الفصل الرابع

المعلومات أصل الموجودات

وُلِدت آدا لوفليس، ابنة السيد بايرون وزوجته، وسُمِّيت أوجستا آدا بيرون، في عام ١٨١٥. وبفضل دراسة والدتها للرياضيات، تعلَّمت آدا الرياضيات في سنٍّ صغيرة — وكان مجالًا تعليميًّا غريبًا على نساء عصرها — وأظهرت قدرةً وإقبالًا استثنائِيَّين في المادة. بعد أن تعرَّفت لوفليس بتشارلز باباج في إحدى الحفلات في عام ١٨٣٣، صارت مفتونةً بعمل مُحرك الفروق الذي طوَّره باباج، وهو جهاز كمبيوتر ميكانيكي استخدم مجموعةً معقَّدة من التروس لحساب الحلول للمسائل الرياضية والحسابية. وفي معرض ترجمتها مقالًا عن مُحرِّك الفروق من أصله الفرنسي، أضافت لوفليس ملاحظاتٍ مُستفيضة من تأليفها، شملت، على وجه الخصوص، توصيفًا لمجموعةٍ من الخطوات يمكن تنفيذُها على الجهاز لحلِّ مسائل رياضية مُحدَّدة. وتُعتبر هذه الملاحظات على نطاقٍ واسع أولَ مثالٍ على خوارزمية معقَّدة مُعدَّة لآلة (على الرغم من انقسام الآراء حولَ ما إذا كان يمكن اعتبار لوفليس صاحبة أول برنامج حاسوبي).

استوعبت لوفليس الروابط العميقة والدقيقة بين المادة والرياضيات، وبين المعلومات والعالَم المادي، قبل أن يبدأ المجتمع العلمي في استيعاب هذه الروابط بأكثر من قرن: «من خلال تجهيز الآليات للدمج بين رموز عامة في تسلسُلاتٍ تتنوَّع وتمتد بلا حصر، تتشكل رابطة توحِّد بين العمليات المادية والعمليات العقلية المجرَّدة الموجودة في أكثر فروع العلوم الرياضية تجريدًا.» وفي سبعينيات القرن العشرين أدرك الفيزيائي جون أرتشيبالد ويلر أيضًا هذا التداخُل الأساسي بين المعلومات والمادة، وصاغه في مقولته البليغة والشعرية «المعلومات أصل الموجودات». يتم تشفير البيانات ومعالجتها من خلال عمليات مادية، سواء كانت هذه العمليات هي العمليات الأساسية المُستخدَمة في وحدات المعالجة السليكونية، أو الحمض النووي، أو المسارات العصبية، أو — كما سنرى — التفاعل بين الذرات. (لاحظ أنها جميعًا تنطوي على عمليات ومُعالجات تتم على مستوى النانو، وليس هذا من قبيل الصدفة.) يرى ويلر أن المعلومات أكثرُ جوهريةً من الطاقة والمادة والمجالات والقوى بكثير، وأنها الإطار التأسيسي للفيزياء: «بعبارة أخرى، كل كمية فيزيائية، أي كل موجود، يستمد معناه النهائي من البِتَّات المعلوماتية، أي من مؤشراتٍ ثنائية تحمل إما نعم أو لا، وهو الاستنتاج الذي نُجمله في عبارة: المعلومات أصل الموجودات.»

تقدَّمت تكنولوجيا النانو حتى صار بمقدورنا أن نُمثِّل المعلومات الثنائية في نطاقاتٍ دون النانومتر، وصار بالإمكان أن يشمل تخزين المعلومات كتابةَ البيانات بتبايُنٍ أفضل بكثيرٍ مما تُتيحه الحدود الذرية حتى؛ فمن الممكن تخزينُ المعلومات في نطاق أصغر بكثير من حجم الذرة. في هذه المرحلة نكون قد تجاوزنا تكنولوجيا النانو بكثير ودخلنا عالم تكنولوجيا البيكو؛ أي التحكُّم في المادة في نطاقات أطوالٍ دون ذرية. ورؤى لوفليس البعيدة النظر فيما يخصُّ الروابط بين المادة والرياضيات ومعالجة المعلومات ذات أهمية خاصة في هذا السياق، كما سنرى مرارًا على مدار هذا الفصل.

حوسبة الحمض النووي

قبل أن نتطرق إلى الحد الذري، ينبغي العودة إلى التصنيع النانوي بواسطة الحمض النووي الذي تناولناه في الفصل السابق. يُعد التجميع الذاتي، سواء كان مدفوعًا بنفس نوعية التعرُّف الجزيئي الذي تقوم عليه تقنيةُ أوريجامي الحمض النووي أو لا، وسيلةً فعَّالة لتوليد مجموعةٍ متنوِّعة من الأنماط والبِنى في النطاق النانوي (والميكروي). غير أن تلك الأنماط أكثرُ بكثيرٍ من مجرد صور جميلة. إن الروابط بين المادة والرياضيات، كما بيَّنت لوفليس، ضخمة؛ فالحوسبة مُمكنة باستخدام الأنماط ذات البِنية النانوية.

كما رأينا من قبل، يمكن برمجة الحمض النووي لينتج صورًا مختلفة من الأنماط التكرارية وغير التكرارية. غير أن تلك الأنماط الناتجة يُمكنها أن تتكوَّن نتيجةً لعملية حوسبة أيضًا؛ فالعمليات المنطقية — مثل AND، وNAND، وNOT، وNOR — يمكن تشفيرها خلال التفاعُلات بين الجزيئية التي تحدُث بين جزيئات الحمض النووي المختلفة، بحيث يمكن «قراءة» إشارات الخرج النهائية من خلال تصوير النمط الذاتي التجميع الناتج ببساطة. أو، كما بيَّن ليونارد آدلمان من جامعة ساوث كاليفورنيا في عام ١٩٩٤، يمكن تشفير مهام أو مسائل حاسوبية أكثر تعقيدًا بكثيرٍ تتجاوز المنطق الثنائي في الحمض النووي. وفي أول تجربة منشورة تُنفِّذ الحوسبة باستخدام الحمض النووي، بيَّن آدلمان أنه يمكن حلُّ مسألة البائع المُتجوِّل الكلاسيكية — «إذا كان معك قائمةٌ بالمدن والمسافات بين كل مدينتَين، ما أقصرُ طريقٍ ممكن يمر بكل مدينة مرةً واحدة لا أكثر ثم يُعيد البائع إلى المدينة التي بدأ منها؟» — من خلال تكنولوجيا الحمض النووي النانوية.

