المحور العاشر
غروب الآلهة
في الجاينية والبوذية والتاوية
(س): في محور الدين والحضارة قُلتَ لنا إن الإنسان الأول
لم يؤمن بوجود الآلهة، وإن الآلهة ظهرَت عَبْر سياقٍ تطوُّريٍّ بطيء،
ولم يترسَّخ حضورها في الدين قبل الألف الرابع قبل الميلاد. فهل عادت
الآلهة إلى الاختفاء بعد ذلك؟
(ج): لدينا زُمرةٌ من الأديان تقوم
عقائدها على المبدأ اللاإلهي/Atheism،
الذي يُنكر وجود إلهٍ أعلى خالقٍ للكون؛ لأن الكون قديم وليس بحادث،
وأزلي وليس بمخلوق، وهو يعمل وَفْق آليةٍ دقيقةٍ ونظامٍ خفيٍّ يخضع له
الكل بما في ذلك الآلهة، إن وُجدوا.
(س): المبدأ اللاإلهي إذن لا
يُنكِر وجود الآلهة.
(ج): لنقُل إنه صرف الآلهة من
الخدمة، وخصَّص لها رواتبَ تقاعديةً تكفيها لأن تعيش على هامش الكون
دون فعاليةٍ تُذكر.
(س): متى وأين حصَلَت هذه الرِّدة
عن العقيدة الإلهية؟
(ج): ظهر المبدأ اللاإلهي بشكلٍ
واضحٍ في الهند؛ فقد ظهرَت في الهندوسية (التي لم تتخذ قطُّ صيغةً
أيديولوجيةً موحَّدة) أكثر من فرقةٍ قالت بأن الحُجج على وجود الإله
الخالق قد تكون مقنعةً على مستوى الحياة اليومية، أما على مستوى
المعرفة الدينية الأعمق فإن الكائن الأعلى هو وهمٌ حقًّا. على أن
المبدأ اللاإلهي لم يترسَّخ في الهند ويغدو دينًا مؤسساتيًّا إلا في
الجاينية والبوذية.
(س): نحن نعرف عن البوذية ولكننا
لم نسمع عن الجاينية من قبلُ!
(ج): البوذية معروفةٌ كاسمٍ لدى
الجميع بسبب انتشارها خارج الهند، أما الجاينية فلم تحقِّق لنفسها
الانتشار نفسه، وقد أسَّسها مُعَلِّمٌ روحيٌّ يُدعى ناتابوتا فاردهاما،
والذي عُرِفَ بعد ذلك بلقبه الماها فيرا؛ أي الإنسان العظيم. وُلِدَ
الماها فيرا في بيتٍ ملكيٍّ في مقاطعة بيهار نحو عام ٥٩٩ق.م، وعندما
بلغ سن الرشد تزوَّج وأنجبَت له زوجته ابنة، ولكن الشاب كان كثير
التأمُّل، عازفًا عن حياة الترف المحيطة به، وغالبًا ما كان ينسلُّ من
القصر إلى الغابة القريبة حيث كان يلتقي بجماعاتٍ من النساك
المتجوِّلين، ويجد في الاستماع إليهم ما يُرضي فكره المتَّقِد
بالأسئلة. وعندما تُوفِّي والداه وهو في سن الثلاثين قرَّر أن يهجُر
حياة الناس بشكلٍ نهائي، ويتحوَّل إلى حياة النسك والتأمُّل. تجوَّل
الماها فيرا حافيًا عاريًا في غاباتِ وسهولِ وقُرى مناطق الهند الوسطى،
مؤمنًا بأن إعتاق الروح من التناسُخ ودورة الحياة والموت لا يتم إلا
بتجاهُل الجسد وحاجاته، وبالتزام مبدأ
الأهيمسا/Ahimsa الذي ينص على عدم
إيذاء أي كائنٍ حيٍّ من الإنسان وصولًا إلى أصغر حشرة يُمكن رؤيتها
بالعين. ولم يكن يقضي أكثر من ليلةٍ واحدةٍ في كل قريةٍ أو خمس ليالٍ
في كل مدينة، كي لا تشُدَّه أي رابطة إلى مكان أو صلة حميمة بشخصٍ ما.
وغالبًا ما كان الناس يَرونَه جالسًا في العراء في وضعية التأمُّل
الباطني مستغرقًا في ذاته غير عابئ ببردٍ أو ريحٍ أو مطر. وبعد اثنتَي
عشرة سنة من التطواف والتأمل، وفي إحدى جلسات استغراقه الباطني العميق،
سطَع النور في داخله ووصل إلى الاستنارة الكاملة، فصار
جينا/Jina أي المنتصر الذي قهر الموت
وحرَّر روحه في عالَم السمسارا، عالَم التغيُّر الدائم والجريان الذي
لا يهدأ. وبعد ذلك راح يُبشِّر بمذهبه ويجمع الأتباع حوله يُعلِّمهم
طريق الخلاص، وعندما بلغ سن الثانية والسبعين قرَّر مغادرة عالم المادة
عن طريق طقس المجاعة الطوعية، فتحرَّر من كل أشكال الألم والتحق بعالم
البركة العُلوي في حالةٍ لا تخضع لولادةٍ ثانية.
(س): استخدمتَ هنا مصطلح الاستنارة
لوصف حالة المعرفة التي وصل إليها الماها فيرا، وكنتَ من قبلُ قد
استخدمتَ المصطلح نفسه لوصف حالة المعرفة الغنوصية التي تقود إلى عودة
روح الإنسان لتتحد بروح الله، ولكن الله غير موجود في الجاينية، ونحن
هنا أمام مضامينَ متناقضةٍ للاستنارة.
(ج): هذا صحيح، وسوف نجد بعد قليلٍ
أن مضامين استنارة البوذا تختلف عن مضامين استنارة الماها فيرا؛ فلقد
جاءت كل منظومةٍ عرفانيةٍ بما يختلف عما جاءت به المنظومة الأخرى،
ويبدو أنَّ ما يكتشفه المستنير هو قناعاتٌ عقليةٌ تكاملَت تدريجيًّا ثم
انبثقَت في داخله بصيغة حقائقَ نهائية، أو أنه نوعٌ من الإيمان
اللاشعوري لم يُعرض على العقل الواعي لمناقشته من قبلُ.
(س): كأنك هنا تُنكر حصول
الاستنارة!
(ج): بل أفسِّر آلياتها، ولماذا
تختلف نتائجها من معلِّمٍ إلى آخر.
(س): مصطلح السمسارا الذي ذكرتَه
منذ قليلٍ يحتاج إلى مزيد من الإيضاح.
(ج): لماذا؟ أعتقد أنني شرحتُ
المصطلح في سياق حديثي عن الهندوسية. ومع ذلك لا بأس بالإعادة. هنالك
عدة أفكارٍ أخذَتها الجاينية والبوذية من حاضنتها الثقافية الهندوسية؛
أولها عقيدة تناسُخ الأرواح، يتبعها معتقدٌ مرتبطٌ بها أشد الارتباط هو
الكارما، أو الفعل وجزاؤه. والكارما هو قانونٌ يعمل بشكلٍ آليٍّ دون
تدخُّلٍ من قوةٍ إلهيةٍ ما، وهو ينُص على أن تصرُّفات الفرد وأفكاره
وأقواله سيكون لها تبعاتٌ أخلاقية تحدِّد طبيعة تجسُّداته المقبلة
مثلما تحدِّد تجسُّده الحالي بما تم من أفعالٍ في حيواته السابقة؛
فالكارما الإيجابية تؤدي إلى حالةٍ أرقى في سُلَّم التجسُّدات،
والكارما السلبية تؤدي إلى حالةٍ أدنى. كما أن دورة حياة الفرد هذه
مرتبطة بدورةٍ كُبرى تطال الكون بُرمَّته تُدعى سمسارًا، فالكون يفنى
في كل دورة ثم يعود جديدًا مرةً أخرى، في زمنٍ يدور على نفسه بلا بداية
أو نهاية، ودون أن ينشُد غاية أو يسعى إلى هدف. إلا أن الانعتاق، أو
موكشا، من هذه الدورة ممكن التحقيق وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي،
إلا أن الطوائف الهندوسية مختلفة في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي
الحالة التي تصيرُ إليها الروح المتحرِّرة بعد انعتاقها.
