الفصل الثالث

التفكيك التنازُلي، والبناء التصاعدي

«مزِّقوا الكتب يا أطفال. إنياك سيقضي على الرياضيات.»

كان هذا هو العنوان الرئيسي في صحيفة «فيلاديلفيا ريكورد» في عددها الصادر بتاريخ ١٩ فبراير ١٩٤٦. «إنياك» هو اختصار ﻟ «الكمبيوتر والمُكامل الإلكتروني الرقمي»، وهو إنجاز مُذهل طوَّره جون ماوشلي وجون بريسبر إيكرت من جامعة بنسلفانيا بتمويلٍ من الجيش الأمريكي. صُمِّم إنياك ليكون أولَ كمبيوتر رقمي متعدِّد الأغراض قابلًا للبرمجة، ويحتوي على ١٧٥٠٠ أنبوب مُفرغ موصَّل بعضها ببعض بواسطة نصف مليون وصلة لحام، وكان حجمه هائلًا. بلغ وزن إنياك نحو ٥٠ طنًّا، متفوقًا بذلك على سابقه كولوسوس — الذي جرى تطويره في حديقة بلتشلي بارك، المقر البالغ السرية لفك الشفرات في الحرب العالمية الثانية — بهامش كبير. (استُوحي كولوسوس من أعمال ألان تورينج، واستُخدِم لفكِّ شفرة رسائل المبرقة الكاتبة الألمانية، مما أسهم في تقصير مدة الحرب العالمية الثانية عدةَ أشهر وإنقاذ آلاف الأرواح.) وفي حين كان كولوسوس يحتاج مساحةً كمساحة غرفة المعيشة، كان إنياك أكبر من حجم منزل بقدْرٍ معتبر؛ فقد كان يحتلُّ مساحة تبلغ ١٦٧ مترًا مربعًا، في مقابل المنازل الإنجليزية حديثًا، التي تبلغ مساحتها المعيشية في المتوسط ٦٨ مترًا مربعًا.

تناقلت عناوين الصحف حول العالم نفس حماس «فيلاديلفيا ريكورد» تجاه إنياك؛ إذ وُصف بأنه عقل خارق، وحاسب روبوتي يعمل بسرعة البرق، ورياضياتي ميكانيكي تفوَّق على أينشتاين في التفكير وإعمال العقل. كان أداء إنياك مُبهرًا إلى حدٍّ لا مثيل له في وقته بلا شك؛ إذ كان بإمكانه تنفيذ التعليمات بمعدل ٥٠٠٠ أمر في الثانية بسرعة خارقة. لكن بالمقارنة نجد أن الهاتف الخلوي الذكي الآن بإمكانه عادةً أن يُعالج «مليارات» التعليمات في الثانية. حتى وإن لم تكن تحمل في جيبك هاتفًا خلويًّا من أحدث طراز، فإن سرعة معالج الآيفون منذ عام ٢٠١٠ في مستوى ١ جيجا هرتز (أي نحو مليار أمر في الثانية).

ثمَّة تلازُم بين التصغير وسرعة المعالجة؛ فكلما صغرت التقنية، صارت أسرع. فوحدات المعالجة الكامنة في صميم الهواتف وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة اللوحية يحتشد فيها عددٌ مذهل من المكونات الإلكترونية في حيز بالغ الصغر. وفيما يتعلق بحجم المكون وحده، فقد مهَّدت الإلكترونيات الميكروية الطريقَ للإلكترونيات النانوية منذ وقتٍ طويل. فمع بزوغ فجر صناعة أشباه الموصلات في أواخر الستينيات، صُغِّر حجم الدوائر المتكاملة ليصل إلى عشرات الميكرونات (أي عشرات الآلاف من النانومترات.) وبتسريع الأحداث بضعة عقود، نجد أن معالج إنتل ٨٠٣٨٦ الذي كان يعمل به حاسوبي الذي كتبتُ عليه كود مشروع تخرُّجي في الجامعة عام ١٩٩٠ كان حجم العنصر فيه ١٠٠٠ نانومتر. (في صناعة أشباه الموصلات، كان مُصطلح حجم العنصر تاريخيًّا يُستخدَم للدلالة على طول القناة المُمتدة بين ما يُعرف بوصلة المصدر ووصلة المصبِّ في الترانزستور. أما في الوقت الحالي، فقد بات مصطلح حجم العنصر يُعبِّر عن أصغر تركيب في الترانزستور.) وقد تخطَّت معالجات بنتيوم ٤، التي أصدرتها شركة إنتل عام ٢٠٠٤، حاجز الألف نانومتر من خلال ما يسمَّى بعملية التسعين نانومترًا. وبعد ١٥ عامًا، أعلنت شركة إنتل في ديسمبر ٢٠١٩ عن خططها لإنتاج معالجات بدقة تصنيع تبلغ ١٫٤ نانومتر بحلول عام ٢٠٢٩.

هذا يعني أن تقليص حجم العنصر قد بلغ نحو خمس قِيَم أُسية، فيما يُعَد مستوًى مذهلًا من الابتكار التقني الدءوب الذي تكهَّن به جوردن مور، المدير التنفيذي السابق (والشريك المؤسِّس) لشركة إنتل، من قبل أن يُصبح لوجود تكنولوجيا النانو أي تصوُّر بزمنٍ طويل. ينص قانون مور على أن عدد الترانزستورات في دائرة متكاملة يتضاعف كل عامَين تقريبًا. ورغم أن نبوءة مور توصف دومًا بأنها قانون، فقد خلا تكهُّن مور من أي شيءٍ جوهري؛ فهو ليس من فئة قوانين نيوتن أو قوانين الديناميكا الحرارية الأول والثاني والثالث على سبيل المثال؛ إذ لم يُشتق مباشرة من مبادئ فيزيائية أو كيميائية. بل يقوم استدلاله المنطقي الأساسي على حجج اقتصادية. غير أن الإمكانيات الحاسوبية آخذة في التطوُّر والزيادة من عام إلى آخر منذ أواخر الستينيات بما يتوافق مع ما قد يستحسن وصفه بحَدْس مور الاستكشافي. لعبت تكنولوجيا النانو دورًا أساسيًّا في ضمان استمرارية هذا التقدُّم، لكن المفارقة أن علوم النانو نفسها تعتبر أيضًا سببًا في الموت البطيء الذي يواجِه قانون مور.

التكنولوجيا التنازلية

تتميز مصانع أشباه الموصلات ببيئاتٍ تحظى بمستوًى استثنائي من التعقيم. فالنبائط تُصنَّع في غُرَف في غاية النظافة؛ حيث تخضع ظروف بيئة المعمل لتنظيمٍ دقيق للحد من تلوُّثها بالجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء، وللتحكُّم في درجة الحرارة، وضغط الهواء وتياره، والرطوبة، والاهتزاز، والضوضاء، والإضاءة. وهذا المستوى العالي من التحكُّم في البيئة ليس من أجل صالح علماء تكنولوجيا النانو العامِلين على أشباه الموصلات بداخلها. فالغُرَف النظيفة ضرورية لوقاية النبائط ذات البِنية النانوية حتى من أدقِّ ذرات الغبار. فحجم العنصر دون العشرة نانومترات في التكنولوجيا الحديثة لأشباه الموصلات يعني أن أي ذرة غبار غير مرئية، والتي يبلُغ حجمها المُعتاد آلاف النانومترات، ستكون عملاقةً بالمقارنة بحجم العنصر وقد تُسبِّب أضرارًا جسيمة أثناء عملية مُعالجة النبيطة.

كيف تُصنع المكونات ذات الأبعاد النانوية التي تقوم عليها كل التكنولوجيا الرقمية فعليًّا؟ ينطوي تصنيع النبائط (مكوِّنات أشباه الموصلات) على عمليةٍ وُضِعت منذ بدء صناعة أشباه الموصلات، وإن كانت بالطبع أخذت في التطوُّر المُستمر. هذه العملية في أساسها عمليةُ طباعة ليثوغرافية أو حجرية تنازُلية تنطوي على نقل شكلٍ معيَّن على سطح رقاقة من السليكون. تأتي كلمة «ليثوغرافي» من دمج اللفظتَين اليونانيتَين lithos، وتعني حجر، وgraphia، وتعني تكتب؛ وعلى ذلك تكون ترجمتها الحرفية «الكتابة على الحجر».
تتضمَّن الطباعة الليثوغرافية النانوية في القرن الحادي والعشرين الكتابةَ على رقاقةٍ من السليكون يبلُغ قطرها في المعتاد ٣٠٠ نانومتر في مصانع أشباه الموصلات الحديثة، وذلك من خلال سلسلةٍ طويلة من خطوات المعالجة التي تزيل المواد غير المرغوب فيها لتحديد المُكون النانوي من خلال تقطيع السليكون المُحيط به والتخلُّص منه. ويظهر في شكل ٣-١ استعراضٌ للخطوات الرئيسة في هذه العملية، التي تُعرَف بالطباعة الليثوغرافية الضوئية؛ نظرًا لاعتمادها على استخدام الضوء. ولكن من المهم أن نُدرك أن هذا المُخطط شديدُ التبسيط؛ فمن الوارد كثيرًا أن تمرَّ الرقاقة بصُوَر متنوِّعة من عملية الطباعة الليثوغرافية الضوئية لما قد يصِل إلى ٥٠ مرة أثناء تصنيع دائرة متكاملة.
fig8
شكل ٣-١: مُعالجة تنازُلية لأشباه الموصلات: الطباعة الليثوغرافية النانوية. الخطوات الرئيسة في عملية تطبيق نمط مُعيَّن على رقاقة من السليكون لتشكيل معالم ومُكوِّنات ذات أبعاد ميكروية ونانوية.

