هل باتت الروبوتات النانوية على مقربة؟
«شاي. إيرل جراي. ساخن.» ثم، وكأنه السِّحر؛ إذ فجأة يظهر مشروب كابتن بيكارد المُفضَّل من جهازٍ مُستنسخ في غرفته على متن سفينة «إنتربرايز» الفضائية. أكَّد المؤلِّف آرثر كلارك أن أي تكنولوجيا متقدمة بما فيه الكفاية لا يمكن تمييزها عن السِّحر. وتكنولوجيا جهاز المُستنسخ في «ستار تريك» تبدو ضربًا من السِّحر بلا شكٍّ في القرن الحادي والعشرين؛ فنحن أمام جهازٍ صغير يُمكنه تخليق أي مادة أو جسم تقريبًا، بما في ذلك الطعام والشراب والهواء الذي نتنفَّسه والثياب والدواء، من خلال تجميعها من مُكوِّناتها الخام. إن تلك المادة الخام، في «ستار تريك»، هي طاقةٌ نقية وليس واضحًا على الإطلاق كيف تحدُث عملية التحوُّل بين الطاقة والمادة في وحدة «مكتبية» صغيرة؛ فهو خيال علمي في النهاية.
لكن ماذا لو صار «بإمكاننا» تفكيك المادة إلى مكوِّناتها من الذرات أو الجزيئات، ثم إعادة بنائها بتركيبٍ مختلف تمامًا ووفقًا لمُخطط مُحدَّد مسبقًا؟ يبدو هذا تفاؤلًا لا حدود له عند الحديث عن تكنولوجيا جهاز المُستنسخ. غير أن الكيميائيين يفعلون ذلك طوال الوقت. فالبنى النانوية الاصطناعية المتنوعة التي تعرَّضنا لها على مدار هذا الكتاب، بدايةً من النانوكيد وصولًا إلى المحركات الجزيئية، تُعتبر في النهاية نتاجًا لهذه النوعية تحديدًا من التلاعب بالمادة: تفكيك المكونات الكيميائية الأولية من خلال التفاعلات الكيميائية، وإعادة ترتيب الذرات المكوِّنة لها لتكوين بنًى جديدة. فما هذه سوى الكيمياء التقليدية وقد كنا نمارسها، كما يزعم، منذ اكتشاف النار في عصورِ ما قبل التاريخ.
إذن فلدَينا بالفعل التكنولوجيا الكيميائية اللازمة لإعادة ترتيب الوحدات البنائية الذرية والجزيئية للمادة وتحويلها إلى أشكال أخرى مُحدَّدة بدقة. فما الذي يجعل جهاز المستنسخ يبدو «سحريًّا» بهذا القدْر من منظورنا في القرن الحادي والعشرين؟ حسنًا، أحد الأسباب أن الجهاز يُحضِّر المادةَ من الخواء؛ أو أيًّا كان نوع الطاقة الغامض المُستخدَم في عالم «ستار تريك». لكن مسألة «التجهيز حسب الطلب» هو الجانب الذي نراه وكأنه قادم من عالَم آخر في هذه التكنولوجيا. فنحن مُعتادون أن نطرح على المساعد الذكي «سيري» سؤالًا ونحصل على إجابةٍ شبه فورية؛ أعترف أنها تكون إجابةً خاطئة أحيانًا، لكنه على الأقل يُداوم على المحاولة. أما ما يُقدِّمه لنا جهاز المُستنسخ فليس معلومات، كما يفعل «سيري»، بل يُقدِّم لنا «مادة» تُجهَّز حسب الطلب وتُشكَّل على النحو الذي نريده.
