المحور الرابع
الديانات التوحيدية
(س): هل كان ظهور فكرة التوحيد ضرورةً تاريخية؟ بمعنى هل
كان على تاريخ الدين أن يتوصَّل منطقيًّا إلى هذه الفكرة؟
(ج): لا يُوجد في تاريخ الدين ما
يُنبئ بأنه كان يسير في طريق التوصُّل إلى مفهوم التوحيد؛ فلقد
توصَّلَت تعدُّدية الآلهة، التي نطلق عليها صفة الوثنية، إلى صياغة
صورة عن كونٍ مستقرٍّ يديره مجمع الآلهة ويرأسه الإله الأكبر، وتُوزَّع
فيه الاختصاصات بشكلٍ دقيقٍ لا يسمح بظهور الاختلافات وتنازُع الأهواء،
وكان كل إلهٍ على رضًا وقناعةٍ بما قُسم، ولا يطمع إلى ما فوق ذلك، أما
الناس فكانوا سعداء بالحرية التي تُتيحها لهم تعدُّدية الآلهة، والكل
مؤمن على طريقته، ولا وجود لمصطلحاتٍ مثل الكفر والزندقة والهرطقة. لقد
كانت هناك صراعاتٌ بدئيةٌ بين الآلهة في بعض الأساطير، ونموذجها
الكلاسيكي أسطورة التكوين البابلية، وأسطورة التكوين الإغريقية، ولكن
هذه الصراعات هي التي قادت إلى استقرار الكون واستقرار هرمية السلطة
فيه بعد الدخول في الزمن التاريخي، وبتعبير آخر كانت جزءًا من
الفعاليات الأولى التي وُلِد منها النظام من رحم الشواش أو العَماء
الأعظم.
(س): وما رأيك بالحُجج التي
يطرحُها القرآن الكريم، والتي تفترض حدوث الفوضى في كونٍ متعدِّد
الآلهة؟
(ج): أكثر هذه الحجج تعبيرًا ما
ورد في سورة المؤمنين: مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ
وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ
بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وهذه كما ترى
حُجةٌ افتراضيةٌ لأن القرآن ينفي وجود آلهةٍ غير الله؛ وبالتالي فلا
مجال هنالك للتنازُع بينهم.
(س): لماذا لم يكن لمصطلح الهرطقة
وأشباهه وجود في العصر الوثني؟
(ج): لأن الهرطقة هي الخروج عن
الإيمان القويم، وفي الوثنية لم يكن هناك إيمانٌ قويمٌ وإيمانٌ غير
قويم. والخروج عن الإيمان القويم هو المجادلة في أحد بنود عقيدةٍ
ناجزة، ولا يُفترض بك مناقشتها؛ ولذلك فقد حُرم من الكنيسة في قرونها
الأولى أكثر من أسقف وحُكم عليه باللعنة الأبدية، ونال مَن هم في
حُكمِهم من الأشخاص العاديين جزاءً وصل حد الموت حرقًا. أما في الوثنية
التي لم تجعل من عقائدها أيديولوجيا ثابتة إلى أبد الدهور فلا يُوجد
كفر أو هرطقة، الكل مؤمن على طريقته، كما قلت، ولا يُحاسبه أحدٌ على
ذلك.
(س): أنت تقول الآن إنه لم يكن
يُوجد في تاريخ الدين ما يُنبئ بأنه سائر حتمًا في طريق التوحيد.
ولكنكَ في كتابك «الأسطورة والمعنى»، وفي الفصل الذي يحمل عنوان
«ديانات الشرق القديم … وثنية أم توحيد؟» تلمَّستَ مقدِّمات التوحيد في
العقائد البابلية والمصرية!
(ج): هنالك صلواتٌ في الأدبيات
البابلية والمصرية تُوحي للوهلة الأولى بإرهاصاتٍ توحيدية، ويُخيَّل
للمرة أنها خطواتٌ أولى نحو التوحيد، لكنها لم تكن في واقع الأمر غير
إبرازٍ لِدَور هذا الإله أو ذاك ضمن هذه العبادة أو تلك.
(س): ولكن الصلوات التي ذكرتَها
استعملَت مرارًا صفة «الواحد»؟
(ج): صحيح، ولكن المقصود بهذا
التعبير هو الواحد الجدير بالعبادة دون غيره، وليس الإله الوحيد
الموجود ولا أحد سواه. على كل حال، دعنا نفتح الكتاب معًا ونتصفَّح تلك
النصوص لكي أوضِّح لكَ ما أعنيه.
هذه ترتيلةٌ مصرية تبدأ بالمطلع الآتي: «واحد ولا ثاني له، واحد خالق
كل شيء، والموجودات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود.» ولكن مؤلف
الترتيلة يقول لنا بعد عدة أسطر: «خالق الكون وصانع ما كان وما هو كائن
والذي سيكون أبو الآلهة، رحيم بعباده، يسمع دعوة الداعي.» فالإله رع
المقصود بهذه الترتيلة هو واحدٌ كخالق ولا ثاني له، وبعد أن أظهر نفسه
للوجود (أي انتقل من حال الكمون التي كان عليها إلى حال الظهور وذلك
بخلقه للموجودات) خلق الآلهة، فلا وحدانية هنا ولا توحيد، بل إلهٌ أكبر
خلَق نفسه بنفسه، ثم خلق الكون وبقية الآلهة، وفكرة الأسبقية في الظهور
ليست توحيدًا.
وفي هذه الترتيلة المرفوعة إلى الإلهة إيزيس نقرأ في المطلع: «هي ذات
الأسماء الكثيرة، الواحدة القائمة منذ البدء.» وبعد ذلك نقرأ: «وهي
القدُّوسة الواحدة، أعظم الآلهة والإلهات، ملكة الآلهة جميعًا
ومحبوبتهم الأثيرة.» وكما نرى فإن صفة الواحدة هنا لا تعني الوحدانية
في الأُلوهة، ولكنها تعني الواحدة الجديرة بأحق العبادة.
ثم لنتأمل هذه الترتيلة المرفوعة إلى الإله آمون، والتي أوحَت
خاتمتها لكثيرٍ من الباحثين بوجود جذور التوحيد في ديانة مصر القديمة؛
حيث نقرأ:
واحد هو آمون وخافٍ على الآلهة.
إنه محجوبٌ عنهم ولا يعرفون لونه.
إنه بعيدٌ عن السماء ولا يُرى في العالم الأسفل.
لا يعرف أحدٌ من الآلهة شكلَه الحقيقي،
وصورة اسمه لا ترسمها الكتابة وما له من شهود.
من تلفَّظ باسمه سهوًا أو عمدًا مات لتوِّه،
ولا يعرف إله كيف يتوجَّه إليه باسمه.
جمع الآلهة ثلاث؛ آمون ورع وبتاح،
ولا ثاني لهم.
هو الخفي باسمِه آمون،
وهو الظاهر باسمه رع،
وهو المتجسِّد باسمه بتاح.
ولكي نفهم مدلولات هذه الترتيلة ينبغي لنا أن نُلقيَ
نظرةً سريعةً على تاريخ الإله آمون والظروف التي أحاطت بارتقائه إلى
سُدَّة الإله الأعلى؛ فقد كان آمون إلهًا لمدينة طيبة عندما كانت
مدينةً مغمورة، ثم أخذَت بالتوسُّع مع صعود الأسرة الحادية عشرة حتى
تحوَّلَت إلى عاصمة في عهد الأسرة السابعة عشرة التي طردَت الهكسوس من
مصر، ثم إلى عاصمةٍ للإمبراطورية التي أسَّسَتها الأسرة الثامنة عشرة؛
ولذلك كان على آمون أن يرتقي من إلهٍ لمدينة طيبة إلى كبيرٍ للآلهة،
ويشغل المنصب الذي كان يحتلُّه الإله رع منذ أقدم الأزمنة. ولتحقيق هذه
النقلة توجَّب على كهنته أن يطابقوا بينه وبين رع من جهة، والإله
الكبير بتاح من جهةٍ ثانية. وصار إلهًا واحدًا في القوة، وفي الوقت
نفسه يحمل ثلاثة أسماء؛ وبالتالي فإن هذه الترتيلة ليست توحيدية وإنما
تسويغية تهدفُ إلى إحلال آمون في منصب رع دون إزاحة رع عن منصبه. وكما
ترى فإن مرونة الفكر الأسطوري تجعل أعقد الأمور ممكنة.
على كل، أنا لم أجزم بوجود مقدِّماتٍ توحيدية في ذلك الفصل، وإنما
عرضتُ بعض آراء الباحثين من ذوي الفكر التوحيدي، وأبقيتُ المسألة
مفتوحةً عندما كتبتُ عنوان الفصل بصيغة الاستفهام.
(س): إذا قلنا بأن التوحيد لم يكن
ضرورةً تاريخية، فمن أين جاء إذن؟
(ج): توصَّلَت إليه عقول أفرادٍ
متميِّزين خارج أي ضرورة.
(س): عقل زرادشت مثلًا؟
(ج): زرادشت كان الأسبق تاريخيًّا،
وقد عاش على الأرجح في القرن السادس قبل الميلاد.
(س): وماذا عن الفرعون أخناتون
الذي يُعزى إليه قصبُ السبق في التوحيد؟
(ج): عاش الفرعون أخناتون في أواسط
القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقام بثورةٍ دينيةٍ ركَّزَت على عبادة
إلهٍ لم يكن عضوًا في البانثيون المصري واسمه آتون، وهذه الثورة
الدينية منعت عبادة الآلهة الأخرى التي أُغلقَت معابدها وجرى تسريح
كهنتها، ولكن الانتقام الشامل الذي طال كل آثار هذا الفرعون بعد
تنازُله عن العرش وإخفاق حركته الدينية، لم يترك لنا إلا القليل من
المعلومات عن هذه الحركة؛ ولذلك لا أستطيع الجزم عما إذا ما كانت
الآتونية عقيدةً توحيديةً حقًّا أم وحدانية عبادة.
(س): ما الفرق بين التوحيد وبين
وحدانية العبادة؟
(ج): التوحيد عقيدةٌ تؤمن بوجود
إلهٍ واحدٍ فقط، وهذا الإله هو الذي أظهر الكون من العدم، وهو الذي
يحفظُه ويُدير شئونه إلى نهاية الدهر. أما وحدانية العبادة فعقيدةٌ
مرتكزةٌ على عبادة إلهٍ واحدٍ فقط دون إنكار وجود آلهةٍ أخرى.
(س): وماذا عن موسى واليهودية؟ ألم
يأتِ موسى زمنيًّا قبل زرادشت؟ ولماذا تُنكِر على اليهودية صفة
التوحيد؟
(ج): موسى شخصيةٌ غير تاريخية،
بمعنى أنه لم يتوافر لدينا أي دليل على أنه وُجِد في زمنٍ ما، كما أننا
لا نستطيع أن نجزم بأنه لم يُوجد. كل ما يمكننا القول بشأنه هو أنه
شخصيةٌ ملحمية، والشخصيات الملحمية ربما كانت ذات أصلٍ تاريخي، ولكن
هذا الأصل يبقى غائبًا وراء غلالاتٍ ميثولوجيةٍ كثيفة. أما عن العقيدة
التي أتى بها موسى فقد بقيَت في حيز وحدانية العبادة حتى اختتام
الأسفار التوراتية؛ لأن إله موسى كان إلهًا لشعبٍ بعينه ولم يكن إلهًا
لجميع البشر، بل إنه يُظهر عداوةً للأمم جميعها عدا «الشعب الذي اختاره
لنفسه أمة كهنة» على حدِّ التعبير التوراتي.
(س): وما هي دلائل وحدانية العبادة
فيما جاء به موسى؟
(ج): سوف أبدأ بالخطاب الأول الذي
وجَّهه الإله التوراتي يهوه إلى موسى عندما تجلى له في نار شجرةٍ
شوكيةٍ تتقد بالنار في الصحراء دون أن تحترق: «فلما رأى الرب أنه مال
لينظر، ناداه من وسط شجرة العليق وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا.
