الآلات النانوية
قامت كل مجموعة بحثية من المجموعات المُتنافسة بتصميم وتركيب سيارة نانوية من جزيء مفرد، دارت بعد ذلك حول حلبة سباق — وكانت عبارة عن سطحٍ معدني — يقودها رأس مجهر نافذ. ولكن على عكس أمثلة التحكُّم في الذرات والجزيئات التي رأيناها في الفصول السابقة، كان دفع الجزيء بطرف رأس المجهر النافذ الماسح محظورًا تمامًا بموجب قواعد السباق. وبدلًا من ذلك، كان ينبغي دفع الجزيء دون احتكاك ميكانيكي مباشر، أو، لمزيد من الدقة التقنية، دون احتكاك كيميوميكانيكي مباشر.
كان هناك مصدران رئيسان «للوقود» الخاص بالسيارة النانوية، وكان يُمكنهما نظريًّا أن يعملا جنبًا إلى جنب. أولًا، كان يمكن استخدام ضخ إلكترونات من طرف رأس المجهر النافذ الماسح لحثِّ عملية الانتشار الجزيئي من خلال عمليةٍ تُعرَف باسم العبور النفقي غير المرن. تنطوي هذه العملية على نفس تأثير النفق الميكانيكي الكمومي الذي يقوم عليه عمل المجهر النافذ الماسح، باستثناء أنه بدلًا من نفاذ الإلكترونات نفقيًّا دون فقدان الطاقة، وهو الأمر الذي يقف وراء وجود الجزء الأكبر من التيار النفقي، تستحث الإلكترونات اهتزازاتٍ جزيئية ومن ثَمَّ تفقد طاقة؛ ولهذا السبب تُوصَف العملية بأنها غير مرِنة. عوضًا عن ذلك، أو بالتوازي معه، يمكن أن تُقاد السيارة من خلال تأثير المجال الكهربي المتولِّد من رأس المجهر النافذ الماسح. وبفرْض أن عزم ثنائي القطب لهذا الجزيء كبير، أو أن شحنته الإلكترونية ذات قابلية عالية للاستقطاب؛ أي يمكن أن ينبعِج شكلها بسهولة نتيجةً للمجال الكهربي، فستستجيب للمجال الكهربي العالي المولد من الرأس.
أنهى الفريق النمساوي الأمريكي السباقَ في ساعةٍ واحدة و٣٣ دقيقة، متفوقًا بكثير على منافسيه، الذين خرج كثيرٌ منهم من السباق قبل أن يصلوا إلى خط النهاية بمسافة كبيرة. كان نجاحهم نتيجةً لكلٍّ من مبادئ التصميم الذكية للغاية التي اتبعها تصميم السيارة النانوية واستراتيجيات التركيب المرتبطة بها، التي أخذت بعين الاعتبار تفاعلات الجزيء مع السطح، التي كان يجب استغلالها والتغلُّب عليها، وكذا طريقتهم الجديدة في التحكم في الجزيئات من خلال المجهر النافذ الماسح، التي اعتمدت على قياسات التيار النفقي فحسب، مُتجنِّبين بذلك الوقتَ الطويل للغاية الذي تستهلِكه عملية الحصول على الصور بالمجهر التي تتم بين عمليات التحكم والمعالجة.
رغم ما قد تبعث عليه السيارة النانوية الفائزة من انبهار، فإنها لا تزال تُقاد كليةً بطريقة التحكم التنازلي الموجَّه من أعلى لأسفل؛ إذ يتولَّى البشر توجيهها في كل خطوةٍ تقريبًا على مدى الطريق. فالسيارة النانوية إن تُركت لتتحرك وحدَها، ستنتشر عشوائيًّا على السطح، دون مَيل أو تفضيل لاتجاهٍ مُعيَّن. غير أن العالم الطبيعي يعجُّ بالآلات الجزيئية التي تتحرَّك في اتجاه أحادي دون الحاجة إلى عقل خارجي يوجهها؛ فبينما تقرأ هذا، تعج كل خلية في جسمك بآلات جزيئية نانوية. لقد سخَّرت الطبيعة تكنولوجيا النانو منذ بدء الحياة على الأرض تقريبًا لأداء كثير من الوظائف الأساسية، وتتجاوز آلاتها النانوية، بتطوُّرها وتعقيدها ودقَّتها كلَّ ما يستطيع العلماء (حاليًّا) إنشاءه بكثير.