قارن البعض جهازَ المُستنسخ بنوعيةٍ أخرى من التكنولوجيا المستقبلية تُعرف بالمُجمِّع الشامل أو المُجمِّع الجزيئي. هذا المفهوم مُستمَد بدوره من رؤيةٍ لتكنولوجيا النانو طالها نقدٌ واسع طرحها كيه إريك دريكسلر في ثمانينيات القرن الماضي ووصفها بإسهاب في كتبه «محركات التخليق: عصر تكنولوجيا النانو المقبل»، و«الأنظمة النانوية»، و«الوفرة الراديكالية». يتخيل دريكسلر عالمًا مُستقبليًّا مثاليًّا مدعومًا بتكنولوجيا النانو، حيث يقوم المُجمِّع الجزيئي بعملية تصنيع بدقةٍ ذرية «ستصير قادرةً على صنع أي شيءٍ تقريبًا من موادَّ شائعة بلا جهد بَشري، فتحل أنظمة نظيفة كالغابات محلَّ المصانع ذات الأدخنة».
لكَم سيكون هذا العالَم رائعًا! إن نسخة دريكسلر من التكنولوجيا النانوية تُعَد تصورًا ملهمًا ومشجعًا لما قد يمكن أن يكون عليه الحال إن استطعنا تصنيعَ منتجات بدقةٍ ذرية. والجدير بالمُلاحظة هنا أن جوهر رؤية دريكسلر، وهو الكيمياء الخاضعة للتحكُّم الحاسوبي لا على مستوى الذرات المُفردة فحسب، بل أيضًا على مستوى «الروابط الكيميائية المفردة»، تنفَّذ الآن في عددٍ كبير من معامل علوم النانو عبر جميع أنحاء العالم (كما رأينا على مدار الفصول السابقة). يُساورني بعض التردُّد في تسمية عملية التلاعُب بالروابط الكيميائية في المادة واحدة تلوَ الأخرى عمليةً روتينية حتى الآن، ولكنها صارت بالتأكيد تقنيةً راسخةً معتمَدة لدى كثيرٍ من المجموعات البحثية التي تستخدِم مجهر المسبار الماسح.
نشبت نقاشاتٌ وجدالات مُحتدِمة عبر أوساط علوم النانو خلال التسعينيات وبداية الألفية حول احتمالية تحوُّل أجهزة المجمع الشامل إلى واقع، ومُنتهى القدرات والإمكانيات والمخاطر المرتبطة بقدرة تكنولوجيا النانو على تركيب المادة، ذرةً بذرة. ولا تزال أصداء تلك النقاشات تتردد بوضوح حتى اليوم، لا سيما فيما يتعلق بواجهات التفاعل بين الإنسان والآلة التي تُطوِّرها شركة نيورالينك التابعة لإيلون ماسك.
بالرغم مما اتَّسم به إريك ديكسلر من بُعد نظر وفطنة حين تنبَّأ بإمكانية تنفيذ التفاعلات الكيميائية بدقةٍ ذرية بواسطة التحكُّم الحاسوبي — وذلك قبل أعوام من اختراع أول مجهر مسبار ماسح في أوائل الثمانينيات — فقد تعرَّض للتوبيخ والانتقاد على نطاقٍ واسع، ليس فقط من علماء النانو، بل من المجتمع العلمي الأعم. ولكي نفهم لِمَ أثار دريكسلر كلَّ هذا التنديد الذي أثاره، نحتاج أولًا إلى النظر في فكرته عن المُجمع الشامل ومفهوم التخليق الميكانيكي المُرتبط به. وكما هو الحال مع جهاز المُستنسِخ في «ستار تريك»، فلا تزال هذه الأفكار قابعةً في عوالم الخيال العلمي لم تبرَحه، إلا أن مبادئ عملها، على الأقل، قابلةٌ للتعريف على نحوٍ أفضل إلى حدٍّ ما: بدلًا من التحوُّل المُبهم للطاقة إلى مادة، تنطوي تكنولوجيا النانو وفقًا لتصوُّر دريكسلر على تحويل المادة من صورةٍ إلى أخرى.