فقال: لا تقترب إلى ها هنا، اخلع حذاءك من رجلَيكَ لأن الموضع الذي أنت
واقف عليه أرضٌ مقدَّسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق
وإله يعقوب. فغطَّى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظُر إلى الله» (الخروج:
٣). وكما نلاحظ بوضوحٍ فإن إله موسى في هذا الوحي الأول لنبيه لم
يدَّعِ الوحدانية، وإنما قال إنه إله الآباء الأقدمين.
والآن فلنقارن بين هذا الوحي الأول في التوراة، والوحي الأول الذي
نزل على موسى في القرآن الكريم: وَهَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ
أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى *
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى *
إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (طه: ٩–١٤).
فإذا جئنا بعد ذلك إلى الوصايا العشر التي نزلَت على موسى بعد هذه
المواجهة الأولى مع إلهه، نجد أن الوصية الأولى التي تُقرِّر شكل
ومضمون العقيدة تؤسس لوحدانية العبادة لا للتوحيد الصافي: «ثم تكلم
الله بهذه الكلمات جميعها قائلًا: أنا الرب إلهُكَ الذي أخرجك من أرض
مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهةٌ أخرى أمامي» (الخروج: ٢٠). أي إن
إله موسى يأمره هنا بألا يعبد إلى جانبه إلهًا آخر دون أن يُقرَّ لنفسه
بصفة الوحدانية. وبعد ذلك وفي الوصية الثانية يصف نفسه بالغيور: «لأني
أنا الرب إلهك إلهٌ غَيور.» فهو يغار من وجود آلهةٍ أخرى ولو أنه
أقَرَّ لنفسه بالوحدانية فلا مجال لغَيرتِه. والشواهد من النص التوراتي
على ما أقول لا تُحصى: «من مثلك يا رب بين الآلهة» (الخروج: ١٥). «إله
الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع: ٢٥). «أي إلهٍ عظيم مثل الله»
(المزمور: ٧٧). «إله الآلهة، الرب تكلَّم» (المزمور: ٥٠).
(س): ولكن هناك روابط متينة تجمع
اليهودية إلى الإسلام والمسيحية، فماذا ندعو هذه الزمرة من الأديان إذا
ما رفضنا صفة التوحيدية للديانة اليهودية؟ لقد وصفتَها عرَضًا في حديثٍ
سابقٍ بالإبراهيمية!
(ج): هذا صحيح؛ فالكتب المقدسة
لهذه الأديان مُتواشجة ومُتناصَّة، وهذا ما يدعونا إلى وضعها في زُمرةٍ
واحدة، أدعوها بالإبراهيمية سيرًا مع الرأي الشائع لا عن قناعة بهذا
الوصف.
(س): إذن أنت تضع الديانتَين
الإسلامية والمسيحية في زمرتَين؛ الأولى الأديان التوحيدية، والثانية
الأديان الإبراهيمية.
(ج): نعم، وهناك زمرةٌ ثالثةٌ
تشتمل على الأديان التوحيدية وعلى الديانة البوذية أدعوها بالأديان
الشمولية.
(س): وما الذي يجمع البوذية وهي
عقيدةٌ لا إلهيةٌ إلى أديان التوحيد؟
(ج): طبيعتها الشمولية. لقد قلتُ
في حديثٍ سابقٍ إن الدين يتبدى على المستوى الاجتماعي في صيغتَين هما
العبادة ودين الشعب، ولكن هنالك صيغةٌ أخرى ثالثة هي الدين الشمولي؛
فلقد بقي دين الشعب بمثابة رابطةٍ عامةٍ تجمع أهل الثقافة الواحدة إلى
أن شهد تاريخ الدين ظاهرةً جديدةً هي ظاهرة الأديان الشمولية، وذلك في
سياق القرن السادس قبل الميلاد. والدين الشمولي هو عقيدةٌ عابرةٌ
للجغرافيا والحدود السياسية والقوميات، تطمح إلى أن تجعل من نفسها
دينًا عالميًّا تؤمن به الشعوب كلُّها، معتمدةً في ذلك على التبشير
الذي لم يعرفه تاريخ الدين من قبلُ؛ فالمصريون القدماء لم يعملوا على
نشر ديانتهم خارج مصر حتى في العصر الإمبراطوري، ومثلهم في ذلك
السوريون والبابليون، وأهل الهند ما زالوا حتى الآن لا يمارسون نشاطًا
تبشيريًّا، بل وغير راغبين في تحوُّل أحد إلى عقيدتهم. كما تتميز
العقيدة الشمولية بأن لها بدايةً معروفةً في الزمن، بينما تضيع بدايات
الديانات الأخرى في ضباب التاريخ، وهي تحمل طابع تجربةٍ روحيةٍ لفردٍ
تاريخيٍّ هو مبدعها، والذي عمل على نشرها من خلال حركةٍ ثوريةٍ قلبَت
المفاهيم الدينية لعصرها، وهذا المؤسِّس الفذ يعتقد بأنه امتلك الحقيقة
النهائية ووجد الحل لكل مشكلات البشرية وأوجاعها.
عند هذا الحد من التشابه بين
العقائد الشمولية تستقل الأديان التوحيدية عن البوذية؛ فالبوذية تقبل
العيش في بيئةٍ متعددةِ الأديان، وهي إذ تُتابع عملها التبشيري بهدوء
وسلام فإنها لا تدخُل في صراعٍ مفتوحٍ مع العقائد الأخرى. أما الأديان
التوحيدية التي تعتقد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة فإنها ترفُض التعايش
مع العقائد الأخرى؛ لأن من يمتلك الحقيقة يرفض المساومة عليها. وهي
تعلن منذ البداية بطلان تلك العقائد وبطلان وزيف آلهتها، وتناصب العداء
كل إيمانٍ آخر؛ وبالتالي فإنها تدخُل في صراعٍ مفتوحٍ مع الجميع تكون
في بدايته هي الجانب الأضعف؛ فالمسيحيون كانوا أول طائفةٍ دينيةٍ وقع
عليها الاضطهاد الرسمي المنظَّم من قِبَل السلطة الرومانية وعامة الناس
على حدٍّ سواء، وما كان ذلك إلا لأن المسيحيين هم الذين استعدَوا عليهم
الجانب الآخر، وذلك برفضهم المطلَق له والانتقاص من قيمة عقائده
وآلهته. كما كان المسلمون في مكة أول طائفةٍ دينيةٍ وقع عليها الاضطهاد
في جزيرة العرب؛ لأنهم هم من بدأ برفض الآخر وسَخِر من عقائده
وآلهته.
(س): نحن نتحدث عن التوحيد وكأنه
مصطلحٌ واضحٌ ومُعرَّف تمام التعريف، ولكننا حتى الآن لم نصف عقيدة
التوحيد إلا بأنها الإيمان بإلهٍ واحدٍ خالق للسماء وما فيها، والأرض
وما عليها، ولا يشاركه أحد في الألوهية. أعتقد بأننا بحاجة إلى مزيد من
الإحاطة بهذا المفهوم.
(ج): هذا صحيح؛ ولذلك يجب علينا أن
نبدأ بالإحاطة بمفهوم الله في الأديان التوحيدية؛ لأن صفة الوحدانية
تنطوي على صفاتٍ رئيسيةٍ أخرى متصلة بها؛ فالله هو الخير المحض، وما
ينطوي عليه هذا الخير من رحمة ومحبة وحفظ لمخلوقاته، وعلى ما ورد في
القرآن الكريم: فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (يوسف: ٦٤). وهو كُلي القدرة وقدرته
متخلِّلة في الكون لا يُعجزها شيء: تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(الملك: ١). وهو كُلي المعرفة وعلمُه يشتمل على كل ما في الوجود من
أحداثٍ ماضيةٍ وأحداثٍ جاريةٍ وأحداثٍ آتية، وكل ما في سرائر الناس
وضمائرهم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا
فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (المجادلة: ٧). إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاءِ (آل عمران: ٥). وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ (الملك: ١٣). وهو كُلي الحضور: وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللهِ (البقرة: ١١٥). وهو أزليٌّ أبدي. الأول بلا
ابتداء والآخر بلا انتهاء: هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ (الحديد: ٣).
هذه الصفات الذاتية لله
تُتوِّجها صفة الفعالية في الطبيعة وفي التاريخ؛ فكل ما يحدُث في
العالم الطبيعي إنما يحدث نتيجةً لفعالية الله في خلقه: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ (الأنعام: ٩٩).
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا
سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ (الأعراف: ٥٧). أما عن فعالية الله
في التاريخ والمجتمع الإنساني فتتجلَّى في عنايته بالإنسان ورغبته في
خلاصه، وذلك عن طريق إرساله رسلًا إلى البشر ليكشف لهم عن وجوده
ويُبيِّن لهم سُبل الخلاص والحياة القويمة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا (العنكبوت: ١٤). ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ
أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ (المؤمنون: ٤٤). وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ
(فاطر: ٢٤). وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ (الزخرف: ٦). أي إن الله ليس وجودًا سكونيًّا بل
وجودٌ دائم الفعالية.
(س): وماذا عن الآلهة الوثنية، ألم
يكن لها فعالية في التاريخ؟
(ج): كانت فعالية الآلهة الوثنية
في التاريخ عرَضية، لأن التاريخ في العقائد الوثنية تاريخٌ سكوني،
بمعنى أنه يجري على المنوال نفسه، أما في العقائد التوحيدية فإن فعالية
الله هي جزءٌ من وجوده، والتاريخ ذو سمةٍ ديناميةٍ حركية، بمعنى أن له
بدايةً في أزمنة الخلق ونهايةً في اليوم الأخير، أو اليوم الآخر كما
يُدعَى في القرآن؛ ولذلك فإننا لا نكاد نرى آيةً في القرآن تذكُر
الإيمان بالله إلا مقترنًا باليوم الآخر.
(س): هذا التاريخ الدينامي كما
تصفه، هل هو سمةٌ مشتركةٌ لدى كل عقائد التوحيد؟ وما هي خصائصه؟
(ج): إنه السمة الأولى المشتركة
بين عقائد التوحيد، ولكي نتعرف على خصائصه من الأفضل لنا أن نفعل ذلك
في سياقٍ مقارن؛ ذلك أن تاريخ الأديان يُطلِعنا على ثلاثة أنماطٍ
للتاريخ المقدَّس وهي: (١) التاريخ المفتوح الذي وصفتُه بالسكوني. (٢)
التاريخ الدوري الذي يتحرك بشكلٍ دائري، وفي نهاية كل دورة يفنى الكون
ليعود إلى التشكُّل من جديد. (٣) التاريخ الدينامي.
تقدِّم لنا ديانة بلاد الرافدَين النموذج الأمثل على مفهوم التاريخ
المفتوح؛ حيث نستطيع تمييز أربعِ مراحلَ للتاريخ المقدَّس وهي: (١)
السرمدية الكامنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها. (٢) الزمن
الكوزموغوني؛ أي زمن الخلق والتكوين. (٣) زمن الأصول والتنظيم عندما
قام الآلهة بالفعاليات المبدعة عند جذور التاريخ. (٤) زمن البشر
المفتوح على اللانهائية؛ فزمن الأصول والتنظيم ينتهي بخلق الإنسان لكي
يحمل عبء العمل عن الآلهة، ويؤمِّن لها طعامًا بعد أن كانت تكدُّ وتشقى
في سبيل ذلك، على ما أوردتُه في حديثٍ سابق؛ فالإنسان خُلِقَ لكي يخدم
الآلهة، والعلاقة بين الطرفَين تبقى علاقة السيد والعبد، والآلهة خالدة
والإنسان فانٍ، وليس لديه أي أملٍ في التفكير بالخلاص من شرطه الأرضي
ومشاركة الآلهة في نعمة الخلود؛ ولذا فإن أفضل ما يصبو إليه في حياته
الأرضية هو تحقيق اللذائذ الحياتية الصغيرة خلال عمرٍ ينتهي به إلى
العالم الأسفل الذي تهبط إليه أرواح البشر بعد الموت؛ حيث تعيش في
وجودٍ شبحيٍّ لا نكهة له ولا طعم، لا فرق في ذلك بين أميرٍ وفقير، وبين
من قَدَّم حسنة ومن قَدَّم سيئة. في ظِل مِثل هذه الصيغة للعلاقة بين
الآلهة والبشر تبقى الرابطة الوحيدة بينهم هي رابطة الطقوس والشعائر
التي يقوم الإنسان من خلالها باستمالةِ آلهتِه وحثِّها على اتخاذ
مواقفَ إيجابيةٍ منه؛ لأنها تصنع الخير مثلما تصنع الشر، وليس بمقدور
الإنسان أن يتنبَّأ بردود أفعالها.