إلى جانب ذلك، ورغم أن الطباعة الليثوغرافية الضوئية هي الإجراء المُعتمد في هذه الصناعة، فإنها كثيرًا ما تتكامل مع تقنيات تنازُلية أخرى خلال مراحل التصميم وإعداد النماذج الأولية من عملية إنتاج الرقاقة. ويأتي في طليعة هذه التقنيات استخدام شعاع أيوني مركَّز لتذرية المادة حتى مستوى النانو. والشعاع الأيوني المركَّز في جوهرِه هو إزميل أو آلة خراطة نانوية. يستخدم شعاع عالي الطاقة من الأيونات، عادةً ما يكون من الجاليوم، ويُركَّز باستخدام عدسات كهروستاتيكية ليُسلط على الموضع المراد في عيِّنة أو نبيطة، فيكشط المادة في الموضع المحدَّد. ويمكن طبع أشكال شتى على العينات عن طريق مسح العينة بالشعاع ذهابًا وإيابًا. بالإضافة إلى دور تقنية شعاع الأيونات المُركَّز في صناعة أشباه الموصلات، فإنها تُستخدَم كذلك على نطاق واسع لتحضير العينات للفحص المجهري لنفاذ الإلكترونات (الذي يُشبه الفحص بمجهر المسبار الماسح في قُدرته على الوصول إلى تباين على مستوى الذرات، وإن كان من خلال طريق أقل مباشرة). ينبغي أن تكون هذه العينات رقيقةً للغاية — عادةً ما تقارب ١٠٠ نانومتر — كي تكون شفَّافة بالنسبة إلى الإلكترونات العالية الطاقة؛ وتُعتبر تقنية شعاع الأيونات المركَّز أداةً فعالة لترقيق العينات إلى المستوى المطلوب.

في البداية تُغطى رقاقة نظيفة من السليكون، بطبقتها الواقية من أكسيد السليكون، بطبقة من مادة حساسة للضوء تُعرف بالمادة المقاومة للضوء. تُعد المواد المقاومة للضوء تكنولوجيا كاملة في حد ذاتها، بحيث يمكن أن نفرد «مقدمة قصيرة جدًّا» لمناقشة أُسس علم المواد والكيمياء والفيزياء التي تقوم عليها مقاومات الضوء. باختصار، عندما تتعرض المادة المقاومة الحساسة للضوء لضوءٍ فوق بنفسجي، تتغير بِنيتها الكيميائية عند المواضع التي تُعرَّض للضوء، وذلك بإعادة تنظيم الروابط وجعل المادة قابلة للذوبان، أو غير قابلة للذوبان، في مادة كيميائية تُسمى بمحلول التظهير. (ثمة تشابهات كثيرة بين الطباعة الليثوغرافية الضوئية والتصوير الفوتوغرافي التناظري التقليدي.) إذا أزال محلول التظهير المادةَ من المناطق التي تعرَّضت للضوء، توصف المادة المقاومة للضوء بأنها مُوجبة؛ أما إذا أزال محلول التظهير المادةَ من المناطق التي لم تتعرض للضوء، فالمادة سالبة.

يتطلب اختيار المواضع التي ستُعرَّض فيها المادة للضوء استخدامَ قناعٍ ضوئيٍّ. والقناع الضوئي، في جوهره، هو خريطة للدوائر والتوصيلات داخل الدوائر المتكاملة المَعنية، وهو الذي يُحدِّد ما إذا كان الضوء فوق البنفسجي سيُحجَب عن رقاقة السليكون المُغطاة بالمادة المقاومة للضوء أم سيسقط عليها. يُستخدَم الضوء فوق البنفسجي هنا؛ لأن طوله الموجي القصير، الذي يبلُغ في المعتاد ١٩٣ نانومترًا في معظم عمليات المعالجة الليثوجرافية الضوئية في وقت كتابة هذا الكتاب، يُتيح تباينًا أفضل لمعالم السطح. ومن الجدير بالملاحظة أنه برغم أن الطول الموجي المُستخدَم هو ١٩٣ نانومترًا، يمكن تشكيل معالم أبعادها دون ١٠ نانومترات باستخدام الطباعة الليثوغرافية الضوئية، وذلك من خلال تقنيات مُتطوِّرة للتعريض المُتعدد، حيث يُطبع الشكل على الرقاقة أولًا ثم تُعرَّض الرقاقة للضوء مرةً أخرى باستخدام قناع مختلف يُشبه الأول لكنه مُزاح عنه، يتبع ذلك مرحلة تظهير أخرى للمادة المقاومة ثم إزالتها.

بعد انتهاء عملية المعالجة، يكون الشكل المحفور على القناع الضوئي قد نُقل إلى رقاقة السليكون من خلال إزالة الأكسيد من مناطق مُعينة. يلعب أكسيد السليكون، باعتباره عازلًا ذا فجوة نطاق واسعة، دورًا محوريًّا وأساسيًّا في عمل النبائط الإلكترونية الميكروية والنانوية، ويعادل في أهميته الأقطابَ المعدنية وركيزة السليكون، اللذَين يُشكلان معًا المُكوِّنين الآخرين لما يُعرف بتكنولوجيا أشباه الموصِّلات ذات الأكاسيد المعدنية المُتتامَّة (والمعروفة اختصارًا ﺑ «سيموس»). وقد ظلت هذه التكنولوجيا القوة المُحرِّكة لهذه الصناعة عقودًا، وذلك لسببٍ وجيه؛ وهو أن أكسيد السليكون مادة مُستقرة كيميائيًّا على نحوٍ استثنائي، وفجوة نطاقها الواسعة توفِّر درجةً عالية من العزل والفصل اللازِمَين لضمان أن العدد الهائل من المكونات الفردية داخل الدائرة المُتكاملة منفصلة بعضها عن بعض.

ولكن برغم كل هذا الابتكار في الطباعة الليثوغرافية النانوية الذي دفع عمليةَ التصغير إلى الأمام (ولأسفل كذلك) عقودًا بلا كلل، فإن قانون مور يحتضر. بل إن بعض الخبراء يذهبون إلى أن قانون مور ميتٌ بالفعل منذ وقتٍ طويل. ولعل أحد الأسباب وراء ذلك أنه على الرغم من أن سرعة (أو معدل الساعة) وحدة المعالجة الذي يقاس بالجيجاهرتز في نبائطنا، الذي نعتبره أمرًا مُسلَّمًا به، مُثيرٌ جدًّا للإعجاب بلا شك، وذلك بالمقارنة بجهاز إنياك المحصورة في نطاق الكيلوهرتز، فإن التحسُّن في معدل الساعة كان ضئيلًا جدًّا على مدار العقد الماضي؛ إذ اصطدمت هذه الصناعة بعقبة. يرجع هذا إلى أن حشر مليارات الترانزستورات النانوية في رقاقة مساحتها الفعَّالة قد تكون أحيانًا أقل من ملِّيمتر مربع واحد، ثم تشغيلها مليارات المرَّات في الثانية، يُولِّد قدرًا كبيرًا من الطاقة الحرارية التي ينبغي التخلص منها بطريقةٍ ما. وفوق ذلك، كلما كان تشغيل الترانزستور أسرع، تطلَّب المزيد من القدرة الكهربية. في الواقع، يُعَد معدل الساعة ضحيةً للموت الحراري للإلكترونيات النانوية.

والمُفارقة أنه برغم أن الابتكارات العبقرية في مجال تكنولوجيا النانو كثيرًا ما كانت بمنزلة المُنقذ لصناعة أشباه الموصلات، مما يبقي قانون مور صالحًا للتطبيق، فإن فيزياء النطاق النانوي ستكون أيضًا عدوَّها اللدود في النهاية (إلى جانب الاقتصاد ببروده وقسوته). إن مسألة الموت الحراري وما يتعلَّق بها من تحديات اقتصادية لدفع السليكون إلى نطاقات تردُّدية أعلى ليست إلا جانبًا واحدًا من المشكلة. فحجم العنصر الذي يبلغ اليوم ثلاثة نانومترات، يبلغ عرضه أقل من ١٠ ذرات سليكون. وهذا النطاق من الأطوال يعني أننا الآن داخل العالم الكمومي دون أي شك؛ ولذلك تلعب الطبيعة الموجية للإلكترونات دورًا أساسيًّا في عمل النبائط. فالطبيعة الكمومية للمادة في النطاق النانوي تُعد حاجزًا ضخمًا أمام صلاحية قانون مور مع أحجام عناصر أصغر وأصغر. ولكي نفهم سبب ذلك، نحتاج إلى التوقُّف قليلًا للاطلاع على مبدأ العمل الأساسي الذي تستند إليه تكنولوجيا سيموس؛ وهو مبدأ تبديل حالة الترانزستور.