قد يبدو هذا أشبَهَ بخيمياء على طراز القرن الحادي والعشرين، غير أن هذا التلاعُب بالمادة يحدُث على مستوى الروابط الكيميائية لا الأنوية الذرية. فنحن لا نُحوِّل عنصرًا إلى عنصر آخر؛ أي لا نحوِّل موادَّ «رخيصةً» إلى ذهب. بل سيقوم جهاز المُجمِّع الشامل المُستقبلي بتفكيك المادة وإعادة بنائها بالترتيب الجديد الذي نحتاج إليه من خلال تلاعُب كيميائي ميكانيكي بالذرات والجزيئات: ستتشكَّل الروابط الكيميائية عن طريق إقحام الذرات حرفيًّا معًا في المواضع المناسبة المطلوبة لتشكيل المُنتج المرغوب، سواء كان ذلك المنتج كوبًا ساخنًا من شاي «إيرل جراي»، أو زوجًا جديدًا من الجوارب، أو حاسوبًا كموميًّا في الحالة الصلبة. يُطلِق دريكسلر على هذه العملية أسماءً شتى، مثل التخليق الميكانيكي، وكيمياء الحالة الآلية، والتصنيع الجزيئي. وإذا أمكن بلوغ مثل هذه التكنولوجيا فعلًا، فستُمثل قمةَ أشكال تكنولوجيا النانو.
صحيح أن المصانع النانوية الموصوفة أعلاه هي ضربٌ من الخيال العلمي، مثلها مثل جهاز المُستنسخ في «ستار تريك». لكن السؤال المهم هو: ما عيب مفهوم التصنيع الجزيئي؟ هل يُخالف قواعدَ أساسية في الفيزياء أو الكيمياء؟ هل ينتهك القانون الثاني في الديناميكا الحرارية؟ هل يتعارَض مع قانون بقاء الطاقة؟ ما دامت الكيمياء تسمح بالفعل بتفكيك المادة ومزْج المكونات الكيميائية لتكوين مركبات جديدة، لماذا إذن أدى توسيع دريكسلر لمدى هذه الإمكانية لتصل إلى «حالة آلية» خاضعة للتحكم الحاسوبي إلى إثارة كل هذه الجلبة؟ لقد اتُّهم دريكسلر بأنه مهووس ومُضلَّل، ولاقى مفهومه عن التصنيع الجزيئي رفضًا باعتباره مُستحيلًا جوهريًّا. حتى إن العالِم الراحل ريتشارد سمولي، أحد أعلام مجتمع علماء النانو الحائز جائزةَ نوبل (لدوره في اكتشاف جزيء البوكمنسترفلورين)، وعالِم الكيمياء (النانوية) الفذ، رفض أفكار دريكسلر لكونها غير عملية أبدًا وشديدة السذاجة:
مثلما لا يُمكن أن تدفع فتًى وفتاة للوقوع في الحُب بدفع أحدهما نحو الآخر ببساطة، لا يُمكنك كذلك أن تُحدِث كيمياء دقيقة بين جسمَين جزيئيَّين كما تريد بحركاتٍ ميكانيكية بسيطة تحدث عبر بضع درجات من الحرية داخل محور الإسناد المُثبَّت بجهاز المُجمِّع الشامل. فالكيمياء أعقد من هذا، مثلها مثل الحب.
الأسوأ من ذلك أن سمولي قد صوَّر دريكسلر غولًا يُهدد علوم النانو، وأن أفكاره عن أجهزة التجميع الشامل والروبوتات النانوية الذاتية التكاثر ليست في غير محلِّها فحسب، بل إنها أفكار مزعجة وبشِعة.
رغم أن دريكسلر لم يُفِد فكرته بشيء بتنبؤاته الجامحة المُفرطة في التفاؤل عن الإطار الزمني لتطوير إمكانية التصنيع الجزيئي التي استشرف ظهورها — مُشيرًا في عام ٢٠٠١ إلى أنها «تبعُد عنَّا ما بين عَقد وثلاثة عقود»، فإن كثيرًا من النقد الذي وجَّهه سمولي (وكثيرون غيره) لم يكن عادلًا وحرَّف حُجَجه التي يقوم عليها التركيب الميكانيكي والتصنيع الجزيئي.