(س): هل هذا يعني أن الأخلاق لم
تكن ذات شأنٍ في ديانة وادي الرافدَين؟
(ج): ليس تمامًا، ولكن الآلهة
الرافدينية لم تستنَّ شرائعَ أخلاقيةً لعبادها يتوجَّب عليهم اتباعها،
وتُرك المجتمع يُسيِّر شئونه الاجتماعية بنفسه ويتعامل أفراده وَفْق
أخلاقياتٍ متعارفٍ عليها ومؤسَّسة منذ القدم، وكان الحكماء يُعيدون صقل
هذه الأخلاقيات ويذكِّرون الناس بها. وهذا ما نراه في نصوص الحكمة التي
تَحفِل بها أدبيات وادي الرافدين، وأهم ما يميِّز هذه النصوص أنها لم
تكن تجري على لسان كُهَّانٍ مرسومين ينطقون بها وحيًا من السماء، بل
على لسان حكماء خَبروا الحياة، وأفادوا من عِبَرها وعرفوا مسالك الحق
والباطل.
(س): أي إن الأخلاق كانت من طبيعةٍ
دنيويةٍ وليس من طبيعةٍ سماوية!
(ج): هذا صحيح، ولكن الآلهة قد
تُثيب على العمل الصالح الذي يبذله الإنسان، ولكن في هذه الدنيا وليس
في عالمٍ آخر قادم؛ ففكرة العالم الآخر هنا غير موجودة، ولا وجود إلا
لهذا العالم، وما من خطةٍ إلهيةٍ لإصلاحه أو تطهيره أو تحويله إلى
عالمٍ أسمى وأرقى؛ ولذلك فإن فكرة نهاية العالم وما يصحبها من قيامةٍ
عامةٍ للموتى، ومن حساب وثواب وعقاب غيرُ موجودة، وتاريخ الإنسان
والعالم مفتوح ودونما نهايةٍ منظورة؛ ولهذا وصفتُه بالسكوني.
(س): وهل تنطبق هذه الرؤية للتاريخ
على بقية أديان الشرق القديم، أم أنها خاصة بالدين الرافديني؟
(ج): هذه هي الرؤية المشرقية
للتاريخ والرؤية الإغريقية الرسمية أيضًا.
(س): ولكننا نجد في الميثولوجيا
المصرية مشاهدَ لحساب الموتى أمام ميزان الأعمال، وإشاراتٍ نصيةً إلى
جنَّات الإله أوزوريس التي يتوجَّه إليها الصالحون بعد الحساب.
(ج): في حديثنا عن قيامة الموتى
علينا أن نميِّز بين قيامتَين؛ الأولى قيامة فردية يختبرها كل فرد بعد
الموت، والثانية قيامة عامة لكل الموتى منذ آدم وحتى اليوم الأخير.
والميثولوجيا المصرية تتحدث عن القيامة الفردية، ولا يُوجد في الديانة
المصرية فكرة عن القيامة العامة ونهاية العالم. وكذلك الحال في عبادة
الأسرار الإغريقية التي تؤمن بتحرُّر الروح الفردية وانعتاقها إلى
عالمٍ أفضل مع غيابٍ تامٍّ لفكرة نهاية التاريخ.
(س): ولكن التاريخ في النمط الدوري
لا ينتهي أيضًا، فلماذا نميِّزه عن التاريخ المفتوح ونتحدَّث عن نمطَين
مختلفَين؟
(ج): هما نمطان مختلفان كل
الاختلاف لأن التاريخ المفتوح لا يُكرِّر نفسه، أما التاريخ الدوري
فيُكرِّر نفسه في دوراتٍ متتابعة، ونجد نموذجه الأوضح في الديانة
الهندوسية.
(س): هل يقع التاريخ الدينامي إذن
في نقطة الوسط بين التاريخ المفتوح والتاريخ الدوري؟
(ج): التاريخ الدينامي نسيجُ وحده
ولا يُشبه في شيءٍ النمطَين الأخيرَين؛ فهو كما أسلفتُ يتحرك بين الخلق
الأول واليوم الأخير الذي ينتهي عنده الزمن الدنيوي، ويدخل الوجود
بأكمله في زمنٍ آخرَ هو الأبدية.
(س): وما الذي يدفع حركة التاريخ
الدينامي في هذا الاتجاه الحتمي؟
(ج): عندما توصَّل الفكر الإنساني
إلى مفهوم التوحيد الذي عزا إلى الله كل الكمالات التي تنتهي جميعًا
إلى كمال الخير المطلق، كان في الوقت نفسه يتأمل في هذا العالم الناقص
حيث يتخلَّل الشر نظام الطبيعة ونظام المجتمع وضمائر النفوس الواعية،
ويُحاوِل التوفيق بين كمال الله وخيره وما يراه من شر في بِنية خلقه؛
فعلى المستوى الطبيعاني هنالك شرورٌ متأصلةٌ في صلب عمليات الطبيعة
والبيولوجيا؛ مثل الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات والحرائق،
ومثل الألم والمرض والشيخوخة والموت. وعلى المستوى الاجتماعي هناك
شرورٌ ناجمةٌ عن الإرادة الإنسانية؛ مثل السرقة والعنف والاغتصاب
والتسلُّط والظلم. هذه المقابلة بين كمال الله ونقص العالم، جعلَت
الفكر التوحيدي يتحوَّل بشكلٍ أوتوماتيكيٍّ إلى مفهوم الشيطان الكوني.
وهذا الشيطان ليس كائنًا شِرِّيرًا مثل بعض الآلهة الوثنية التي اتصفَت
بالشر ومارسَت أفعالًا شِرِّيرة، ولكنه مبدأُ الشر ومنبعُه على كل
صعيد. وعلى الرغم من أنه ليس إلهًا إلا أنه يتصرَّف مثل إلهٍ وينشَط في
استقلالٍ عن الله، وينتمي من حيث الأصل إلى المجال القُدسي لا إلى
المجال الدنيوي.
(س): هل نستطيع القول إذن إن
الشيطان ضرورةٌ توحيدية؟
(ج): بكل تأكيد؛ لأن مفهوم التوحيد
لن يستقيم بدون الشيطان الذي يحمل مسئولية وجود النقص والشر في خلق
الله؛ ولذلك فإن ميثولوجيا التكوين في كل عقيدةٍ توحيديةٍ تُعطي
حيِّزًا لأسطورة ظهور الشيطان، وهذه الأساطير على اختلافها في التفاصيل
إلا أنها تتفق على أنه من أصلٍ سماويٍّ خلقَه الله مع ما خلق من
الكائنات القدسية قبل اكتمال عملية التكوين وظهور الكون المنظَّم
والإنسان.
(س): وكيف ساعد مفهوم الشيطان
الكوني على تكوين نمط التاريخ الدينامي؟
(ج): إن الكامل لا يصدُر عنه إلا
كلُّ شيءٍ كامل؛ ولذلك فلقد جاء الكون الذي خلقه الله في أكمل صيغةٍ
ممكنةٍ وكذلك الإنسان: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ. لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (التين: ٤-٥). فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
(المؤمنون: ١٤). وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل التاريخ، مرحلة
الخَلق الحسَن والطيب، ولكن هذا الخَلق الذي وُلِد كاملًا داخلَه النقص
والشر بسبب فعاليات الشيطان، ودخل العالم في مرحلة تمازُج الخير والشر،
ولكن الله بمعونة الإنسان وقُوى الخير السماوية سوف يعمل على الفصل بين
الخير والشر في المرحلة الثالثة التي تنتهي بدحر الشيطان وتنقية العالم
من آثاره، ونأتي إلى المرحلة الرابعة حيث يتم تدمير العالم القديم وخلق
عالمٍ جديدٍ يدخل في الأبدية.
(س): أفهَم من ذلك أن التكوين وأصل
الشيطان هما أسطورتان في ميثولوجيا واحدة؟
(ج): نعم؛ فالأسطورتان متواشجتان
ومتداخلتان، والشيطان يظهر إما مع خلق العالم الروحاني عالم الملائكة
قبل خلق العالم المادي، أو بعده مباشرة. وفي الديانات الإبراهيمية
تتداخل أسطورةُ الشيطان مع أسطورة خلقِ الإنسان وجنة عدن.
(س): هل وضَعَت الزرادشتية الصيغة
الأصلية لهذا اللاهوت المُتراكِب؟
(ج): لقد وضعَت الزرادشتية الأفكار
العامة لهذا اللاهوت، ولدينا في الحقيقة ثلاثُ صيغٍ له هي الصيغة
الزرادشتية والصيغة المانوية والصيغة الإبراهيمية.
(س): ما مدى التشابُه بين هذه
الصيغ؟
(ج): هنالك تشابه بين الصيغة
الزرادشتية والصيغة الإبراهيمية، أما الصيغة المانوية فتبدو نسيجَ
وحدها؛ ولذلك فسوف نستبعدها فيما يأتي من حوارنا.
(س): دعنا نبدأ بالزرادشتية. الرأي
الشائع عن الزرداشتية هو أنها عقيدةٌ ثَنويةٌ لا توحيدية؛ بمعنى أنها
تقول بوجود إلهَين هما إله النور والخير وإله الظلام والشر.
(ج): مرَّت الزرادشتية بمراحلَ
تطوريةٍ خلال ألف سنة من وجودها، وهذا الانطباع الذي تشكَّل عنها بأنها
عقيدةٌ ثَنوية جاء في المرحلة الأخيرة التي نطلق عليها اسم المجوسية.
أما الزرادشتية الأصلية التي بَشَّرَ بها زرادشت فهي عقيدةٌ توحيديةٌ
صافية؛ ففي البدء لم يكن سوى الله الذي يدعوه زرادشت أهورا مزدا، وجودٌ
كاملٌ وتام، وألوهيةٌ مكتفيةٌ بنفسها غنيةٌ عما عداها. ثم إن هذه
الألوهة اختارت الخروج من كمونها وإظهار غيرها إلى الوجود، ففاض عنها
روحان توءمان هما سبيتنا ماينيو وأنجرا ماينيو، ولكي يكون لهذَين
الكيانَين وجودٌ مستقل عن خالقهما فقد أعطاهما الله خصيصة الحرية،
فاستخدم الاثنان هذه الحرية عندما اختار سبينتا ماينيو الخير ودُعي
بالروح القدس، واختار أنجرا ماينيو الشر ودُعي بالروح الخبيث، وهكذا تم
زرع المبدأ الأخلاقي في صميم الوجود؛ فكل ما في هذا الوجود الجديد حر
وأخلاقي في آنٍ معًا. وعلى الرغم من أن الله كان قادرًا على سحق أنجرا
ماينيو والقضاء على الشر في مهده، إلا أنه قرَّر عدم التناقُض مع نفسه
بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقرَّه وأقام عليه خليقته، ووضع خطَّة
لمقاومة الشر استنادًا إلى المبدأ ذاته الذي أنتجه وهو الحرية.