(س): ماذا أخذَت الجاينية من هذه
الأفكار، وماذا تركَت؟
(ج): لقد أخذَت بها وفسَّرَتها
بشكلٍ مختلف؛ فتعاليم الماها فيرا تقوم على الإيمان المطلَق بالإنسان
كسيدٍ لنفسه، وبقُدرته على الخلاص والانعتاق دون معونةٍ من إلهٍ
مخلِّص؛ لأن الآلهة خاضعة مثل البشر إلى دورة السمسارا ولا تُرجى منها
نعمة أو منَّة أو شفاعة؛ لأن عليها أن تعمل على إعتاق نفسها تمامًا مثل
البشر. وللماها فيرا في هذا الموضوع قولٌ مشهور: «يا أيها الإنسان، أنت
صديقُ نفسك، فلماذا تبحث عن صديقٍ خارج ذاتك؟» أما العالَم فغيرُ
مخلوقٍ من قِبَل ألوهةٍ عُليا، وهو أزليٌّ قائمٌ بذاته، وخاضعٌ لمبادئه
الخاصة، وهو يتألَّف من مكوِّنَين اثنَين هما عالَم المادة وعالَم
الروح. يتألَّف عالم المادة من ذراتٍ دقيقةٍ جدًّا، تتجمَّع وفق أنماط
مختلفة، تُنتِج صنوف المادة المتنوِّعة من الهواء والماء والمعدن وما
إلى ذلك، وهي تتدرَّج في الكثافة من المواد الشديدة الصلابة إلى المواد
الخفيفة التي لا تستطيع حواسُّ الإنسان تبيُّنها لرقَّتها وشفافيتها،
وأكثر هذه المواد رقةً مادة الكارما التي تترسَّب على الأرواح نتيجة
أعمالها السيئة. أما عالَم الروح فهو مجموع الأرواح المنبثَّة في
الكائنات الحية، وهو عالَمٌ حسَنٌ على عكس عالم المادة السيئ، والأرواح
خيِّرة بطبيعتها إلا أن ما تجنيه من أعمالٍ سيئةٍ يؤدِّي إلى تداخُل
عالم المادة بعالم الروح، وتلتصق الكارما بروح الفرد فتُغلِّفها
وتجعلها ثقيلة، وهذا ما يؤدِّي بها إلى تقمُّصاتٍ أدنى في دورة الميلاد
والموت. وكلما كانت المادة التي غلَّفَت الروح قليلة، صارت خفيفةً بما
يكفي لدخولها في تقمُّصاتٍ أعلى، إلى أن تغدو كينونةً متحرِّرةً إلى
الأبد، وتنتقل إلى القسم الأعلى من الكون الذي له شكل إنسان؛ حيث تعيش
في عالم البركة في سلامٍ أبديٍّ دون أن تفقد فرديَّتها.
(س): نحن هنا أمام بواكير النظرية
الذرية في تفسير المادة، أليس كذلك؟
(ج): هذا صحيح؛ فلقد سبق مؤسِّس الجاينية بنحو قرنٍ فلاسفة
اليونان الذين قالوا بهذه النظرية، ثم جاء بعد ذلك اليوناني لوكيبوس
الذي كان رائد هذه النظرية في الغرب، وبعده تلميذه ديمقريطوس
(٤٦٠–٣٧٠ق.م)، الذي عاصر سقراط وكان أكبر منه سنًّا؛ فالذرة عند
ديمقريطوس هي الجزء الذي لا يتجزَّأ من المادة، وهي أزليةٌ غير مخلوقة،
ومتحرِّكة بذاتها. والذرَّات تتشابه من حيث طبيعة مادتها وعدم قَبولها
للتجزئة، ولكن الأشياء التي تتركَّب من هذه الذرَّات مختلفة بسبب
اختلاف مقدار الذرَّات الداخلة في تركيبها وطريقة ترتيبها؛ فباتحاد
الذرَّات ينشأ الكون، وبافتراقها يئول إلى فساد، ولكن ديمقريطوس لا
يميِّز بين المادة والروح على طريقة الماها فيرا؛ لأنه لم يكن يؤسِّس
دينًا، وهو يرى أن الروح ماديةٌ أيضًا، وتتألَّف من ذرَّاتٍ كرويةٍ
تستطيع النفاذ في الأشياء.
(س): ما هي الوسائل العملية التي
تُوصِل الجايني إلى الانعتاق؟
(ج): هنالك طريقة الحياة القائمة
على الزهد والتنسُّك، وعدم اقتناء الممتلكات المادية، والصوم وفقًا
لقواعدَ مدروسة من شأنها تهذيبُ النفس وعدم إتلاف الجسد. ويجب أن
يترافق ذلك مع ممارسة الاستغراق
الباطني/Meditation، الذي يعزل العقل
عن وظائفه اليومية ويوجِّهه نحو تحقيق المعرفة الباطنية وتحقيق
الاستنارة التي حققها الماها فيرا من قبلُ. وبما أن الناس ليسوا على
درجة واحدة من الاستعداد للسير في هذا الطريق الشاق، فإن الجاينية
تُقَسِّم أتباعها إلى فريقَين؛ فريق الرهبان المنذورين للانعتاق،
وهؤلاء يعيشون في الأديرة والمعابد، أو يتجوَّلون في العراء دون مأوًى،
وفريق عامةِ المؤمنين الذين يمارسون الحياة اليومية الاعتيادية. وقد
استنَّ الماها فيرا لهؤلاء العامة شريعةً أسهل تطبيقًا واتِّباعًا من
شريعة الرهبان، وتتضمن اثنَي عشر بندًا أخلاقيًّا ينبغي اتِّباعها،
وأهمها عدم إيذاء أو قتل أي مخلوقٍ حي، عدم السرقة، عدم الكذب، الإخلاص
الزوجي، وتقديم الطعام والكساء للرهبان.
(س): ذكرتَ منذ قليلٍ أن الرهبان
يعيشون في الأديرة والمعابد. ما فائدة المعابد إذا كان الجاينيون لا
يقدِّمون فروض العبادة لإلهٍ ما؟
(ج): لا تحتوي المعابد الجاينية
على صورٍ للآلهة، وإنما على صور للمرشدين الروحيين في أوضاع الاستغراق
الباطني تُشبه صور البوذا. أما الطقوس التي تجري فيها فلا علاقة لها
بالتقرُّب إلى الكائنات العليا، وإنما هي احتفالاتٌ تذكاريةٌ دوريةٌ
موضوعها مراحل حياة الماها فيرا؛ الحمل به، ولادته، تزهُّده، استنارته،
انعتاقه، يُضاف إلى ذلك بعض الحركات الطقسية؛ مثل غسل الصور بالماء،
والتلويح أمامها بالمصابيح الزيتية، وحرق البخور.
(س): هل ما زالت الجاينية ديانة
حيَّة اليوم؟
(ج): بقي منهم طائفةٌ صغيرةٌ
موجودة بشكلٍ رئيسيٍّ في مدينة بومبي، وجلُّهم من رجال الأعمال
الناجحين، وقد أكسبَهم سلوكُهم الأخلاقي الصارم ثقة الناس
واحترامهم.
(س): ما قدَّمتَه عن الجاينية يشير إلى وجود شَبهٍ بينها
وبين البوذية، لا سيما لجهة إنكار العالَم، وقصة حياة المؤسِّس، وتقسيم
مجتمع المؤمنين إلى كهنةٍ وعوام. هل من الممكن أن تكون الديانتان قد
نشأتا عن عقيدةٍ واحدةٍ ومؤسسٍ واحدٍ ثم افترقتا بعد ذلك؟
(ج): هنالك شَبَهٌ واضحٌ بين سيرة
حياة البوذا والماها فيرا يعطي مُسوِّغًا للقائلين بوحدة الشخصيتَين؛
فقد وُلِد كلٌّ منهما في أُسرةٍ نبيلةٍ وتزوَّج وأنجب طفلًا، ولكنه لم
يكن راضيًا عن حياته دائم التأمُّل والتفكير، وأخيرًا هجر بيته وأُسرته
وتحوَّل إلى حياة النسك والتجوال التي قادته أخيرًا إلى الاستنارة،
ولكن نواحي الاختلاف فيما جاءت به استنارة هذين المُعلِّمَين هي أكثر
من نواحي الاتفاق، لا سيما فيما يتعلق بوسائل تحقيق الاستنارة؛ فبينما
ركَّز الماها فيرا على الزهد المُفرِط ورفض العالم بصورةٍ مطلقة، فقد
اختار البوذا ما دعاه بالطريق الوسط بين التقشُّف المُفرِط والحياة
الشهوانية. أما أكثر نواحي الاتفاق فهي النظر إلى الاستنارة باعتبارها
يقظةً وصحوةً فردية على حقيقة العالم والشرط الإنساني يحقِّقها
المستنير دون مَددٍ أو نعمةٍ تأتي من جهةٍ إلهية.
وُلد الأمير سيد هارتا، أو البوذا فيما بعدُ، نحو عام ٥٦٣ق.م؛ أي قبل
جيلٍ من ولادة الماها فيرا، وكان أبوه أميرًا على عشيرةٍ تمتد أراضيها
في منطقةٍ خصبةٍ على التلال الواقعة عند سفوح جبال الهيملايا في الهند
الشمالية. وعندما قرَّر ترك زوجته الشابة وابنه الصغير والتحوُّل إلى
حياة النسك والتجوال، كان يتَّبع تقليدًا هنديًّا سائدًا في ذلك الوقت
يحضُّ من أدَّى واجباته الاجتماعية والتزاماته العائلية على ترك الحياة
التقليدية والالتحاق بالنسَّاك الباحثين عن الانعتاق. وبعد قضاء ست
سنواتٍ من الزهد والتطواف كناسكٍ هندوسي، اكتشف أنه كان يسير في الطريق
الخاطئ؛ فخلال هذه السنوات الست حاول قهر جسده بالصوم والعُري والسهر،
ولكن جهوده ضاعت سُدًى. وفي أحد الأيام سقط الأمير مغشيًّا عليه من
الوهن الذي أصابه، وظنَّ صحبُه من النساك أنه قد مات، ولكنه تحامَل على
نفسه واتجه إلى ضفة نهرٍ قريبٍ فاغتسل بمائه، ثم قرَّر قطع صيامه،
وقَبِل صحنًا من الأرز قدَّمَته إليه فتاةٌ عابرة. وعندما انتهى من
تناوُله شعَر بقوة في جسده وعقله، فقطع النهر إلى الضفة الأخرى وهناك
جلس تحت شجرة تينٍ وارفة، وأقسم ألا يبرح مكانه حتى تأتيه الاستنارة
الكاملة. وعند الفجر انتبه من استغراقه الباطني العميق، وصحا على حقائق
الحياة، وصار البوذا؛ أي المستيقظ أو المستنير.