تحطيم الحواجز: النفاذ النفقي للإلكترونات

الترانزستورات، في أساسها، مفتاحٌ كهربي ثُلاثي الأطراف يتكوَّن، بموجب تكنولوجيا السيموس، من مصدرٍ ومَصبٍّ وقُطب بوابة. من خلال وضع جهدٍ على قطب البوابة، يُمكن التحكُّم في تدفُّق الإلكترونات — أي التيار الكهربي — بين المصدر والمصب بالفتح والغلق، مما يضع الترانزستور إما في الحالة ٠ أو الحالة ١. وهذا هو أساس المنطق الثنائي الذي يقوم عليه أغلب التكنولوجيا. عندما يكون طول البوابة في نطاق الميكرون أو مئات النانومترات أو حتى عشرات النانومترات، يُمكن التحكُّم في حالة الترانزستور بين الفتح والغلق بسرعة. نحن عمليًّا في الحدود التقليدية؛ حيث الطبيعة الكمومية للإلكترونات لا تُخلف تأثيرًا ضخمًا على عمل النبيطة.

غير أن تقليص طول البوابة إلى ما دون ١٠ نانومترات يُغيِّر فيزياء الموقف في النطاق النانوي جذريًّا. في هذه النطاقات، يُصبح لظاهرة النفق الميكانيكي الكمومي — وهو نفس التأثير النفقي المُستخدَم في المجهر النافذ الماسح — أهميةٌ محورية ويُمكنها أن تُهيمن على عمل الترانزستور. فلا تعود الإلكترونات «ترى» الحاجز الذي يُشكِّله أكسيد السليكون العازل. وعوضًا عن ذلك تنفُذ الإلكترونات مباشرةً خلال الحاجز؛ لأن دالتها الموجية تخترقه، بل وتتجاوز الأكسيد العازل بين المصدر والمصب وتُفقده خواصه العازلة. ويترتَّب على ذلك خلق تيارٍ مُتسرِّب، مما يجعل الترانزستور غير كفءٍ بالمرة؛ لأنه حتى عندما يكون في حالة «الغلق»، قد تظلُّ احتمالية حدوث تدفُّق تلقائي للتيار نتيجةً للنفق الكمومي.

مِن الجوانب المُهمة في النفاذ النفقي أن العملية حساسة للغاية لعرض الحاجز؛ وهذه الحساسية هي ما تمنح المجهر الماسح النافذ دقةَ تبايُنه العالية جدًّا (لأن أي تغيُّرات مهما كانت دقيقة في المسافة الفاصلة بين الرأس والعينة تتسبَّب في تغيراتٍ كبيرة جدًّا في مقدار التيار النفقي المَقيس). لكن ما يُعد ميزةً للمجهر النافذ الماسح يُعتبر نقمةً لإلكترونيات سيموس النانوية؛ فكلَّما صار حجم العنصر أصغر وأصغر، تتزايد احتمالية نفاذ الإلكترونات نفقيًّا خلال الأكسيد تصاعديًّا. ففي كل مرةٍ يقلُّ عرض الحاجز بمِقدار قُطر ذرة واحدة فقط، تتزايد احتمالية حدوث النفاذ النفقي مائة ضعف. وعلى الرغم من أن الأبحاث الحالية تُركِّز على ما يُسمَّى بالعوازل الكهربية ذات ثابت العزل المُرتفع (k) — وهي بدائل لأكسيد السليكون له خواصُّ عازلة تُختار لتوفير حواجز أصعب في اختراقها — فإن هذا يُعَد تأجيلًا لما لا مفرَّ منه ببساطة من نواحٍ عدة. فلا يمكن لقانون مور أن يستمر إلى الأبد؛ لأن ظاهرة النفق الكمومي ستؤدي إلى تعطيل عمل النبائط.

إن لم يكن بإمكاننا تصميم طرق وتقنيات جديدة للتحايل على فيزياء الكم، لماذا لا نكتفي باعتمادها بدلًا من ذلك؟ هذا هو تحديدًا جوهر الكمبيوتر الكمومي؛ حيث تُشكل الخصائص الموجية للمادة، بما فيها النفق الكمومي، الأساسَ لتوجُّهٍ جديد تمامًا في تكنولوجيا الحوسبة والأجهزة. ولكن على عكس التنبُّؤات والنقاد الذين يسهل إثارتهم هنا وهناك، لن تحلَّ الحوسبة الكمومية مَحلَّ تكنولوجيا الحوسبة التقليدية بالكامل. لا شك أن الكمبيوتر الكمومي بإمكانه أن يحلَّ مشكلاتٍ ويُنفِّذ خورازميات كانت مستحيلة أمام الكمبيوتر التقليدي، أو كانت ستستغرق وقتًا طويلًا على نحوٍ لا يُصدَّق (ملايين أو مليارات الأعوام.) لكن العكس صحيح بالقدْر ذاته؛ فالكمبيوتر التقليدي بالفعل أفضل أداءً من نظيره الكمومي المُحتمَل في مهامَّ كثيرة جدًّا، أذكر منها أمثلةً معدودة من حياتنا اليومية، مثل خوادم البريد الإلكتروني، ومعالجة النصوص وجداول البيانات، ومشغلات إم بي٣ وإم بي٤، وتطبيقات التصميم الجرافيكي. لن تحلَّ أجهزة الكمبيوتر الكمومية محلَّ نظيرتها التقليدية، بل ستُكملها.

على كل حال، ورغم أن الطباعة الليثوغرافية على السليكون ما زالت بعيدة جدًّا عن الجاهزية التجارية، فقد تطوَّرت إلى مدًى بعيدٍ حتى وصلت إلى حد ذرة واحدة منذ نحو ٣٠ عامًا. فقد أوضح جوزيف لايدينج وزملاؤه في جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين، بالتعاون مع فايدون أفوريس وروبرت ووكاب بمركز أبحاث توماس جيه واطسون التابع لشركة آي بي إم في يوركتاون هايتس بنيويورك، في عام ١٩٩٥، أنه من خلال ضخ إلكترونات نفقية (من رأس مجهر نافذ ماسح) في سطح من السليكون مغطًّى بطبقة من الهيدروجين بسمك ذرة واحدة، أمكن كسر الرابطة الكيميائية بين السليكون والهيدروجين Si–H وفصلُ ذرات الهيدروجين واحدة بواحدة. فعندما يوضع رأس المجهر النافذ الماسح على ذرة هيدروجين، يضخ فيها طاقةً من خلال الإلكترونات النفقية تكفي للتسبُّب في اهتزاز الرابطة Si–H (وأعني هذا حرفيًّا)، حتى تُفلت ذرة الهيدروجين في النهاية من بئر الجهد الذي كان يحتجِزها. وهذا هو غاية ما توصَّلت إليه تكنولوجيا النانو والطباعة الليثوغرافية النانوية التنازُليَّان: استخلاص ذرات مفردة.
موضَّح بالشكل ٣-٢ أمثلة على الطباعة الليثوغرافية النانوية على السليكون بذرَّات مفردة. على عكس العمليات التجارية التي تعتمِد عليها تكنولوجيا سيموس، يقتصر هذا النوع من طباعة الأشكال والأنماط بدقَّة ذرية، في الوقت الحالي على الأقل، على بيئاتٍ شديدة التخصص ذات درجة فائقة من التفريغ؛ لذا من المُستبعَد أن تظهر نبائط أحادية الذرة في الهواتف الذكية في أي وقتٍ قريب. ويرجع هذا إلى أن انتزاع ذرة هيدروجين من السطح المُغطَّى بالهيدروجين يُنتِج ما يُعرَف بالرابطة المتدلِّية على السليكون الذي صار الآن «مكشوفًا» (انظر المُخطط التوضيحي في شكل ٣-٢(أ).) إذا أُخرجت ذرة السليكون هذه من البيئة الفائقة التفريغ (وكذلك الذرَّات الأخرى التي انتُزعت منها ذرة الهيدروجين التي تُغطيها على النحو ذاته)، فستتفاعل الذرة سريعًا جدًّا. لذا تُعَد الطباعة الليثوغرافية ذات الدقة الذرية أداةً للأبحاث الأساسية حتى الآن، حيث تُستكشَف حدودُ قُدرتنا على التحكُّم في المادة في ظروفٍ شديدة الإحكام من الصعب — إن لم يكن من المُستحيل عمليًّا واقتصاديًّا — نقلُها إلى العملية التصنيعية.
fig9
شكل ٣-٢: الطباعة الليثوغرافية النانوية ذات الدقة الذرية. (أ) مُخطط توضيحي لانتزاع ذرة مفردة باستخدام المجهر النافذ الماسح. رأس المجهر النافذ موضوع فوق ذرة هيدروجين مفردة (مُمثلة بدائرة مُصمتة صغيرة) مرتبطة بذرة سليكون (مُمثلة بدائرة مفرغة). على هذا السطح تحديدًا ترتبط ذرات السليكون بعضها مع بعض لتُكوِّن صفوفًا من الدايمرات (أي الوحدات الثنائية)؛ كل ذرة في هذه الدايمرات تُغطَّى في البداية بذرة هيدروجين. يضخُّ رأس المجهر النافذ الماسح دفقةً من الإلكترونات النفقِيَّة لإثارة الرابطة Si–H مما يُسبِّب انفصال ذرة الهيدروجين. (ب) طُوِّر واحد من أوائل الأمثلة على هذا النوع من الطباعة الليثوغرافية ذات الدقة الذرية، على يد جوزيف لايدينج وزملائه في جامعة إيلينوي في أوربانا-شامبين. المَعالم المضيئة تمثل صفوفًا من دايمرات السليكون بعد إزالة ذرة الهيدروجين التي تُغطيها باستخدام المجهر النافذ الماسح. تُشير الأسهم إلى المناطق التي انتُزعت منها كِلتا ذرتي الهيدروجين المُرتبطتَين بالدايمر. (ﺟ) ترانزستور أحادي الذرة صُنع من خلال انتزاع الهيدروجين باستخدام مجهر نافذ. النقطة الصغيرة في منتصف الصورة، بين منطقتي التوصيل الأشد إضاءة، تُمثل المنطقة النشطة في الترانزستور، ويبلُغ عرضها ذرة واحدة فحسب.
في الفصل التالي سنتعرَّض لعدة أمثلة للجيل الجديد من طرُق ومناهج معالجة المعلومات، التي تُتاح من خلال الطباعة الليثوغرافية النانوية ذات الدقة الذرية الموضحة في شكل ٣-٢، ومن خلال التحكُّم في الذرات والجزيئات منفردةً عمومًا. لكن توسيع نطاق مثل هذه الطرق التي تعمل ذرة بذرة أو جزيئًا بجزيء لتُصبح تكنولوجيا أو عملية تصنيع متاحة تجاريًّا تُشكل تحديًا عمليًّا هائلًا؛ لأنها عملية «متسلسلة» في الأساس. لقد كانت الطباعة الليثوغرافية الضوئية حجرَ الزاوية لصناعة الإلكترونيات وأشباه المُوصلات لزمنٍ طويل جدًّا؛ ويرجع هذا تحديدًا إلى كونها تقنيةً تطبع الأشكال والأنماط على رقاقةٍ لا على مُكوِّنٍ تلوَ الآخر، بل تطبعها عليها كلها دفعةً واحدة؛ فهي عمليةٌ تسير بالتوازي. بالمثل، لا يتطلَّب تركيب المواد على النطاق النانوي الاعتماد على المسبارات الماسحة لتحريك الذرات أو الجزيئات أو كليهما من مكانٍ لمكان، كلٌّ على حدة. فالطبيعة تستغِل القوى بين الذرية والقوى بين الجزيئية، التي شرحناها في الفصل الأول، باستمرارٍ لتركيب المادة بالتوازي على المستوى النانوي (وأدق من ذلك بكثير). فبدلًا من كشط المادة اصطناعيًّا لتحديد مَعالم البِنى النانوية، تنتهِج الطبيعة نهجًا عكسيًّا تمامًا؛ إذ تَبني تصاعديًّا من القاع إلى القمة.