آلات الطبيعة النانوية
تبلُغ أبعاد الوحدة الحركية للكينسين نحو ٨ نانومترات تقريبًا، ويحول الطاقة الكيميائية إلى حركة ميكانيكية (مثل جميع المحركات البروتينية الأخرى)؛ إذ ينقل حمولته الجزيئية عبر مساراتٍ تُعرَف بالأنيبيبات الدقيقة. وعلى ذلك، قد يكون تشبيه الكينسين بقطار نانوي بدلًا من سيارة نانوية، هو أفضل وصفٍ له، لكن أوجُه الشبَه تنتهي عند هذا الحد. فمِن المُدهش أن الكينسين لا يتدحرج، بل يَمشي عبر مسارات الأنيبيبات الدقيقة. وبالرغم من أن هذا البروتين حديثُ الاكتشاف؛ إذ اكتُشف في عام ١٩٨٥ على يد رون فال (وكان يعمل في معمل العلوم البحرية في ماساتشوستس آنذاك) وتوماس ريز (بجامعة كونيتيكت) ومايكل شيتز (بجامعة ستانفورد)، فقد استغرق الأمر نحو ٢٠ عامًا أخرى لفهم كيفية سيره عبر مساره. في الواقع، من الأدق أن نَصِف حركة الكينسين بالعَرَج، وإن كانت عُرْجةً سريعة للغاية (مقارنةً بسرعة حركة السيارات النانوية) بسرعة ٢٠٠٠ نانومتر/ثانية، إلا أنها تظلُّ حركةً عرجاء على أي حال.
وبالرغم من تباين التفاصيل الدقيقة بين أفراد عائلة الكينسين، فإن البنية العامة لها تتكوَّن من سلسلتَين جزيئيتَين ثقيلتَين تؤلفان معًا زوجًا واحدًا (أي دايمرًا جزيئيًّا أو جزيئًا ثنائيَّ الوحدة)، وتتَّصلان بدورهما بسلسلتَين جزيئيتَين خفيفتَين كلٌّ منها مُخصصة للارتباط بحمولات مختلفة. تتكوَّن كل سلسلة ثقيلة من رأس بروتيني كروي — الوحدة الحركية — يتصل ﺑ «ساق» تنتهي بمجموعة كربوكسيل، مما يسمح بارتباط سلسلة خفيفة بها. إن هذا الوصف الموجز لا يقترب من إبراز تعقيد هذه البنية بأي حال؛ فهي مِثالٌ مُذهل للغاية للهندسة البيولوجية النانوية التصاعدية الطبيعية. ومحور اهتمامنا في سياق هذا الكتاب هو الوحدة الحركية.
إن الحركة العشوائية التصادُفية موجودة في كل مكان في الطبيعة. فجزيئات الهواء من حولك في الغرفة «تتخبط» في مساراتها مليارات المرات كل ثانية نتيجةً للتصادُمات بين الجزيئات. ورغم أنه من المُمكن نظريًّا أن ينتج عن كل تلك التصادمات حركةٌ تلازُمية لجزيئات الغاز بحيث تسلك جميعًا الاتجاه نفسه، فإن حدوث ذلك مُستبعَد تمامًا بمقدار يتجاوز إجمالي عدد الذرات في الكون المنظور بكثير. وعلى غرار فكرة انتشار العطر في الفصل السابق، فإن حالة اتزان النظام هي أن تتَّبع جزيئات الهواء مساراتٍ عشوائية. بالمِثل، تتَّبع الجزيئات مساراتٍ عشوائية في الحالة السائلة (ومنها، على وجه الخصوص، البيئة الحية داخل الخلايا الحية)، مما ينشأ عنه، على سبيل المثال، حركةٌ براونية لجسيمات/كائنات أكبر حجمًا تصطدم باستمرار بالوسط المحيط. فالطبيعة الفيزيائية والكيميائية على الصعيد النانوي تعني أن البيئة داخل الخلية بيئة دبقة، ولزجة، ومُضطربة: دبقة بسبب انتشار قوى فان دير فالز وقوى التشتُّت، مما يؤدي إلى تجاذب بين الجزيئات؛ ولزجة لأن اللزوجة — وهي مقياس مقاومة سائلٍ ما للانسياب — لها تأثير مُهيمن في نطاق الأطوال النانومترية؛ ومضطربة بسبب التصادم المستمر للجزيئات المُحيطة. وقد وصَّف الفيزيائي رايموند دين أستوميان الحياة على المستوى النانوي توصيفًا خالدًا؛ إذ أشار إلى أن الآلات الجزيئية يجب أن «تسبح في العسل وتمشي وسط إعصار».