هذا لا يعني أن رؤيةَ ديكسلر لتكنولوجيا النانو، كما وصفها في كتابه «الأنظمة النانوية»، ليست متاحةً للنقد المُستمر. بل على العكس تمامًا. فهناك أمورٌ كثيرة ما زالت لم تُحسَم بعدُ في فكرة التسلسُل الهرمي للتجميع الآلي — من المستوى النانوي (أو دون ذلك) إلى المستوى الماكروسكوبي — التي ربما يكون أفضل تلخيصٍ لها مقولة الفيزيائي فولفجانج باولي البليغة: «خلق الله الموادَّ الصلبة، لكن الأسطح من عمل الشيطان». وتلعب فيزياء وكيمياء هذه الأسطح «الشيطانية» دورًا محوريًّا في تكنولوجيا النانو وعلوم النانو بكل أشكالهما، وليس في تكنولوجيا دريكسلر المستقبلية للتصنيع الجزيئي فحسب؛ فعندما نُفتِّت كتلَ المادة التي يُمكننا حملها بين أيدينا إلى عناقيدَ نانوية مُتناهية الصغر تتألَّف من ذراتٍ معدودة، تزداد نسبة مساحة السطح إلى الحجم زيادةً مهولة. ومن جوانب عديدة، يُعَد علم الأسطح وعلوم النانو مُترادفين عمليًّا؛ وبالفعل غيَّر كثير من علماء الأسطح وصْف أنفسهم إلى علماء نانويين مع ظهور تكنولوجيا النانو في التسعينيات.
على الرغم من هذه الصعوبات التي تكتنف نظامَ التصنيع الجزيئي الذي طرحه دريكسلر، وعلى الرغم من (أو ربما بسبب) الضجة المحيطة به، فمن الواضح أن رؤيته قد تركت أثرًا بالغًا في ثلةٍ من علماء النانو على الأقل (ولا بد أن أعترف بأنني واحد من هؤلاء). فعلى الرغم من أن تكنولوجيا الروبوت الجزيئي (أو الروبوت النانوي) التي طرحتها مجموعة لي، وأتَينا على ذِكرها بإيجاز في الفصل السابق، تختلف اختلافًا شاسعًا عن التكنولوجيا التي تصوَّرها دريكسلر، فإنهم يُشيرون إلى أفكاره عند وصف خلفية عملهم ودوافعه. ويبدو أنه كان على الأقل مسئولًا جزئيًّا عن إلهام أبحاثهم (وأبحاث آخرين غيرهم). رغم ذلك، تدعم أبحاثهم زعْم فيليب بول بأن «دريكسلر قد انتهى إلى اقتراح الطريقة الصعبة لإتمامِ ما يمكن تحقيقه بطرقٍ أسهل (وأسرع) باستخدام بعض الإبداع الكيميائي». ولا يزال الطريق أمامنا طويلًا قبل أن نُضطر إلى القلق من أن تُحولنا الروبوتات النانوية الذاتية التكاثر إلى هلام رمادي (أو جراي جوو) بحسب الوصف المشهور للأمير تشارلز. وقد أسهمت هذه التصريحات، جنبًا إلى جنبٍ مع القصص المُخيفة التي تنشرها وسائل الإعلام، في تشكيكٍ غير مُبرَّر من جانب الجماهير في تكنولوجيا النانو من شأنه أن يُلقي بتداعِيات سلبية طويلة الأمد. هناك تحدياتٌ تكنولوجية واجتماعية وسياسية أكثر إلحاحًا بكثيرٍ يجب على المجتمع مواجهتها، وفي مُقدِّمتها التغيُّر المناخي (وهي مشكلة بإمكان تكنولوجيا النانو أن تُسهِم في إيجاد حلول لها بلا شك)، أكثر من غزو الروبوتات النانوية.
