التناصُّ بين الكتب المقدَّسة
وقد كان بين سيت وحورس صراعٌ دائم، ولكن هذا الصراع لم يكن يصل إلى نتيجةٍ حاسمة، وكان بقية الآلهة ولا سيما تحوث يتدخَّلون للفصل بينهما كُلما علا أحدهما على الآخر وأوشك على الإجهاز عليه. وهذا يدُل على أنهما كانا قُطبَين في ثنائيةٍ كونيةٍ لا يصل التناقُض بينهما إلى حد إلغاء أحدهما وسيادة الآخر؛ لأنه لا غنى عن صراعهما من أجل تفسير صيرورة العمليات الجارية على مستوى الكون ومستوى الحياة الطبيعية؛ ولهذا نجد النصوص تدعوهما بالأخوَين وبالتوءمَين، وتُصوِّرهما الأعمال الفنية من عصر الأُسرات في جسدٍ واحدٍ يحمل رأسَين، رأس الصقر وهو رمز الإله حورس، ورأس الحمار وهو رمز الإله سيت. وبينما اختص حورس برمز الصقر وهو رمزٌ يُشير دائمًا إلى الشمس، فقد تعدَّدَت رموز سيت؛ فهنالك الأفعى والخنزير البري والتمساح. كما ساد الاعتقادُ بأن القوة التدميرية لِسيت تحُل في بعض الحيوانات الشرسة؛ مثل الكلاب والقِطط البرية والنمور، وجرت العادة على تقديم القرابين من هذه الحيوانات في الأوقات التي تبلُغ فيها قوة سيت ذروتَها مثل أواخر الشهر القمري.
ولسببٍ غيرِ مفهومٍ تبنَّت اليهودية الكثير من بنود الشريعة الزرادشتية المتعلقة بالمأكل والمشرب والطهارة والنجاسة، وهي أمورٌ لم تعرفها الثقافة المشرقية كشأنٍ دينيٍّ وإنما كأعرافٍ اجتماعية، وبالحد الأدنى المطلوب. وأقول لسببٍ غيرِ مفهومٍ لأن للشريعة الزرادشتية منطقًا ينسجم مع مبادئها الاعتقادية عن مسئولية الشيطان عن كل ما يمُتُّ إلى عالم الموت بصِلَة؛ مثل العفونةِ والقذارة والروائح الكريهة وأنواعٍ معيَّنة من الحشرات والحيوانات. أما الشريعة التوراتية فلا تستند إلى أي مرجعيةٍ اعتقاديةٍ وتبقى أقرب إلى مفهوم التابو غير المُفسر، ولكي أُعطي مثلًا عما أقوله هنا، أقتبس من سفر اللاويين هذا النموذج البسيط من مئات المحرَّمات التي تحتويها شريعة التوراة: «هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم على الأرض؛ كل ما شَقَّ ظلفًا وقسمه ظلفَين ويجتَر من البهائم فإياه تأكلون، إلا هذه فلا تأكلوها؛ الجمل لأنه يجتَر لكنه لا يشُق ظلفًا فهو نجسٌ لكم، والأرنب لأنه يجتَر لكنه لا يشُق ظلفًا فهو نجسٌ لكم، والخنزير لأنه يشُق ظلفًا ويقسمه ظلفَين لكنه لا يجتَر فهو نجسٌ لكم، من لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا» (سفر اللاويين، ١١: ١–٨).
دعني أبدأ من المدخل التالي، إذا راجعتَ القواميس العربية القديمة، وبحثتَ عن معنى كلمة «إيل» لوجدتَ أنها تعني اسم الله تعالى (راجع على سبيل المثال قاموس المحيط، فصل اللام، باب الألف).
-
(١)
إله السماء؛ فقد كان إيل إلهًا للسماء، وفي الوقت نفسه كان رئيسًا لمجمع الآلهة الكنعاني. وكذلك كان يهوه إلهًا للسماء وفيها مسكنه.
-
(٢)
إيل عليون؛ أي إيل العالي أو السامي، وهو لقبٌ مستمدٌّ من عُلو وسُمو قُبة السماء، ونجده في التوراة بلفظه الكنعاني في أكثر من موضع، ومنها: «أصرُخ إلى الله العلي (بالعبرية إيل عليون) إلى الله المدافع عني» (المزمور، ٥٧: ٢). وقد تَرِد لفظة العلي غير مقترنةٍ بإيل مثل: «أرعد الرب من السماوات، والعلي (أي عليون) أعطى صوته» (المزمور، ١٨: ١٣).