(س): على ماذا صحا؟ وما هي هذه
الحقائق؟
(ج): دعاها سيدهارتا بالحقائق
النبيلة الأربع، وأولها هو أن الحياة شقاءٌ وألم؛ فالولادة ألم، والمرض
ألم، والفراق عمن نُحب ألم، والشيخوخة ألم، والموت ألم، كل وجود
الإنسان قائمٌ على الشقاء والألم. كما أن حياة الإنسان تعاني من
نقيصتَين أخريَين؛ هما: (١) اﻟ «لاثبات» (٢) اﻟ «لانفس». فاللاثبات هو
ذلك التبدُّل الدائم فيك وفي كل ما حولك؛ فأنت الجنين هو غير أنت
الرضيع، وأنت الرضيع هو غير أنت الطفل، وأنت الطفل هو غير أنت المراهق.
وهكذا وصولًا إلى تحلُّل وتفكُّك هذا الذي تدعوه أنا، والذي لا وجود له
بالفعل، وهذا يقودنا إلى فكرة اللانفس عند البوذا، فإذا كانت الهندوسية
الكلاسيكية ترى في كل فرد جوهرًا ثابتًا هو النفس التي تنتقل من جسدٍ
إلى آخر، حاملة معها أعمالها السابقة، أو الكارما الخاصة بها، إلى حين
فَلاحها في الانعتاق، فإن البوذا لا يرى في الفرد إلا تجمُّعًا لعددٍ
من المسببات التي يؤدي اجتماعها المؤقت إلى خلقِ هذا الفرد وجعلِه يشعر
بأناه وشخصيته المميزة. وهذه الشخصية تستمر بفعل الذاكرة التي تحفظ
سجلَّات الشخصية من الولادة إلى الممات، وبعد ذلك فإن تلك المسبِّبات
التي قادت إلى تكوين الشخصية تتحلل ويتحلل معها الفرد تمامًا، ولا يبقى
منه سوى الكارما التي يحملها شخصٌ آخرُ يتكون بالطريقة نفسها. وبتعبيرٍ
آخر، فإن الكارما هي التي تتناسَخ لا النفس، ويمكن تشبيه سلسلة
التناسُخات التي تمر بها الكارما بسجلٍّ مفتوحٍ تزيد عناصره أو تنقص
دونما حاملٍ شخصي، إلى أن تنطفئ هذه السلسلة في عالم السكون التام
المدعو بالنيرفانا.
(س): ما زلتُ أجد صعوبة في فهم
كيفية تناسُخ الكارما دون وجود نفسٍ تتناسخ!
(ج): يمكن تشبيه هذه العملية
بقيامنا بطبع ختمٍ على شمعٍ طري؛ حيث تنتقل الأشكال والكلمات المحفورة
على الختم إلى الشمع مُكوِّنةً نسخةً عنه دون أن ينتقل بين هذا وذاك
جوهرٌ ثابت. إن الفرد خلال حياته، على ما يرى البوذا، يكوِّن مجموعة
صفاتٍ وخصائص وسلوكياتٍ تصير إلى بِنيةٍ صُلبةٍ قبل موته، وهذه البِنية
الصُّلبة هي ما ينطبع على الشمع الطري لوجودٍ جديدٍ يتشكَّل في رحم
امرأةٍ ما، ويستعد للانطلاق إلى الحياة. والنقطة الأساسية هنا هي أن كل
ما يفكِّر به ويفعله شخصٌ ما في حياته سوف يستمر في حيواتٍ أخرى لا
نهاية لها، ولا خلاص إلا بالخروج من عالم الجريان إلى عالم الثبات الذي
لا جريان فيه ولا تغيُّر أو تبدُّل. وهذا ما تشرحه بقية الحقائق
النبيلة.
فالحقيقة الثانية تقول إن سبب الألم والشقاء في الحياة هو الرغبة؛
لأن الرغبة لا يمكن إرضاؤها فهي كالنار زدتَ فيها حطبًا كلما زادت
تأجُّجًا، وكلما ازداد الفرد طمعًا في الحياة دفع أمامه سلسلةً من
التناسُخات المقبلة التي تخلُقها الرغبة في استمرار وهم الوجود.
والحقيقة الثالثة تقول إن القضاء على الألَم والشقاء مُمكِن، وذلك
بالقضاء على الرغبة وعدم التعلُّق بأسباب الحياة، وهذا ما يُهيئ الفرد
للخروج من دورة التناسُخ والدخول في النيرفانا؛ أي انتقاله من الصيرورة
إلى الوجود الحق. أما ما هو شكل هذا الوجود وما هي طبيعته فأمرٌ رفض
البوذا التحدُّث عنه بإصرار. الحقيقة الرابعة تصف الطريق إلى تحقيق
النيرفانا، وهو طريقٌ ذو مراحلَ ثمانٍ، يتضمن كيفية سلوك المُريد
البوذي في هذه الحياة، وطرائق تفكيره، وسبل عيشه، وكيفية مراقبته
لأحاسيسه وأفكاره. إذا كنتَ تنوي التحوُّل إلى البوذية فسأشرحها
لك!
(س): ليس الآن. إن ما سمعتُه منك
منذ بداية حوارنا جعلني في حالة تشوُّشٍ عقليٍّ وعاطفي. هذه الاختلافات
بين كل المنظومات الدينية تُسبِّب لي الدُّوار.
(ج): المعرفة هي التي تُحرِّرك
وتجلب لك الطمأنينة.
(س): ولكنها لم تجلب لي حتى الآن
سوى الارتباك.
(ج): إذن سأكتفي بشرح المرحلة
الأولى والمرحلة الثامنة من مراحل طريق البوذا. المرحلة الأولى يدعوها
بالرؤية السليمة، وهي أن يتخلَّص المرء من الطقوس والخرافات البدائية
كلها، وخصوصًا ما تعلَّق منها بالقرابين الحيوانية، وأنْ يتخلص من
الاعتقاد بالأرواح الحالَّة في مظاهر الطبيعة، وبالجن والعفاريت من أي
نوع، ومن الاعتقاد بوجود خالقٍ أعلى للكون يمكنه أن يمد يد العون
للإنسان في سعيه إلى التحرُّر. أما المرحلة الثامنة والأخيرة فهي
التأمُّل السليم، وهو ممارسة الاستغراق الباطني الذي يدفع السالك إلى
عتبة الاستنارة؛ ففي جلسة الاستغراق التي نراها في تماثيل البوذا، يقوم
المستغرق بتركيز وعيه على الآن وكأن الزمان قد توقَّف، فلا ماضي للوعي
ولا مستقبل، في لحظةٍ متطاولة تبدو وكأنها حاضرٌ أبدي. ولهذا الاستغراق
في الممارسة البوذية ثماني درجات تُوصِل الدرجة الأخيرة منها إلى
النيرفانا.
(س): لماذا تجنَّب البوذا الحديث
عن حالة الوجود في النيرفانا؟
(ج): هل تذكُر ما قاله إخوان
الصفاء في الآيات القرآنية التي تصف أحوال أهل الجنة وأهل
النار؟
(س): نعم. لقد قالوا بأنها مجرد
رموزٍ من أجل تقريب حالة الأرواح الناجية إلى ذهن العامة.
(ج): نعم؛ فتلك الحالة لا تنتمي
إلى ما نعرفه من أحوال الدنيا، وبالتالي لا يمكن وصفها من خلال
المفاهيم العقلية؛ ولذلك فقد رفض البوذا الحديث عنها لكيلا يأخذ
تلاميذُه عنها فكرةً خاطئة. وقد اتخذ البوذا الموقف نفسه من بقية
المسائل الميتافيزيكية؛ التي رأى أنْ لا علاقة لها بكدح المُريد من أجل
الانعتاق؛ ولذلك قال لتلاميذه في خطابٍ مشهورٍ له ما يأتي:
«ضعوا نُصْب أعينكم ما أكدتُه لكم وميِّزوه عما لم أؤكِّده لكم؛
فأنا لم أؤكِّد لكم أن العالم قديم، ولم أؤكِّد لكم أنه حادث. لم
أؤكِّد لكم بأن العالم زائل، ولم أؤكِّد لكم بأنه أبدي. أنا لم
أؤكِّد لكم بأن الروح والجسد شيءٌ واحد، ولم أؤكِّد بأنهما شيئان.