خلال العقود التي تلت هذا الاكتشاف الرائد، قامت مجموعة إريك وينفري بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك)، على وجه الخصوص، بالاستفادة من أعمال آدلمان لدفع الحوسبة باستخدام الحمض النووي إلى مستوياتٍ عالية جدًّا من التعقيد والتحكُّم، بما في ذلك تصنيعُ أنابيب نانوية من الحمض النووي لإنتاج نظام للتجميع الذاتي «يمكن إعادة برمجته». وهنا تتجلَّى تكنولوجيا النانو في أبهى وأقوى صورها؛ إذ يُمثل هذا اتحادًا بين مجالاتٍ تقليدية — الكيمياء (الحيوية) والأحياء والفيزياء والهندسة والحوسبة وغيرها — في النطاق النانوي، حيث تُستخدَم مادة ذات بِنية نانوية لتضمين المعلومات والحوسبة.

غير أن الحمض النووي يُعتبر جزيئًا عملاقًا ومعقدًا للغاية بالنسبة للفيزيائيين. فنحن اختزاليون حتى النخاع؛ إذ نفضل اختزال العالم والكون في أبسط وحداته البنائية المُمكنة. لكن ما هي حدود الاختزال عندما يتعلَّق الأمر بالحوسبة؟ ما أصغر وحدة يُمكننا الوصول إليها؟ استغرق فاينمان في التفكير في هذا السؤال تحديدًا، لا في إطار مقولته «هناك متَّسع كبير ﻟ…» فحسب، وإنما أيضًا في إطار مَساقٍ درَّسه في كالتك من عام ١٩٨٣ وحتى ١٩٨٦ بعنوان «إمكانيات وقيود آلات الحوسبة». وقد حدث تقدُّم هائل في الحوسبة على المُستويَين الذرِّي والنانوي منذ أن قدَّم فاينمان ذاك المَساق.

بيانات ذرية

ما أبسطُ مُكون إلكتروني يمكنك تخيُّله؟ قد يقول البعض المقاوم؛ فشيء بدائي بسيط كقطعةٍ من السلك تكون له مقاومة مُحددة. لكن هذا ليس اختيارًا فعالًا بصفة خاصة. إن أبسط مُكوِّن يُنفِّذ وظيفة يمكن التحكُّم فيها هو المفتاح. فحالته يمكن تبديلها بين التشغيل والإيقاف، أو بين ٠ و١ بلغة البدائل الثنائية، مما يمنحنا وسيلةً لا لتشفير المعلومات فقط، بل للتحكُّم في الحالات والعمليات كذلك. لذلك نرى المفاتيح في كل مكانٍ من حولنا؛ فثمَّة مفتاح طاقة متواضع في كل جهازٍ منزلي، إلا أنه مُفيد للغاية.

بعد فترة قصيرة من توجيه دون آيجلر وزملائه للذرات إلى مواضعها لأول مرة لتكوين شعار شركة آي بي إم، اخترعوا مفتاحًا ذريًّا يعمل بتناقُل ذرة زينون مفردة بين رأس مجهر نافذ وسطح من النيكل. كانت حالة المفتاح تتبدَّل؛ أي تنتقل ذرة الزينون إما من السطح إلى الرأس أو العكس، من خلال استخدام نبضة من الجهد. وفي وقتٍ سابق من العام نفسه (١٩٩١)، قام إن-وان ليو وفايدون أفوريس، بمَعامل آي بي إم البحثية في يوركتاون هايتس، ببيان عملي لاستخلاص ذرة مفردة من سطح من السليكون. وكان باحثو آي بي إم قد اكتشفوا في وقتٍ سابق خاصيةً مهمة في النبائط تسمَّى المقاومة التفاضلية السالبة — التي بموجبها يمكن أن يقلَّ التيار بين قطبين مع زيادة الجهد بينهما (مما يخالف قانون أوم تمامًا)، وذلك بسبب ظاهرة تسمَّى الرنين النفقي — للذرة المفردة.

أحدَثت تلك التجارب الرائدة المبكِّرة التي قامت بها الفِرق البحثية بمعامل آي بي إم في ألمادن ومعامل آي بي إم في يوركتاون هايتس، طفرةً في الاهتمام باستخدام المجهر النافذ الماسح ومجهر القوة الذرية لتنفيذ وظائف الأجهزة الإلكترونية ومبادئ الحوسبة على المستويات الذرِّية والجزيئية والنانوية. ليس في مقدوري في هذه المُقدمة القصيرة جدًّا أن أبدأ في تقديم عرضٍ وافٍ لهذه الأعمال والإنجازات، التي تُعَد ثمرة جهود عددٍ كبير من المجموعات البحثية حول العالَم على مدى عقودٍ عديدة. لكني سأركز على بضع نقاطٍ بالِغة الأثر بدلًا من ذلك.

fig16
شكل ٤-١: الحوسبة الجزيئية. تُنفَّذ مجموعة متنوعة من العمليات المنطقية (حيث يمثل الرمز + العملية المنطقية «أو OR»، ويمثل الرمز • العملية المنطقية «وAND») من خلال التعاقُبات الجزيئية التي يُحفِّزها رأس المجهر النافذ الماسح.
في تجربة عبقرية أخرى، استخدم فريق آيجلر ما أسمَوه التعاقبات الجزيئية لتشفير المنطق البولياني. صفَّ الفريقُ جزيئاتِ أول أكسيد الكربون بالطريقة المناسبة بحيث يؤدي تحريك الجزيء الأول في الصف (بواسطة رأس مجهر نافذ) إلى حفز تفاعُل مُتسلسِل (شكل ٤-١). تفاعل كل جزيءٍ مع جاره في التسلسل، مما أدَّى إلى تغيير ترتيبه ووضعيته، وهكذا حتى نهاية الصف، فيما بدا كلعبة دومينو نانوية. ومن خلال التصميم الدقيق لهذه «المسارات» الجزيئية، التي أتاحت تحكمًا دقيقًا في سلسلة التفاعُلات بين الجزيئية المُتعاقبة، تمكَّن فريق آيجلر من تشفير المنطق البولياني (بوابة AND)، وعدة وظائف رقمية أخرى. هذا النوع من المنطق الجزيئي بطيءٌ للغاية بالمقارنة بأنظمة سيموس السليكونية والبنى الإلكترونية الأخرى، لكن الهدف هنا لم يكن تصنيع جهاز يُمكنه أن يحلَّ محلَّ أجهزتنا المعتادة. فاستراتيجية التعاقُبات الجزيئية تُنفِّذ المنطق بطريقة جديدة كليًّا، ويمكننا أن نتعلَّم الكثير عن أساسيات الحوسبة من خلال التلاعب بالمادة في النطاق النانوي على هذا النحو.