كيف إذن للكينسين — أو أي مُحرك جزيئي آخر — أن يمشي في اتجاهٍ واحد؟ لماذا لا تتبع المُحركات الجزيئية مسارًا عشوائيًّا، كسائر الجزيئات الأخرى، بالنظر إلى البيئة المُضطربة التي يجب أن تعمل فيها؟ لم تتَّضح العمليات الفيزيائية الحيوية المُحددة التي تدعم قدرة الكينسين على التحرك في اتجاه واحد على نحوٍ تام بعد، ولكن ثمة مدرسة فكرية تركِّز على نموذج مهم للحركة الموجهة في مجموعة كبيرة من العمليات الجزيئية الحيوية؛ وهو نموذج السقَّاطة البراونية. تعمل هذه الآلية على تصحيح الحركة العشوائية (البراونية) بحيث تنتج محصلة إزاحة أو قوة في اتجاهٍ معيَّن. يُستغل التجاذُب بين الجزيئي القصير المدى لتقييد النظام — سواء كان هذا النظام بروتينًا مُحركًا أو إنزيمًا أو أيًّا من المُكوِّنات الجزيئية الحيوية المُتنوِّعة الأخرى — بعدما تدفعه التقلبات العشوائية في الاتجاه الصحيح. وقد وصف جورج أوستر، عالم الأحياء الرياضية الأمريكي، السقَّاطات البراونية بأنها مُحركات داروينية للسبب الوجيه التالي:
بمعنًى أوسع، لا يمكن اعتبار فكرة توليد النظام من خلال «الاختيار» من بين التقلبات العشوائية فكرةً جديدة بأي حال؛ فهي الفكرة الأساسية في نظرية داروين للانتقاء الطبيعي. وفي سياق البروتينات المحرِّكة، يكون «النظام» المولَّد قوة ذات اتجاه، وعوامل الانتقاء هي التجاذبات بين الجزيئات.
يا لها من استراتيجية دقيقة إلى حدٍّ استثنائي! أن تُسخَّر العشوائية والتقلبات لإنتاج حركة مُوجَّهة. ونظرًا لأن التطور قد ضبط المُحرِّكات الجزيئية بدقة على مدار آلاف السنين حتى أصبحت فعَّالة للغاية في تحويل الطاقة الكيميائية الحيوية إلى طاقة ميكانيكية، فقد أدرك علماء تكنولوجيا النانو أن البدء من الصفر في تصميم آلات نانوية لنقل الحمولات الجزيئية يُشبه كثيرًا إعادةَ اختراع العجلة. لذلك، بُذلت جهود مضنية لسرقة أفكار من الطبيعة لدمج الآلات الجزيئية في الأنظمة النانوية الاصطناعية.
المحاكاة الحيوية والسرقة الحيوية في تكنولوجيا النانو
على حدِّ علمي، صيغ مصطلح السرقة الحيوية من قِبل الفيزيائي (وعالم النانو) ريتشارد جونز من جامعة مانشستر. يفرِّق جونز بين المحاكاة الحيوية والسرقة الحيوية في تكنولوجيا النانو؛ فالأولى تُستوحى من مبادئ الطبيعة في التصميم على الصعيد النانوي، بينما الأخرى تكون بالسرقة من العالَم الطبيعي بالجملة بلا استحياء، وبها تُستجلَب المحركات الجزيئية (أو تؤخَذ منها مكونات) بكل تفاصيلها وتوضع داخل أنظمةٍ نانوية اصطناعية أو تخليقية. وفيما يخصُّ الآلات الجزيئية، يكون علماء تكنولوجيا النانو مُقلِّدين ولصوصًا كذلك.