وهكذا فقد تابَع أهورا مزدا خلق العالم الروحاني، وأظهر إلى الوجود
ستة كائناتٍ نورانية من نوره السَّني، مثل من يشعل شمعةً من جَذْوة
نار، فشكَّل هؤلاء بطانته الخاصة التي تُحيط به على الدوام وتعكس مجده،
وقد دُعي هؤلاء بالأميشا سبينتا أي المقدَّسون الخالدون. وقد شارك
هؤلاء الخالق فيما تلا من عمليات الخلق والتكوين وصاروا حافظين لخلق
الله ووسطاء بينه وبين العالم. وفيما بعدُ سوف ينزل واحدٌ منهم ويُبلِغ
زرادشت رسالة أهورا مزدا إلى البشرية ويأمره بالتبشير بدين الحق. ثم
إنَّ هؤلاء الأميشا سبينتا أظهروا للوجود حشدًا من الملائكة الطيبين
الذين دُعوا بالأهورا، وراح الجميع يتهيأ لمقاومة قوى الشر. وبالمقابل
فإن الشيطان أنجرا ماينيو استنهَض حشدًا من القوى الروحانية المدعوَّة
بالديفا وعمل على تضليلهم، فانحازوا إليه وساروا في رِكابه. وعلى الرغم
من أن الصراع بين قوى النور وقوى الظلام سوف يستَعر عقب خلق الكون
المادي، إلا أن أهورا مزدا لن يكون طرفًا مباشرًا في هذا الصراع على ما
آلت إليه الأمور في العقيدة المجوسية المتأخرة.
ثم إن أهورا مزدا خلق العالم على ست مراحل تقابل الأيام الستة التي
خلق الله فيها العالم في العقائد الإبراهيمية؛ فقد خلق السماوات أولًا،
ثم الماء، ثم الأرض، ثم النبات، ثم الحيوان، وأخيرًا خلق الإنسان
الأول. وقد قسم الأرض إلى سبعة أقاليم كلها أراضٍ سهليةٌ لا التواء
فيها ولا مرتفعات، وصنع بحرًا في جهتها الجنوبية، ومن البحر فجَّر
نبعَين عذبَين شكَّلا نهرَين كبيرَين راحا يجريان على الجهة الشرقية
والجهة الغربية من الإقليم المسكون في الأرض، وزرع في البحر شجرتَين
الأولى تُدعى بشجرة كل البذور تحتوي على بذور النباتات المعروفة كلها،
والثانية تُدعى بشجرة الشفاء والحياة الأبدية، وبذلك تنتهي مرحلة
الخَلق الحسَن والكامل، وقد بقي العالم على كماله مدةً كان الشيطان
خلالها نائمًا.
(س): في قصة التكوين التوراتية
هناك شجرةٌ في الجنة تُسمَّى شجرة الحياة. أليس كذلك؟
(ج): تتفق قصة الخلق
المسيحية-اليهودية في سِفر التكوين مع قصة الخلق الزرادشتية في ترتيب
ظهور معالم الكون، وفي عنصرَين آخرَين هما عنصر النهرَين وعنصر
الشجرتَين ولكن مع بعض التعديل؛ ففي سِفر التكوين وبعد أن انتهى الله
من آخر فعاليات الخلق وهو خلق الإنسان الأول آدم، زرع جنةً في مكان
يدعوه النص شرقي عدن (عدن شرقًا)، وكان نهرٌ يخرج من عدن ليسقي الجنة
ثم ينقسم ليصير أربعة فروع، وفي وسط الجنة زرع شجرتَين؛ الأولى تُدعى
شجرة الحياة، والثانية تُدعى شجرة معرفة الخير والشر.
(س): كيف انتقلَت هذه التأثيرات
الزرادشتية إلى كتاب التوراة أو العهد القديم كما يُدعى في
المسيحية؟
(ج): بعد أن دمَّر الملك البابلي
نبوخذ نصر مدينة أورشليم وسبى نخبةً من سكان مملكة يهوذا، أسكنهم في
مدينة بابل وما حولها، ولكن بابل سقطَت بعد خمسين سنة بيد الفرس عام
٥٣٩ق.م. واحتكَّت الثقافة البابلية مع الثقافة الفارسية الزرادشتية.
وكان لدى مثقَّفي يهوذا من كتَبة وكهَنة فرصةٌ للاحتكاك بالثقافة
الفارسية والاطلاع على الزرادشتية، وكانوا في ذلك الوقت قد شرعوا في
تدوين الأسفار التوراتية المبكِّرة.
(س): هل من المناسب أن نستخدم لفظ
الجلالة «الله» في الإشارة إلى الإله التوراتي كما فعلتَ منذ قليل، على
الرغم من افتقار العقيدة التوراتية إلى التوحيد الصافي الذي يسوِّغ لنا
مثل هذا الاستخدام؟
(ج): من حيث المبدأ أنا لا أُفضِّل
ذلك، ولكن مشروعية هذا الاستخدام تأتي من أن القرآن الكريم يُخبرنا بأن
الله كان إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهم أنبياءُ ما قبل اليهودية،
وكان إلهَ موسى نبي اليهودية ومَن جاء بعده؛ مثل أليشع وإلياس
ويونس.
(س): حسنًا، عندما قام أهورا مزدا
بفعاليات الخلق كان الشيطان نائمًا، فمتى أفاق؟
(ج): عندما أفاق الشيطان ورأى ما
صنع الله، انقَضَّ عليه وأخذ بتخريبه؛ فقد قفز نحو الأعلى وشتَّت
تجمُّعات النجوم، وأَحَل الاضطراب في نظام السماء، ثم غطس في البحر
فأفسد ماءه بالمِلح، وجفَّف الينابيع، وأذبل المزروعات في السهول
الخضراء ونشر فيها الصحاري، وبَثَّ فيها الأفاعي والعقارب وكل الكائنات
المؤذية، ولوَّث النار بالدخان، وذبح الإنسان الأول، وزرع الموت
والعفونة والفساد في كل ما خلق الله. وهكذا دخل العالم في مرحلة تمازُج
الخير والشر، والصراع بين قوى النور وقوى الظلام؛ فقد تصدى الأميشا
سبينتا لإصلاح ما أفسده الشيطان، ومن جملة ما قاموا به أنهم أخذوا
بذُور الإنسان الأول فطهَّروها بضوء الشمس ثم زرعوها في التربة، فخرجَت
منها نبتةٌ انطوى برعمها على الزوجَين الأوَّلَين ماشيو وماشيا، فنفخ
الله فيهما الروح وقال لهما: «أنتما سلف البشرية فحافظا على الفكر
الحسن والقول الحسن ولا تخضعا للشيطان.» ثم جاء الملائكة فألبسوهما
ثيابًا من جلد لستر عُريهما وعلَّموهما كل ما يلزم لحياة الإنسان، ولكن
العالم لن يعود نقيًّا كما كان، والصراع بين قوى الخير وقوى الشر سوف
يستمر، ولن يُحسم إلا بمعونة الإنسان الذي يُساهِم في هذا الصراع من
خلال التزامه بالمنظومة الأخلاقية التي سنَّها له زرادشت.
تبدأ مرحلة الفصل بين الخير
والشر بميلاد زرادشت، وتنتهي بميلاد المخلِّص الذي ستحمل به عذراءُ
تنزل لتستحم في مياه بُحيرةٍ معينةٍ حفظ فيها الملائكة بذور زرادشت،
فتتسرَّب البذور إلى رحمها وتنجب مُخَلِّص العالم المدعو ساوشيانط الذي
سيقود المعركة الأخيرة الفاصلة ضد الشيطان ويقضي عليه. ومع القضاء على
الشيطان يتم تدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر، وتجديده بطريقةٍ
أقرب ما تكون إلى خلقٍ آخر، ثم تُفتح القبور وتلفظ الأرض ما أُتخمَت به
من عظام الموتى، وتهبط الأرواح من البرزخ الذي كانت تقيم به لتتحد
بأجسادها. وبعد ذلك يسلِّط الملائكة نارًا على الأرض تُذيب معادن
الجبال وتشكِّل نهرًا ناريًّا يطغى على المبعوثين الذين تجمَّعوا في
بقعةٍ معيَّنةٍ من الأرض، ويجرف في طريقه الأشرار ويمحو عن الأرض
أثَرهم، أما الأخيار فيعبُرونه كمن يخوض في نهر حليبٍ دافئ، ويعيشون
خالدين في العالم الجديد الذي تحوَّل إلى جنةٍ أرضية.
هذه هي القصة الكلاسيكية عن الله والشيطان والتاريخ الدينامي، والتي
ستعود عناصرها للظهور في الديانات الإبراهيمية.
(س): ومن المتوقَّع أن نجد معظم
هذه العناصر في الرواية التوراتية لأنها الرواية الأبكر. أليس
كذلك؟
(ج): أعتقد أني أشرتُ سابقًا إلى
أن العقيدة اليهودية قد مرَّت بطورَين؛ الأول هو العقيدة التقليدية كما
يرسمها كتاب التوراة بأسفاره القانونية، والثاني هو العقيدة التي
تطوَّرَت على هامش التوراة تحت تأثير أسفارٍ أخرى لم تُقَر في الكتاب
القانوني والمدعُوَّة بالأسفار المخفية أو غير القانونية. وقد تبنَّى
مؤلِّفو التلمود وهو المصدر الآخر للديانة اليهودية عناصرَ مهمةً من
هذه العقيدة التي رسمَت الصورة العامة للاهوت الشيطان في الديانات
الإبراهيمية.
(س): هل تعني بأن عقيدة الشيطان
مفقودة في التوراة؟
(ج): نعم؛ فالشيطان كمبدأٍ كونيٍّ
للشر لا وجود له في التوراة، هنالك شخصيةٌ ملائكيةٌ شريرة تُدعى
بالشيطان، والاسم العبري لها هو «شطن» ويعني المقاوم والمعاند، تعمل
تحت إمرة يهوه الذي يُوكِل إليها مهامَّ شريرةً معيَّنة على ما نراه
مثلًا في سِفر أيوب، حيث أوكل الرب للشيطان مهمة إنزال المصائب بعبده
الصالح أيوب ليمتحن مدى إيمانه وتقواه. وهو باختصارٍ شخصيةٌ باهتةٌ لا
يمكن تمييزه بين «جيش الملائكة الأشرار»، وهو تعبيرٌ يَرِد لوصف فئةٍ
معيَّنةٍ من بطانة يهوه (راجع المزمور: ٧٨).
(س): وما هو سببُ هذا الغياب
لشخصية الشيطان؟
(ج): لأن الشيطان كما أسلفنا من
قبل ضرورةٌ توحيدية، والعقيدة التوراتية لم تتوصَّل إلى مفهومِ التوحيد
الصافي؛ وبالتالي إلى مفهوم الخير المطلَق في شخصية الله؛ فهو صانع
الخير وصانع الشر في آنٍ واحد، على ما نقرأ في سفر إشَعيا: «أنا الرب
وليس آخر، مصوِّر النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا
صانع كل هذا» (إشعيا، ٤٥: ٧٦).