تجنَّبتُ حتى الآن الإشارةَ أكثر من اللازم إلى خطبة فاينمان الشهيرة، «هناك مُتَّسع كبير في القاع»، التي ألقاها عام ١٩٥٩، لا لأنها مذكورة في كل مقالات تكنولوجيا النانو تقريبًا فقط، بل لأنه قد تبيَّن أن تأثيرها على روَّاد تكنولوجيا النانو أقل بكثيرٍ مما كان مفترضًا في البداية. فرغم أن فاينمان يُعتبر صاحب تأثيرٍ هائل على أصول العِلم المعني بالعالم الفائق الصِّغَر وتطوُّره، شأنه شأن كثيرٍ من التطوُّرات العلمية الأخرى، فإن حقيقة الأمر غير مباشرة ومُعقَّدة أكثر من ذلك إلى حدٍّ ما. تناول الكاتب العِلمي فيليب بول في مقالٍ كتبَه عام ٢٠٠٩ تأثيرَ وإرث خطبة فاينمان «هناك متَّسع كبير في القاع»، احتفالًا بالذكرى الخمسين لها. يُسلِّط بول الضوءَ على تحليلٍ قام به كريس تومي — وهو عالِم أنثروبولوجي بجامعة ساوث كارولينا — أوضح أنه خلال العقدَين التاليين على نشر نص حديث فاينمان، لم تجنِ تلك المحاضرة الأسطورية من الاستشهادات في المُجمَل سوى «سبعة»؛ بل وكان رأي واحد منها أبعدَ ما يكون عن الإطراء؛ إذ قال عنها: «عقيمة ولا معنى لها في العالَم الحقيقي».

من الجدير بالذكر أن مُخترعي المجهر النافذ الماسح، الذين ساهموا في تحقيق حُلم فاينمان في الهندسة ذات الدقة الذرية أكثر من أي شخصٍ آخر، لم يكن لديهم أيُّ عِلم تمامًا بخطبة «… متَّسع في القاع». ومع ذلك، وبسبب تأثير الضجة الإعلامية تأثيرًا كبيرًا، نالت خطبة فاينمان حظَّها من القراءة بكل تأكيد وأُعيدت قراءته من قِبل كثيرين من الجيل الحالي من علماء النانو. ومن هذا المنظور، يظلُّ لخطبة فاينمان تأثيرٌ هائل، وبالذات هذا المقطع:

لكنني لستُ خائفًا من التفكير في السؤال النهائي عما إذا كنا سنَقدِر في النهاية — في المستقبل الباهر — على ترتيب الذرات بالطريقة التي نريدها؛ ترصيص الذرات حتى أصغر المستويات الذرية! ماذا سيحدث لو صار بإمكاننا ترصيص الذرات ذرةً تلوَ الأخرى بالطريقة التي نريد (في حدود المنطق بالتأكيد؛ فلا يُمكنك أن تضعها بحيث تكون غير مُستقرة كيميائيًّا على سبيل المثال)؟

كان فاينمان، الذي تُوفِّي في عام ١٩٨٨، ستغمُره السعادة لو رأى كلماته هذه من خطبته التي صارت الآن أيقونةً مترجمة إلى ذراتٍ في استعراضٍ مذهل للتشفير الذري في عام ٢٠١٦.

في شكل ٤-٢، تمثل كل نقطة داكنة فجوةً ذرية مفردة في بلورة من الكلور على سطح نحاسي. استخدم الباحثون الذين قاموا بتحويل هذا المقطع من خطاب فاينمان إلى شفرة — وهم فلوريس كالف وزملاؤه بمعهد كافلي لعلوم النانو في هولندا — رأس المجهر النافذ الماسح لإعادة ترتيب الفجوات وفقًا لرموز الآسكي الثنائية؛ إذ يتكوَّن كل بِت من فجوة (٠) وذرة كلور (١). عند تكميلها بعدَدٍ من الأنماط المؤشرة لتحديد مواضع بداية ونهاية الخطوط، وتحديد المناطق التي حالت فيها عيوب البلورة دون التحكم في الذرات، استطاع الباحثون بناءَ توزيعات ذرية مُتشابكة على قدرٍ كبير من التعقيد. وكان عنوان ورقتهم البحثية، التي نُشرت في عام ٢٠١٦، يعبِّر عن ذلك تمامًا: «ذاكرة ذرية قابلة للمسح والكتابة سِعتها كيلوبايت».
fig17
شكل ٤-٢: متَّسع كبير في القاع: عنوان خطبة فاينمان الشهيرة التي ألقاها عام ١٩٥٩ مُشفرًا في هيئة فجوات ذرية مفردة في بلورة كلور.
رغم روعة هذا الكيلوبايت الذري، فهو بالتأكيد ليس أكبر كثافةً تخزينية مُمكنة للبيانات. ففي عام ٢٠١٢، قاد هاري مانوهاران وكريستوفر مون، اللذان كانا عضوَين سابقَين في فريق آيجلر في معامل أبحاث آي بي إم في ألمادن، فريقًا من الباحثين بجامعة ستانفورد لإنتاجِ ما يُعتبر أصغر كتابة في العالَم حاليًّا، بحسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية. لم يكتب الفريق بالذرات، بل عن طريق التحكُّم في كثافة الإلكترون على سطحٍ ما لتشفير المعلومات بدقة دون ذرية، مما حقَّق سعة تخزين للمعلومات تجاوزت حدود الذرات المفردة (شكل ٤-٣). وهذا التحكُّم في الموجات الإلكترونية المُتكوِّنة على سطح بلورة نحاس — وهي نفس نوعية الموجات التي أنتجت النمط داخل السياج الكمومي الدائري — نتج عنه كتابة الحرفين «SU» بتعديل الكثافة الإلكترونية. ونظرًا لأن هذه الإلكترونات الحرة يمكن أن يكون طولها الموجي أقصر بكثير من المسافات بين الذرية على السطح، فبإمكانها أن تُشفِّر المعلومات في مساحةٍ أو حجم أصغر. لقد تبيَّن أن ثمَّة متسعًا في القاع أكثر حتى مما تخيل فاينمان.