البِنى النانوية الذاتية التجميع

يظهر في الجانب الأيمن من شكل ٣-٣ صورة بالمجهر الإلكتروني لمجموعة من الترانزستورات بدقة تصنيع ٧ نانومترات صُنِّعت باستخدام نفس نوعية التقنيات المتقدمة لتنميط أشباه الموصلات التي ناقشناها في الجزء السابق؛ أي باعتماد نظامٍ تنازلي للتركيب النانوي من القمة إلى القاع بدقة عالية جدًّا. بجوار هذه الصورة، نرى مثالًا لا يقلُّ إبهارًا للتنميط النانوي؛ وهو صورة التُقِطت بمجهرٍ إلكتروني لشبكة بلورية واقية من البروتينات من نوع مُعيَّن تحتجز كثيرًا من البكتيريا والعتائق. تضم هذه الشبكات البلورية، التي تُعرف بطبقات S، بروتينات تُعَد من أكثر البروتينات شيوعًا على الأرض، ولا تُحدِّد شكل الكائن الحي فحسب، بل تلعب كذلك دورًا محوريًّا في كثيرٍ من وظائفه البيولوجية والبيوكيميائية الأساسية، من أبرزها: الحماية، والالتصاق، والانقسام الخلوي. ولكن بلورة الطبقة S بترتيبها المُعقَّد على المستوى النانوي الذي يُضاهي ترتيب رقاقات السليكون الحديثة، لم تَستدعِ مسبكًا لأشباه موصلات تكلفته مليارا دولار لتصنيعها. فقد تشكَّلت تلقائيًّا بدون أي حاجةٍ إلى مساعدة تكنولوجية خارجية. بعبارة أخرى، «تجمَّعت ذاتيًّا».
fig10
شكل ٣-٣: (أ) صورة بمجهر إلكتروني لمجموعةٍ من ترانزستورات تأثير المجال بدقة تصنيع ٧ نانومترات مُصنَّعة على رقاقة سليكون. (ب) بلورة من البروتينات الذاتية التجميع (طبقة S) من عتائق «السلفولوبس». (العتائق هي كائنات وحيدة الخلية تُشبه البكتيريا وكانت تُصنَّف ضمنها في وقتٍ ما.) المسافة بين البروتينات تبلغ نحو ٢٠ نانومترًا.

الطبيعة عالِم مُبتكِر قديرٌ في تكنولوجيا النانو. فقبل آلاف السنين من نجاح الإنسان في التحكُّم في العالَم النانوي، كانت الطبيعة، ولا تزال، تستغل القوى بين الذرية والقوى بين الجزيئية لتكوين مادةٍ على أصغر المستويات، لتبني مجموعةً مُدهشة من الأنماط المُعقَّدة ذات البنية النانوية، بحيث يتبع شكل كلٍّ منها وظيفته. وفي معرض استعراضهما للمساهمات في عددٍ خاص من دورية «فيلوسوفيكال ترانزاكشنز أوف ذا رويال سوسايتي» حول فكرة التنظيم الذاتي، وصفَ رولاند فايدليش-سولدنر وتيمو بيتز، من مبادرة «الخلايا قيد الحركة» بجامعة فيستفليشه فيلهلمز بمدينة مونستر الألمانية، التنظيم الذاتي بأنه أساس بيولوجيا الخلية:

يكمن التنظيم الذاتي في صميمِ ما يتَّسم به التنظيم من متانةٍ وقدرة على التكيُّف سواء على مستوى الخلايا أو على مستوى الكائن؛ ولذا يشكِّل ركيزةً أساسية يستنِد إليها الانتقاء الطبيعي والتطور.

ربما لاحظتَ أنني انتقلت من استخدام مصطلح «التجميع الذاتي» إلى الإشارة لوصف فايدليش-سولدنر وبيتز ﻟ «التنظيم الذاتي». بعض العلماء يتعاملون مع هذين المُصطلحَين باعتبارهما مترادفَين. لكن ثمَّة آخرين، وأنا منهم، يُميزون بينهما تمييزًا خاصًّا؛ فالتجميع الذاتي يحدُث عندما يكون النظام الجزيئي قريبًا من حالة الاتزان الديناميكي الحراري، أما التنظيم الذاتي فيحدث عند حدوث تدفُّق كبير للطاقة أو المادة، وهذا يعني أن النظام بعيد عن الاتزان. والاتزان الديناميكي الحراري يعني ببساطةٍ أن يبدوَ أي جزءٍ من النظام مُشابهًا لأي جزء آخر فيه إلى حدٍّ كبير. فكِّر فيما يحدث عند فتح زجاجة من عطرٍ فوَّاح في غرفة. في لحظة فتح الزجاجة يخرج النظام، الذي يمكن اعتباره الهواء داخل الغرفة في هذه الحالة، من حالة الاتزان؛ أي يتزوَّد بدفقة موضعية من المادة (أو الطاقة أو كليهما) عند موضعٍ مُعيَّن، مما يعني أن توزيع الجزيئات في الغرفة ليس مُتجانسًا. لكن إن انتظرت برهة، سوف «يتزن» النظام مجددًا؛ أي إن جزيئات العطر ستنتشر عبر الغرفة — بسبب تصادُماتها مع الجزيئات المجاورة — حتى يُصبح توزيعها متجانسًا. وبهذا يستعيد النظام اتزانه.