(س): وماذا عن ميثولوجيا التكوين؟
هل خلت من أسطورة ظهور الشيطان كما هو متوقَّع؟
(ج): بالطبع، ولكنها مع ذلك وضعَت
الصيغة الكلاسيكية لميثولوجيا التكوين في العقائد الإبراهيمية بعد أن
أدخلَت عليها الأسفار غير القانونية فكرة الشيطان؛ ففي البدء لم يكن
سوى الماء وروحُ الرب يرفُّ فوقه، ثم قرَّر الرب خلق العالم ونفَّذ ذلك
في ستة أيام؛ ففي اليوم الأول خلَق النور الذي شق الظُّلمة المتكاثفة
فوق مياه الغَمر البدئية، وسمَّى النور نهارًا وسمَّى الظُّلمة ليلًا،
وفي اليوم الثاني خلَق قُبة السماء، وفي اليوم الثالث أظهر اليابسة
وميَّزها عن البحار وبَثَّ فيها الحياة النباتية، وفي اليوم الرابع
خلَق الأجرام السماوية، وفي اليوم الخامس خلَق الكائنات الحية وطيور
الجو، وفي اليوم السادس خلَق حيوانات الأرض، ثم أخذ حفنةً من تُراب
الأرض وجَبلِها وصنع منها آدم الإنسان الأول، ونفخ في أنفه نسمة
الحياة. وفي اليوم السابع استراح من كل عمله الذي عمل. بعد ذلك غرس
الرب جنة في عدن شرقًا، ووضع فيها آدم ليعملها ويحفظها، وأوصاه قائلًا:
من جميع شجر الجنة تأكل، وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكُل
منها. بعد ذلك أحضر الرب إلى آدم كل الحيوانات البرِّية وطيور السماء
ليرى ماذا يدعوها، فراح آدم يُطلِق الأسماء على كل فصيلةٍ حيوانيةٍ
اسمها، وكل ما دعا به آدم ذات نفسٍ صار اسمها. وقال الرب ليس جيدًا أن
يكون آدم وحده، فأوقع عليه سباتًا فنام، وأخذ واحدةً من أضلاعه وملأ
مكانها لحمًا وبنى الضلع امرأةً وأحضرها إلى آدم لتكون رفيقةً له. ثم
إن الحية التي يصفها النص بأنها أحيَلُ من حيوانات البرِّية جميعها
تسلَّلَت إلى الجنة وأغوت المرأة حواء بالأكل من شجرة المعرفة فأكلَت،
ثم أعطت رجلَها فأكل أيضًا. وعندما عرف الرب بخطيئة آدم وحواء لعن
الحية، ولعن الأرض التي صنع منها الإنسان قائلًا لآدم: ملعونة الأرض
بسببك، بالتعب تأكُل منها كل أيام حياتك حتى تعود إلى الأرض التي
أُخذتَ منها؛ لأنك من تراب وإلى تراب تعود. وقال للمرأة: تكثيرًا أكثر
أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجُلِك يكون اشتياقك وهو يسود
عليك، ثم طرد الربُّ الإنسانَ من جنة عدن ليعمل في الأرض التي أُخذ
منها. هذه هي الخطوط العامة لأسطورة التكوين التوراتية.
(س): إن غياب الشيطان عن
الميثولوجيا يعني غياب فكرة صراع الخير والشر الذي يدفع عجلة التاريخ
الدينامي إلى نهايته في اليوم الأخير. وفي هذه الحالة كيف ينتهي
التاريخ في الأيديولوجيا التوراتية؟
(ج): مسيرة التاريخ في الرواية
التوراتية ليست مدفوعة بالصراع بين الخير والشر، وهاجس هذه المسيرة هو
العلاقة بين يهوه وشعبه الذي اختاره لنفسه من بين شعوب الأرض جميعها.
وسوف يكون هناك نهايةٌ للتاريخ، ولكن هذه النهاية لا تأتي معها بتنقية
العالم من آثار الشر، وإنما بحربٍ شاملةٍ يشنُّها يهوه على أمم الأرض
جميعها في يوم الرب أو اليوم الأخير كما يُدعى في النص، وبعد ذلك يجمع
إليه المنفيِّين والمَسبيِّين من يهوذا وإسرائيل، ويقيم مملكة الرب على
الأرض، وهي مملكةٌ يحكمها يهوه بشكلٍ مباشر. أما من بقي حيًّا من الأمم
فيسيرون إلى هذه المملكة لكي يمتلكهم بنو إسرائيل عبيدًا يخدمونهم. ومن
الجدير بالذكر أن اليوم الأخير هذا لا يأتي معه بقيامةٍ عامةٍ للموتى
ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب. ولعل المقاطع الآتية من النص التوراتي
تكفي لإيضاح ما قلتُ:
«اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا، ويا أيها الشعوب أصغوا، لتسمع الأرض
وملؤها، المسكونة وكل ما تُخرِجه؛ لأن للرب سخطًا على كل الأمم
وحُمُوًّا على جيشهم، قد حرَّمهم، دفعهم للذبح فقتلاهم تُطرح وجيفهم
تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم» (إشعيا، ٣٤: ١–٥). «ويكون في ذلك
اليوم أن الرب يعيد يده ثانيةً ليقتني بقيَّة شعبه التي بقيَت من آشور
ومن مصر ومن كوش … (إلخ)، ويجمع منفيي إسرائيل ويضُم مشتَّتي يهوذا من
أربعة أطراف الأرض … ويريحهم في أرضهم … فتقترن بهم الغرباء … ويمتلكهم
بيتُ إسرائيل في أرضِ الرب عبيدًا وإماءً ويسبون الذين سبَوهم
ويتسلَّطون على ظالميهم» (إشعيا، ١١: ١١-١٢ و١٤: ١-٢). «قومي استنيري
(يا أورشليم) لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك … تسير الأمم
والملوك في إشراقك … وبنو الذين قهروك يسيرون إليك خاضعين، وكل الذين
أهانوك يسجدون لدى باطن قدمَيك» (إشعيا، ٢٧: ١٣ و٦٠: ١–٣ و١٤). «ما
أجمل قدمَي المبشِّر على الجبال، المُخبِر بالخلاص، القاتل لصهيون! قد
ملك إلهك» (إشعيا، ٥٢: ٧). «الرب قد ملك فلتبتهج الأرض … قدَّامه تذهب
نارٌ وتحرق أعداءه حوله» (المزمور، ٩٧: ١-٢).
إن أفضل ما تُوصف به الأيديولوجيا التوراتية هو أنها تاريخٌ دينامي
منقوص من حيث أدواته ومن حيث غاياته؛ ذلك أن حركة التاريخ لا يدفعها
الصراع بين الخير والشر، وهي لا تسعى إلى غايةٍ نبيلةٍ تتحقَّق في آخر
الزمن.
(س): ولكن كتاب التوراة ليس المصدر
الوحيد للديانة اليهودية كما قلتَ منذ قليل؛ فهناك التلمود وهناك
الأسفار غير الرسمية، فهل ساعد هذا المصدران على إدخال لاهوت الشيطان
وما يتصل به من نهايةٍ نبيلةٍ للتاريخ كما دعوتَها؟
(ج): في أواسط القرن الثاني قبل
الميلاد تم تدوين سفر دانيال، وهو آخر الأسفار التي قُبلَت في النص
القانوني للتوراة. إلا أن اختتام الأسفار التوراتية على المستوى الرسمي
لم يكن حائلًا دون استمرار المفكرين بإنتاج فكرٍ دينيٍّ يتجاوز الموروث
التقليدي، وتفسيره بما يتلاءم ومستجدات العصر. وقد استخدم هؤلاء أسلوب
الأسفار النبوية والرؤيوية التوراتية، ووضَعوا خطابهم على لسان شخصياتٍ
توراتيةٍ بارزة من أجل إسباغ سطوة الماضي على أفكارهم. وقد استمرَّت
هذه الحركة حتى نهاية القرن الثاني الميلادي، وأنتجَت كمًّا ضخمًا من
الأدب الديني الذي كان له أثَرٌ على التلمود وأثَرٌ على الفكر المسيحي
اللاحق.
(س): هل يُمكنُنا القول بأن هذه
الحركة أحدثَت انقلابًا في العقيدة التوراتية؟
(ج): لنقُل إنها أحدثَت نقلةً
باتجاه مفهوم التوحيد وصفات الخير والعدالة عند الله دون أن تُحقِّق
أهدافها تمامًا.
(س): لا شك أنها بدأَت برسم صورة
للشيطان الكوني!
(ج): إن الانقلاب الذي أحدثَتْه
هذه الأسفار ينطلق من معالجتها لمشكلة وجود الشر في العالم؛ فالله ليس
مسئولًا عن الشر وإنما هو الشيطان. وقد قدَّم مؤلِّفو هذه الأسفار عدةَ
أساطير تعاونَت في النهاية على إنتاج الصيغة الكلاسيكية لِلاهوتِ
الشيطان في العقائد الإبراهيمية.
ففي سفر أخنوخ الأول يقول الكاتب الذي وضع خطابه على لسان أخنوخ
السلف السادس للبشرية بعد آدم، إنه عندما تكاثَر نسلُ آدمَ وحواءَ على
الأرض ووُلِد لهم بناتٌ جميلات، رأى فريق من الملائكة (وهم الساهرون
المكلَّفون بتفقُّد أحوال الأرض) جمال نساء الأرض فرغبوا بهن، وهبطوا
إلى الأرض بقيادة رئيسهم المدعو سيمياز على قمة جبل حرمون في سورية،
وكان عددهم مائتَين. ثم إن هؤلاء اتخذوا لأنفسهم زوجاتٍ من بني البشر
فولَدن لهم أبناءً عمالقةً ذوي قوةٍ خارقة، فأكلوا كل شيء، وعندما لم
يجدوا ما يأكلونه راحوا يلتهمون البشَر. فصَعِد صُراخ البشَر إلى
السماء وسمعه الرب، فأرسل إلى أخنوخ مع أحد الملائكة حُكمه على
الملائكة الساقطين الذين أنجبوا العمالقة، فهم سيشهدون ذبح أولادهم
العمالقة، وبعد ذلك سيُحبَسون في باطن الأرض إلى يوم القيامة حيث
سيُقادون إلى النار الأبدية، ومن دماء أولادهم المذبوحين تنشأ أرواحٌ
شِرِّيرةٌ تسكن الأرض، وهؤلاء سوف يكونون مصدرًا للعنف والأذى، ويدفعون
البشَر إلى الخطيئة وإلى المعصية حتى اليوم الأخير.
هذه هي الأسطورة التمهيدية لقصة ظهور الشيطان.
(س): ولكن الشيطان الكلاسيكي لم
يظهر بعدُ!
(ج): لدينا هنا عدة أفكارٍ تُمهِّد
لظهوره، وهي فكرة الأصل الملائكي لقوة الشر، وفكرة العصيان الملائكي،
وفكرة الأصل الشيطاني للخطيئة والمعصية. الأسطورة الثانية تسير خطوةً
أبعدَ في رسم شخصية الشيطان، ونجدها في السفر المَدعُو بكتاب
اليوبيليات الذي ينطلق كاتبه من حيث انتهى سفر أخنوخ الأول؛ فقد زاد شر
الشياطين التي نشأَت عن دم العمالقة وفسدَت الأرض، فقرَّر الرب إفناء
كل ذي حياةٍ على الأرض بطوفانٍ عظيم لم ينجُ منه سوى نوحٍ ومن حُمل معه
على ظهر السفينة. ولكن نسل نوح عاد إلى التكاثُر خلال حياته التي امتدت
إلى نحو ألف عام، وعاد الشياطين إلى شرورهم، فصلَّى نوح إلى الرب لكي
يُنجيَه وذريته من شر الشياطين، فأمر الرب فريقًا من الملائكة بمطاردة
الشياطين وتقييدهم في باطن الأرض. وشرع الملائكة بهذه المهمة، ولكن
رئيسهم المدعو مستيما جاء إلى الرب وطلب منه ألا يهلك الشياطين جميعًا،
بل يترك له قسمًا منهم يتابع العمل تحت إمرته، فوافَق الربُّ وأمر بأن
يبقى مع مستيما عُشر الشياطين، أما التسعة أعشار الباقية فيتم تقييدها
إلى يوم الحساب الأخير. كما أمر بعض الملائكة أن يُعلِّموا البشر طرق
الوقاية من شر الشياطين.
هذا هو التطوير الأول لقصة الشيطان.