لم أؤكِّد لكم أن المتنور يتابع وجوده بعد الموت، ولم أقُل إنه لا
يتابُع وجوده بعد الموت، أو يصير إلى حالةٍ لا هي بالوجود ولا
بالعدم. أما لماذا لم أؤكِّد لكم هذه الأمور فلأنه لا فائدة منها
ولا علاقة لها بأساسيات تعليمي. وبالمقابل فقد أكَّدتُ لكم أن وجود
الإنسان شقاء، وأشرتُ إلى سببه، وعلَّمتُكم الطريق إلى رفع الشقاء
عنكم. أما لماذا أكَّدتُ لكم هذه الأمور فلأنها ذاتُ فائدة ولأنها
ذاتُ صلةٍ بتعليمي، إنها تزيل الرغبة من نفوسكم، وتهبُكُم المعرفة
والحكمة العليا التي تقود إلى النيرفانا.»
(س): أرى أن الطريق الذي رسمه
البوذا للراغب في الانعتاق طريقٌ شاق، لا سيما وأنه يسير فيه وحيدًا
دون مددٍ من إله أو معونةٍ من بشر.
(ج): لقد خلع البوذا الآلهة
القديمة عن عروشها، وأصبحَت مناصبها مجرد مقاماتٍ عابرةٍ للمثوبة
يشغلها الأبرار في طريقهم نحو الانعتاق؛ ولذلك فإنها لا تستطيع تقديم
معونةٍ للإنسان، والصلاة أو الضراعة إليها لا معنى لها ولا فائدة تُرجى
من ورائها. ولعل مما يزيد من وحدة السالك في هذا الطريق هو أن عليه أن
يقطع الروابط العاطفية كلها التي تشدُّه إلى الأمكنة أو الأشخاص؛ فمحبة
الآباء أو الزوجات أو الأطفال أو الأصدقاء مجلبة للشقاء؛ لأن هنالك
الانفصال والموت والمرض ومئات الأحوال التي تُحيل هذه المحبة إلى شقاء،
وهذا الشقاء يمكن تجنُّبه عند الذين لا يُحبون شيئًا ولا يكرهون شيئًا.
وموقف البوذا بخصوص هذه المسألة توضِّحه قصصٌ عديدة من التراث البوذي،
ومنها أن امرأةً جاءت إليه باكية بعد أن فقدَت حفيدها الغالي جدًّا
عليها، فسألها البوذا: كم يُوجد من الناس في مدينتك؟ وعندما تلقَّى
جوابها قال: أوتريدين أن يكون لك أحفادٌ بعددهم؟ قالت: نعم، نعم. فقال
لها البوذا بلطف: ولكن إذا كان لديك أولاد وأحفاد بعدد هؤلاء فسوف
تبكين كل يوم؛ لأن الناس يموتون كل يومٍ في مدينتك. إن الذين لديهم
مائة شخصٍ عزيزٍ لديهم مائة بلوى، والذين لديهم عزيزٌ واحدٌ لديهم بلوى
واحدة، والذين ليس لديهم شخصٌ أو شيءٌ عزيز ليس لديهم بلوى.
وتروي الموروثات البوذية عن شابٍّ ترك بيت أهله وتحوَّل إلى حياة
النسك والتشرُّد ينتقل من مكانٍ إلى مكان وهو يستعطي الطعام على طريقة
الرهبان البوذيين. وبعد ثلاث سنواتٍ قادَتْه قدماه إلى بلدته الصغيرة
فوقف أمام باب بيته وقرع الباب. وكان في البيت غرفةٌ خارجيةٌ أعدَّها
أبوه منذ زمنٍ لاستقبال الرهبان العابرين، يقيمون فيها ويأكلون ثم
يتابعون سفرهم، فأدخلَته أمه دون أن تتعرَّف عليه في زي الرهبان وقد
نحل جسمه وتغيَّرت هيئته، وراحت تقدِّم له الطعام في كل يوم مدة ثلاثة
أشهر دون أن يكشف لها عن شخصيته ثم غادرها بهدوء. وبعد ذلك جاء من
تعرَّف عليه من أصدقائه القدامى وأخبر الأم بحقيقته، فصلَّت الأم
وقالت: لا بد أن المبارك كان في ذهنه كهنةٌ مثل ابني. لقد أكل في منزل
الأم التي أنجبَتْه ثلاثة أشهر ولم يقل لي أنا ابنك.
(س): البوذي الباحث عن الانعتاق في
هذه الحالة هو فردٌ منسحبٌ تمامًا من المجتمع وليس مَعْنِيًّا إلا
بخلاصه الفردي.
(ج): أبدًا، فالبوذي مُنسحبٌ من
الحياة اليومية ومن كل ما يرغب به الناس العاديون، ولكنه جاهز للمساهمة
في أي نشاطٍ يعود على المجتمع ككل بفائدة، بمعنى أن التزامه ذو طابعٍ
شمولي. وهو في مقابل رفضه للارتباط العاطفي بشخصٍ أو مكانٍ ما، فإنه
يُنمِّي في داخله محبة للبشر، إنه يمتلك ذلك الحنو الذي أكنه البوذا
نحو الجميع والذي تبدى في حياته التي كرَّسها للوعظ والتعليم وبدافع
محبةٍ غير محدودة مبذولة للجميع. ومثل هذه المحبة تغدو ينبوعًا للفرح
لأنها متجردة عن الغرض، على عكس المحبة الموجهة نحو شخص ما، والتي تكون
ذات طابعٍ اتكاليٍّ عاطفي ومحفوفةً بمخاطر الشقاء والألم. وهذا النوع
من المحبة لا يتطلب المعاملة بالمثل، ويُبذل للأخيار والأشرار على قدَم
المساواة.
وموقف البوذا هنا يُشبه موقف
يسوع المسيح الذي قال في موعظة الجبل: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك
وتُبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم،
أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي
تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات؛ لأنه يُشرِق شمسه على الأشرار
والصالحين ويُمطر على الأبرار والظالمين؛ لأنه إذا أحببتم الذي
يُحبونكم فأي أجرٍ لكم؟» (إنجيل متَّى، ٥: ٤٣–٤٦). وينقل الموروث
البوذي عن المبارك قوله: «إذا تكلم الإنسان أو تصرَّف بفكرٍ نقي
رافقَته السعادة مثل ظله. بالنسبة إلى الذين يقولون: لقد أساء معاملتي،
ضربني، غلبني، سلبني، فإن الكراهية لن تزول. أما بالنسبة للذين لا
يُضمرون في أنفسهم مثل هذه الأفكار فإن الكراهية سوف تزول؛ لأن
الكراهية لا تزول بالكراهية أبدًا وإنما بالمحبة.»
وأيضًا: «إذا شتمك أحدهم فعليك أن تكبح استياءك، وأن تتخذ قرارًا
بألا تفلت من فمك كلمة غضبٍ واحدة، وتبقى لطيفًا، ودودًا، ومحبًّا دون
حقدٍ دفين. وكذلك إذا هُوجمتَ بعد ذلك وضُربت.»
(س): ما زلتُ لا أفهم كيف يمكن
للبوذي أن يمتلك ذلك الحُنُو تجاه العالم وتلك المحبة للبشرية في الوقت
الذي يُدير ظهره لمن حوله من البشر؟ ولا كيف يستطيع تقديم العون
للمجتمع ككُلٍّ في الوقت الذي يرفض فيه إقامة علاقاتٍ حميمةٍ مع من
حوله؟
(ج): هذه المسائل الدقيقة في
تعاليم البوذا، وما يطرحه طريق البوذا من صعوبات أمام السالك فيه، كانت
وراء إدخال تغييراتٍ عميقة على البوذية. ولم ينقضِ قرنان من الزمان على
وفاة البوذا حتى وقع الخلاف بين المفكِّرين البوذيين في مسائل العقيدة؛
فقد رأى فريقٌ منهم أن صرامة الطريق الأصلي بحاجةٍ إلى تلطيف؛ لأنه لا
يسمح إلا بخلاص فئةٍ قليلةٍ مختارة من البوذيين، ويتجاهل رغبة العامة
في الخلاص على الرغم من عدم قدرتهم على تحمُّل مشاقِّ الطريق. وقد قام
هؤلاء بإدخال تغييراتٍ على العقيدة من شأنها مساعدة أكبر عددٍ ممكن من
الناس على سلوك طريق الانعتاق. وترافَق ذلك مع حملةٍ تبشيريةٍ واسعة
قادها الإمبراطور أسوكا الذي وحَّد الهند وتحوَّل بعد ذلك إلى البوذية،
كان من شأنها نشر البوذية في مناطقَ واسعةٍ من الشرق الأقصى بشكليها
الأصلي والمحدث.
دعا المجدِّدون عقيدتهم بالمركبة الكبرى أو
الماهايانا/Maha-Yana؛ لأنها قادرة على
نقل عددٍ كبير من المؤمنين من عالم الشقاء إلى عالم النيرفانا، بينما
أُطلق على العقيدة الأصلية اسم المركبة الصغرى أو
الهينايانا/Hina-yana؛ لأنها مركبة
النخبة. ثم إن الماهايانا في ارتحالها نحو الشرق الأقصى صارت تكتسب في
كل قُطرٍ شكلًا جديدًا إلى أن تحوَّلَت البوذية إلى عائلة أديان، ولم
تعُد دِينًا واحدًا، وهذه الأديان لا يجمعها سوى شخصية البوذا الحنونة
والدافئة والمعنية بخلاص البشر، وبذلك تمَّ التركيز على المعلِّم
وإهمال تعاليمه.