رغم ذلك، سيكون تهاونًا منِّي أن أُقلِّل من أهمية المخاوف الواقعية التي يُبديها العديد من علماء النانو حول التأثيرات السلبية على الصحة والأضرار البيئية المُحتملة التي قد تتسبَّب فيها المواد ذات البِنى النانوية. فقد قضت كريستي سيز، الأستاذ المساعد بقسم علوم البيئة في جامعة بايلور، وفريقها عقودًا في دراسة تأثير الجُسيمات النانوية والأنابيب النانوية وغيرها من المواد ذات البِنية النانوية على الأنسجة الحيَّة والأنظمة الحيوانية (بما في ذلك البشَر). وعلى الرغم من أنه كثيرًا ما كان يفترض أن المواد النانوية قد تنطوي على تأثيراتٍ سامَّة جديدة تختلف كليًّا عن المواد الأخرى الأكثر تقليدية، تُشير سيز إلى أن المنشورات البحثية في هذا الصدد لا تدعم هذا الرأي. بدلًا من ذلك، تنجم السُّمِّية الزائدة للمواد النانوية من صِغَر حجمها الذي يُمكِّنها من الدخول إلى الخلايا والأنسجة بطريقةٍ غير مُتاحة للجسيمات الميكروية والجسيمات الأكبر حجمًا:
على سبيل المثال، عند نثرِ جسيمات نانوية في الهواء في صورةِ رذاذ واستنشاقها، يكون بمقدورها أن تصل إلى مناطقَ بعيدة في الرئة لا تستطيع الجسيمات الأكبر أن تستقر فيها أو تصِلها. لكن مدى السُّمِّية أو الجرعة اللازمة لظهور آثار جانبية تكون أقلَّ كثيرًا عندما تتعرَّض لمادة نانوية مما لو تعرَّضت لجسيماتٍ كبيرة أو ميكروية.
بعبارة أخرى، تكمن المسألة في التعرُّض ومداه؛ فالأمر يستلزم عددًا أقل من الجسيمات النانوية لإحداث التأثير نفسه الذي تُحدِثه الجسيمات الأكبر. ومرة أخرى تلعب الأسطح دورًا مركزيًّا هنا. ففي ورقةٍ بحثية بالغة الأثر وكثيرًا ما يُستشهَد بها، وجدت سيز وزملاؤها أن إحداث تغييرات بسيطة نِسبيًّا في سطح جزيء البوكمنسترفوليرين (تتضمَّن إضافة مجموعات كيميائية لجعل الجزيء أفضل ذوبانًا في الماء) نتج عنه تأثير هائل على سُميته في مزارع الخلايا البشرية. ومن المُثير للاهتمام أن جرعة الفوليرين القاتلة تغيَّرت «سبع قِيَم أسية» في البوكمنسترفوليرين غير المُعالَج مقارنةً بنظرائه المُعدَّلة كيميائيًّا. بالإضافة إلى ذلك، نتجت السُّمِّية من تمزُّق الأغشية الخلوية. بالمِثل يمكن لكثيرٍ من الجسيمات النانوية الأخرى أن تخترق أو تمزِّق الأغشية البيولوجية، فتتحرَّك خلال الخلايا والأنسجة وتُحدِث أضرارًا بيوكيميائية وتُسرِّع من تفاقُم الأمراض.
