبان، أو غير قابلة للذوبان، في مادة كيميائية تُسمى بمحلول التظهير. (ثمة تشابهات كثيرة بين الطباعة الليثوغرافية الضوئية والتصوير الفوتوغرافي التناظري التقليدي.) إذا أزال محلول التظهير المادةَ من المناطق التي تعرَّضت للضوء، توصف المادة المقاومة للضوء بأنها مُوجبة؛ أما إذا أزال محلول التظهير المادةَ من المناطق التي لم تتعرض للضوء، فالمادة سالبة.
يتطلب اختيار المواضع التي ستُعرَّض فيها المادة للضوء استخدامَ قناعٍ ضوئيٍّ. والقناع الضوئي، في جوهره، هو خريطة للدوائر والتوصيلات داخل الدوائر المتكاملة المَعنية، وهو الذي يُحدِّد ما إذا كان الضوء فوق البنفسجي سيُحجَب عن رقاقة السليكون المُغطاة بالمادة المقاومة للضوء أم سيسقط عليها. يُستخدَم الضوء فوق البنفسجي هنا؛ لأن طوله الموجي القصير، الذي يبلُغ في المعتاد ١٩٣ نانومترًا في معظم عمليات المعالجة الليثوجرافية الضوئية في وقت كتابة هذا الكتاب، يُتيح تباينًا أفضل لمعالم السطح. ومن الجدير بالملاحظة أنه برغم أن الطول الموجي المُستخدَم هو ١٩٣ نانومترًا، يمكن تشكيل معالم أبعادها دون ١٠ نانومترات باستخدام الطباعة الليثوغرافية الضوئية، وذلك من خلال تقنيات مُتطوِّرة للتعريض المُتعدد، حيث يُطبع الشكل على الرقاقة أولًا ثم تُعرَّض الرقاقة للضوء مرةً أخرى باستخدام قناع مختلف يُشبه الأول لكنه مُزاح عنه، يتبع ذلك مرحلة تظهير أخرى للمادة المقاومة ثم إزالتها.
بعد انتهاء عملية المعالجة، يكون الشكل المحفور على القناع الضوئي قد نُقل إلى رقاقة السليكون من خلال إزالة الأكسيد من مناطق مُعينة. يلعب أكسيد السليكون، باعتباره عازلًا ذا فجوة نطاق واسعة، دورًا محوريًّا وأساسيًّا في عمل النبائط الإلكترونية الميكروية والنانوية، ويعادل في أهميته الأقطابَ المعدنية وركيزة السليكون، اللذَين يُشكلان معًا المُكوِّنين الآخرين لما يُعرف بتكنولوجيا أشباه الموصِّلات ذات الأكاسيد المعدنية المُتتامَّة (والمعروفة اختصارًا ﺑ «سيموس»). وقد ظلت هذه التكنولوجيا القوة المُحرِّكة لهذه الصناعة عقودًا، وذلك لسببٍ وجيه؛ وهو أن أكسيد السليكون مادة مُستقرة كيميائيًّا على نحوٍ استثنائي، وفجوة نطاقها الواسعة توفِّر درجةً عالية من العزل والفصل اللازِمَين لضمان أن العدد الهائل من المكونات الفردية داخل الدائرة المُتكاملة منفصلة بعضها عن بعض.