(س): ما هي أهم التعديلات التي
أدخلَتها الماهايانا على تعاليم المُبارَك كما تدعوه؟
(ج): لقد تَمَسَّك الناس العاديون
بالرجل الكامن خلف تعاليمه ورأَوا فيه الألوهية، فكان جسده مسكنًا
يتحرك فيه كائنٌ سماويٌّ جاء إلى الأرض في جسدٍ مجيد يتخلَّل الجسد
المادي الأرضي. وبما أن هذا الإله بحاجةٍ إلى بطانةٍ سماوية، فقد تبع
تأليه البوذا في الماهايانا ظهور كائناتٍ ماورائيةٍ أخرى تتصف بالحنو
الذي اتصف به البوذا، وتمُد يد العون إلى الناس الذين لا يستطيعون
تحقيق الخلاص بالجهد الذاتي، وهي تسمع النداء وتقبل الصلوات، وهؤلاء هم
البودهيساتفات، ومفردها بودهيساتفا. والبودهيساتفا هو إنسان حقَّق
الاستنارة، ولكنه بعد الموت رفض الدخول في النيرفانا لكي يستطيع عون
الآخرين. ولكل واحدٍ من هؤلاء البودهيساتفا اسمٌ وسيرةُ حياة وطريقةٌ
في العمل.
لقد أعطى البوذا للإنسان الحرية، وجعله مسئولًا عن خلاصه، ولكنه
رفضها وعاد إلى العبودية.
(س): هل اختفت الهينايانا أو
المركبة الصُّغرى بعد أن اشتد عود الماهايانا؟
(ج): كلا، فهي ما تزال حية في
سيلان وبعض مناطق جنوب شرق آسيا (أو الهند الصينية)، ولكن مع تعديلات
فرضَتها حاويتُها الثقافيةُ الجديدة.
(س): هل يمكن وضع التاوية في زمرةٍ
واحدة مع الجاينية والبوذية انطلاقًا من التزامها أيضًا بالمبدأ
اللاإلهي؟
(ج): أبدًا، التاوية نسيجُ وحدها.
ومن حيث المبدأ فإنها تختلف عن الجاينية والبوذية في مسألتَين؛
فالجاينية والبوذية تريان أن العالم قديمٌ ولا خالق له، وهو يعمل وفق
آليةٍ دقيقة في استقلال عن أي إرادةٍ أو قوةٍ فاعلة خارجية كانت أم
داخلية. أما التاوية فتعتقد بوجود مبدأٍ كُليٍّ غيرِ مشخَّص فاعلٍ في
الكون من داخله لا من خارجه، بطريقةٍ أشبه ما تكون بفعل الخميرة في
العجين. وفعالية هذا المبدأ تنجُم عن قوَّته ذات الطبيعة المزدوجة
والتي تبدَّت في عالم الظواهر في قوة اليانغ الموجبة وقوة الين
السالبة، وعن دوران هاتَين القوتَين على بعضهما نجمَت مظاهر الخليقة
جميعها. والجاينية والبوذية تُنكران العالم وترسمُ كلٌّ منهما طريقًا
للانعتاق منه، أما التاوية فلا تُنكر العالم وإنما ترسمُ الطريق الأمثل
للحياة فيه.
(س): في أحاديثك السابقة اقتبستَ
العديد من أقوال الحكيم لاو-تسو مؤسس التاوية. فمن هو هذا المعلِّم
الغامض الذي لا نعرف عنه مثلما نعرف عن البوذا؟
(ج): يلفُّ الضباب شخصية لاو-تسو،
وكل ما استطاع قُدامى المؤرخين الصينيين قوله في سيرة حياته، هو أن هذا
الحكيم عاش في زمنٍ ما بين أواسط القرن السادس وأواسط القرن الخامس قبل
الميلاد. وقد عمل قيِّمًا على مكتبة القصر الملكي في عاصمة مملكة تشاو
الصينية، ثم قرَّر تركَ عمله ومغادرةَ العاصمة إبَّان فترة الاضطرابات
التي عصفَت بالمملكة. وعندما كان يجتاز بوابة المدينة أوقفه رئيس الحرس
وطلب منه أن يكتُب له مُلخِّصًا عن حِكمتِه التي اشتُهر بها، فأنجز
كتابه الصغير المعروف بعنوان تاو-تي-تشينغ؛ أي رسالة في التاو وقوَّته،
والذي يتألَّف من خمسة آلاف شارةٍ كتابيةٍ صينية، أو أقل من ألف
وخمسمائة كلمة في ترجماته إلى اللغات الألفبائية. وبعد ذلك اختفى ولم
يسمع أحدٌ عنه شيئًا. ويقول أحد المعلِّقين على سيرته: لقد كان شخصيةً
فَذَّةً ومتفوقة، وأحب دومًا أن يُبقي نفسه مجهولًا. وقد عبَّر لاو-تسو
عن فلسفة التواضُع هذه في أكثر من فصلٍ من فصول كتابه، ومنها:
يغدو النهر ملكًا على مئات الجداول؛
لأنه أوطأ منها منسوبًا؛
لذا فإن من أراد أن يحكُم أمة،
عليه أن يتضِع أمامها.
ومن أراد أن يقود شعبًا،
فعليه أن يسير وراءه أولًا. (الفصل ٦٦)
وأيضًا:
من يتطاول على أطراف أصابعه لا يقف طويلًا.
من يُوسِع خطاه لا يمشي بعيدًا.
من يُظهر نفسه لا يبدو للعيان.
من يعتبر نفسه دومًا على حقٍّ لا يحوز المكانة.
من يتبجَّح لا ينال الاعتراف. (الفصل ٢٤)
يتألف الكتاب من ٨١ فصلًا، ويتألَّف الفصل من عددٍ من
الأبيات أو الأسطر، أقصرها يحتوي على أربعة وأطولها يحتوي على خمسة
عشر. والكتاب بمجمله ليس نصًّا فلسفيًّا مطَّردًا، وإنما عبارة عن حكمٍ
مليئة بالإيحاءات والإشارات الضمنية مُصاغة بأسلوبٍ مكثَّف ومختصَر يصل
حد الإلغاز أحيانًا، وهذا ما جعلَه موضع دراسةٍ وشرحٍ وتفسيرٍ منذ
القِدَم إلى يومنا هذا.
(س): من يقرأ ترجمتك لكتاب
التاو-تي-تشينغ الصادرة عام ١٩٩٨، يلاحظ مدى إعجابك به وربما تبنِّيك
لأفكاره!
(ج): لم تكن ترجمة وإنما صياغة
عربية للنص، اعتمدتُ فيها على أربع ترجماتٍ إنكليزيةٍ أعدَّها باحثون
صينيون وترجمة فرنسية، وزوَّدتُ النص بمقدمةٍ عن الفكر الصيني
وبشروحاتٍ مستفيضةٍ لكل فصل. وفي الطبعة الصينية للكتاب الصادرة عام
٢٠٠٩م، قام الباحث الصيني تشاو تشينغ قوه بمراجعة ترجمتي على النص
الصيني القديم، وجرى تزويدها بمقدمةٍ طويلةٍ كتبها أستاذٌ في جامعة
بكين. أما عن إعجابي بالكتاب فإن كلمة إعجابٍ لا تكفي عندي لإيلائه
حقه؛ فأنا أرى فيه دواءً شافيًا لكل أمراض حضارةٍ إنسانيةٍ ضلَّت
طريقها.
(س): بما أننا نتحدَّث في هذا
المحور عن المبدأ اللاإلهي، دعنا نستكشف أفكار لاو-تسو التي تقوم على
هذا المبدأ مع نقيضها الذي يتمثل بشكلٍ خاصٍّ في أديان التوحيد الشرق
أوسطية.
(ج): هذا مدخلٌ مناسب، وسأبدأ من
طبيعة المبدأ الكلي.
(١) في طبيعة المبدأ الأول أو الكلي:
المبدأ الكلي في دين التوحيد هو كينونةٌ إلهيةٌ ذات شخصيةٍ واسمٍ
تُعرف به، مستقلة عن العالم وتفعل فيه فعلًا إراديًّا قصديًّا ذا هدفٍ
وغاية. أما عند لاو-تسو فقدرةٌ بلا
شخصية تتخلَّل العالم وتفعل فيه فعلًا لا إراديًّا ومجردًا من الهدف
والغاية. وهو إذ يدعوها بالتاو؛ أي الطريق، فإنه لا يُسمِّيها وإنما
يصرف الذهن عن الاسم إلى الطريقة التي يفعل بها هذا المبدأ في الكون
والطبيعة. وفي هذا يقول المعلِّم في الفصل الأول:
التاو الذي يمكن التحدُّث عنه،
ليس التاو السرمدي.
اللامُسمى (أو العدم) هو بداية السماء والأرض.
(س): لماذا اقترن
اسم اللامُسمى بالعدم في البيت الأخير أعلاه؟
(ج): في الفلسفة التاوية كلُّ ما
له شكل وهيئةٌ مادية يحمل اسمًا ما، أو هنالك إمكانيةٌ لأن نُطلق عليه
اسمًا. أما ما يقع خارج الشكل والصورة فليس له اسم؛ فالطاولة تُدعى
طاولة لأن لها من الخصائص ما يدفعنا لتسميتها طاولة، ولكن التاو ليس له
صفاتٌ وخصائصُ من هذا النوع؛ ولذلك عندما ندعوه بالتاو فذلك من قبيل
الإشارة إليه دون تسميته، فهو عدمٌ بمعنًى خاصٍّ يتضمن كونه مختلفًا عن
مظاهر الكون والطبيعة، وفي الوقت نفسه فإن وجودها المادي مستمدٌ
منه.