(س): عندي سؤالان؛ الأول لماذا
أهلك الرب البشر بالطوفان بدلًا من أن يهلك الشياطين؟ والثاني هو لماذا
أعطى المهلة لرئيس الشياطين وأنظره إلى يوم الحساب الأخير؟
(ج): كلما نحت العقيدة نحو التوحيد
كان هناك حاجة لتفسير وجود الشر في العالم، على ما أسلفتَ، وتحول
التاريخ من صيغة التاريخ المفتوح إلى صيغة التاريخ الدينامي الذي
يحرِّكه صراع الخير والشر، وهنا يجب ألا يُقضى على الشيطان إلا في آخر
الزمن. وسنرى في الأسطورة الثالثة كيف أن الشيطان الذي شعر بتزايد
قُوَّته قد فكَّر في أن يغدو نِدًّا لخالقه؛ ففي السِّفر المعروف باسم
أخنوخ الثاني، أو (أسرار أخنوخ) تتحوَّل زمرة الملائكة الساقطين الذين
أنجبوا الشياطين إلى شخصيةٍ واحدة، هو رئيس طبقةٍ عُليا من الملائكة،
وبذلك تتشكَّل صورة إبليس المعروفة في العقيدتَين المسيحية والإسلامية،
كما تتصل لأول مرة قصةُ عصيانِ إبليس وسقوطِه بقصة عصيانِ الإنسان
وسقوطِه.
يُعيد هذا السِّفر رواية قصة التكوين التوراتية، ولكنه يُضيف إليها
عنصر خلق الملائكة في اليوم الثاني، وعنصر عصيانِ الملاك الرئيس ساتانا
إيل وتمرُّده على خالقه وتحوُّلِه إلى إبليس، ثم غوايته للزوجَين
الأولَين؛ فقد خلق الله الملائكة من جوهر النار، وجعلهم في عَشْر
طبقات، وجعل لكل طبقةٍ رئيسًا. ثم إن أحد هؤلاء الرؤساء تصوَّر في قلبه
خطةً مستحيلة، وهي أن يُصبح نِدًّا للعلي في القوة، فتمرَّد على خالقه،
ثم أغوى من تحته من الملائكة، وزيَّن لهم الوقوف إلى جانبه، ففقدوا
بريقهم الإلهي وصاروا أرواحًا شِريرة تهيم خارج دائرة الرحمة الإلهية.
وفي اليوم السادس خلَق الله آدم من تراب الأرض، ثم أسكنه في جنة زرعَها
على الأرض ليرعى عهده ووصاياه، وأراه طريق النور وطريق الظلام، وقال له
هذا حسن وهذا سيئ. بعد ذلك تسير القصة وفق عناصرها الكلاسيكية، ولكن
خطيئة حواء كانت بدافع الشيطان الذي تسلَّل إلى الفردوس وأغواها بالأكل
من الشجرة، فأبعدَهما الله عن الجنة ليسكُنا في الأرض، ولكنه لم يلعن
الأرض ولا أيًّا من مخلوقاتها، بل لعن الجهل وأعمال الإنسان الشريرة،
ثم بارك يوم السبت الذي فيه استراح من أعماله، وجعل اليوم الثامن أول
الأيام المخلوقة، وجعل بعده سبعة آلاف سنة بعدد الأيام السبعة الأولى،
وفي بداية الألف الثامن جعل موعدًا لانتهاء الزمن الأرضي.
وبهذا تكون عناصر القصة الكلاسيكية قد اكتملَت عدا عنصرَين.
(س): ولكن هذه الأسطورة قد احتوت
على عناصر التاريخ الدينامي جميعها. أليس كذلك؟
(ج): هذا صحيح؛ فمع سِفر أسرار
أخنوخ الذي تعود صيغته الأولى إلى أواخر القرن الأول قبل الميلاد كانت
اليهودية مؤهَّلَة لتبنِّي فكرة التاريخ الدينامي وقيامة الموتى في
اليوم الأخير، ولكن ذلك لم يحصُل قبل بدايات القرن الثاني الميلادي؛
فنحن نعلم من الأناجيل الأربعة ومن رسائلِ بولس ومصادرَ أخرى، أن
اليهود خلال القرن الأول الميلادي كانوا منقسمين إلى فرقتَين؛ فرقة
الصدوقيين المحافظة التي بقيَت على عدم إيمانها بقيامة الموتى، وفرقة
الفريسيين التي آمنَت بها. ويذكُر لنا سِفر أعمال الرسل في كتاب العهد
الجديد أن بولس الرسول عندما مثَل أمام المجمع اليهودي ليُحاكَم بتهمة
التجديف والكفر، لاحَظ بأن عددًا لا بأس به من أعضاء المجمع على
العقيدة الفريسية، فصرخ أمامهم قائلًا: أنا فريسيٌّ ابن فريسي، وإني
أُحاكَم هنا على إيماني بقيامة الموتى. وهنا حدثَت منازعة بين
الفريسيين والصدوقيين من أعضاء المجمع وانفضَّت الجلسة دون اتخاذ
قرار.
(س): ما هما العنصران المفقودان في
سِفر أخنوخ؟
(ج): الأول هو الأمر الإلهي
للملائكة بالسجود لآدم بعد خلقه، والثاني هو استشارة الله للملائكة
بشأن خلق الإنسان. وهذان العنصران تم استكمالهما بعد ذلك؛ فالأمر
الإلهي بالسجود لآدم موجود في السِّفر المعروف بكتاب حياة آدم، وهو
يعود إلى زمنٍ غير مؤكَّد بين أوائل القرن الأول قبل الميلاد وأواسط
القرن الأول الميلادي؛ فبعد طردهما من الفردوس راح آدم وحواء يبحثان عن
طعام يأكلانه يشبه طعام الجنة، فلم يجدا سوى ما تأكله البهائم، فقال
آدم لحواء: من الأفضل أن نبكي أمام خالقنا ونستغفره لعله يسامحنا. ثم
افترقا وراح كلٌّ منهما يصلِّي ويعلن توبته أمام ربه، فرآهما الشيطان
وجاء إلى حواءَ في صورته الملائكية القديمة، وقال لها: قد سمع الرب
دعاءكما وقَبِل توبتكما، وأرسلَني لكي أقودكِ إلى مكانٍ فيه طعام أهل
الجنة. ثم أخذ بيدها وقادها إلى آدم، فلما رآهما تعرف آدم على الشيطان
الذي حرمهما من الجنة، فاضطرب وصاح به: الويلُ لك أيها الشيطان، لماذا
تُلاحِقنا دومًا بالمكر والخديعة؟ وما الذي فعلناه لك؟ فقال له
الشيطان: أنت السببُ فيما حدَث لي يا آدم؛ فبعد أن خلقك الرب على
صورته، دعانا ميخائيل رئيس الملائكة وقال لنا: اسجدوا لآدم، لصورة الرب
يهوه. فقلتُ له: لن أسجد لمن هو أقل مرتبةً مني. ولما سمع الملائكة
التابعون لي قولي هذا رفضوا السجود أيضًا، فطردَنا الرب من مسكننا
الأعلى إلى الأرض.
(س): كنت أتساءل دومًا عما فضَّل
الله به الإنسان على الملائكة حتى أُمروا بالسجود له. وقد قدَّمَت هذه
الأسطورة جوابًا مقنعًا من حيث الظاهر.
(ج): نعم؛ فالإنسان خُلق على صورة
الله وفق الرواية التوراتية «فخلَق الله الإنسانَ على صورته، على صورة
الله خلَقه» (التكوين، ١: ٢٨). وأيضًا: «يوم خلَق الله الإنسان، على
شبه الله عَمِلَه، ذكرًا وأنثى خلقه» (التكوين، ٥: ١-٢).
الأسطورة الأخيرة التي سأُقدِّمها تحتوي على عنصر السجود لآدم وعلى
عنصر استشارة الله الملائكة بخصوص خلق الإنسان، وهي من كتاب الهاجاداه،
وهو عبارة عن مجموعة من القصص الديني التعليمي التي تشرح نصوص التوراة
بطريقةٍ أدبيةٍ شيقة، وقد صار هذا الكتاب جزءًا من التلمود. فبعد أن
انتهى الرب من خلق السماوات والأرضين استطلع رأي الملائكة فيما هو
مُقدِم عليه من خلق الإنسان، فجاءت مشورتهم في غير صالح الإنسان، وقال
بعضهم إنه سيكون ممتلئًا بالغش والخداع، ميَّالًا إلى النزاع والخصام.
فقال لهم: وما نفعُ وليمةٍ فيها كل الطيبات وما من ضيفٍ يتمتَّع بها؟
بعد ذلك مدَّ الرب يده واغترف من جهات الأرض الأربع، أربع قبضاتٍ من
التراب فعجنَها بالماء وسوَّاها إنسانًا، فجاء آدم صنعة يد الخالق على
عكس بقية مظاهر الخلق الأخرى التي ظهرَت بكلمةٍ من فمه، وذلك تكريمًا
له وإعلاءً لشأنه، ثم نفخ في أنف آدم من روحه الأزلية فصار نفسًا حية،
وأسكنه في الجنة التي غرسها في عدن شرقًا، ولكي يثبت للملائكة تفوُّق
آدم عليهم فقد عَرَض عليهم من كل ما خلق من الحيوانات زوجًا زوجًا
ليُنبئوه بأسمائها ولكنهم عجزوا، ثم عرضها على آدم بعد أن أوحى إليه
بأسمائها، فسمَّاها آدم لأنه كان نبيًّا وحكمته من حكمة الأنبياء. عقب
ذلك أمر الرب كل الملائكة أن يسجدوا لآدم ففعلوا وعلى رأسهم رئيسهم
ميخائيل، ولكن أحد رؤساء الملائكة المدعو ساتان الذي أضمر الغَيرة من
آدم والحسَد له رفض السجود قائلًا: لقد خلقتَنا من ألَقك وبهائك فكيف
نسجُد أمام من خلَقتَه من تراب الأرض؟ وهنا تدخَّل ميخائيل وقال
لساتان: إذا لم تبجِّل آدم فعليك أن تتحمل عواقب غضب الرب. فأجابه
ساتان: إذا غضِب الرب عليَّ فسأرفع عرشي فوق نجوم السماء وأغدو ندًّا
للعلي. فلما سمع الرب منه ذلك أمسك به ورماه خارج دائرة السماء فهوى
إلى الأرض، وتَبِعه حشد من جماعته الذين شجَّعهم تمرُّده على إظهار ما
كتموه في أنفسهم من حسدٍ لآدم ورفضٍ لسُموِّه عليهم. ومنذ تلك اللحظة
صارت عداوة بين الشيطان والإنسان.
وبذلك تكون القصة الكلاسيكية قد اكتملَت.
(س): إن رفض الملاك ساتان لأمر
السجود يدُل هنا على أن الملائكة خُلقوا أحرارًا كما هو حالهم في
الزرادشتية، أليس كذلك؟
(ج): نعم؛ فالحر وحده من يستطيع
القول نعم أو لا. ولو أن الله خلقهم بلا حرية لكانوا امتدادًا له لا
كائناتٍ مستقلة. وهنا نلاحظ، على سبيل المثال لا المقارنة، أن الرواية
القرآنية جاءت في اتفاقٍ مع الرواية التوراتية غير الرسمية لا مع
الرواية الرسمية؛ حيث نقرأ في سورة البقرة: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ (البقرة: ٣١).
(س): لماذا كان في معرفة آدم
لأسماء الحيوانات تفوُّقٌ على الملائكة، على الرغم من أن معرفته هذه
جاءت من الله لا من نفسه؟
(ج): لا جواب عندي على هذا السؤال،
لو كان آدم متفوقًا على الملائكة وحكمتُه من حكمة الأنبياء لعرف
الأسماء دون أن يُعلِّمه الله إيَّاها. ولو أن الله علَّم الملائكة
الأسماء ولم يُعلِّمها لآدم لأظهروا تفوقًا في الحكمة، إذا كان في ذلك
حكمة. على أننا نفهم من الرواية التوراتية للقصة في سِفر التكوين أن
الله لم يتدخل لصالح آدم، حيث يقول النص: «وجَبَل الرب الإله من الأرض
كل حيوانات الأرض وطيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها،
وكلُّ ما دعا به آدمُ ذاتَ نفسٍ فهو اسمها» (التكوين، ٢: ١٩). وهنا
نلاحظ على سبيل المقارنة أن الرواية القرآنية جاءت في اتفاقٍ مع
الرواية التوراتية غير الرسمية لا مع الرواية الرسمية؛ حيث نقرأ في
سورة البقرة: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ
كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
(س): حسنًا، أعتقد أنه قد توضحَت
لنا الآن ملامح أسطورةٍ أساسيةٍ تكوَّنَت من عدة تيمات أساطير تولَّدَت
بعضها من بعض، وهي: (١) التكوين وخروج الألوهة من كمونها في الأزلية.