ولكن برغم كل هذا الابتكار في الطباعة الليثوغرافية النانوية الذي دفع عمليةَ التصغير إلى الأمام (ولأسفل كذلك) عقودًا بلا كلل، فإن قانون مور يحتضر. بل إن بعض الخبراء يذهبون إلى أن قانون مور ميتٌ بالفعل منذ وقتٍ طويل. ولعل أحد الأسباب وراء ذلك أنه على الرغم من أن سرعة (أو معدل الساعة) وحدة المعالجة الذي يقاس بالجيجاهرتز في نبائطنا، الذي نعتبره أمرًا مُسلَّمًا به، مُثيرٌ جدًّا للإعجاب بلا شك، وذلك بالمقارنة بجهاز إنياك المحصورة في نطاق الكيلوهرتز، فإن التحسُّن في معدل الساعة كان ضئيلًا جدًّا على مدار العقد الماضي؛ إذ اصطدمت هذه الصناعة بعقبة. يرجع هذا إلى أن حشر مليارات الترانزستورات النانوية في رقاقة مساحتها الفعَّالة قد تكون أحيانًا أقل من ملِّيمتر مربع واحد، ثم تشغيلها مليارات المرَّات في الثانية، يُولِّد قدرًا كبيرًا من الطاقة الحرارية التي ينبغي التخلص منها بطريقةٍ ما. وفوق ذلك، كلما كان تشغيل الترانزستور أسرع، تطلَّب المزيد من القدرة الكهربية. في الواقع، يُعَد معدل الساعة ضحيةً للموت الحراري للإلكترونيات النانوية.
والمُفارقة أنه برغم أن الابتكارات العبقرية في مجال تكنولوجيا النانو كثيرًا ما كانت بمنزلة المُنقذ لصناعة أشباه الموصلات، مما يبقي قانون مور صالحًا للتطبيق، فإن فيزياء النطاق النانوي ستكون أيضًا عدوَّها اللدود في النهاية (إلى جانب الاقتصاد ببروده وقسوته). إن مسألة الموت الحراري وما يتعلَّق بها من تحديات اقتصادية لدفع السليكون إلى نطاقات تردُّدية أعلى ليست إلا جانبًا واحدًا من المشكلة. فحجم العنصر الذي يبلغ اليوم ثلاثة نانومترات، يبلغ عرضه أقل من ١٠ ذرات سليكون. وهذا النطاق من الأطوال يعني أننا الآن داخل العالم الكمومي دون أي شك؛ ولذلك تلعب الطبيعة الموجية للإلكترونات دورًا أساسيًّا في عمل النبائط. فالطبيعة الكمومية للمادة في النطاق النانوي تُعد حاجزًا ضخمًا أمام صلاحية قانون مور مع أحجام عناصر أصغر وأصغر. ولكي نفهم سبب ذلك، نحتاج إلى التوقُّف قليلًا للاطلاع على مبدأ العمل الأساسي الذي تستند إليه تكنولوجيا سيموس؛ وهو مبدأ تبديل حالة الترانزستور.
تحطيم الحواجز: النفاذ النفقي للإلكترونات
الترانزستورات، في أساسها، مفتاحٌ كهربي ثُلاثي الأطراف يتكوَّن، بموجب تكنولوجيا السيموس، من مصدرٍ ومَصبٍّ وقُطب بوابة. من خلال وضع جهدٍ على قطب البوابة، يُمكن التحكُّم في تدفُّق الإلكترونات — أي التيار الكهربي — بين المصدر والمصب بالفتح والغلق، مما يضع الترانزستور إما في الحالة ٠ أو الحالة ١. وهذا هو أساس المنطق الثنائي الذي يقوم عليه أغلب التكنولوجيا. عندما يكون طول البوابة في نطاق الميكرون أو مئات النانومترات أو حتى عشرات النانومترات، يُمكن التحكُّم في حالة الترانزستور بين الفتح والغلق بسرعة. نحن عمليًّا في الحدود التقليدية؛ حيث الطبيعة الكمومية للإلكترونات لا تُخلف تأثيرًا ضخمًا على عمل النبيطة.