في نظام ذاتي التجميع، تكون للجزيئات حريةٌ كبيرة في التفاعل تبعًا لنوع الجُهد بين الجُزيئي الذي تناولناه في الفصل الأول. فالقوى التي يقوم عليها التجميع الذاتي الجُزيئي عمومًا تنطوي عليها تفاعُلات روابطها أضعف بكثيرٍ من الروابط التساهمية و/أو الأيونية التقليدية المسئولة عن تماسُك الذرَّات معًا في صورة بلورات غير عضوية مثل السليكون والنحاس والذهب. إلى جانب قوى جذب فان دير فالز التي تناولناها بالفعل، ينطوي التجميع الذاتي على أنواعٍ أخرى أضعف من التفاعل: كالروابط الهيدروجينية (المسئولة عن السلوك الشاذ للماء، وتفسيرها له تاريخ طويل ومتقلِّب)؛ وكراهية أو حُب الماء (وتستدعي أيضًا فهم تفاعُلات الماء، وتنبع في الأساس من الإنتروبيا الناجمة عن خلط مادتَين مُختلفتَين؛ وسنتناول المزيد عن الإنتروبيا فيما سيلي)؛ وكيمياء التناسُق (وهي تُشبه الروابط التساهمية نوعًا ما عدا أن كِلا إلكتروني الرابطة يأتي من نفس الذرة أو الجزيء).

يتطلَّب التجميع الذاتي للبِنى المُحكمة التنظيم مثل الطبقة S الموضحة في شكل ٣-٣ قوًى بين جزيئية ضعيفة نسبيًّا، وإلا ستعلق الجزيئات في مكانها. أما إذا كانت الرابطة قوية أكثر مما ينبغي، فلن تكون هناك مرونة في عملية التجميع؛ ومن ثَم لن يكون هناك سبيل لتصحيح الأخطاء. الأمر هنا أشبه قليلًا ببناء هيكلٍ بِمكعبات الليجو التي ما إن تضعها في مكانها لا يمكن تفكيكها أبدًا. فأي خطأ في وضع المُكعبات لا يمكن تصحيحُه. لكن إن كان من المُمكن تفكيك مكعبات الليجو بسهولة، فسيُمكننا نقلها إلى مكانها الصحيح. لكن على عكس مكعَّبات الليجو، لا يُوجَد في التجميع الذاتي للجزيئات قوة واعية تُرشد كل جزيء إلى مكانه. لكن عوضًا عن ذلك، تُوجِّه الطاقة الحرارية الجزيئات عبر مسارات عشوائية بالأساس — وهو نفس التأثير المسئول عن الحركة البراونية — حتى يُمكنها استكشاف مشهد الطاقة، لتجد موقع الارتباط الذي تُفضِّله في النهاية. أما إن وَجَد جزيء نفسه مرتبطًا في موضعٍ أقلَّ تفضيلًا لدَيه، وما دامت طاقة الارتباط ليست قوية للدرجة (بالمقارنة بالاضطرابات الحرارية)، فسوف يتحرَّر في لحظةٍ ما وينتشر حتى يصل إلى موقعٍ أفضل من حيث الطاقة.

غير أن طاقة الروابط بين الجزيئية ليست المُتحكِّم الوحيد في ترتيب الجزيئات. فالإنتروبيا لا تلعب دورًا مهمًّا في ذلك فحسب، بل يُمكنها أحيانًا أن «تُهيمن» على عملية التجميع. وكما أشرْنا بإيجاز في الفصل السابق، تصف التفسيرات التقليدية للإنتروبيا الظاهرةَ عمومًا في سياق التزايُد المُستمر للفوضى، لكن هذا التفسير، في أحسن الأحوال، لا يلمس المبادئ الجوهرية التي يستنِد إليها هذا العلم، وفي أسوأ الأحوال يُعَد مضللًا تمامًا. وقد عبَّر فرانك لامبرت (١٩١٨–٢٠١٨) — وهو أكاديمي أمريكي ظلَّ يُنادي بلا كللٍ من أجل إحداث تغييرات في طريقة تدريس الإنتروبيا في المساقات الجامعية — عن ذلك على نحوٍ مشهود في عنوان ورقة بحثية نشرَها عام ١٩٩٩: «أوراق اللعب المُختلطة، والمكاتب الفوضوية، وغُرَف السكن غير المُرتَّبة؛ هل تُعَد هذه أمثلة على زيادة الإنتروبيا؟ هذا هراء!» إن الإنتروبيا تتعلَّق بوضعيَّات وترتيبات مُكونات النظام، وتُعبِّر كميًّا عن الاحتماليات النسبية لحدوثها، وتُفسِّر كيف تتوزَّع الطاقة (أو تتشتَّت) عبر هذه التكوينات. وبذلك، ترتبط الإنتروبيا عن كثَب برياضيات التباديل والتوافيق والاحتمالات؛ لذا فهي ذات طبيعةٍ إحصائية في الأساس. وتتعلَّق الوضعيات والترتيبات المُتنوِّعة محل البحث في التجميع الذاتي الجزيئي بالحركات الدورانية والاهتزازية والانتقالية المُحتمَلة للجزيئات.

ثمَّة مثال رائع ومُقنع للغاية على تأثير الإنتروبيا على التجميع الذاتي الجزيئي، مُقتبَس من أعمال زميلي بيتر بيون وزملائه من الباحِثين في كليات الفيزياء والفلك والكيمياء بجامعة نوتنجهام. لنُلقِ نظرةً على شكل ٣-٤. يُمثل كل واحدٍ من هذه «القضبان» المُوضحة في الصورة التي التقطت بواسطة مِجهر نافذ ماسح العمود الفقري للجزيء العضوي المُسطَّح الموضَّح تركيبه أيضًا في الشكل. (الجزيء هو جزيء حمض بارا-تيرفينيل-٣٫٥٫٣ ٥٫ ، أو رباعي الكربوكسيل، أو حمض رباعي الكربوكسيل، ويُسمَّى اختصارًا TPTC، لكن اسمه لا يُهمنا. كلُّ ما يُهم أن حلقات الكربون الثلاث التي تُشكِّل «العمود الفقري» للجزيء تظهر ساطعةً في صور المجهر النافذ الماسح.) للوهلة الأولى، يبدو ترتيب الجزيئات غايةً في النظام؛ إذ يتبع كل جزيءٍ على ما يبدو الوضعيةَ نفسها بالنسبة إلى جيرانه. لكن لننظُر عن كثَب أكثر. حاول مثلًا تتبُّع صفٍّ من الجزيئات بعرْض الصورة. ستجد أمثلةً عديدة يبدو فيها اتجاه الجزيء «غير مُتَّسق» ويكسر النمط؛ فالتوزيع الجزيئي أقل انتظامًا مما يبدو عليه لأول وهلة.
fig11
شكل ٣-٤: على اليسار صورة من المجهر النافذ الماسح لطبقةٍ مفردة ذاتية التجميع من ذلك الجزيء الموضَّح تركيبه الكيميائي على اليمين. هذا الجزيء هو جزيء حمض بارا-تيرفينيل-٣٫٥٫٣ ٥٫ ، أو رباعي الكربوكسيل؛ وحلقات الكربون الثلاث التي تُشكِّل البِنية المركزية للجزيء هي المُساهم الأكبر في إشارة التيار النفقي التي يرصدها المجهر النافذ الماسح. كل واحدٍ من القضبان التي تظهر في الصورة على اليسار ينبثِق من العمود الفقري الثُّلاثي الحلقات للجزيء. والمُتحكم الرئيس في ترتيب الجزيئات في البلورة هو الإنتروبيا.
اتضح أن التبايُن في الجهد بين الجزيئي ليس هو ما يلعب الدور الحاسِم في تحديد التنظيم الذاتي في هذه الحالة (لأن الفارق في طاقة الترابط بين جزيئَين لكلٍّ من الوضعيات والترتيبات الجزيئية المُختلفة طفيفة.) في المقابل، ينشأ النمط شِبه كامل من تأثير الإنتروبيا؛ بعبارة أخرى، عدد الطرق المُختلفة لترتيب (أو اصطفاف) الجزيئات على السطح هو ما يُحدِّد البلورة الجزيئية المُثلَى. والترتيب الجزيئي المُوضَّح في شكل ٣-٣ تحديدًا أكثر احتماليةً بكثيرٍ من الوضعيات الأخرى المنافسة في الواقع، مثلما أن احتمالية انتشار جزيئات العطر في الغرفة تطغى على احتمالية بقاء الجزيئات معًا.

ثمَّة صراعٌ دائم بين طاقة الوضع بين الجزيئية (المُمثلة بنوعيات التفاعلات التي ناقشناها في الفصل الأول)، وبين الإنتروبيا؛ أي كيفية توزيع الطاقة عبر الوضعيات والتراتيب المُختلفة للنظام. ولا يقتصر هذا على علوم النانو وتكنولوجيا النانو. فعبر طيف نطاقات الأطوال، من الذرَّات إلى المجرَّات، يُحدِّد التوازُن بين طاقة التفاعلات والإنتروبيا كيفيةَ تطوُّر أي نظام؛ فالديناميكا الحرارية لا تُركز على الطاقة فحسب، بل أيضًا على الطاقة «الحرة»، وهي كمية تُفسِّر التوازن بين الجهد بين الجزيئي، وتأثير البيئة، والإنتروبيا. ما يشغلنا على المستوى النانوي هو التحكُّم في اللَّبِنات الأساسية لبناء المادة — من الذرات، والجزيئات، والجسيمات النانوية — وتوجيهها لتكوين نوعية البِنى التي نحتاج إليها. لذلك يقضي علماء تكنولوجيا النانو قدرًا هائلًا من الوقت في محاولة إيجاد «النقطة المثالية» التي توازن بين تأثيرات الجهد بين الجزيئي، والإنتروبيا، والتأثيرات والمُثيرات الخارجية (مثل الحرارة والضغط والضوء …) بالطريقة الصحيحة تمامًا.