تُدمج المحركات الحيوية الجزيئية كالكينسين والدَّاينين (وهو بروتين مُحرك يمشي على طول الأنيبيبات الدقيقة في الاتجاه المعاكس للكينسين)، والميوسين (وهو البروتين المسئول عن انقباض العضلات) مع مجموعة متنوعة من المحركات والمستشعرات الاصطناعية. لكن الجمع بين التكنولوجيا الحيوية الطبيعية والاصطناعية يُشكل تحديًا هائلًا، رغم التقدُّم المذهل في تصنيع الأهداب الاصطناعية على سبيل المثال. تتألف الأهداب من مجموعةٍ من الأنيبيبات الدقيقة، وتلعب دورًا حيويًّا في فسيولوجيا جسم الإنسان وتُوجَد في الرئتين والجهاز التنفُّسي والأذن الوسطى والكلى والعين والحيوانات المنوية (حيث يعتبر ذيل الحيوانات المنوية هدبًا مُعدَّلًا). تتمتَّع الأهداب المتحركة بحركة موجية إيقاعية (أو «ضربات»)، وفي سياق الجهاز التنفُّسي، تكون مسئولة عن الحفاظ على الممرَّات الهوائية خاليةً من المخاط والأقذار. ولكن استغلال المبادئ البيولوجية التي تحكم سلوك الأهداب مُهم، ليس من وجهة النظر الطبية فحسب. فمثل هذه المحاكاة الحيوية تُتيح لنا أيضًا تصميمَ ما بات يُعرف الآن باسم المادة النشطة؛ وهي نظام أو مادة تتألَّف من عددٍ كبير من العوامل النشطة، تعمل خارج نطاق التوازن الحراري لبذل قوًى ميكانيكية.
في عام ٢٠١٨، صنَّع فريقٌ من الباحثين في جامعة هوكايدو ومعهد طوكيو للتكنولوجيا بقيادة أكيرا كاكوجو أهدابًا اصطناعية عن طريق تثبيت وحداتٍ تتكوَّن من الكينسين مع الأنيبيبات الدقيقة على حبيبات البوليسترين، ووضعها جميعًا داخل خليةِ تدفُّقٍ يمكن أن تُمرَّر خلالها موادُّ كيميائية مختلفة. عند تعريض الكينسين لمحلولٍ من أدينوسين ثلاثي الفوسفات، أظهرت الأهداب الاصطناعية حركةً موجية إيقاعية أمكن تعديل تردُّدها من خلال تغيير أيٍّ من المُتغيرات التجريبية، ومنها كثافة الكينسين على امتداد الأنيبيبات وطولها. وعلى الرغم من أن تكنولوجيا النانو الحيوية لم تصل بعدُ إلى النقطة التي يمكن فيها استغلال مثل هذه التراكيب في التطبيقات الطبية الحيوية مثل الأطراف الاصطناعية، فإن الأسس التي تقوم عليها قيد الإرساء بالتأكيد.
يمكن استخدام الآلات النانوية الحيوية أيضًا في تطبيقات الاستشعار. وعلى الرغم من التركيز القوي في أحدث تقنيات الاستشعار الحيوي على تكنولوجيا الموائع الميكروية والنانوية؛ حيث تُضخ حجوم صغيرة جدًّا من المواد المُراد تحليلها داخل مصفوفاتٍ من الشعيرات أو المسام النانوية، يُتبع نهج بديل يتمثل في إدخال ما يُعرَف بالمُستشعرات النانوية الذكية داخل العينة. ويُطلَق على مجموعة من هذه المُستشعرات الغبار الذكي، وهي أقربُ ما توصَّلت إليه تكنولوجيا النانو من العنصر الأساسي في أدب الخيال العلمي عن تكنولوجيا النانو، ألا وهو: الروبوتات النانوية.
وفي حين ستظلُّ نوعية الروبوتات النانوية التي يرسمها الخيال العلمي خيالًا مدةً ليست بقليلة — بما فيها النانوجينات في مسلسل «دكتور هُو»، والروبوتات النانوية في «ستار تريك»، وسرب الروبوتات النانوية المرعب في رواية «الفريسة» لمايكل كرايتون، وما يُعرَف بالهلام الرمادي المُستوحى من كتابات إريك كيه دريكسلر — فإن عددًا من المجموعات البحثية تعمل حاليًّا على تطوير عناصرَ نانوية ذاتية التحكم. ففي عام ٢٠١٩، طوَّر ثورستن فيشر وأشوتوش أجاروال وهنري هيس، من جامعة فلوريدا، مستشعرًا حيويًّا قائمًا على الغبار الذكي، استُغِل فيه الكينسين لنقل الأنيبيبات الدقيقة المعرَّضة لمادة مستهدفة بالتحليل بين مواقع مختلفة. وهكذا صار بالإمكان تنفيذ عمليتي الوسم (باستخدام جزيئات فلورية تعمل عمل المؤشرات) والكشف باعتبارها عمليات منفصلة مكانيًّا. وإن كان هذا النوع من التكنولوجيا لا يزال في مراحله الأولى، إلا أنه يدمج الآلات الحيوية الميكروية والنانوية مع الهندسة الاصطناعية غير العضوية، ومن المُرجَّح جدًّا أن يلعب دورًا حاسمًا مع ازدهار تكنولوجيا النانو في القرن الحادي والعشرين.