رغم أن كل هذه أمثلة مُبهرة للتحكم في المادة على المستوى الذري والجزيئي والنانوي، ثمَّة عدد من العقبات التي تحول دون توسيع مدى هذه الطرق لتُصبح تكنولوجيا تجارية قابلة للتطبيق والتوسع. أولًا، الدرجة الفائقة من التفريغ ودرجات الحرارة الفائقة البرودة (تُقارب ٤ كلفنات) ليست بالبيئة الأنسب لهذه الأنظمة. وتتفاقم هذه العراقيل بسبب مشكلة السرعة؛ فرغم أن التعاقب الجزيئي مثال متطرف، فإن «جميع» طرق المسح المسباري تعاني المحدوديةَ الشديدة لنطاق قدرتها. فكما رأينا، وإلى حين تطوير ميكروسكوبات مسبارية ماسحة متعددة الرءوس قادرة على العمل بدقة ذرية، تظلُّ التقنية بطبيعتها تسلسُلية، ومن ثَم في مُنتهى البطء. وعلى صعيد أساسي أكثر، لا تُعتبر الركيزة الفلزية منصةً جيدة على الإطلاق لتصنيع النبائط ذات الأبعاد الذرية أو الجزيئية عليها. فإن أردْنا تجميع النبيطة لتوصيلها بالعالَم الخارجي من خلال وصلات كهربية، ستؤدي الركيزة الفلزية إلى حدوث ماسٍ كهربي ببساطة.

fig18
شكل ٤-٣: دقة دون ذرية: أصغر كتابة في العالَم شُفِّر الحرفان «SU» عن طريق تبايُنات في كثافة الإلكترونات على سطح نحاسي، بدقةٍ أدقَّ من أقطار الذرات المكونة للسطح.
وما هذا إلا سبب واحد من بين أسباب عديدة جعلت أشباه الموصلات، وبخاصة السليكون، المادةَ المُفضلة لتصنيع الأجهزة الإلكترونية والحاسوبية ذات الحالة الصلبة في أي نطاق من الأبعاد. لقد رأينا بالفعل إمكانيةَ تشكيل سطح السليكون حتى مستوى الذرات المفردة عن طريق تحرير ذرات الهيدروجين باستخدام رأس المجهر النافذ الماسح. وعلى الرغم من أن استخدام المجهر النافذ الماسح ما زال يُشكِّل عقبةً هائلة أمام توسيع نطاق عملية الطباعة الليثوغرافية الذرية لإنتاج مليارات النبائط على رقاقة واحدة، فإن كون الركيزة من السليكون يعني أن النبائط الأحادية الذرة لا تتعرَّض لماسٍ كهربي من خلال الركيزة ويمكن دمجها مع دوائر خارجية، لا نظريًّا فقط بل عمليًّا أيضًا. إن أقصى ما توصَّلنا إليه في مُعالجة المعلومات والمنطق القائمة على السليكون على مستوى الذرة الواحدة يتضمَّن التحكم في حالة السليكون من حيث الشحنة (انظر شكل ٤-٤)، كما أثبت كلٌّ من تاليانا هاف وروشان أتشيل وزملاؤهما في مجموعة بوب وولكو البحثية بجامعة ألبرتا، والتحكم أيضًا في خصائصه المغناطيسية في واقع الأمر. وبالنظر إلى أن السليكون ليس مادة مغناطيسية، فقد يبدو ذلك مفاجئًا إلى حدٍّ ما.
fig19
شكل ٤-٤: منطق الروابط المُتدلِّية. شكل للبوابة المنطقية «أو OR»، صُنِّعت على سطحٍ من السليكون المُغطَّى بالهيدروجين باستخدام رأس مجهر نافذ ماسح لانتزاع ذرات هيدروجين مفردة. ينتج عن هذا ما يُعرَف بالرابطة المُتدلِّية على ذرة السليكون الكامنة تحتها. يُمكن التحكُّم في حالة الشحنة لكل رابطة من خلال التفاعلات بينها وبين الروابط المُتدلِّية المجاورة لها، مما يسمح بتنفيذ عمليات منطقية على مستوى المدارات الإلكترونية.

اللف المغزلي وأجهزة تشغيل الأغاني

رغم الدور الجوهري الذي تلعبه الشحنة في قطاع كبير من التكنولوجيا، فهي ليست الخاصية الوحيدة للإلكترون التي يُمكننا استغلالها. فالمغناطيسية تنبع من خاصية للإلكترونات مُختلفة تمامًا، ألا وهي: اللف المغزلي. (الأصح تقنيًّا أن نقول إن التفاعل بين الشحنة واللف المغزلي هو أساس السلوك المغناطيسي. لكن مراعاةً للمساحة، سأُضطر إلى التغاضي عن بعض التفاصيل الدقيقة فيما سيَلي. وأُرشِّح بشدة كتاب ستيفين بلاندل «مقدمة قصيرة جدًّا للمغناطيسية» كمقدمةٍ أكثرَ تفصيلًا إلى حدٍّ ما لموضوع المغناطيسية المذهل.)