غير أن تقليص طول البوابة إلى ما دون ١٠ نانومترات يُغيِّر فيزياء الموقف في النطاق النانوي جذريًّا. في هذه النطاقات، يُصبح لظاهرة النفق الميكانيكي الكمومي — وهو نفس التأثير النفقي المُستخدَم في المجهر النافذ الماسح — أهميةٌ محورية ويُمكنها أن تُهيمن على عمل الترانزستور. فلا تعود الإلكترونات «ترى» الحاجز الذي يُشكِّله أكسيد السليكون العازل. وعوضًا عن ذلك تنفُذ الإلكترونات مباشرةً خلال الحاجز؛ لأن دالتها الموجية تخترقه، بل وتتجاوز الأكسيد العازل بين المصدر والمصب وتُفقده خواصه العازلة. ويترتَّب على ذلك خلق تيارٍ مُتسرِّب، مما يجعل الترانزستور غير كفءٍ بالمرة؛ لأنه حتى عندما يكون في حالة «الغلق»، قد تظلُّ احتمالية حدوث تدفُّق تلقائي للتيار نتيجةً للنفق الكمومي.
إن لم يكن بإمكاننا تصميم طرق وتقنيات جديدة للتحايل على فيزياء الكم، لماذا لا نكتفي باعتمادها بدلًا من ذلك؟ هذا هو تحديدًا جوهر الكمبيوتر الكمومي؛ حيث تُشكل الخصائص الموجية للمادة، بما فيها النفق الكمومي، الأساسَ لتوجُّهٍ جديد تمامًا في تكنولوجيا الحوسبة والأجهزة. ولكن على عكس التنبُّؤات والنقاد الذين يسهل إثارتهم هنا وهناك، لن تحلَّ الحوسبة الكمومية مَحلَّ تكنولوجيا الحوسبة التقليدية بالكامل. لا شك أن الكمبيوتر الكمومي بإمكانه أن يحلَّ مشكلاتٍ ويُنفِّذ خورازميات كانت مستحيلة أمام الكمبيوتر التقليدي، أو كانت ستستغرق وقتًا طويلًا على نحوٍ لا يُصدَّق (ملايين أو مليارات الأعوام.) لكن العكس صحيح بالقدْر ذاته؛ فالكمبيوتر التقليدي بالفعل أفضل أداءً من نظيره الكمومي المُحتمَل في مهامَّ كثيرة جدًّا، أذكر منها أمثلةً معدودة من حياتنا اليومية، مثل خوادم البريد الإلكتروني، ومعالجة النصوص وجداول البيانات، ومشغلات إم بي٣ وإم بي٤، وتطبيقات التصميم الجرافيكي. لن تحلَّ أجهزة الكمبيوتر الكمومية محلَّ نظيرتها التقليدية، بل ستُكملها.
البِنى النانوية الذاتية التجميع
الطبيعة عالِم مُبتكِر قديرٌ في تكنولوجيا النانو. فقبل آلاف السنين من نجاح الإنسان في التحكُّم في العالَم النانوي، كانت الطبيعة، ولا تزال، تستغل القوى بين الذرية والقوى بين الجزيئية لتكوين مادةٍ على أصغر المستويات، لتبني مجموعةً مُدهشة من الأنماط المُعقَّدة ذات البنية النانوية، بحيث يتبع شكل كلٍّ منها وظيفته. وفي معرض استعراضهما للمساهمات في عددٍ خاص من دورية «فيلوسوفيكال ترانزاكشنز أوف ذا رويال سوسايتي» حول فكرة التنظيم الذاتي، وصفَ رولاند فايدليش-سولدنر وتيمو بيتز، من مبادرة «الخلايا قيد الحركة» بجامعة فيستفليشه فيلهلمز بمدينة مونستر الألمانية، التنظيم الذاتي بأنه أساس بيولوجيا الخلية:
يكمن التنظيم الذاتي في صميمِ ما يتَّسم به التنظيم من متانةٍ وقدرة على التكيُّف سواء على مستوى الخلايا أو على مستوى الكائن؛ ولذا يشكِّل ركيزةً أساسية يستنِد إليها الانتقاء الطبيعي والتطور.