تصميم الآلات النانوية الاصطناعية: الطوبولوجيا الكيميائية
تميل أمثلة الآلات الحيوية التي وقع عليها اختياري حتى الآن نحو جانب السرقة الحيوية من المجال الهندسي. ولكن واكب ذلك تقدُّم ملحوظ في تنفيذ الآلات النانوية الاصطناعية وتحويلها إلى واقعٍ ملموس، لتجمع بين التشغيل الخارجي (كما في السيارة النانوية) وذاتية الحركة. وعلى وجه التحديد، حصل كلٌّ من جان-بيير سوفاج، وفريزر ستودارد، وبرنارد (بن) إل فيرينجا على جائزة نوبل في الكيمياء عام ٢٠١٦ عن عملهم الرائد في تصميم الآلات الجزيئية وتخليقها وتطويرها. وبحسب وصف الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في معرض الديباجة العلمية لجائزة الكيمياء لعام ٢٠١٦، كان هناك تطوُّران أساسيَّان، ومتداخلان إلى حدٍّ كبير، أُسِّسا لتنفيذ وتطوير الآلات الجزيئية الاصطناعية وهما: الطوبولوجيا الكيميائية واستغلال الروابط المتصاوغة.
أدرك سوفاج وستودارد إمكانية استغلال الطوبولوجيا الكيميائية لتخليق أنظمةٍ جزيئية تحتوي على مكونات متشابكة، يُتحكَّم في مواضعها النسبية عن طريق مُحفِّزات ضوئية كيميائية، أو كهربية كيميائية، أو ميكانيكية كيميائية أو جميعهم معًا. ستكون لدى هذه الأنظمة جميعُ المكونات المطلوبة للآلات النانوية، فلا تقتصر على مُحاكاة عمل المحركات النانوية الموجودة طبيعيًّا مثل الكينسين، بل ستُحاكي كذلك مجموعةً أوسع كثيرًا من الآلات الحيوية الجزيئية. أسَّس سوفاج وزملاؤه في المركز الوطني للبحث العلمي بجامعة لويس باستور بستراسبورج في عام ١٩٨٣ تقنيةً جديدة سمحت بتخليقٍ أسهلَ كثيرًا لفئتين مُهمتَين من الجزيئات ذات الوحدات المتشابكة والمتحرِّكة، وهما الكاتينانات والروتاكسانات.
لم تسمح تقنية سوفاج وزملائه الجديدة بتخليق الكاتينانات والروتاكسانات فحسب، بل سمحت بتخليق مجموعةٍ كبيرة من الأنظمة الجزيئية المُعقَّدة طوبولوجيًّا تحتوي على عُقد وروابط وأقفال. حقَّق ستودارد وسوفاج وزملاؤهم على مدار التسعينيات سلسلة من التطورات الرائدة في مجال التحكم في الحركة الانتقالية والدورانية للوحدات الفرعية الجزيئية داخل أنظمة الكاتينانات والروتاكسانات، وتشمل التحريك الحراري والضوئي الكيميائي والكهربي الكيميائي. ومع بداية الألفية خلَّق فريق سوفاج بنيةً روتاكسانية قادرة على التمدُّد والانضغاط؛ وهي بذلك شَبيه اصطناعي للمُحركات الحيوية الجزيئية التي تقوم عليها حركة العضلات. وسرعان ما أُتبع ذلك بتخليق ستودارد وآخرين (عام ٢٠٠٤) بنيةً روتاكسانية استطاعت ثنيَ عارضةٍ بارزة نانوية من الذهب من خلال آلية «عضلة جزيئية» مشابهة.