ما اللفُّ المغزلي؟ هذا سؤال عميق جدًّا وصعب وذو جوانب عديدة، يكمُن حلُّه في النهاية في توليفةٍ من النسبية وميكانيكا الكم، وينطوي في صميمه على مبدأ باولي للاستبعاد. اللف المغزلي خاصية ميكانيكية كمومية ليس للإلكترونات فحسب، بل لكل الجسيمات الأولية دون الذرية المعروفة (مع الاستثناء الجدير بالملاحظة الخاص ببوزون هيجز). تكمُن الصعوبة في أن الإلكترون — وهو ما ينطبق على جميع الجسيمات الأخرى ذات اللف المغزلي — ليس مجرد نسخةٍ نانوية من النحلة الدوَّارة التي اعتدناها في عالَمنا الماكروسكوبي اليومي. فكِلا النظامَين يمتلك خاصية كمية الحركة الزاويَّة، ما يعني أن الإلكترون يدور. غير أن من الاختلافات الجوهرية بين النحلة الدوَّارة والإلكترون، بخلاف نطاق الأبعاد، أن كمية الحركة الزاويَّة الأصيلة بالنسبة إلى الأخير فقط مُكمَّاة. فلا يمكنها أن تأخذ إلا قيمةً من اثنتَين، إما حالة مغزلية لأعلى أو لأسفل، ومحاذاة إلكترونات المادة في أحد هذَين الاتجاهَين هو ما يُحدِّد سلوكها المغناطيسي. تخيل الإلكترون وكأنه مغناطيس مُتناهي الصغر يمكن توجيهه بحيث يكون قطبه الشمالي إلى الأعلى أو الأسفل.

غالبًا ما يُقال لطلبة الفيزياء إن اللف المغزلي ظاهرةٌ ميكانيكية كمومية بحتة ليس لها نظير تقليدي، ومِن الأفضل أن نكتفي باعتبار اللف المغزلي كأنه سهم صغير مؤشر، يشير إلى أعلى للدلالة على «اللف المغزلي لأعلى»، وإلى أسفل للدلالة على «اللف المغزلي لأسفل». ومعظم الفيزيائيين المحترفين يميلون بالفعل إلى النظر إلى اللف المغزلي بهذه الطريقة. غير أن هذا اللجوء إلى الحجة التقليدية من أن «ميكانيكا الكم في منتهى الغرابة؛ ولا يُمكننا فهمها في ضوء رؤيتنا التقليدية للعالم» فيها مُبالغة كبيرة فيما يخصُّ اللف المغزلي، وكثير من المُتغيرات الميكانيكية الكمومية الأخرى كذلك.

الفيزياء الكلاسيكية هي الحالة الحدِّية للفيزياء الكمومية؛ فمع تزايُد نطاقات الأطوال أو اقتراب طول موجة دي بروي من الصفر، يتطوَّر السلوك الكمومي إلى السلوك الكلاسيكي. فلا يُوجَد انتقالٌ حادٌّ بين حالتَين. فكما أنه يستحيل عمليًّا أن تُشير إلى قوس قزح وتعين نقطة مُحددة يتحول عندها اللون الأحمر، مثلًا، إلى البرتقالي، تتحوَّل فيزياء الكم تدريجيًّا إلى السلوك الكلاسيكي مع زيادة حجم النظام (أو تفاعُله مع بيئته أو الاثنين معًا). ويُعد هذا تجسيدًا لمبدأ التناظُر البالِغ الأهمية في ميكانيكا الكم: السلوك الكلاسيكي ينبثِق من الكم. عِلاوة على ذلك، تُعتبر ميكانيكا الكم نظريةً تُمثل فيها الكميات القابلة للرصد — أي الكميات التي يمكن قياسها تجريبيًّا — جزءًا أساسيًّا من الإطار النظري. ومن ثَم، فهناك ارتباط جوهري بين التجارب التي نُجريها في مستوى الأطوال البشرية وعالَم الكم النانوي (ودون النانوي).

بخصوص اللف المغزلي، تُبرهن تجربتان أُجرِيتا قبل أكثر من قرنٍ بالأدلة الدامغة على وجودِ هذا الارتباط بين النطاق الماكروي والنطاق النانوي، أو — على نحوٍ مكافئ — بين الفيزياء الكلاسيكية وفيزياء الكم. فقد بيَّن أينشتاين والفيزيائي الهولندي فاندر يوهانس دي هاس أنَّ تغيير العزم المغناطيسي لعيِّنةٍ ما يتسبب في دورانها. ينشأ العزم المغناطيسي عن كمية الحركة الزاوية الكلية للإلكترونات، التي تشمل كلًّا من اللف المغزلي الأصيل وكمية الحركة (العزم) الناتجة عن المدار الذري الذي تُوجَد فيه الإلكترونات. ومن ثَم فإن أي تغيرٍ في اللف المغزلي الكمومي الميكانيكي يُترجَم إلى تغيُّرٍ في دوران الجسم يمكن رصدُه بوضوح. هل ينطبق الأمر ذاته بالعكس؟ هل يُمكننا، من خلال تدوير عينة ماكروسكوبية، أن نُغير مغنطتها؟ نعم، يمكننا ذلك. وقد بيَّن صامويل بارنيت صحةَ ذلك فعلًا قبل زمنٍ طويل، في نحو عام ١٩١٥، في ورقة بحثية نُشرت في دورية «فيزيكال ريفيو» تحت عنوان بليغ جدير بالإعجاب والثناء، وهو «المغنطة من خلال الدوران».

لقد قمتُ بهذا الالتفاف المُختصر إلى فيزياء اللف المغزلي لا بسبب دَورها في أحدثِ ما وصلت إليه تكنولوجيا النانو فحسب (كما سنرى أدناه)، ولكن أيضًا لتسليط الضوء مرةً أخرى على أنَّنا لا يجب أن نُعتبر النطاق النانوي، بما فيه فيزياء الكم، مجالًا عجيبًا يتناقض تمام التناقُض، بطريقةٍ ما، مع العالم اليومي الذي نألفُه أكثر. فالعالم النانوي يرتبط بالعالم الماكروي بطرقٍ شتَّى غير مُتوقعة.

تقوم الإلكترونيات على التحكُّم في الشحنة الإلكترونية؛ أما المجال الفرعي الأحدث منه إلى حدٍّ ما الذي انبثق منه، المعروف باسم الإلكترونيات المغزلية، فيُركِّز على الاستفادة من اللف المغزلي، كما قد تُخمِّن من الاسم. ثمة ترابط وثيق بين الإلكترونيات المغزلية وتكنولوجيا النانو. وقد رأينا بالفعل أن تصغير الأجهزة قد دفع بتكنولوجيا السليكون إلى بلوغ نطاق النانو. بالمثل، تتطلَّب الأجهزة القائمة على الإلكترونيات المغزلية هي الأخرى تحكمًا ومعالجةً في نطاق النانو. وقد اعتمدَت إحدى قصص النجاح التجاري الكبرى في الإلكترونيات المغزلية على مدار العقد الأول من هذا القرن — وهي القرص الصلب الكامن في قلب آيبود شركة آبل وغيره من مشغلات إم بي٣ — على «شطائر» من المواد، يبلُغ سُمك طبقاتها بضعة نانومترات.