قادت شارون جلوتزر، أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة ميشيجان، برنامجًا بحثيًّا مبتكرًا ومُلهمًا وذا تأثير بالِغ استغلَّ الإنتروبيا لحفز «مزيد» من النظام لا نظام أقل. وقد صرَّحت جلوتزر في مقابلة مع مجلة «كوانتا» قائلة:

ما يحدث هو أن الجسيمات تُحاول تعظيمَ الحيز المتاح لها للتحرك فيه إلى أقصى حد. وإن كان بإمكانك أن تتحرك، فيُمكنك أن تُعيد ترتيب موضعك واتجاهك. وكلما زادت المواضع، زادت الخيارات، وزادت الإنتروبيا بالتبعية … ما تُريده هذه الأنظمة هو المباعدة بين الجسيمات بما يكفي لتعظيم الحيز المُتاح للحركة لجميع الجسيمات. وقد يؤدي هذا إلى توزيعاتٍ غاية في التعقيد، حسب شكل الجسيم.

تركز جلوتزر وفريقها على ما يُعرَف ﺑ «النشوء»؛ أي كيف يمكن لأجسامٍ بسيطة، باتباع قواعد غاية في البساطة، أن تُثمر سلوكًا جماعيًّا مُعقدًا أيما تعقيد. (تُعَد أسراب طيور الزرزور مثالًا واقعيًّا جيدًا جدًّا لهذا التفاعُل الجماعي، وإن كانت طيور الزرزور ليست أبسط شيءٍ يمكن تصوُّره.) يدرس الفريق كيفيةَ تحقيق التجميع الذاتي والتنظيم الذاتي في الجسيمات (النانوية) على اختلاف أشكالها وأحجامها. ونظرًا للدور المحوري للإنتروبيا في حفز تكوين البِنى المُنظِّمة، تعتقد جلوتزر بقوة في ضرورة توسيع نطاق تعريف التفاعُلات بين الجزيئية وبين الجسيمية لتشمل الإنتروبيا بطريقةٍ أكثرَ وضوحًا ومباشَرةً بكثيرٍ ليُصبح: الرابطة الإنتروبية.

بعيدًا عن نطاق الاتزان

في ظروفٍ مثالية، سيستمر التجميع الذاتي حتى يُصبح كل ذرة، أو جزيء أو جسيم نانوي في أدنى مستويات الطاقة التي تُعَد أكثر حالاته مُواءمة. وهذه أكثرُ الوضعيات استقرارًا، وغالبًا ما تكون الغاية القصوى لكثيرٍ من علماء تكنولوجيا النانو الذين يستغلون التجميع الذاتي لتوليد أنماطٍ نانوية مُعينة. لكن قليلًا ما تكون الأمور مِثالية في عالَم العلم (رغم الاستخدام الواسع النطاق للنماذج والافتراضات المِثالية في الفيزياء على سبيل المثال). لذا غالبًا ما يتمكَّن التجميع الذاتي من إنتاج بنًى ليست في أكثرِ الحالات استقرارًا، بل في حالةٍ تُعرَف بالحالة «شِبه المُستقرة». تُشير «الحالة شِبه المُستقرة» إلى نظامٍ لم يصِل لأقل طاقة مُمكنة له؛ حيث علِقت الجزيئات (أو الذرات أو الجسيمات النانوية) في وضعيةٍ قد تستغرق مدةً زمنية طويلة جدًّا للإفلات منها. قد تتراوَح هذه المدة الزمنية بين ميكرو ثوانٍ وملايين الأعوام (وأكثر من ذلك)، لكن يُمكن تسريع العملية عمومًا بضخِّ طاقة حرارية، أي بتسخين الأشياء. ويعتبر الألماس مثالًا جيدًا للبِنى شِبه المستقرة. فالحالة المُفضَّلة لذرات الكربون على مستوى الديناميكا الحرارية ليست الشكل البلوري الجميل الذي نراه في خواتم الألماس، بل حالة الجرافيت (أي «الرصاص» الموجود في القلَم الرصاص) الأقل جاذبية كثيرًا على المستوى الجمالي. فبعد فترةٍ زمنية كافية (رغم أن الانتظار سيستمر طويلًا جدًّا بلا شك)، ستبهت لمعة الألماس وتتحوَّل إلى اللون الأسود.

تكون الجسيمات النانوية الغروية عُرضةً بصورة كبيرة للانحصار في حالاتٍ بعيدة عن الاتزان. ولتصنيع نبائط الحالة الصلبة التي تستغل الخواص الإلكترونية والضوئية للجسيمات النانوية، ينبغي أن تكون تلك الجسيمات في حالةٍ صلبة. وهذا يعني أننا يجِب أن ننقل الجسيمات النانوية من حالتها كمعلق في مذيب إلى ركيزة أو مادة أولية صُلبة يُمكننا تصنيع وصلات كهربية عليها لقياس سريان الإلكترونات خلال تجميعة الجسيمات النانوية والتحكُّم فيه. ثمَّة الكثير من التشابُهات هنا مع فيزياء بُقَع القهوة؛ فلدَينا مُذاب (الجسيمات النانوية) مُعلَّق في مذيب. ضع قطرة صغيرة من هذا المُعلِّق على سطحٍ ما واترُكها تجف. ماذا سيحدث؟