اتبع الفائز الثالث بجائزة نوبل في الكيمياء لعام ٢٠١٦، بِن فيرينجا، استراتيجيةً مختلفة إلى حدٍّ ما، وإن لم تقلَّ عن سابقتها ريادةً وابتكارًا، في تطوير آلات جزيئية. ففي عام ١٩٩٩ صنَّع فريقُ فيرينجا بجامعة جرونينجن الهولندية، بالتعاون مع باحثين من جامعة توهوكو، أولَ محرِّك جزيئي اصطناعي بمقدوره الحركة في اتجاهٍ واحد باستخدام طريقة عبقرية ودقيقة تسمَّى تصاوغ الروابط. وقد توصَّلوا إلى الحركة الأحادية الاتجاه من خلال إعادة تشكيل الروابط الكيميائية للجزيء، خطوةً خطوة، بطريقةٍ تضمَن دوران المحرك في اتجاه واحد فقط. وخلال السنوات التي تلت تخليق هذا المحرك الأول، أدخل فيرينجا وزملاؤه وشركاؤهم تحسينات جذرية على التصميم، ووصلوا إلى تردُّد دوران بلغ ١٢ ميجاهرتز عام ٢٠١٤.
لم يقتصر التطور في الآلات الجزيئية على الفائزين بجائزة نوبل وفِرقهم. فلم تلعب مجموعة ديفيد لي البحثية بجامعة مانشتستر (وقبلها جامعة إدنبرة)، على سبيل المثال، دورًا محوريًّا في تطوير استراتيجيات مُبتكرة للآلات الجزيئية فحسب، بل أيضًا استكشفوا الروابط العميقة بين المعلومات والطاقة والإنتروبيا والأنماط في النطاق النانوي، كما حدث مع أعمال وينفري وروزرموند وسيمان وآخرين في تكنولوجيا النانو القائمة على الحمض النووي. ومرةً أخرى، كانت الطوبولوجيا الجزيئية — أي العُقد والسلاسل والروابط — مصدرَ إلهامٍ مستمرًّا لأعمال مجموعة لي. وقد عبَّر لي عن هذا بنفسه في مقابلة مع مجلة «كيمستري آند إنجينيرينج نيوز» عام ٢٠٢٠ كما يلي:
يقول لي: «لطالما كان للنسج وعمل العُقَد تأثيرٌ تكنولوجي عظيم على البشر»، في إشارة إلى أن اختراع العُقد والأنسجة ساعد البشر على صنع الأسلحة والأدوات والشِّباك والأقمشة. «من ذاك الذي يقول إن الحال لن يكون نفسه مع البِنى الجزيئية؟»
يحمل فريق لي (ومعهم مشاركون من جامعة مانشستر) الرقمَ القياسي في موسوعة جينيس للأرقام القياسية لأرقِّ نسيجٍ نُسِج على الإطلاق. فقد قاموا بحياكة خيوط جزيئية كيميائيًّا في طبقات ثنائية الأبعاد لتشكيل نسيج ذي بِنيةٍ نانوية تبلغ كثافة خيوطه — أي عدد الخيوط في البوصة الواحدة — ٥٠ مليونًا، في مقابل كثافة خيوط بلغت قرابة ١٥٠٠ للكتان المصري الرقيق. ولأولئك الذين يُفضِّلون وحدات النظام الدولي، فإن هذه الكثافة تُعادل خيوطًا يبلُغ عرضها أربعة نانومترات.
وفي سلسلة من التطوُّرات والإنجازات خلال الأعوام العشرين الماضية أو نحو ذلك، طوَّر لي وزملاؤه مجموعةً مُذهلة من الآلات الجزيئية؛ منها محركات نانوية، وآلات مشَّاءة، وسقَّاطات معلوماتية — وهي آلات جزيئية تعمل بالضوء وتنقل المعلومات بدلًا من المواد — وأُضيف إليها حديثًا روبوتات جزيئية قابلة للبرمجة. أي روبوتات نانوية بعبارة أخرى. يُركِّز كثير من التصورات البائسة لمُستقبلنا الذي تقوده تكنولوجيا النانو — لا سيما رواية مايكل كرايتون «الفريسة» التي أشرت إليها في موضع سابق — على سيناريو ينفلت فيه زمام روبوتات نانوية قابلة للبرمجة وواعية للغاية. فهل ينبغي أن نخاف؟