ترجع الزيادة الحادة في السعة التخزينية التي دعمت الانتشار السريع لمشغلات إم بي٣ — «١٠٠٠ أغنية في جيبك» بحسب تعبير شركة آبل وقتها — في الأساس إلى استغلال تأثيرٍ ذي علاقة باللف المغزلي يُعرَف باسم «المقاومة المغناطيسية العملاقة». اكتُشفت المقاومة المغناطيسية العملاقة من قِبل مجموعتَين بحثيتَين مُنفصلتَين في الثمانينيات عمِلتا بالتوازي؛ الأولى بقيادة ألبرت فير من جامعة باريس-سود بمدينة أورساي، والثانية بقيادة بيتر جرونبرج من مركز أبحاث يوليش، وتنطوي على استخدام اللفِّ المغزلي للتحكُّم في تدفُّق الإلكترونات عبر نبيطةٍ ما. يُولِّد اللف المغزلي مجالًا مغناطيسيًّا كما أنه يتحكَّم في مقاومة التيار الكهربي؛ فالإلكترونات ذات الحالة المغزلية لأعلى يُمكنها أن تمرَّ بسهولةٍ أكبر عبْر مادة لها نفس اتجاه اللف المغزلي الإلكتروني، مقارنةً بنظيرتها في الحالة المغزلية لأسفل. وهذا يعني أن تغيُّرات طفيفة في المغناطيسية يمكن أن ينتج عنها تغيُّرات كبيرة جدًّا في المقاومة الكهربية، ومن هنا يأتي مُسمَّى «المقاومة المغناطيسية العملاقة». صنَّع فير وجرونبرج عيناتٍ تكوَّنت من تكديس طبقات رقيقة للغاية (يقارب سُمكها نانومترات) من مادة فيرومغناطيسية (مواد قابلة للمغنطة) بالتبادل مع موادَّ يُطلَق عليها مواد فيرومغناطيسية مضادة (تحديدًا الحديد والكروم). أنت على درايةٍ تامة بالمواد الفيرومغناطيسية؛ فأي مغناطيس ثلاجة قد رأيته يومًا هو من مادة فيرومغناطيسية، حيث يصطف اللف المغزلي للإلكترونات في الاتجاه نفسه حتى تُصبح هناك مغنطة محصلة. أما في المواد الفيرومغناطيسية المُضادة، فتصطفُّ الإلكترونات في توازٍ عكسي. بعبارة أخرى، كل إلكترون في حالة مغزلية لأعلى له شريك حالته المغزلية لأسفل. وهذا يعني أنه على الرغم من أن المادة ما زالت تظهر خواصَّ مغناطيسية — لأن اللف المغزلي للإلكترونات يلعب دورًا محوريًّا هنا — فلا تُوجَد مغنطة محصلة.

تفاجأ الفريقان اللذان قادهما فير وجرونبرج على التوالي، حين رأوا أن التغيُّرات في المقاومة الكهربية للعينات استجابةً لمجال مغناطيسي ضعيف نسبيًّا، كانت أكبر بكثيرٍ من المتوقَّع؛ وبهذا اكتشفوا تأثير المقاومة المغناطيسية العملاقة، التي نالا عنها جائزة نوبل في الفيزياء عام ٢٠٠٧. وفي مثالٍ نادر نسبيًّا لما يُعرَف بالنموذج الخطِّي للابتكار — حيث تُحفِّز أبحاث جوهرية تُجرى بدافع الفضول ومن دون هدفٍ واضح، مثل أبحاث فرت وجرونبرج، الابتكارَ التكنولوجي — أدرك ستيوارت باركن، أحد علماء آي بي إم في ألمادن، قيمةَ إمكانيات المقاومة المغناطيسية العملاقة في زيادة سعة الأقراص الصلبة. (لا يكون تحوُّل الاكتشافات الجوهرية إلى منتجات تجارية خطيًّا بهذا الشكل على نحوٍ شِبه دائم، وفي العموم يتضمَّن دورةً معقَّدة من التغذية الراجعة بين الأبحاث الأساسية والتطبيقية والهندسة والاعتبارات الاقتصادية.) في عام ١٩٩١، تقدَّم باركن وزملاؤه للحصول على براءة اختراعٍ لِما أسمَوه «صمام اللف المغزلي»، وهو جهاز يعتمِد كليةً على المقاومة المغناطيسية العملاقة. وقد كانت هذه التكنولوجيا هي الأساس لظهور أجهزة الآيبود، وكذلك سعات تخزين البيانات التي تُقاس بوحدة الجيجابايت (التي صارت عادية الآن) بدلًا من الميجابايت. وتكمُن تكنولوجيا النانو في قلب كل هذا.

حدود حالات اللف المغزلي المفردة

انطوت أجهزة المقاومة المغناطيسية العملاقة التي تندرج ضمن النوعية التي صمَّمها وصنَّعها فير وجرونبرج وباركن وزملاؤهم (وكثير من المجموعات البحثية الأخرى التي ظهرت منذ ظهور أعمالهم الرائدة) على طبقاتٍ مغناطيسية نانوية، التي وبالرغم من كونها فائقة الرقة، فإنها تشتمل على عددٍ ضخم لا يُحصى من حالات اللف المغزلي؛ لأن مساحة النبائط كانت كبيرة نسبيًّا. وكما رأينا مرارًا خلال هذا الكتاب، كثيرًا ما تهتمُّ علوم النانو وتكنولوجيا النانو بالتحكُّم في المادة على مستوى الحدود الأساسية القصوى. فإلى أي مدًى إذن يُمكننا أن ندفع التحكُّم في اللف المغزلي؟