في هذا السياق، لا تُعتبَر أسراب الروبوتات النانوية ذات الوعي مصدرَ قلقٍ ملحًّا. فيركز مُجتمع بحوث السُّمِّية النانوية، في المقابل، على القضايا الصحية والبيئية الحقيقية بدلًا من تكريس وقتِهم للتعامُل مع تهديدٍ وجودي لا يزال حتى وقتنا الحالي حبيسَ عوالم الخيال العلمي. رغم ذلك، فهناك تَنامٍ سريع، في وقت كتابة هذا النص، في الأبحاث التي تربط بين تكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي، بإدخال التعلُّم الآلي في مجموعةٍ واسعة من المشكلات، تشمل التحكُّم في المادة في النطاقات النانومترية والجزيئية والذرية. لكن مثل هذه الأعمال من المُستبعَد بالتأكيد أن تؤدي إلى نوعية الواقع التكنولوجي النانوي المرير التي يتنبَّأ بها رائد الأعمال وصاحب التنبؤات المستقبلية راي كرزويل:
بحلول نحو عام ٢٠٣٠، ينبغي أن نكون قادِرين على غمر أدمغتنا بروبوتات نانوية يمكن إطفاؤها وتشغيلها وتعمل باعتبارها «أجهزة عرض للتجارب» تُتيح لنا معايشةَ تجارب الآخرين الحسِّية على وسعها … ستوسع الروبوتات النانوية الذكاء البشري أيضًا بآلاف أو ملايين المرات. وبحلول عام ٢٠٣٠، سيكون التفكير غير البيولوجي أقوى بتريليونات المرَّات من التفكير البيولوجي.
يُمكنني أن أتنبَّأ بثقةٍ أنه بحلول عام ٢٠٣٠ لن تكون أدمغتنا مُغرقةً بالروبوتات التي تعرِض الخبرات الحسِّية وتنقلها من شخصٍ إلى آخر. بدلًا من ذلك، سيستمر الباحثون في دمج خوارزميات التعلُّم الآلي في جوانبَ شتَّى من تكنولوجيا النانو، لكنها أقل خيالية وأكثر أخلاقية بكثير، وأقل بؤسًا إلى حدٍّ بعيد، من بينها التصنيف التصويري والطيفي في مختلف أنواع الفحص الميكروسكوبي، وأتمتة المهام التي تستغرق وقتًا طويلًا، مثل استمثال رأس مِجهر نافذ ماسح أو مجهر للقوة الذرية، ووضع الذرات والجزيئات منفردةً في مواضعها.
وقد باتت الأخيرة تحدُث بالفعل. فقد نُشرت ورقة بحثية رائدة بعنوان «التصنيع النانوي الروبوتي المُستقل من خلال التعلُّم التعزيزي» للباحث كريستيان فاجنر وزملائه في مركز أبحاث يوليش في عام ٢٠٢٠؛ حيث يشرح المؤلِّفون كيف تم توجيه مِجهر مسبار ماسح ليلتقِط جزيئاتٍ مُفردة دون تدخُّل بشري. ويُعَد هذا أعلى إنجاز تقني في مجال الدمج بين الشبكات العصبية الاصطناعية والتكنولوجيا النانوية في وقتِ كتابة هذا النص، إلا أنه مجرد طرف الخيط لِما يمكن تحقيقه. ومن المُتوقَّع أن تشهد السنوات القادمة تطوراتٍ سريعة في المنهجيات التي تجمع بين التعلُّم الآلي والتكنولوجيا النانوية، بحيث لا تظلُّ عنصرًا مُتخصِّصًا نادرًا، بل جزءًا أساسيًّا في تصوير المواد ومُعالجتها وتحليلها طيفيًّا على النطاق النانوي.
على الرغم من أن ذلك يعني أن أسراب الروبوتات النانوية لن تُداهمنا عمَّا قريب، فقد باتت تكنولوجيا النانو تُتيح لنا التحكُّم في المادة بطرقٍ لم يكن يُمكننا تصوُّرها منذ عقدٍ واحد حتى. ففي خلال إطارٍ زمني لا يتعدَّى جيلًا واحدًا، تقدمنا من عقليةٍ يرى فيها التيار الرئيسي في المجتمع العلمي أن القدرة على تحريك ذرةٍ مفردة ستظلُّ للأبد مجردَ تجربةٍ تخيلية، إلى التجميع الموجَّه للبنى النانوية رابطةً كيميائيةً تلو الأخرى. ومن هذا المنظور، يُصبح العلم أكثرَ تشويقًا وإثارة حتى من الخيال العلمي.