ربما لاحظتَ أنني انتقلت من استخدام مصطلح «التجميع الذاتي» إلى الإشارة لوصف فايدليش-سولدنر وبيتز ﻟ «التنظيم الذاتي». بعض العلماء يتعاملون مع هذين المُصطلحَين باعتبارهما مترادفَين. لكن ثمَّة آخرين، وأنا منهم، يُميزون بينهما تمييزًا خاصًّا؛ فالتجميع الذاتي يحدُث عندما يكون النظام الجزيئي قريبًا من حالة الاتزان الديناميكي الحراري، أما التنظيم الذاتي فيحدث عند حدوث تدفُّق كبير للطاقة أو المادة، وهذا يعني أن النظام بعيد عن الاتزان. والاتزان الديناميكي الحراري يعني ببساطةٍ أن يبدوَ أي جزءٍ من النظام مُشابهًا لأي جزء آخر فيه إلى حدٍّ كبير. فكِّر فيما يحدث عند فتح زجاجة من عطرٍ فوَّاح في غرفة. في لحظة فتح الزجاجة يخرج النظام، الذي يمكن اعتباره الهواء داخل الغرفة في هذه الحالة، من حالة الاتزان؛ أي يتزوَّد بدفقة موضعية من المادة (أو الطاقة أو كليهما) عند موضعٍ مُعيَّن، مما يعني أن توزيع الجزيئات في الغرفة ليس مُتجانسًا. لكن إن انتظرت برهة، سوف «يتزن» النظام مجددًا؛ أي إن جزيئات العطر ستنتشر عبر الغرفة — بسبب تصادُماتها مع الجزيئات المجاورة — حتى يُصبح توزيعها متجانسًا. وبهذا يستعيد النظام اتزانه.
في نظام ذاتي التجميع، تكون للجزيئات حريةٌ كبيرة في التفاعل تبعًا لنوع الجُهد بين الجُزيئي الذي تناولناه في الفصل الأول. فالقوى التي يقوم عليها التجميع الذاتي الجُزيئي عمومًا تنطوي عليها تفاعُلات روابطها أضعف بكثيرٍ من الروابط التساهمية و/أو الأيونية التقليدية المسئولة عن تماسُك الذرَّات معًا في صورة بلورات غير عضوية مثل السليكون والنحاس والذهب. إلى جانب قوى جذب فان دير فالز التي تناولناها بالفعل، ينطوي التجميع الذاتي على أنواعٍ أخرى أضعف من التفاعل: كالروابط الهيدروجينية (المسئولة عن السلوك الشاذ للماء، وتفسيرها له تاريخ طويل ومتقلِّب)؛ وكراهية أو حُب الماء (وتستدعي أيضًا فهم تفاعُلات الماء، وتنبع في الأساس من الإنتروبيا الناجمة عن خلط مادتَين مُختلفتَين؛ وسنتناول المزيد عن الإنتروبيا فيما سيلي)؛ وكيمياء التناسُق (وهي تُشبه الروابط التساهمية نوعًا ما عدا أن كِلا إلكتروني الرابطة يأتي من نفس الذرة أو الجزيء).
غير أن طاقة الروابط بين الجزيئية ليست المُتحكِّم الوحيد في ترتيب الجزيئات. فالإنتروبيا لا تلعب دورًا مهمًّا في ذلك فحسب، بل يُمكنها أحيانًا أن «تُهيمن» على عملية التجميع. وكما أشرْنا بإيجاز في الفصل السابق، تصف التفسيرات التقليدية للإنتروبيا الظاهرةَ عمومًا في سياق التزايُد المُستمر للفوضى، لكن هذا التفسير، في أحسن الأحوال، لا يلمس المبادئ الجوهرية التي يستنِد إليها هذا العلم، وفي أسوأ الأحوال يُعَد مضللًا تمامًا. وقد عبَّر فرانك لامبرت (١٩١٨–٢٠١٨) — وهو أكاديمي أمريكي ظلَّ يُنادي بلا كللٍ من أجل إحداث تغييرات في طريقة تدريس الإنتروبيا في المساقات الجامعية — عن ذلك على نحوٍ مشهود في عنوان ورقة بحثية نشرَها عام ١٩٩٩: «أوراق اللعب المُختلطة، والمكاتب الفوضوية، وغُرَف السكن غير المُرتَّبة؛ هل تُعَد هذه أمثلة على زيادة الإنتروبيا؟ هذا هراء!» إن الإنتروبيا تتعلَّق بوضعيَّات وترتيبات مُكونات النظام، وتُعبِّر كميًّا عن الاحتماليات النسبية لحدوثها، وتُفسِّر كيف تتوزَّع الطاقة (أو تتشتَّت) عبر هذه التكوينات. وبذلك، ترتبط الإنتروبيا عن كثَب برياضيات التباديل والتوافيق والاحتمالات؛ لذا فهي ذات طبيعةٍ إحصائية في الأساس. وتتعلَّق الوضعيات والترتيبات المُتنوِّعة محل البحث في التجميع الذاتي الجزيئي بالحركات الدورانية والاهتزازية والانتقالية المُحتمَلة للجزيئات.