(٢) ميلاد الشيطان وفساد العالم. (٣) سقوط الإنسان. (٤) صراع الخير
والشر الذي يدفع حركة التاريخ نحو نهايةٍ محتومة. (٥) اليوم الأخير
ودمار العالم القديم. (٦) القيامة العامة للموتى، والثواب والعقاب. (٧)
تجديد العالَم ودخوله في الأبدية. ما هي الصيغة المسيحية والإسلامية
لهذه الأسطورة الأساسية؟
(ج): الصيغة المسيحية مُتفرِّدة من حيث تفسيرها لهذه
التيمات الأسطورية؛ فقد تبنَّتها من حيث الشكل وخالفَتْها في المضمون.
ويأتي تفرُّد الصيغة المسيحية من رؤياها الخاصة لخطيئة الإنسان الأول،
ولكي أوضح هذه النقطة سوف أعود إلى كتاب حياة آدم، والمشهد الأخير الذي
يُصِّور وفاته: «ولسبعة أيامٍ أظلمَت الشمس وأظلم القمر والنجوم. وكان
شيت يحتضن جسد أبيه، وحواء تشبك ذراعَيها فوق رأسها المنكَّس على
ركبتَيها، وكل الأولاد يبكون بحرقة. وبينما هم على هذه الحال تجلى لهم
الملاك ميخائيل واقفًا عند رأس آدم، وقال لشيت: «انهض عن جسد أبيك لكي
أُطلِعَك على ماذا أَعَدَّ الرب له. لقد رحم الرب مخلوقه وتاب عليه».»
ولدينا في القرآن الكريم آيةٌ بخصوص مغفرة الله لخطيئة آدم: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ
عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة:
٣٧).
أما في المسيحية فإن الله لم يغفر لآدم خطيئته، وأكثر من ذلك فإن
خطيئة آدم تحوَّلَت إلى خطيئةٍ أصليةٍ حملَتها ذريتُه من بعده؛ فالكل
خاطئون والكل وَرِث الخطيئة عن آدم وينوء تحت ثقلها. هذه الفكرة لا نجد
لها أثَرًا في الأناجيل ولا في بقية أسفار العهد الجديد، وإنما في فكر
بولس الرسول وفي اللاهوت المسيحي اللاحق؛ فبولس ينظر إلى الموت
باعتباره عقابًا على الخطيئة الأصلية، وكما جلب آدم على ذريته الخطيئة،
فقد جلب عليهم الموت (الرسالة الأولى إلى أهالي روما، ٥: ١٢). ولكن
المسيح الذي يدعوه بولس بآدم الثاني قهَر الموت من خلال موته على
الصليب وقيامته، وجعل الحياة الأبدية متاحة لكل من آمن به وتوحَّد معه
(الرسالة الأولى إلى أهالي روما، ٥: ١٥-١٦). وهكذا وبعد أزمنةٍ
متطاولةٍ أدار الله فيها وجهه عن البشرية، فقد تصالَح معها في يسوع
المسيح (الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة، ٥: ١٨–٢١). واستنادًا إلى
هذه الفكرة المركزية في لاهوت بولس الرسول، قامت الكنيسة بصياغة رؤياها
اللاهوتية للتاريخ المقدَّس.
فقد خلَق الله العالم الروحاني
قبل العالم المادي، وكان أول ما خلَق حشدٌ من الملائكة صنعَهم من جوهر
النار، ووهبَهم خصيصة الحرية، فتوضَّعوا في تسعة أفلاكٍ تُحيط بمركز
النور الأسمى ولكل طبقةٍ رئيس. بين هؤلاء كان المدعو لوسيفر؛ أي
الوضَّاء، أجملَهم وأفضل ما يمكن لصنعة الله البديعة أن تخلُقه، حتى ظن
أنه يستحيل على الله أن يخلُق من هو أكمل وأعلى شأنًا منه، فتملَّكه
الغرور وقاده إلى الاعتقاد بقدرته على الارتقاء إلى مقامٍ أعلى يعادل
مقام العلي، فقال في نفسه: أرغب في أن أكون سيِّدًا أعلى، وألا يكون
فوقي أحد. فأيده أتباعه قائلين: نرغب في رفع عرش مولانا ليبلُغ عرش
العلي. عند ذلك طوَّح به العلي خارج دائرة النور، وتَبِعه من والاه
مديرين وجوههم عن دائرة النور، فانطفأ بريقهم وصاروا كفحمٍ خامد،
وراحوا يتهيئون لتخريب خطَّة خلقِ الله، ثم إن الله باشَر عمليات الخلق
وانتهى منه في ستة أيام. وهنا تسير قصة خلق الإنسان وسقوطه وَفْق القصة
الواردة في سِفر التكوين، ولكن مع تعديلٍ واحدٍ مفادُه أن إبليس تسلَّل
إلى الجنة في هيئة الحية، وتنتهي باللعنة التي قادت إلى سقوط العالم
بأكمله وانفصالِه عن مجد الله، ووضعِه في يد الشيطان في انتظار قدوم
المسيح المُخلِّص. وبذلك ابتدأَت مرحلةُ تمازُج الخير والشر.
لقد كان عارفًا منذ البداية أن الحرية التي أعطاها للملائكة وللإنسان
سوف يُسَاء استخدامها، وأن العالم سيقع فريسة للموت والفساد نتيجة
عصيان الكائنات العاقلة، ولكنه كان يُضمِر خطة لتخليص الإنسان وتطهير
العالم في الوقت المناسب دون الإخلال بمبدأ الحرية؛ فسوف يهبط الكلمة،
وهو الأقنوم الثاني في الثالوث، إلى الأرض ليغدو إنسانًا ويدخل في دورة
الحياة والموت لكي يخلِّص خليقته من اللعنة القديمة، وهكذا كان؛ فبعد
عصور الظلام وُلد الكلمة من رَحِم العذراء، وتجلَّى في هيئة يسوع
الناصري، فعاش في الزمن الدنيوي وشارك البشر الألم والمعاناة، ثم مات
على الصليب لأجل خلاصهم، وبذلك افتدت الذبيحة الإلهية، وهي القربان
الكامل، الإنسان وخلَّصَته من الموت الذي جلبَتْه خطيئة آدم؛ فالتاريخ
الذي ابتدأ بآدم سوف يبدأ بدايةً جديدةً بيسوع، وما الزمن الفاصل بين
هاتَين البدايتَين إلا عصر جاهليةٍ إنسانيةٍ كان العالم خلاله ينتظر
قدوم المخلِّص الذي يستعيد العالم من يد الشيطان.
ولقد ابتدأَت مرحلة الفصل بين
الخير والشر بميلاد يسوع، وأخذَت قوة الشر بالتلاشي؛ لأن كل من آمن
بيسوع مخلصًا سوف يقاوم أعمال الشيطان، وتنتهي هذه المرحلة بالمجيء
الثاني ليسوع المسيح الذي سيظهر آتيًا على سحاب السماء ليُنهي العالم
القديم ويقيم على أنقاضه عالمًا جديدًا؛ عندئذٍ تحدث القيامة العامة
للموتى ويُحاسَب كل واحدٍ على ما قدَّمَت يداه، ويؤسس يسوع لمملكة الرب
الأولى على الأرض، وفيها يعيش مع المؤمنين مدة ألف سنة، وبعد ذلك تأتي
مملكة الرب الثانية التي يدخل فيها العالم في الأبدية.
(س): يخطر في بالي سؤالٌ الآن قد
يبدو ساذجًا أمام جلال هذه الأسطورة، وهو: لماذا لم يقبل الله توبة آدم
كما فعل في كتاب حياة آدم؟ لو أنه فعل لما كان هنالك خطيئةٌ أصليةٌ
تبدو غير مسوغة، ولما كان هنالك من ذبيحةٍ إلهيةٍ وقربانٍ كاملٍ على
حدِّ ما ذكرتَ.
(ج): الأسطورة بالنسبة لمنطقنا
الحديث هي سلسلة أحداثٍ مستحيلة الوقوع؛ لذلك علينا إذا شئنا فهم
رسالتها أن نبحث عما تريد قوله، لا عن منطقية أحداثها؛ فخطيئة آدم التي
قادت إلى سقوط العالم ووضعَتْه في يد الشيطان كانت بالنسبة لأولئك
اللاهوتيين خطيئةً لا تمحوها توبة أو استغفار؛ لأن العالم كان يبدو لهم
واقعًا في يد الشيطان، تمامًا كما هو حاله الآن؛ وبالتالي فإن كل ما
حدث وما يحدُث الآن لا يمكن تفسيره أسطوريًّا إلا بأن الله قد تخلى
عنَّا ووضعنا نحن وعالمنا تحت سلطة إبليس، الذي يُدعى في الأناجيل وفي
رسائل بولس بأمير هذا العالم وإله هذا الدهر، وهو الذي قال ليسوع عندما
أخذه إلى البرِّية ليُجرِّبه، إن السلطة على ممالك هذا العالم قد
أُعطيَت له وهو يعطيها لمن يشاء (إنجيل لوقا، ٤: ٥-٦).
(س): حسنًا. أعتقد أن الرواية
القرآنية للتاريخ المقدَّس أقل تعقيدًا.
(ج): في القرآن الكريم يرتبط
الإخبار عن خلق العالم بالإخبار عن نهايته وبالقيامة العامة، ويكون ما
بينهما فترةَ اختبارٍ أخلاقيٍّ للبشر. والآيات الآتية تختصر فكرة
التاريخ الدينامي وفق الرؤية القرآنية: وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا (هود: ٧). مَا خَلَقَ اللهُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ
وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ
لَكَافِرُونَ (الروم: ٨١). هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا (الأنعام:
٢).
لا تَرِد قصة الخلق والتكوين في القرآن الكريم بشكلٍ مطَّردٍ في
سورةٍ واحدة، وإنما موزَّعة على عدة سُور. وبشكلٍ عامٍّ فإن الآيات
الكريمة المتعلِّقة بهذا الموضوع لا تُعطي جدولًا زمنيًّا لتتابُع
أعمال الخلق خلال ستة أيام. ونموذجُها قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ «تعب» (ق: ٣٨).
وفي هذه الآية تلميحٌ إلى ما ورَد في رواية سِفر التكوين من أن الخالق
استراح في اليوم السابع، ونفيٌ لحاجة الله إلى الراحة من عناء الخلق،
ولكننا نفهم أحيانًا أن الأرض قد خُلقَت قبل السماء (فصلت: ٩–١٢)، وأن
السماء كانت سبع طبقات، والأرض كذلك (الطلاق: ١٢). وقد جاء خلق الله
هذا كاملًا وتامًّا: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ (سورة السجدة: ٧). وهذا الإخبار عن حُسن خلْق
الله يُناظِر ما ورَد في سِفر التكوين: «ورأى الله كل ما عَمِله فإذا
هو حسَن جدًّا» (التكوين، ١: ٣١). أما عن خلق الله العالم الروحاني فلا
نعرف هل تمَّ قبل العالَم المادي أم خلاله، ولكننا نجد الملائكة في
أكثر من آيةٍ محيطين بعرش الله يسبِّحون بحمد ربهم، كما هو الحال في
اللاهوت المسيحي (الزمر: ٧٥، الشورى: ٥، غافر: ٧). ولهؤلاء الملائكة
أجنحة (الفرقان: ٢٢). كما هو حالهم في التوراة (راجع إشعيا، ٦: ١–٣).