بالنظر إلى قُدرة مجهر المسبار الماسح على تبيُّن الذرات، هل يُمكنه أن يستبين حالات اللف المغزلي المفردة كذلك؟ هل من الممكن أن نستكشف حالة اللف المغزلي لذرةٍ معيَّنة؟ هل يُمكننا أن نُنفذ عمليات منطقية ونُصنع بوابات منطقية بناءً على التحكم في حالات اللف المغزلي المفردة؟ من المثير للاهتمام أن إجابة كل واحدٍ من هذه الأسئلة هي نعَم مُدوية! فمنذ وقتٍ طويل يعود إلى التسعينيات، وفي دراسةٍ بالغة الأثر، نجح رولاند فيزندانجر وفريقه بجامعة هامبورج في استبانة حالات اللف المغزلي وقياسها باستخدام المجهر النافذ الماسح. استغلَّ العلماء ما يُسمَّى بالعبور النفقي المُستقطب باللف المغزلي؛ حيث يعتمد تدفُّق الإلكترونات على مُحاذاة حالاتها المغزلية في نفس الاتجاه (أو عكس الاتجاه)، كما يحدُث مع المقاومة المغناطيسية العملاقة. في العبور النفقي المُستقطب باللف المغزلي، يُستخدَم رأس مغناطيسي لتصوير عينةٍ مغناطيسية. تتَّسِم إلكترونات العينة التي تتفق حالتها المغزلية مع حالة الرأس (أي لأعلى أو لأسفل) باحتماليةٍ أعلى للعبور النفقي؛ ومِن ثَم يكون التيار النفقي المقيس أعلى. وبعد عامَين فقط من أولى تجاربهما، حسَّن فيزنجاندر وزملاؤه قياساتهم لدرجةِ أنهم وصلوا باستبانة الحالات المغزلية إلى الحدود الذرية؛ إذ باتوا يرصدون الاختلافَ في الحالة المغزلية بين أيونات الحديد المختلفة في عينة من أكسيد الحديد.

استمرَّ فريق هامبورج في تحقيق تطوُّرات ملهمة في استبانة الحالات المغزلية والتحكُّم فيها على مرِّ العقود التي تلت هذه التجارب الرائدة. لكنهم لم يستأثروا وحدَهم باستكشاف حدود التحكم في اللف المغزلي في نطاق النانومتر ودونه. فمرةً أخرى، تمثل شركة آي بي إم فاعلًا أساسيًّا في هذا المجال. لقد خرجت تكنولوجيا صمام اللف المغزلي من معامل أبحاث ألمادن التابعة لشركة آي بي إم بفضل جهود باركن وفريقه، ولا غرو إذن في أن يكون لمعمل ألمادن وخريجيه تأثيرٌ كبير في هذا المجال. وينطبق هذا خصوصًا على الأبحاث على مستوى الذرات المفردة والحالات المغزلية المفردة؛ إذ عملت مجموعة أندرياس هاينرخ البحثية في مركز علوم النانو الكمومية في سيول وشركاؤهم (وأخص بالذكر منهم كريس لوتز بمعمل ألمادن التابع لشركة آي بي إم) على توسيع نطاق هذا المجال إلى حدٍّ كبير. فقد استخدموا تقنية تُسمَّى الرنين الإلكتروني المغزلي، التي لا تنطوي في صورتها التقليدية فقط على قياس أنظمةٍ تضمُّ ما يصل إلى ١٠١٠ حالات مغزلية، بل لا تضمُّ أيضًا أيَّ نوع من الاستبانة المكانية. أعاد هاينرخ وفريقه تعريفَ الرنين الإلكتروني المغزلي جذريًّا من خلال دمجه مع المجهر النافذ الماسح، بما يُتيح قياس الحالات المغزلية بدقةٍ ذرية. لكن كما رأينا على مدار هذا الكتاب، فإن المجهر النافذ الماسح أداةٌ للتصوير والمُعالجة أيضًا. (كان فريق هاينرخ (أثناء فترة عملِه في معامل ألمادن التابعة لشركة آي بي إم) مسئولًا عن فيديو «صبي مع ذرَّته» الذي صُنع بتقنية الحركة المُتقطعة وتناولناه في الفصل الثاني.) لذا يمكن تحريك الحالات المغزلية بدقَّةٍ ذرية أو (دون) جزيئية لدراسة كيفية تفاعلها. عِلاوة على ذلك، يمكن استخدام الرأس لضبط المجال المغناطيسي الموضعي المُطبَّق على نظام مغزلي (سواء كان ذرة أو جزيئًا) (انظر شكل ٤-٥).
fig20
شكل ٤-٥: تصوُّر فنان لكيفية تصوير المجهر النافذ الماسح للاتجاه المغزلي على السطح. وُظِّف الرأس باستخدام ذرة مغناطيسية أو جزيء أو عنقود مغناطيسيين لكي يكون له حالة مغزلية مُحدَّدة بدقة، تتفاعل بدَورها مع الحالات المغزلية للذرَّات السطحية.

الحوسبة الكمومية والكيوبتات (البتَّات الكمومية)

يُشكل اللف المغزلي الأساسَ الذي تقوم عليه عدة نماذج للحوسبة الكمومية، وفي تجربة رائدة أُجريت عام ٢٠١٩، نجح لوتز وهاينرخ وفريقاهما في تصنيع كيوبتات الذرات المفردة والتحكم فيها ومعالجتها. تتمثَّل الفكرة الأساسية للتجربة في أن البِتات الثنائية — وهي أنظمة بسيطة تأخذ حالة من حالتين — يمكن أن تكون إما في الحالة «٠» أو «١» كما هو معهود، ولكن يمكن في ميكانيكا الكم أن نحصُل على تراكُب، أو بلغةٍ أبسطَ مزيج من هاتَين الحالتَين. نُعبِّر عن الحالتين (باستخدام مجموعة رموز تعود إلى الفيزيائي بول ديراك) ﺑ و ، ويمكن، نظريًّا، الحصول على أي مزيج نريده من هاتين الحالتين، بشرط أن يكون مجموع احتمالات قياس الحالتين يُساوي ١ دائمًا. رياضيًّا، يمكن أن تُكتب الحالة الكمومية الإجمالية التي لدَينا، والتي نُعبِّر عنها عادةً بالحرف الإغريقي ، كما يلي:
حيث و معاملان يدلان على مقدار مساهمة كلٍّ من الحالتَين الأساسيتَين و في الحالة الكمومية الكلية.