ثمَّة صراعٌ دائم بين طاقة الوضع بين الجزيئية (المُمثلة بنوعيات التفاعلات التي ناقشناها في الفصل الأول)، وبين الإنتروبيا؛ أي كيفية توزيع الطاقة عبر الوضعيات والتراتيب المُختلفة للنظام. ولا يقتصر هذا على علوم النانو وتكنولوجيا النانو. فعبر طيف نطاقات الأطوال، من الذرَّات إلى المجرَّات، يُحدِّد التوازُن بين طاقة التفاعلات والإنتروبيا كيفيةَ تطوُّر أي نظام؛ فالديناميكا الحرارية لا تُركز على الطاقة فحسب، بل أيضًا على الطاقة «الحرة»، وهي كمية تُفسِّر التوازن بين الجهد بين الجزيئي، وتأثير البيئة، والإنتروبيا. ما يشغلنا على المستوى النانوي هو التحكُّم في اللَّبِنات الأساسية لبناء المادة — من الذرات، والجزيئات، والجسيمات النانوية — وتوجيهها لتكوين نوعية البِنى التي نحتاج إليها. لذلك يقضي علماء تكنولوجيا النانو قدرًا هائلًا من الوقت في محاولة إيجاد «النقطة المثالية» التي توازن بين تأثيرات الجهد بين الجزيئي، والإنتروبيا، والتأثيرات والمُثيرات الخارجية (مثل الحرارة والضغط والضوء …) بالطريقة الصحيحة تمامًا.
قادت شارون جلوتزر، أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة ميشيجان، برنامجًا بحثيًّا مبتكرًا ومُلهمًا وذا تأثير بالِغ استغلَّ الإنتروبيا لحفز «مزيد» من النظام لا نظام أقل. وقد صرَّحت جلوتزر في مقابلة مع مجلة «كوانتا» قائلة:
ما يحدث هو أن الجسيمات تُحاول تعظيمَ الحيز المتاح لها للتحرك فيه إلى أقصى حد. وإن كان بإمكانك أن تتحرك، فيُمكنك أن تُعيد ترتيب موضعك واتجاهك. وكلما زادت المواضع، زادت الخيارات، وزادت الإنتروبيا بالتبعية … ما تُريده هذه الأنظمة هو المباعدة بين الجسيمات بما يكفي لتعظيم الحيز المُتاح للحركة لجميع الجسيمات. وقد يؤدي هذا إلى توزيعاتٍ غاية في التعقيد، حسب شكل الجسيم.