تبيَّن أن الكثير من الفيزياء والكيمياء الفيزيائية الغنية والمُبهرة تكمُن وراء ما يبدو في البداية تجربةً بسيطة جدًّا. فإذا تبخَّر المُذيب بسرعة، فلن يتهيأ للجسيمات النانوية الوقت الكافي لتنتشِر حتى تصِل إلى حالة الاتزان؛ فيتركها عالقةً بلا حَراك؛ لأنها لا تستطيع التحرك بدون المذيب المُحيط بها. لكن بإبطاء معدَّل تبخُّر المذيب، يمكن للجسيمات استكشاف مشهد الطاقة بصورةٍ أشملَ بكثير والعثور على وضعياتٍ أكثر ملاءمة، بينما تنتشِر مُتنقِّلة من موقع إلى آخر داخل الشبكة النانوية المتنامية. وعلى حدِّ تعبير أحد زملائي، تكون الجسيمات النانوية كركَّاب سفينة يتحركون مع تيار مدِّ المذيب؛ وكأنها أدواتٌ لتتبُّع كيفية تبخُّر المذيب. وقد أُجريت دراسة مُفصلة على هذا النوع من التنظيم الذاتي بواسطة التجفيف على يد إران راباني وزملائه (في جامعات تل أبيب، ومعهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، وهارفارد، وكولومبيا على الترتيب)، وقدَّمت لنا هذه الدراسة رؤًى مُتعمقة عن كيفية اتحاد التفاعلات بين الجسيمات، والتفاعلات بين المذيب والجسيم، وتفاعلات المذيب مع المذيب لإنتاج مجموعة مميزة من البِنى الذاتية التنظيم (انظر شكل ٣-٥.)
fig12
شكل ٣-٥: أمثلة على انتظام جسيمات الذهب النانوية بعيدًا عن الاتزان على رقاقة سليكون. تُظهِر كل صورة من صور مجهر القوة الذرية انتظامَ الجسيمات النانوية على مقياس الميكرونات (أو عشرات الميكرونات) لا النانومترات؛ لذا لا تُلاحَظ الجسيمات النانوية المفردة في هذا المستوى من التكبير. بدلًا من ذلك، تنبثق الأنماط من الاستجابة الجماعية لأعداد كبيرة من الجسيمات عندما يتدفَّق المذيب الذي يحمِلها ويتبخَّر.
ثمَّة نوع شائع جدًّا من الأنماط، لا في أنظمة الجسيمات النانوية فحسب، بل في أي عمليةٍ ذاتية التنظيم أو ذاتية التجميع تنطوي على ترسُّب مادة من محلول — بما في ذلك البوليمرات والبروتينات والحمض النووي، بل وجميع أنواع الجزيئات — وهو الرغوة أو الشبكة الخلوية (شكل ٣-٦). تتكوَّن فجوات بسبب التبخُّر ومن ثَم تتسع داخل غشاء المذيب، في حين تعود الحمولة «النانوية» مع ازدياد حجم الفجوة المتكوِّنة في السائل. الحالة النهائية لهذه العملية هي حالةٍ ذاتية التنظيم يمكن أن تتشكَّل على مستويات أطوال عديدة (شكل ٣-٦)، وأفضل ما تُوصَف به أنها رغوة أو شبكة خلوية، حيث تُستخدَم كلمة «خلوية» بمعناها الهندسي لا بمعناها البيولوجي. (توجَد هنا تشابُهاتٌ مهمة مع الفيزياء والكيمياء الفيزيائية لبُقَع القهوة، وإن كانت الأنماط التي تكوِّنها الجسيمات النانوية أعقدَ إلى حدٍّ ما.) وإن تمكَّنا من التحكم في كيفية تبخُّر المذيب، يُمكننا أن نؤثِّر في المواضع النهائية التي تصل إليها الجسيمات النانوية من خلال كلٍّ من التجميع الذاتي والتنظيم الذاتي. وقد قامت عدة مجموعات بحثية حول العالم بهذا تحديدًا، وكان من ضمنها مجموعتنا البحثية في نوتنجهام. فضلًا عن أن مثل هذه الأنماط ليست حكرًا على الجسيمات النانوية، بل يُلاحظ وجودها في مجموعةٍ متنوِّعة وكبيرة من الأنظمة تتراوح في أطوالها من النانومترات وحتى الكيلومترات (وأكثر من ذلك بكثير).
fig13
شكل ٣-٦: الرغاوي والشبكات الخلوية في الطبيعة. (أ) مقطع عرضي لسدادة فلين من زجاجة نبيذ؛ (ب) جلد زرافة؛ (ﺟ) منطقة جيانتس كوزواي في مقاطعة أنتريم، بأيرلندا الشمالية؛ (د) محاكاة لِبِنية الكون على نطاقٍ واسع؛ وأفضل وصف لتوزيع المجرَّات هو أنه شبكة خلوية (أو «رغوة كونية»)؛ (ﻫ) النمط المُتشابك ذو التركيب الميكروي والنانوي الذي تُشكله الطحلبة الأحادية الخلايا المعروفة باسم الدياتوم (انظر الإطار الأول في شكل ٣-٥). يشيع شكل الرغوة داخل رغوة في المواد ذات البنية النانومترية.
غالبًا ما يكون ثمة تركيزٌ على بلوغ درجات عالية من الانتظام في الجزيئات أو الجسيمات؛ إذ يميل علماء تكنولوجيا النانو إلى محاولة إنتاج أنقى حالة بلورية مُمكنة من العيوب، بحيث يصطف كل جزيءٍ مع جيرانه. غير أن الفوضى وعدم النظام لهما جمالهما ووظيفتهما كذلك. في الواقع إن الشبكة العصبية التي تعمل داخل جمجمتك وأنت تقرأ هذا النص بعيدةٌ أشد البعد عن أن تكون حالة مادة ذات نظامٍ مثالي أو شديدة التماثل؛ فالاتصالية هي مربط الفرس، وليس التماثل. بالمثل، بالرغم من أن الطبيعة تُنتِج شبكاتٍ بلورية مُذهلة الانتظام (والسليكون خيرُ مثال على هذا)، فإنها تُنتج كذلك بِنى خلوية وشبكية أقل نظامًا بكثير، وإن كانت لا تقلُّ فاعلية، عبر نطاقٍ واسع للغاية من الأطوال، بما فيها النطاق النانوي. ويوضح شكل ٣-٦ بضعة أمثلةٍ فقط على شيوع الرغوة والشبكات الخلوية في الطبيعة، بما في ذلك الأنماط الذاتية التنظيم ذات الأبعاد الميكروية والنانوية المُذهلة التي تكوِّنها الدياتومات؛ وهي طحالب دقيقة أُحادية الخلية تُشكِّل جزءًا ضخمًا من النظم البيئية التي حولنا؛ إذ تُنتج نحو ٥٠٪ من الأكسجين الذي تُنتجه الأرض كلَّ عام، وتضم ما يُقارب نصف المادة العضوية والكائنات الحية الموجودة في المحيطات. (تجدُر الإشارة هنا إلى أن الحياة نفسها حالة بعيدة عن الاتزان؛ ومع الاعتذار عن هذه الفكرة الكئيبة، فحالتنا الأرضية هي الموت.)
fig14
شكل ٣-٧: أوريجامي الحمض النووي. يُمكن برمجة الحمض النووي كيميائيًّا بحيث يُجمِّع أجسامًا وأشكالًا نانوية ثنائية وثلاثية الأبعاد. وتضم الأمثلة المُوضحة هنا: (أ) و(ب) نمطان بدائيَّان ثُنائِيَّا الأبعادِ مع صورهما بمجهر القوة الذرية (وإن كان أوريجامي الحمض النووي قد استُخدِم أيضًا لتصنيع أشكالٍ ثنائية الأبعاد أعقد بكثير بما فيها رقاقات الثلج والنجوم والوجوه الباسمة والكلمات والخرائط)؛ (ﺟ)، (د)، (ﻫ) أجسام ثلاثية الأبعاد تضم نصف كرة، وكرة، ومجسمًا إهليلجيًّا، مع صور مُطابقة بها بالمجهر الإلكتروني النافذ، و(و) زجاجة، مع صور لها بالمجهر الإلكتروني النافذ أيضًا التُقِطت من زوايا مختلفة.
يُمكننا بهذه الطريقة محاكاة، وسرقة، قدرة الطبيعة على بناء المواد عبر مستويات عديدة من الأطوال؛ وهما الاستراتيجيتان اللتان توصفان على الترتيب، بالمحاكاة الحيوية، والكليبتوقراطية الحيوية على سبيل المزاح (نسبة إلى السرقة). وإن كنا سنسرق من تكنولوجيا النانو الطبيعية، فلنا أن نفترض افتراضًا منطقيًّا إذن أن أول نظام جزيئي حيوي نختار «سرقته» سيكون الحمض النووي الريبي المنزوع الأكسجين (دي إن إيه). يتميَّز الحمض النووي الريبي المنزوع الأكسجين باستعدادٍ استثنائي لتخزين المعلومات الحيوية (مدفوع بخاصية التعرُّف الجزيئي الذي يرجع إلى ازدواج القواعد)؛ لذا يُعَد منصةً ذات قوة استثنائية لتوليد البِنى النانوية المُعقدة ذات التصميم التصاعدي، التي يمكن لتعقيدها «القابل للبرمجة» أن يُناظر بسهولة تعقيدَ بِنى النبائط السليكونية المُتقدمة التي ناقشناها في الأجزاء السابقة. وسنتعرَّض أكثرَ لتكنولوجيا النانو القائمة على الحمض النووي في فصلٍ لاحق، ولكن في الوقت الحالي سأُسلِّط الضوء بإيجازٍ على أعمال بول روثموند من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك)، الذي كان له السبق في ابتكار التقنية المعروفة باسم أوريجامي الحمض النووي في عام ٢٠٠٦ (مستندًا إلى سوابق أعمال إريك وينفري (من معهد كالتك أيضًا) وأعمال نادريان سيمان (من جامعة نيويورك) في مجال تكنولوجيا النانو القائمة على الحمض النووي). تتضمَّن استراتيجية روثموند طيَّ جزيئات الحمض النووي الطويلة الأحادية الشريط إلى أشكالٍ اعتباطية. في البداية كانت هذه الأجسام والأشكال ثنائية الأبعاد، لكن أوريجامي الحمض النووي صار الآن يشمل تصميمَ أشكالٍ مُعقَّدة ثلاثية الأبعاد، وتشفيرها، وما يتبع ذلك من تجميع ذاتي «موجَّه» لأشكالٍ مُعقَّدة ثلاثية الأبعاد، منها القضبان، والكرات، والمُكعَّبات، وأشكال أعقدُ بكثير كالزجاجات والتروس النانوية (شكل ٣-٧).

أراضي الكربون المسطَّحة

لقد استهللنا هذا الفصل بمناقشةٍ لتاريخ تكنولوجيا النانو القائمة على السليكون. وسنختتِمُه بتناول لعنصرٍ ملاصق للسليكون في الجدول الدوري، ألا وهو: الكربون. ينتمي العنصران إلى المجموعة نفسها في الجدول الدوري؛ إذ يحتوي كلٌّ منهما على أربعة إلكترونات تكافؤية؛ لذا فأول ما يتبادر إلى أذهاننا أنهما قد يكونان مُتشابِهَين كيميائيًّا إلى حدٍّ ما. غير أنهما مُختلفان أشدَّ الاختلاف من نواحٍ عديدة. فالحياة العضوية قوامُها الكربون، والكيمياء العضوية هي في الأساس كيمياء الكربون. لكن أنظمتنا التكنولوجية — بما في ذلك نظم الإلكترونيات النانوية التي تُدير أغلبَ عصرنا المعلوماتي — لم تكن عضويةً في العادة. لقد صار هذا قيدَ التغيير الآن (وإن كنتُ أعترف أنه يحدُث ببطءٍ شديد)، وهو تغيير تُحرِّكه التطورات الرائدة في التجميع الذاتي الجزيئي وتكنولوجيا النانو القائمة على الحمض النووي اللذَين تناولناهما فيما سبق. غير أن الجزيئات في المُعتاد تحتوي على عناصرَ عديدة؛ فالكيمياء العضوية للحمض النووي، على سبيل المثال، تعتمد على الفوسفور والنيتروجين والأكسجين والهيدروجين، إلى جانب الكربون. فهل يُمكن تصنيع نبيطة نانوية تعتمد على الكربون البلوري وحده؟