ولهم وظائفُ متعددة؛ فمنهم رسل بين السماء والأرض (فاطر: ١). ومنهم من
يتصل بالأنبياء والمختارين من البشر (آل عمران: ٣٩). ومنهم حمَلَة
العرش (غافر: ٧). ومن أجل نظير هذه الوظيفة في التوراة، راجع (سِفر
حزقيال: ١–٢٨). ولكل فردٍ من بني البشر ملاكان يُرافقانه طيلة حياته؛
واحدٌ عن اليمين وآخرُ عن اليسار، يُسجِّلان أعماله الحسنة وأعماله
السيئة (ق: ١٧-١٨).
بعد انتهاء عمليات الخلقِ خلَق اللهُ الإنسانَ لكي يكون خليفته في
حكم الأرض. وهنا، وعلى ما رأينا في كتاب الهاجاداه، فإن الله أراد أن
يُطلِع ملائكته على ما هو مُقدِم عليه، فجاءت مشورتهم في غير صالح
الإنسان: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (البقرة: ٣٠). بعد ذلك صنع الله جسد آدم بيدَيه من
تراب الأرض، ثم نفخ في الجسد الترابي من روحه (ص: ٧٥، السجدة: ٧–٩،
الرحمن: ١٤). ولكي يُظهِر للملائكة تفوُّق آدم عليهم فقد علَّمه أسماء
حيوانات الأرض كلِّها ثم عَرضَها على الملائكة ليُنبئوه بأسمائها،
فقالوا له إنهم لا يعرفون إلا ما علَّمهم إياه. ثم قال لآدم أن يُنبئهم
بالأسماء ففعل (البقرة: ٣١–٣٣). عند ذلك أمرهم بالسجود لآدم تكريمًا
له، فسجدوا إلا إبليس استكبر عن السجود: قَالَ يَا
إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ *
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (ص: ٧١–٨٥).
(س): نلاحظ هنا أن قصة عصيان إبليس
لا تخرج عن إطار قصة عصيانه في الأسفار التوراتية غير
القانونية.
(ج): إنها تقوم على العناصر
نفسها.
(س): ولكن إبليس في القرآن كان من
الجن ولم يكن ملاكًا!
(ج): هنالك آيةٌ واحدة فقط يُفهم منها ظاهريًّا أنه كان من
الجن: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (الكهف: ٥٠). وهذه
الآية تنتمي إلى ما يدعوه علم التفسير بالمتشابهات؛ أي التي يغمُض
تفسيرها على الإنسان ولا يعلم تأويلها إلا الله؛ ففي مقابل هذه الآية
هنالك أربعُ آياتٍ تسير على نسقِ ما ورَد في سورة (ص) التي اقتبسنا
منها آية الأمر بالسجود: وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ. وهي طه: ١١٦، والإسراء: ٦١، والأعراف: ١١، والبقرة:
٣٤. والبِنية اللغوية للأمر الإلهي بالسجود في جميع تنويعات القصة
تدُلنا على أن إبليس كان من الملائكة؛ لأن الاستثناء فيها هو استثناءٌ
متصل لا منقطع على ما هو معروف في علم النحو. ومن ناحيةٍ أخرى، لو لم
يكن إبليس من الملائكة لما طاله أمر الله بالسجود، ولما كان هنالك من
خطيئةٍ يستحق العقاب عليها.
(س): مرةً أخرى أقف حائرًا أمام
مسألة إمهال الله لإبليس وتأجيل عقوبته إلى آخر الزمن!
(ج): دعني أقول لك باختصارٍ إن هذه
القصة هي في جوهرها قصةٌ وصْفِيَّة؛ أي إنها تصف الواقع ولا تُسوِّغه؛
فالوجود قائم على تقابل الأضداد: علو-انخفاض، قبل-بعد، صوت-صمت،
حار-بارد، حب-كره، صعب-سهل، نور-ظلام، قوة-ضعف، طويل-قصير، سالب-موجب،
خير-شر. وهذه الأضداد تُظهِر بعضها بعضًا حيث لا وجود للنور دون ظلام،
ولا لعلو دون انخفاض، ولا لحارٍّ دون رطب، ولا لحرارة دون برودة، ولا
لخير دون شر. وعلى حدِّ قول الحكيم لاو-تسو في التاو-تي-تشينغ: «يرى
الجميع في الجميل جمالًا لأن ثمَّة قبحًا. ويرى الجميع في القبيح قباحة
لأن ثمَّة جمالًا.» أي إن القطبية مزروعة في صميم الوجود، ولو أننا
أزلنا قطبًا واحدًا فقط من الأقطاب المتقابلة وليكن العلو لتداعت سلسلة
القطبية وآل الوجود إلى لا وجود.
(س): أعتقد بأن الشيطان في العقيدة
الإسلامية لا يتمتَّع بالقوة والسلطان على العالم كما هو الحال في
المسيحية.
(ج): السبب في ذلك يعود إلى عنصر
إمهال الله له إلى آخر الزمن، وهو عنصرٌ مفقود في العقيدة المسيحية،
ولو أنه تركه يعمل على هواه دون موافقته لكان في العالم مشيئتان هما
مشيئة الله ومشيئة الشيطان، ولكانت هناك مملكة للشر يحكمها الشيطان،
ومملكة للخير يحكمها الله. وهنا أعود إلى الواقع القطبي للوجود لأقول
بأن عنصر إمهال إبليس هو إقرار بهذا الواقع، والقول بأن خلق الله قائم
على تقابُل الأضداد. إن الله لا يُريد الشر ولكنه واقع تحت مشيئته،
وعندما ينتهي الشر في آخر الزمان تنتهي القطبية، ويتداعى خلق الله يوم
القيامة ليبدأ خلقٌ جديدٌ يدخل في الأبدية ولا يعرف الأقطاب
المتضادة.
(س): أعتقد أن قصة سقوط الإنسان
كما وردَت في القرآن تقوم على عناصر القصة الكلاسيكية نفسها، أليس
كذلك؟
(ج): نعم، ولكن لا يُوجد لدينا
تفاصيلُ بخصوصِ خلقِ حواء، وإبليس لا يتخفَّى في هيئة الحية. كما أن
الأمر الإلهي بعدم الأكل من الشجرة التي لا يدعوها النص باسمٍ معيَّن،
يُوجَّه إلى الزوجين معًا لا إلى آدم كما هو الحال في الرواية
التوراتية والاثنان يأكلان منها معًا، وهذا ما يُبرِّئ حواء من
المبادرة إلى الخطيئة أولًا. كما أن الله لم يلعن الأرض بسبب خطيئة
الإنسان، كما هو الحال في الرواية التوراتية، ولا أدار وجهه عن العالم
وتركَه للشيطان كما هو الحال في الرواية المسيحية. لقد غفر الله
للإنسان خطيئتَه بعد أن طرده من الفردَوس، ثم أطلعه على مسار التاريخ،
الذي سيكون مسرحًا للاختبار الأخلاقي للإنسان حتى اليوم الأخير، يوم
عدالة الله عندما تُجزى كلُّ نفسٍ بما قدَّمَت في الحياة: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا
هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (البقرة:
٣٥). فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ
لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا
مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (الأعراف: ٢٠).
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ
فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (طه: ١٢٠–١٢٢). قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ (البقرة:
٣٨-٣٩).
لم يكن عصيان إبليس وتعهُّده بإغواء البشر وحَفزِهم على الخطيئة
بالأمر المهم في صيرورة تاريخ العالم وتاريخ الإنسانية؛ ذلك أن نهاية
التاريخ أمرٌ مقرَّر ومقدَّر سلفًا، وهي جزءٌ لا يتجزأ من خطَّة الله:
مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى (الأحقاف:
٣). وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (لقمان: ٢٩). وَخَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (الجاثية: ٢٢). ضمن
هذه الخطة المتكاملة التي تجمع الجبرية في صيرورة التاريخ والحرية في
نشاط الإنسان وخياراته لا يلعب الشيطان إلا دورًا ثانويًّا؛ لأنه لا
سلطان له إلا على الذين كفروا: إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (الإسراء: ٦٥). إن الإنسان
هو معنى العالم وغايتُه وإليه أوكَل الرحمنُ خلافتَه في السيادة على
الأرض ومخلوقاتها، وعليه خلال مرحلة التمازُج أن يُثبِت جدارتَه بهذه
الأمانة ويصل بها إلى غايتها، وهي تنقية النفس من شوائب الشر ليكون
أهلًا للدخول في الأبدية. في خضم هذا الامتحان الكبير سوف يقف الله إلى
جانب البشر في صراعهم مع نوازعهم الشرِّيرة ومع الشيطان ويُحارِب
الباطل بالحق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (الأنبياء: ١٨).
وتتجلَّى عنايته بالبشَر في إرساله الرسل لكي يُجنِّبهُم مهاوي
الشيطان.
خلال هذا الهزيع الأخير من التاريخ تَرجحُ كفَّة الخير وتضعُف قوة
الشيطان، وهذه المرحلة التي تشهد في آخرها هزيمة الشيطان تبتدئ مع
البعثة المحمدية؛ فقد بَيَّنت الرسالة المحمدية للناس كافَّة وللمرة
الأخيرة الحد الواضح بين الهُدى والضلالة، وما زال هنالك وقتٌ للاختيار
إلى أن يأتي يوم الفصل الذي يُدعى بأسماءٍ متعددةٍ في القرآن الكريم،
ولا تكاد تخلو سورةٌ منه من عدة آيات تُذَكِّر الناس به؛ فهو الغاشية،
والقارعة، والآزفة، واليوم الموعود، ويوم الوعيد، واليوم الآخر،
والموعد، والميقات، وغيرها. وهذا اليوم هو تجسيدٌ لعدالة الله، وكلُّ
تعاليم القرآن تصب في النهاية في تعليمٍ أخروي واحدٍ يؤكِّد على
القيامة العامة للموتى وما يتلوها من حساب، وثواب وعقاب؛ فبعد سلسلة من
الكوارث الطبيعانية التي تُزعزِع الأرض وتُشقِّق السماء وتُبعثِر
النجوم وتفيض بالبحار، يموت كل الأحياء على وجه الأرض وينضمُّون إلى من
مات منذ بدء الخليقة، ثم يُبعث الجميع وتعود إليهم الأرواح ويذهبون إلى
مكان الحشر. عند ذلك ينزل الله من السماء آتيًا على السحاب: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى
اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (البقرة: ٢١٠). وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ
فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (الحاقة: ١٦–١٧). كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا
(الفجر: ٢١–٢٢)؛ عندئذٍ تُفتح صحف الأعمال ويأتي الجميع إلى مكان
الحساب حيث تُوزن أعمالهم. والنص هنا يتعامل مع هذا المشهد بكثيرٍ من
الإيجاز والاختصار: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (الأنبياء: ٢٧). وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ (الأعراف: ٨–٩). وبعد ذلك يتجه كل فريقٍ إلى
مقامه في الجنة أو الجحيم: وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا … * … وَسِيقَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا
(الزمر: ٧١–٧٣). والقرآن الكريم ولا سيما في السور المكية مليء بوصف
أحوال الجنة وأهلها وأحوال النار وأهلها، مما لا مجال هنا للدخول
فيه.
وعلى عكس التصورات الأخروية في بقية العقائد التوحيدية، فإننا لا نرى
في القرآن صراعًا حاسمًا أخيرًا بين ملائكة الله وبين إبليس وجنوده؛
لأن المهلة التي أُعطيَت لإبليس في بدء الزمن قد انتهت مع زوال العالم
القديم، ولم يعُد له من عملٍ يعمله بعد أن تم فرز البشَر إلى أهل
النعيم وأهل الجحيم. وسوف يُقاد الشيطان دون مقاومة مع أتباعه إلى
النار وَفْق ما وُعِد به: قَالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (ص: ٨٤–٨٥).