(س): هذه الصعوبة التي يطرحها
الفصل الافتتاحي ربما أثارت اليأس في نفس القارئ!
(ج): هذا إذا لم يكن لديه مرشدٌ
حاذقٌ يقوده في متاهات الكتاب. لننظر أيضًا إلى ما ورَد في الفصل ٢٥
بخصوص الاسم:
لا أعرف اسمه فأدعوه التاو.
لا أستطيع وصفه فأقول العظيم.
عظمتُه امتدادٌ في المكان.
الامتداد في المكان يعني امتدادًا بلا نهاية.
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المُبتدى.
(س): لماذا تتجلَّى
عظمة التاو في الامتداد في المكان؟
(ج): لأنه يتخلَّل كل شيء، ويُوجد
في كل شيء. وهناك محاورةٌ جرت بين حكيمٍ كونفوشي وحكيمٍ تاوي ابتدأها
الكونفوشي بسؤاله: أين نجد هذا الشيء الذي تدعونه بالتاو؟ فأجاب
التاوي: إنه في كل مكان. فأخذ الكونفوشي يسأل عن الأمكنة التي يمكن أن
يُوجد فيها التاو، والتاوي يقول له: نعم. نعم. نعم. ثم نظر إلى الأرض
ورأى بقية من رَوثِ البقر فقال للكونفوشي: لا تسأل أين يُوجد التاو.
إنه موجودٌ حتى في رَوثِ البقر.
(س): ولماذا يكون في الامتداد بلا
نهاية عودة إلى نقطة المُبتدى؟
(ج): لقد أدرك لاو-تسو بحَدْسه
المبدع أن الكون الذي نعيش فيه هو كونٌ مغلَقٌ ولا وجود لمكانٍ خارجه؛
ولذلك فإن الامتداد في المكان مهما استمر فإنه لا يتجاوز حدود الكون،
وإنما ينقلب عائدًا إلى نقطة المُبتدى. والفيزياء الكونية تقول لنا
اليوم إن الكون محدودٌ ولا نهائي في الآن نفسه؛ فهو لا نهائي لأن حدوده
الخارجية في توسُّعٍ دائم مع تباعُد المجرات عن بعضها بسرعاتٍ خيالية،
وهو التباعُد الذي نَجَمَ عن لحظة الانفجار الكبير الذي تولَّد عنه
الكون، ولكنه محدودٌ ومغلق لأن الثابت الكوني وهو سرعة الضوء لا يستطيع
النفاذ من أقطاره فيرتدُّ عائدًا إلى نقطة تولُّده. وبتعبيرٍ آخر، لو
أن أحدنا نظر في منظار يكشف حتى حدود تلك المجرات الواقعة على حافة
الكون فإنه لن يصل أخيرًا إلا لرؤية نقرة رأسه.
أنتقل من وجع الدماغ الذي تُحْدثه هذه الأفكار إلى النقطة
الثانية.
(٢) في دين التوحيد يتعرف الناس على الله من خلال مختارين من البشر
هم الأنبياء الذين خصَّهم الله بالوحي وكشَف لهم عن مقاصده في عالم
الطبيعة والبشَر؛ فالحكمة التي تُعين البشر على معرفة المبدأ الكلي هي
والحالة هذه حكمةٌ إلهيةٌ علوية، أما في التاوية فحكمةٌ إنسانية،
والمعرفة لا تأتي من قراءة الكتب المقدَّسة بل من تجربةٍ ذوقيةٍ داخلية
تجعلنا في تواصلٍ مع المبدأ دون كلمات؛ ولذلك يقول المعلم:
في قلة الكلام تناغمٌ مع الطبيعة.
الطبيعة لا تُعبِّر عن نفسها بالكلمات (الفصل ٥).
وأيضًا:
الذين يعرفون لا يتكلَّمون،
والذين يتكلَّمون لا يعرفون (الفصل ٥٦).
وأيضًا:
الكلام الكثير يقود أخيرًا إلى الصمت.
ثبِّت قلبَكَ على جوهر الفراغ (الفصل ٥).
فمعرفة التاو لا تتطلب الكلام ولا التفتيش في الكتب،
وهي ليست معرفةً عقليةً بل معرفةٌ حَدْسية تنشأ من تثبيت الذهن في
أحوال التأمُّل على جوهر الفراغ أي على طبيعة التاو والتي هي خواء،
ولكن هذا الخواء ليس حالة عطالةٍ مطلقة، وإنما حالة فعاليةٍ تشبه
فعالية القوانين الطبيعية المعدومة بالنسبة لأحوال الوجود المعروفة
لنا، ولكنها كامنةٌ وراء جميع أحوال هذا الوجود وفاعلةٌ فيه؛ ولذلك
يتحدث لاو-تسو عما يمكن لنا تسميته بالفراغ المليء:
التاو فارغ،
ولكن النضح منه لا يُنضبه،
لا يُسبَر غَورُه، منشأ الآلاف المؤلَّفة (= مظاهر الكون
جميعها).
(س): كيف يكون الشيء
فارغًا ومهما أخذنا منه لا ينضب؟
(ج): لأنه يحتوي على إمكانيات
الوجود وليس على موجوداتٍ مادية قابلة للنفاد. وهذه الإمكانيات تتحول
من وجودٍ بالقوة إلى وجودٍ بالفعل باستخدام مصطلحاتٍ فلسفية.
(س): هل أعطانا أمثلةً عن الفراغ
باعتباره حالة فعالية؟
(ج): نعم. يقول في الفصل
«١١»:
اجمع أقطار العجلة الثلاثين عند مركزها،
وانظر كيف يعطيك اللاشيء في المركز حركةً ودورانًا.
اعجِن الصلصال وشكِّلهُ إناء،
وانظر كيف يعطيك اللاشيء في الداخل استعمالًا.
ابن غرفةً بنوافذَ وأبواب،
وانظر كيف يُقَدِّم لك اللاشيء في داخلها مسكنًا.
ما نحصُل عليه هنا هو شيء،
ولكن بفضل اللاشيء يكتسب الشيء وظيفته.
وهنا يمكن أن أُضيف مثالًا من عندي إلى حُجة لاو-تسو
بخصوص دَور الفراغ أو اللاشيء، مستمدًّا من الموسيقى؛ فاللحن الموسيقي
لا يمكن تمييزه إلا بتتابُع الصمت والصوت؛ فالصمت هو الفراغ أو
اللاشيء، والصوت هو الشيء، وإذا لم يفصل الفراغ بين نقرتَين على أوتار
العود فإن ما يُمكِن أن نسمعه لن يكون أكثر من فوضى صوتيةٍ لا معنى
لها.
(س): يبدو أن الأفكار التي تُسبب
وجع الدماغ ما زالت تتوالى!
(ج): أعتقد أن ما سيأتي هو أقل
صعوبةً.
في الخلق والتكوين:
في أديان التوحيد يظهر العالم إلى الوجود من خلال فعلٍ إراديٍّ للإله
الخالق وخطةٍ محكمةٍ مُسبقة في عقله المُفارق لعالم المادة والفاعل
فيها. أما عند لاو-تسو فإن ظهور العالم أشبه ما يكون بعملية تفتُّح
زهرةٍ تدفعُها من داخلها فعاليةٌ خلاقة. ومن خلال هذه الفعالية يتحول
التاو إلى ما لا يُحصى من مظاهر العالم الحية والجامدة (أو الآلاف
المؤلَّفة بالتعبير التاوي)، وذلك عن طريق تناوُب قوة اليانغ الموجبة
وقوة الين السالبة. هذا الفعل غير القصدي هو نوعٌ من اللافعل، أو الفعل
من خلال اللين لا الفعل من خلال ممارسة القوة:
التاو ليس من شيمته الفعل،
ومع ذلك لا يترك شيئًا بحاجة إلى إتمام. (الفصل ٣٧).
وأيضًا:
بتكامل الأضداد يتحرك التاو،
باللين يُنجز عمله.
وما دام التاو ليس خالقًا للعالم بالمعنى الديني
للكلمة فإنه لا يلعب تجاهه دور السيد المُتَحكم، بقَدْر ما يلعب دور
القوانين الطبيعية في المفاهيم العلمية الحديثة؛ فالأشياء تنشأ
تلقائيًّا وبشكلٍ متزامنٍ في معزلٍ عن مبدأ السببية؛ فلا حاكم ولا
محكوم، والكل يحدُث من تلقاء ذاته وفي ارتباطٍ وثيقٍ مع حدوث الآخر. عن
هذا النشوء التلقائي المتزامن يقول تشوانغ تزو تلميذ المعلم:
«قد يبدو أن للعالم سيِّدًا ولكن ما من دلائل تدل على وجوده … لننظُر
إلى الجسد الإنساني كنموذجٍ للعالم، بعظامه المائة وفتحاته التسع
وأجهزته الداخلية الستة، كم هي متكاملة وفي أماكنها الصحيحة. هل أستطيع
وضع أسبقيةٍ لأحدها على الآخر؟ هل أضعها جميعًا على قدَم المساواة؟ هل
كلها خدمٌ لا تستطيع ضبط بعضها بعضًا؟ هل تتبادل دَور الخادم والسيد
على التوالي؟ ألا ترى أن هنالك شيئًا جوهريًّا موجودًا في صميم
تكاملها؟»
(س): إذن فالعالم يسير دون
مسيِّر!