لندخل إلى عالَم المادة «المعجزة» المعروفة بالجرافين (شكل ٣-٨). على الرغم من أن سُمك الجرافين لا يتعدَّى ذرةً واحدة، فإنه يُعَد أقوى مادة اكتُشفت على الإطلاق؛ فهو ليس مجرد شكلٍ بلوري جديد للكربون النقي — أي شكل مُتأصل للكربون — بل هو مادة صلبة ثنائية الأبعاد. تجمع رواية إدوين أبوت «الأرض المُسطَّحة: قصة خيالية مُتعددة الأبعاد»، الصادرة عام ١٨٨٤، بين كونها سخرية لاذعة من المجتمع الفيكتوري واستكشافًا ذكيًّا لمسألة تقليص الأبعاد. في الواقع، لقد ثبت وجود أرض أبوت المسطحة الخيالية تجريبيًّا — وإن كان من دون ساكنيها — مع اكتشاف الجرافين من خلالِ ما يُعرَف تقنيًّا بالتقشير الميكانيكي الميكروي، لكنه يُعرَف أكثر بطريقة الشريط اللاصق. فعلى حدِّ قول كوستيا نوفوسيلوف — الذي حاز مع زميله أندريه جييم من جامعة مانشستر جائزةَ نوبل للفيزياء عام ٢٠١٠ لاكتشافهما الجرافين — في خطاب قبوله لجائزة نوبل، من المُمكن أن «نقشر» طبقات من بلورة جرافيت (ومن ثَم ننقلها إلى سطح آخر) باستخدام الشريط اللاصق، وهكذا حتى نصل في النهاية إلى بلورة نقية ثنائية الأبعاد بسُمك بلورة واحدة. والواقع أنك إذا كنتَ قد استخدمت قلمَ رصاصٍ يومًا ما، تكون بذلك قد نفَّذت عمليةً مُشابهة بقدرٍ ما لتقشير الجرافيت (أي «الرصاص» المُستخدَم في القلم الرصاص) بينما تخطُّ ما تريد. ورغم أن عملية استخلاص الجرافين الأصلية، والتجارب التي أُجريت عليه، استخدمت طريقةَ الشريط اللاصق، فإن توسيع نطاق العملية إلى المُستويات الإنتاجية المطلوبة للتصنيع العملي للنبائط تطلُب تطويرَ طرقٍ عديدة لنمو الجرافين مباشرةً على ركائز، منها الترسيب الكيميائي للبخار، والتنضيد بالحزم الجزيئية، وقد صارت الآن قيد الاستخدام الروتيني.
fig15
شكل ٣-٨: تكنولوجيا النانو الكربونية. يُشكل الكربون بنًى نانوية تقيِّد الإلكترونات في الأبعاد الثلاثة جميعًا (جزيء البوكمنسترفُوليرين C60)، وفي بُعدَين (الجرافين)، وفي بُعدٍ واحد (أنبوب الكربون النانوي).
في حين تُقيِّد الجسيمات النانوية الإلكترونات في الأبعاد الثلاثة كلها، يفرض الجرافين حصاره عليها في مستوًى ثنائي الأبعاد. قبل اكتشاف الجرافين، ظهر نوعان آخران من أنظمة الكربون النقية النانوية أثارا قدرًا مُقاربًا من الاهتمام بين علماء النانو، هما: بوكمنسترفوليرين (C60) وأنابيب الكربون النانوية. يتَّخِذ جزيء البوكمنسترفوليرين، أو «كرة البَكي» اختصارًا، شكلًا كرويًّا شبه تام — ومن ثَم يُعتبَر أكثر الجزيئات تماثُليةً في الطبيعة (له تماثل مُجسَّم عشريني الوجوه) — ويتكوَّن من ٦٠ ذرة مُرتبة على نحوٍ مُماثل لغرز الخياطة في كرة القدم العادية؛ بحيث تقع ذرات الكربون عند الرءوس بين ٢٠ شكلًا سُداسيًّا و١٢ شكلًا خماسيًّا (كما هو موضح في شكل ٣-٨). بعبارةٍ أخرى، يُعتبَر جسيمًا نانويًّا من الكربون، وكمثل الجسيمات النانوية من المعادن وأشباه الموصِّلات التي ناقشناها قبلًا، يُقيد الإلكترونات في الأبعاد الثلاثة كلها. وفوق ذلك، يقِلُّ قطر كرات البَكي بقليلٍ جدًّا عن نانومتر واحد؛ لذا يُعَد من نواحٍ عديدة جزيئًا صُنِع خصِّيصَى لعلوم النانو، ولعِب دورًا محوريًّا وثوريًّا في تطوير مناحٍ عدة في علوم النانو منذ اكتشافه (من قِبل هاري كروتو وريتشارد سمولي وزملائهما، وقد فازوا لقاء ذلك بجائزة نوبل للكيمياء عام ١٩٩٦).
أما أنابيب الكربون النانوية، على الجانب الآخر، فهي أسطوانات نانوية من الكربون النقي؛ وهي في الأصل صفائحُ من الجرافين تُلَف و«تدمج» معًا على طول إحدى حوافها. في الأنابيب النانوية، تُقيَّد الإلكترونات بحيث لا تكون حرة الحركة إلا في اتجاهٍ واحد؛ وهو على امتداد الأنبوب. في كلٍّ من هذه الحالات — كرات البَكي، والأنابيب النانوية، والجرافين — تلعب أبعاد النظام دورًا رئيسًا في تحديد الخواص النانوية للإلكترونات المُقيَّدة. وفي الجرافين، على وجه الخصوص، ينجم عن محدودية الأبعاد، إلى جانب توزيع ذرات الكربون على شكل خلية نحل، مجموعة فريدة بحقٍّ من الخواص الإلكترونية. من إحدى هذه الخواص أن تفاعل الإلكترونات مع البلورة السداسية التي تتَّخِذ شكل خلية نحل، والتركيب غير العادي للبلورة نفسها، يعني أن سلوك الإلكترونات المسئولة عن حمْل التيار الكهربي في الجرافين أقربُ إلى سلوك الفوتونات؛ أي تتصرَّف وكأن كُتلتها صفر. وفوق ذلك، فهي تتحرَّك وكأن سرعة الضوء ١٠٦ أمتار/ثانية (خلافًا لقيمته الفعلية التي تبلغ ٣ × ١٠٨ أمتار/الثانية في الفراغ)، مما يفتح بابًا لاحتمالية عمل تجارب لفيزياء الجسيمات على طاولات المَعامل بدلًا من المُسرِّعات التي تتكلَّف عدة مليارات من الجنيهات. فعلماء فيزياء الجسيمات، الذين عُرِف عنهم أحيانًا أنهم يُشيرون إلى زملائهم الذين يعملون على المواد الكثيفة/فيزياء النانو باسم «علماء الحالة الرديئة»، باتوا يولون اهتمامًا خاصًّا للجرافين.

غير أن الجرافين ليس ميدانًا لأبحاث الفيزياء الأساسية الجديدة فحسب؛ فخواصُّه الفريدة تعني أيضًا أن له تطبيقاتٍ لا حصر لها على نحوٍ استثنائي. تتنوع هذه التطبيقات ما بين طلاءات شفافة مُوصلة تستخدم في الخلايا الشمسية وشاشات اللمس، ومُستشعرات حساسة للغازات و«أنوف نانوية» (أي الكشف عن الجزيئات)، وكواشف للضوء فائقة السرعة، وحواجز للغازات، وأجهزة لقياس الإجهاد، وترشيح وتنقية المياه. بل ونبائط إلكترونية نانوية يُحتمَل أن تتفوَّق على تكنولوجيا السيموس السليكونية. غير أنه في هذا التطبيق الأخير، ما زال أمام الجرافين طريق طويل إلى حدٍّ ما قبل أن يُصبح منافسًا حقيقيًّا للسليكون. يرجع بعض هذه العقبات إلى أسبابٍ تتعلَّق بالفيزياء الأساسية؛ ومنها أن الجرافين في حالته الأصلية ليس لدَيه فجوة نطاق الطاقة اللازمة لكثيرٍ من التطبيقات الإلكترونية النانوية (وإن كان يُمكن حثُّ فجوة النطاق اللازمة باستخدام كيمياء دقيقة ومن خلال تشويه بلورة الكربون عمدًا).

ولكن حتى عند تخطِّي مشكلات الفيزياء وهندسة الإلكترونيات، يظلُّ أمامنا الواقع الاقتصادي الصعب؛ فأي خطوة للبُعد عن البنية التحتية السليكونية المُعتمدة صناعيًّا والاتجاه نحو استخدام الجرافين، أو أيٍّ من نُظم المواد الثنائية الأبعاد العديدة الأخرى التي صارت تُستخدَم في أعقابه، ستتطلَّب إعادةَ تفكير جذرية في استراتيجيات التصميم والتصنيع. وسيكون هذا مُكلفًا. لكن كما سنستكشِف في الفصل المقبل، فالجرافين ليس الطريق الوحيد نحو إحداث ثورة في الإلكترونيات ومُعالجة المعلومات في النطاق النانوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