تركز جلوتزر وفريقها على ما يُعرَف ﺑ «النشوء»؛ أي كيف يمكن لأجسامٍ بسيطة، باتباع قواعد غاية في البساطة، أن تُثمر سلوكًا جماعيًّا مُعقدًا أيما تعقيد. (تُعَد أسراب طيور الزرزور مثالًا واقعيًّا جيدًا جدًّا لهذا التفاعُل الجماعي، وإن كانت طيور الزرزور ليست أبسط شيءٍ يمكن تصوُّره.) يدرس الفريق كيفيةَ تحقيق التجميع الذاتي والتنظيم الذاتي في الجسيمات (النانوية) على اختلاف أشكالها وأحجامها. ونظرًا للدور المحوري للإنتروبيا في حفز تكوين البِنى المُنظِّمة، تعتقد جلوتزر بقوة في ضرورة توسيع نطاق تعريف التفاعُلات بين الجزيئية وبين الجسيمية لتشمل الإنتروبيا بطريقةٍ أكثرَ وضوحًا ومباشَرةً بكثيرٍ ليُصبح: الرابطة الإنتروبية.
بعيدًا عن نطاق الاتزان
في ظروفٍ مثالية، سيستمر التجميع الذاتي حتى يُصبح كل ذرة، أو جزيء أو جسيم نانوي في أدنى مستويات الطاقة التي تُعَد أكثر حالاته مُواءمة. وهذه أكثرُ الوضعيات استقرارًا، وغالبًا ما تكون الغاية القصوى لكثيرٍ من علماء تكنولوجيا النانو الذين يستغلون التجميع الذاتي لتوليد أنماطٍ نانوية مُعينة. لكن قليلًا ما تكون الأمور مِثالية في عالَم العلم (رغم الاستخدام الواسع النطاق للنماذج والافتراضات المِثالية في الفيزياء على سبيل المثال). لذا غالبًا ما يتمكَّن التجميع الذاتي من إنتاج بنًى ليست في أكثرِ الحالات استقرارًا، بل في حالةٍ تُعرَف بالحالة «شِبه المُستقرة». تُشير «الحالة شِبه المُستقرة» إلى نظامٍ لم يصِل لأقل طاقة مُمكنة له؛ حيث علِقت الجزيئات (أو الذرات أو الجسيمات النانوية) في وضعيةٍ قد تستغرق مدةً زمنية طويلة جدًّا للإفلات منها. قد تتراوَح هذه المدة الزمنية بين ميكرو ثوانٍ وملايين الأعوام (وأكثر من ذلك)، لكن يُمكن تسريع العملية عمومًا بضخِّ طاقة حرارية، أي بتسخين الأشياء. ويعتبر الألماس مثالًا جيدًا للبِنى شِبه المستقرة. فالحالة المُفضَّلة لذرات الكربون على مستوى الديناميكا الحرارية ليست الشكل البلوري الجميل الذي نراه في خواتم الألماس، بل حالة الجرافيت (أي «الرصاص» الموجود في القلَم الرصاص) الأقل جاذبية كثيرًا على المستوى الجمالي. فبعد فترةٍ زمنية كافية (رغم أن الانتظار سيستمر طويلًا جدًّا بلا شك)، ستبهت لمعة الألماس وتتحوَّل إلى اللون الأسود.