(ج): نعم، وهذا يحصل نتيجة لتفاعل
مكوِّناته مع بعضها البعض، وكل عنصرٍ هو فاعل ومنفعل، سيد وخادم، في
الآن نفسه.
(٣) العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر:
العلاقة بين الله والبشر في أديان التوحيد هي علاقةٌ طقسيةٌ شعائرية؛
فقد خلق الله البشر وسخَّر لهم الطبيعة ونبات وحيوان الأرض لأجل
معاشهم، وعليهم في المقابل شكره الدائم على نعمه وتقديم فروض الطاعة
والعبادة له. أما عند لاو-تسو فإن نِعَم المبدأ الكلي تفيض من خلال
تلقائيةٍ كونيةٍ لا سيد فيها ولا مسود، والكل يعيش حالة وجودٍ تشاركيٍّ
لا فضل فيه لأحد عناصره على الآخر. وفي هذا يقول المعلم:
الآلاف المؤلفة تظهر وتختفي بلا توقف.
ما يعطيها الحياة لا يدَّعي امتلاكًا.
يُكِمل عمله ولا يدَّعي فضلًا.
العمل يُنجَز ثم يُنسى؛
ولذلك فإن أثَره لا يفنى. (الفصل ٢)
وأيضًا:
إنه يعطي ويُغذِّي.
يعطي الحياة ولا يدَّعي امتلاكًا.
يُغذِّي ولا يأمل عرفانًا.
يُدبِّر ولا يبسط سُلطانًا.
(س): إذا أردنا أن
نشكُر التاو فماذا نفعل؟
(ج): تَشبَّه به على قَدْر طاقتك
الإنسانية.
(٤) في الأخلاق:
في دين التوحيد تهبط الشرائع
الأخلاقية من السماء، والإله هو الذي يُبيِّن للناس طريق الخير وطريق
الشر. وهذا يعني الإنسان لا يتمتع بوازعٍ أخلاقي أصلي، وهو لا يسلك في
طريق الخير إلا امتثالًا للأمر الإلهي. أما عند لاو-تسو فإن الفضيلة
كامنة في صلب النظام الطبيعي، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في حالة
تناغمٍ مع هذا النظام لكي يستطيع تلمُّس الفضيلة في داخله دون حاجةٍ
إلى تلقين، أو إلى اتِّباع لوائحَ أخلاقيةٍ صاغتها له قوةٌ علوية.
وبتعبيرٍ آخر، فإن عمل الخير يأتي دون قصدٍ أو تصميم، وهو شكلٌ من
أشكال التلقائية على مستوى الكون وفي النفس الإنسانية. يقول
المعلم:
رجل الفضيلة الكاملة لا يشعر بفضيلته؛
ولذا فإنه رجلٌ فاضل.
البعيد عن الفضيلة مشغولٌ بها على الدوام،
ولذا فإنه رجلٌ غير فاضل.
رجل الفضيلة لا يفعل،
ومع ذلك لا يترك شيئًا بحاجة إلى إتمام. (الفصل ٣٨)
(س): لماذا على
إنسان الفضيلة ألا يشعر بأنه رجلٌ فاضل، وما السوء في ذلك؟
(ج): رجل الفضيلة لا يشعر بأنه
مخيَّر بين إتيان الحسنة أو إتيان السيئة، لأن كل أفعاله حسنات من دون
قصدٍ أو تفكير، أما الآخر فإنه دومًا يختار لأن الحسنة والسيئة في
داخله تتنازعان، وعندما يختار فعل الحسنة فإن ذلك يحدُث عن قصدٍ
وتصميم، وهو غالبًا ما يتوقَّع الثناء والإعجاب؛ ولذلك يقول المعلم
أيضًا:
إذا اتَّبعتَ طريق السماء،
تبذل الحسنة لا السيئة.
إذا اتَّبعتَ طريق السماء،
تفعل ولا تبغي من وراء ذلك عرفانًا. (الفصل ٨١)
وفي هذا يقول تشوانغ تزو: «كان الناس في تلك الأيام
مستقيمين في سلوكهم دون أن يعرفوا أن في ذلك صلاحًا، وكانوا مُحبِّين
لبعضهم دون أن يعرفوا أن في ذلك خيرًا، وكانوا مخلصين دون أن يعرفوا أن
في ذلك صدقًا، كانوا يساعدون بعضهم دون أن يعرفوا أن في ذلك أخذًا
وعطاءً؛ لذا فإن أعمالهم لم تترك أثَرًا، ولا نملك سجِلَّاتٍ عن
أخبارهم.»
وبهذا الخصوص ينقل لنا تشوانغ تزو حواريةً بين لاو-تسو وكونفوشيوس
يقول لاو-تسو لكونفوشيوس في خاتمتها:
«لننظر إلى الكون وصيرورته الدائمة التي لا تنقطع، إلى الشمس والقمر
وضيائهما الدائم، إلى النجوم في تجمُّعاتها، إلى الطير والوحش في
أفواجها، إلى الشجر والقصب المشرئب دومًا نحو الأعلى. كن كهؤلاء، اتبع
التاو فتغدو كاملًا. لماذا كل هذه العَناء العقيم في البحث عن الإحسان
والواجب؟ إنه يُشبه قرع الطبل في البحث عن الفار الذي تسعى وراءه. وا
أسفاه يا سيدي! لقد جلبتَ الكثير من التشوُّش إلى عقول الناس.»
(٥) في الثواب والعقاب:
في دين التوحيد تتصل المنظومة الأخلاقية الدينية بالثواب والعقاب؛
فالله يثيب فاعل الخير ويعاقب فاعل الشر، والإنسان في خياره الأخلاقي
يتصرف عن خوفٍ من العقاب وطمعٍ في الثواب. أما عند لاو-تسو فإن ثواب
الخير يكمن في الخير نفسه لا في مكافأةٍ تترتَّب عليه، والثاوي يقوم
بواجبه دون النظر إلى مردود، وهذا ما يأخذ بيده إلى النجاح دون أن
يطلبه. يقول المعلم:
عندما تتبع طريق السماء،
فإنك تربح دون نضال،
تحصل على ما تريد دون سؤال،
يأتيك النجاح دون أن تسعى إليه. (الفصل ٧٣)
(س): هل تعبير «طريق
السماء» هنا معادلٌ للتاو؟
(ج): نعم. ولاو-تسو هنا يستخدم
تعبيرًا مفهومًا لدى أهل بقية العقائد؛ فالسماء في ذلك الوقت كانت
بمثابة الحضور الروحي الجليل والقوة الأخلاقية الأعظم، وكان على
الحكماء والحكام الوقوف في خشوعٍ في حضرة السماء واستيعاب مشيئتها
باعتبارها ألوهةً كونيةً غير مشخَّصة؛ ولذلك يقول في الفصل
(٧٩):
طريق السماء حيادي،
ولكنه يبقى إلى جانب الإنسان الطيب.
والمعلم هنا لا يقصد إلى القول بأن التاو يقف بشكلٍ
قصديٍّ إلى جانب الإنسان الطيب، بل إلى أن الشخص الطيب الذي يتماثل مع
التلقائية الكونية يجدها دومًا إلى جانبه دون قصدٍ منه أو منها.
والمسألة هنا مثل سرب طيورٍ مهاجرةٍ انعكسَت صورتُه على سطح ماء
بُحيرةٍ ساكنة؛ فالسرب لم يقصد إرسال صورته إلى سطح البُحيرة،
والبُحيرة لم تقصد أن تعكس صورته.
ويتصل الثواب والعقاب بفكرة الآخرة والحياة الثانية التي تتخذ مركز
البؤرة من الفكر الديني التوحيدي؛ فالحياة الدنيا ليست سوى مرحلةٍ
قصيرةٍ عابرة تقودنا إلى الحياة الحَقَّة الأبدية. أما لاو-تسو الذي لم
يُعطِ اهتمامًا للمسائل الميتافيزيكية، فإنه لم يتحدَّث عن فَناء الروح
ولا عن خلودها، وما على الإنسان سوى أن يحيا حياةً طبيعية خلال هذه
الفترة المقدَّرة له في هذه الدنيا دون خوفٍ من الموت أو تعلقٍ
بالحياة، ويترك ما عدا ذلك للتلقائية الكونية لكي تتكفَّل به. وفي
تفسير موقف معلمه من هذه المسألة يقول تشوانغ تزو:
«الناس في الأيام الخوالي لم
يعرفوا حُب الحياة ولا كُره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن فيه بهجةٌ
لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعًا ومقاومة. بهدوء كانوا يأتون
وبلا ضجيجٍ كانوا يمضون. لا ينسَون ما كانت عليه بدايتُهم ولا يتساءلون
عما ستئول إليه نهايتهم. لم يكن لديهم نية أو رغبة لمقاومة التاو، ولم
يبذلوا جهدًا لمعارضة طريق السماء. لقد قبلوا الحياة واغتبَطوا بها ثم
نسُوا وآلوا إلى حالة ما قبل الحياة.»