في أغلب الأحيان تُرسم صورة التراكب الكمومي وكأنه ظاهرية كمومية غريبة أخرى لا نظيرَ لها في العالم الحقيقي. وهذا أمرٌ مُحبِط لأنه في كل مرة ينقر وتر جيتار، على سبيل المثال، يكون تراكب الأنساق المُتعدِّدة لاهتزاز الوتر، وتُسمَّى نغماته التوافُقية، هو ما يُحدِّد الصوت الإجمالي الصادر. وهذه الظاهرة ليست مقتصِرة على آلات الجيتار فحسب بالطبع، أو الآلات الموسيقية الأخرى، بل هي الأساس الذي يقوم عليه قدرٌ كبير من العلوم والهندسة في العالم الكلاسيكي الماكروسكوبي. وفي النطاقات النانوية والكمومية، ينطوي التراكُب أيضًا على الجمع — أي المزج — بين موجاتٍ مختلفة.

استخدم فريق لوتز، بقيادة كاي يانج، اللفَّ المغزلي لذرات تيتانيوم مفردة مُمتزة (ملتصقة) على سطح مختار بعناية شديدة باعتباره التجسيد المادي للكيوبت. وبتسليط موجات راديو — موجات ميكروويف — عالية التردُّد من رأس مجهر نافذ ماسح، تمكنوا من التحكُّم في اتجاه اللف المغزلي الإجمالي و«ضبط» النظام على حالة التراكُب المحدَّدة التي كانوا يحتاجون إليها. تتَّسِم كيوبتات الذرات المنفردة أيضًا بحساسيةٍ بالِغة لبيئتها، بما في ذلك وجودُ ذرات تيتانيوم مجاورة. لذا استخدم يانج وزملاؤه المجهرَ النافذ الماسح لوضع الذرَّات في أماكنها بدقة، ما أتاح لهم بناء كيوبتات مُتشابكة؛ وهي نظام كمومي تعتمد فيه حالة كيوبت بالكلية على حالة الكيوبت الآخر بحيث يكون الارتباط بينهما مُعقدًا ومتداخلًا بشدة.

كل هذه الأمور العلمية مُشوِّقة وثورية للغاية، لكن مرة أخرى ما زالت المشكلة الصعبة الخاصة باختيار الركيزة والمعالجة المُرتبطة بها قائمة. ولفصل التشابُك بين الكيوبتات وبيئتها لأقصى مدًى مُمكن، تُمتز (تلصق) ذرات التيتانيوم على ركيزة مُتخصِّصة للغاية؛ وهي عبارة عن طبقةٍ رقيقة من أكسيد الماغنسيوم على عيِّنة من الفضة. مثل هذه الركيزة أو المنصَّة ليست مناسبة كثيرًا لتكنولوجيا قابلة للتوسُّع والتطوير (لكن الدافع وراء تجارب يانج وشركائه الرائعة لم يكن تحقيق إنجازٍ تكنولوجي من هذا النوع على أي حال).

في المُقابل، ركَّز فريق ميشيل سيمونز بجامعة نيو ساوث ويلز، وشركاؤهم على تنفيذ الكيوبتات وما يتعلَّق بها من هيكلة حاسوبية كمومية قائمة على السليكون. ومن خلال تنفيذٍ رائعٍ وعبقري لسلسلة من الابتكارات في تكنولوجيا النانو على مدى السنوات العشرين الماضية تقريبًا، دفع سيمونز وزملاؤه وشركاؤه تقنيةَ انتزاع الهيدروجين إلى أقصى مدًى لها. (انظر شكل ٣-٢ كأحد الأمثلة على هذا). فهم يستخدمون الانتزاعَ بواسطة رأس مجهرٍ نافذ ماسح لإزالة ذرة واحدة من الهيدروجين لعمل مَوضع تفاعلي نشط على سطحٍ من السليكون مُغطًّى بالهيدروجين باستثناء هذا المَوضع، ومن ثَم يُعرَّض السطح لغازٍ تحتوي جزيئاته على الفوسفور. تلتصق هذه الجزيئات بالموضع النشط، ومن خلال التحكُّم المُلائم بمعايير هذا التعرُّض يمكن إدخال ذرة فوسفور مُفردة في موضعٍ ذري مُعيَّن مُحدَّد مسبقًا من خلال إزالة الهيدروجين. بعدَها يترسَّب السليكون فوقها لكي «يطمر» ذرة الفوسفور بحيث تُدمج داخل الشبكة البلورية.

كان الدافع الأساسي لهذه الابتكارات، ولمشروع جامعة نيو ساوث ويلز الشامل للكمبيوتر الكمومي، هو تصنيع بِنية حاسوبية كمومية تُعرَف بنموذج كين. بإيجاز، ينطوي نموذج كين على التحكُّم في اقتران اللف المغزلي النووي والإلكتروني في ذرات الفوسفور المدمجة في الشبكة البلورية للسليكون. تُشكِّل هذه الذرات الكيوبتات، وكما هو الحال مع ذرات التيتانيوم التي استخدمها فريق آي بي إم في ألمادن، يمكن ضبط درجة الاقتران والتشابك بعناية من خلال التحكُّم الدقيق في المسافات بين ذرات الفوسفور الفردية المَطمورة في الشبكة البلورية للسليكون.

تُعتبر صناعة كمبيوترٍ كمومي في الحالة الصلبة قائم على السليكون هدفًا في غاية الصعوبة. رغم ذلك، ثمَّة شركة انبثقت من مبادرة جامعة نيو ساوث ويلز، وهي شركة «سليكون كوانتم كومبيوتنج»، هدفها الأسمى على المدى الطويل أن تُتيح «الوصول إلى حلول حاسوبية كمومية مُفيدة لقطاع عريض من جمهور المستخدمين ولأغراض عديدة بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحالي». وإذا استطاعت «سليكون كوانتم كومبيوتنج» الالتزام بهذا المُخطَّط الزمني، فستكون الحوسبة الكمومية التجارية القائمة على السليكون في مُتناول أيدينا في وقتٍ أقرب كثيرًا مما تصوَّره كثير من أنصارها يومًا.

كان هذا الفصل غنيًّا جدًّا بمُقاربات تنازُلية لا تعتمد على عناصر حيوية، ومُصمَّمة بعناية لتناول تكنولوجيا النانو. وفي الفصل المُقبل، سنتدارك الأمر ونعيد التوازن، ونرى كيف أن الطبيعة تُسخِّر العشوائية في نطاق النانو لتشغيل آلات جزيئية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