تكون الجسيمات النانوية الغروية عُرضةً بصورة كبيرة للانحصار في حالاتٍ بعيدة عن الاتزان. ولتصنيع نبائط الحالة الصلبة التي تستغل الخواص الإلكترونية والضوئية للجسيمات النانوية، ينبغي أن تكون تلك الجسيمات في حالةٍ صلبة. وهذا يعني أننا يجِب أن ننقل الجسيمات النانوية من حالتها كمعلق في مذيب إلى ركيزة أو مادة أولية صُلبة يُمكننا تصنيع وصلات كهربية عليها لقياس سريان الإلكترونات خلال تجميعة الجسيمات النانوية والتحكُّم فيه. ثمَّة الكثير من التشابُهات هنا مع فيزياء بُقَع القهوة؛ فلدَينا مُذاب (الجسيمات النانوية) مُعلَّق في مذيب. ضع قطرة صغيرة من هذا المُعلِّق على سطحٍ ما واترُكها تجف. ماذا سيحدث؟
أراضي الكربون المسطَّحة
لقد استهللنا هذا الفصل بمناقشةٍ لتاريخ تكنولوجيا النانو القائمة على السليكون. وسنختتِمُه بتناول لعنصرٍ ملاصق للسليكون في الجدول الدوري، ألا وهو: الكربون. ينتمي العنصران إلى المجموعة نفسها في الجدول الدوري؛ إذ يحتوي كلٌّ منهما على أربعة إلكترونات تكافؤية؛ لذا فأول ما يتبادر إلى أذهاننا أنهما قد يكونان مُتشابِهَين كيميائيًّا إلى حدٍّ ما. غير أنهما مُختلفان أشدَّ الاختلاف من نواحٍ عديدة. فالحياة العضوية قوامُها الكربون، والكيمياء العضوية هي في الأساس كيمياء الكربون. لكن أنظمتنا التكنولوجية — بما في ذلك نظم الإلكترونيات النانوية التي تُدير أغلبَ عصرنا المعلوماتي — لم تكن عضويةً في العادة. لقد صار هذا قيدَ التغيير الآن (وإن كنتُ أعترف أنه يحدُث ببطءٍ شديد)، وهو تغيير تُحرِّكه التطورات الرائدة في التجميع الذاتي الجزيئي وتكنولوجيا النانو القائمة على الحمض النووي اللذَين تناولناهما فيما سبق. غير أن الجزيئات في المُعتاد تحتوي على عناصرَ عديدة؛ فالكيمياء العضوية للحمض النووي، على سبيل المثال، تعتمد على الفوسفور والنيتروجين والأكسجين والهيدروجين، إلى جانب الكربون. فهل يُمكن تصنيع نبيطة نانوية تعتمد على الكربون البلوري وحده؟
غير أن الجرافين ليس ميدانًا لأبحاث الفيزياء الأساسية الجديدة فحسب؛ فخواصُّه الفريدة تعني أيضًا أن له تطبيقاتٍ لا حصر لها على نحوٍ استثنائي. تتنوع هذه التطبيقات ما بين طلاءات شفافة مُوصلة تستخدم في الخلايا الشمسية وشاشات اللمس، ومُستشعرات حساسة للغازات و«أنوف نانوية» (أي الكشف عن الجزيئات)، وكواشف للضوء فائقة السرعة، وحواجز للغازات، وأجهزة لقياس الإجهاد، وترشيح وتنقية المياه. بل ونبائط إلكترونية نانوية يُحتمَل أن تتفوَّق على تكنولوجيا السيموس السليكونية. غير أنه في هذا التطبيق الأخير، ما زال أمام الجرافين طريق طويل إلى حدٍّ ما قبل أن يُصبح منافسًا حقيقيًّا للسليكون. يرجع بعض هذه العقبات إلى أسبابٍ تتعلَّق بالفيزياء الأساسية؛ ومنها أن الجرافين في حالته الأصلية ليس لدَيه فجوة نطاق الطاقة اللازمة لكثيرٍ من التطبيقات الإلكترونية النانوية (وإن كان يُمكن حثُّ فجوة النطاق اللازمة باستخدام كيمياء دقيقة ومن خلال تشويه بلورة الكربون عمدًا).
ولكن حتى عند تخطِّي مشكلات الفيزياء وهندسة الإلكترونيات، يظلُّ أمامنا الواقع الاقتصادي الصعب؛ فأي خطوة للبُعد عن البنية التحتية السليكونية المُعتمدة صناعيًّا والاتجاه نحو استخدام الجرافين، أو أيٍّ من نُظم المواد الثنائية الأبعاد العديدة الأخرى التي صارت تُستخدَم في أعقابه، ستتطلَّب إعادةَ تفكير جذرية في استراتيجيات التصميم والتصنيع. وسيكون هذا مُكلفًا. لكن كما سنستكشِف في الفصل المقبل، فالجرافين ليس الطريق الوحيد نحو إحداث ثورة في الإلكترونيات ومُعالجة المعلومات في النطاق النانوي.