(س): إذن عقيدة تناسخ الأرواح غير
موجودة في التاوية!
(ج): هذا صحيح؛ فعقيدة تناسُخ
الأرواح هي جزءٌ من منظومةٍ ميثولوجية متشعِّبة ومُتخَمة بالمفاهيم،
أما التاوية فتهدف إلى مقاربة الحقيقة بشكلٍ مباشر وبدون توسيط
المفاهيم، والتاوي لا يقيم علاقةً معرفية مع العالم بل معرفة اختبارية
ذوقية لا يمكن للكلمات التعبير عنها. وهذا ما يقصد إليه لاو-تسو عندما
يتحدَّث عن التعليم بدون كلمات. يقول في الفصل ٤٨:
في طلب العلم تعرف في كل يومٍ أكثر،
في طلب التاو تبذل في كل يومٍ أقل.
تبذل أقل فأقل حتى تصل إلى حالة اللافعل،
وعندما تصل إلى حالة اللافعل،
لا تجد أمرًا بحاجةٍ إلى إتمام.
ويقول تشوانغ تزو في تفسير موقف معلمه هذا: «من يتصدى
للإجابة عن سؤال حول التاو لا يفهم التاو؛ إذ ما من تساؤلٍ ممكنٍ هنا
وما من أجوبة. إن طرح أسئلة لا يمكن الإجابة عنها حماقة، وفي الإجابة
عن أسئلةٍ لا جواب لها فقدانٌ للمعرفة الداخلية. التاو يُعرف بدون
مفاهيم، بدون تفكيرٍ عقلي. يُمكن مقارنته بالمكوث في اللاشيء باتباع لا
شيء، بطلب لا شيء. الحكيم يعلِّم مبدءًا لا يمكن التعبير عنه
بالكلمات.»
(س): إن تعبير اللافعل الذي
يستخدمه لاو-تسو مرارًا لا يعني بالطبع عدم القيام بأي شيء، أليس
كذلك؟
(ج): إنه يعادل تعبير اللاجهد؛
فالإنسان يتوافق مع الطبيعة من خلال ما يدعوه لاو-تسو بحالة اللافعل
وعدم التدخل في مسار الأشياء؛ ففن الحياة هو أشبه بفن الملاحة لا بفن
القتال، ففي الملاحة يُدير الرُّبَّان شراعه للريح ويستخدم خبرته بها
لأجل الإفادة منها لا لمقاومتها، وبذلك يغدو جزءًا من النظام الطبيعي
للأشياء. وحركة الماء هي إحدى الصور المفضَّلة لدى لاو-تسو لتوضيح
مفهوم اللاجهد. يقول في الفصل ٨:
الخير الأسمى يُشبه الماء.
الماء يسقي ألوف الحيوات في جريانه بلا جهد،
يرافقها في أماكنَ لا يرتادها أحد.
وهو في ذلك يُشبه التاو.
فالنهر من منبعه إلى مصبِّه يسير مُتعرجًا بين
الأودية، ويلتف حول الصخور والعقبات فيبلغ غايته دون جهد، وعلى الإنسان
في سعيه أن يتشبَّه دومًا بجري الماء.
وأيضًا:
عندما تتَّبع طريق السماء،
فإنك تربح دون نضال،
تحصل على ما تريد دون سؤال،
تحقِّق النجاح دون أن تطلُبه.
(س): سلوك طريق
اللاجهد يُذَكِّرني بالمصارعة اليابانية؛ فقد قرأتُ في إحدى المرات
أنها تقوم على الإفادة من قوة الخصم، فهل كان للتاوية تأثير على فكر
اليابان؟
(ج): هذا صحيح؛ فرياضة الجيدو
اليابانية لا تقوم على استخدام القوة للإيقاع بالخصم، وإنما على تنفيذ
حركاتٍ لَيِّنة مدروسة تؤدي إلى الإخلال
بتوازُنه وتوجيه قوَّته ضده. وهذه
الرياضة تستلهم حكمة الزن اليابانية ذات الخلفية التاوية. وقد تحدَّث
لاو-تسو عن الإفادة من قوة الطرف الآخر عندما قال في الفصل ٦٨:
المقاتل الصنديد لا يُظهر عنفًا،
والمجلي في المعارك ليس غضوبًا،
والمنتصر على عدوه ليس منتقمًا،
والبارع في القيادة يُظهر تواضُعًا.
هذا ما يُدعى بالإفادة من قوة الطرف الآخر،
هذا ما يُدعى بالتماثُل مع السماء.
وتتصل فلسفة اللاجهد هذه بفلسفة اللين ونُكران
الذات:
أَلين الأشياء في العالم
يقوى على أقسى الأشياء،
ما لا مادة له ينفذ إلى ما لا ثقوب له. (الفصل ٤٣)
وأيضًا:
الجسد الحي رقيقٌ وليِّن،
وكذلك العُشب والشجر الأخضر.
الجسد الميت صُلبٌ وقاسٍ،
وكذلك العشب الذاوي والشجر اليابس.
القسوة والصلابة من علائم الموت،
واللين والرقَّة من علائم الحياة.
من هنا فسلاح القوَّة لا ينفع،
والشجر اليابس يقع تحت ضربات الفأس. (الفصل ٧٦)
وأيضًا:
لا يُوجد في العالم أرقُّ وألينُ من الماء،
ومع ذلك فإنه الأقدر على مواجهة القوي والصُّلب.
هذه حقيقةٌ ناصعةٌ لا مِراء فيها.
الضعيف يظهَر على القوِي،
والليِّن يقوى على الصلب،
ولكننا لا نضع معرفتنا بذلك موضع التطبيق. (الفصل ٧٨)
أما لماذا لا نضع هذه المعرفة موضع التطبيق فلأن
«الكلمات الصادقة تُبدي تناقُضًا» على ما يقول في السطر الأخير من هذا
المُقتبس؛ فالحكيم عندما يقول بأن أَلين الأشياء في العالم يقوى على
أقسى الأشياء، فإنه يقول للسامع جملةً تحتوي على تناقُضٍ ظاهري لا يتفق
مع خبرة ذلك السامع العادية في الحياة، والتي تعلِّمه أن أقسى الأشياء
يقوى على أَلين الأشياء.
ويقول في نكران الذات:
الحكيم يضع نفسه في المؤخرة فيجدها في المقدمة.
عندما ينسى نفسه يجد نفسه.
لأنه لا يشعر بنفسه قادرٌ على تحقيق ذاته. (الفصل ٧)
وأيضًا:
الحكيم يعرف نفسه ولكنه لا يُظهرها،
يصقُل نفسه ولكنه لا يُعلي من شأنها. (الفصل ٧٢)
وفي شخص الحاكم تتحد فضيلة اللاجهد بفضيلة نكران
الذات:
يغدو النهر ملكًا على مئات الجداول؛
لأنه أوطأ منها منسوبًا؛
لذا فإن من أراد أن يحكُم أمة،
عليه أن يتضع أمامها،
ومن أراد أن يقود شعبًا،
عليه أن يسير وراءه أولًا.
إذا اعتلى الحكيم قمة السلطة،
لا يشعُر بسلطته أحد،
وإذا سار في مقدِّمة الركب،
لا يشعُر بوجوده أحد؛
ولهذا يعطيه الناس ولاءهم عن طيب خاطر. (الفصل ٦٦)
وأيضًا:
أفضل الحكام من شابه الظل عند رعيته،
يليه الحاكم الذي يُحبون ويمدَحون،
فالذي يخافون ويرهبون،
فالذي يحتقرون ويكرهون.
(س): لماذا أتى
الحاكم المحبوب هنا في المقام الثاني؟
(ج): لأن الرعية تشعر بوجوده في
الوقت الذي يتوَجَّب عليه أن يكون مثل الشبح أو الظل لا يشعر بوجوده
أحد؛ ولذلك يقول في نهاية المُقتبس عن الحاكم الظل:
فإذا أكمَل مهمَّته وأتمَّ عملَه،
تقول الرعية: لقد حصل ذلك من تلقاء ذاته.
(س): هل يمكننا
اعتبار تاوية لاو-تسو دينًا؟
(ج): ربما بسبب مركزية مفهوم التاو
في فكر لاو-تسو نستطيع اعتبارها دينًا، ولكنه دينٌ بلا كهنوت وبلا طقوس
أو معابد وبلا أيديولوجيا، ولكن هذه التاوية الحكموية التي أرادها
لاو-تسو سارت بعد عدة قرونٍ من وفاة صاحبها في الطرق التي أرادها
البشر، فقامت بعدها ديانةٌ طقسيةٌ تاوية لها آلهتها وعقائدها
وتصوُّراتها عن الحياة الثانية والعالم الآخر، وجرى تقديس لاو-تسو على
طريقة البوذا، وجُعلَت له بطانةٌ سماوية تحُف به في مسكنه الأعلى،
وأُنشِئَت المعابد على نطاقٍ واسع، مما لا أريد التوسُّع به هنا لأن
موضوعنا يدور حول المبدأ اللاإلهي وغروب الآلهة في معتقدات الشرق
الأقصى.