-
(٣)
إيل عولم (أي الأبدي): «وغرس إبراهيم أثلًا في بئر السبع ودعا باسم الإله السرمدي (بالعبرية إيل عولم).»
-
(٤)
أب شنم (أبو السنين): وتدُل أبوة إيل الكنعاني للزمن على قِدَمه؛ ولذلك نقرأ في التوراة: «كنتُ أرى أنه وُضعَت عروش، وجلس القديم الأيام. لباسُه أبيضُ كالثلج، وشَعرُ رأسه كالصوف النقي» (رؤيا دانيال، ٧: ٩). وأيضًا: «هو ذا الله (إيلوهيم)، عظيم ولا نعرفه، وعدَد سنيه لا يُفحص» (أيوب، ٣٦: ٢٦). وأيضًا: «إلى دهر الدهور سِنوك … أنت هو، وسِنوكَ لا تنتهي» (المزمور: ١٠٢: ٢٤–٢٧).
-
(٥)
أدون إيليم ربون (أي سيد الآلهة العظيم): وهؤلاء الآلهة هم أولاد إيل السبعون الذين ولدَتهم له زوجتُه عشيرة. وقد ورد في التوراة: «إله الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع، ٢٢: ٢٢).
-
(٦)
إيل قوني أرص (أي خالق الأرض)، وورد في التوراة: «رفعتُ يدي إلى الرب الإله مالك السماوات والأرض (= قوني شماييم وأريص)» (التكوين، ١٤: ٢٢).
-
(٧)
إيل فوئد (أي الرحيم)، وإيل لطفان (أي اللطيف والرحيم)، وورَد في التوراة: «الرب إلهٌ رحيم (= راحوم)، وحنون (= حانون)».
-
(٨)
إيل ث ر (إيل الثور): وهو وصفٌ يدل في الكنعانية على القوة. وقد أطلق المحرِّر التوراتي على يهوه لقب الثور في ستة مواضع من النص، ولكن الترجمات العربية استبدلَت كلمة العزيز أو القدُّوس بكلمة الثور: «إني أنا الرب فاديك ومخلِّصُك، عزير يعقوب (= ثور يعقوب بالعبرية)» (إشعيا، ٤٩: ٢٦). «تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل (= ثور إسرائيل)» (إشعيا، ١: ٤). وهذا اللقب الذي لِيهوه يفسِّر لنا لماذا قام يربعام ملك إسرائيل ببناء مقامَين دينيَّين؛ واحد في شمال المملكة وآخر في جنوبها، ووضع في كلِّ منها تمثالًا للعجل (الملوك الأول، ١٢: ٢٥–٢٩).
-
(٩)
أخيرًا فإن يهوه في بعض المواضع عندما كان يتحدث عن نفسه نجده يقول: «أنتم شهودي، وأنا الله» (إشعيا، ٤٣: ١٢). أو كما نقرأ هذه الجملة بنصها العبري: «أنتم شهودي وأنا إيل.» من هنا لا عجب إذا ورَد الاسم إيل في القواميس العربية باعتباره من أسماء الله.
وقد ورَد هذا المقطع بنصِّه تقريبًا في التوراة:
هذا ويَحفِل النص التوراتي بالإشارات إلى ترويضِ يهوه لمياه البحر: «أنت متسلِّط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لُججه أنت تُسكنها» (المزمور: ٨٩: ٩). «صوتُ الرب على المياه، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة» (المزمور: ٢٩). وها هو يفتخر في سفر أيوب بقهره للبحر: «ومن حجَز البحر بمصاريعَ حين اندفق فخرج من الرحِم؛ إذ جعلتُ عليه حدي وأقمتُ له مغاليق ومصاريع وقلت له: إلى هنا تأتي ولا تتعدَّى، وهنا تُتخم كبرياء لُججك» (أيوب، ٣٨: ٩-١٠).
ومن جملة فعالياته في ترويض البحر قتلُه للتنين البحري المدعو لواياتان، وهو التنين نفسه الذي صَرعَه الإله بعل. نقرأ في النص الأوغاريتي: «والآن تُريد أن تقتل لوتان الحيَّة الهاربة، الآن تُريد أن تُجهِز على الحية المتحوِّية ذات الرءوس السبعة» (من ملحمة بعل وعناة). ونقرأ في النص التوراتي: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي الشديد لواياتان الحية المتحوِّية، ويقتل التنين الذي في البحر» (إشعيا، ٢٧ : ١). وفي موضعٍ آخر من النص التوراتي نقرأ: «أنتَ شققتَ البحر بقُوَّتك، وكسرتَ رءوس التنانين على المياه، أنت رضضتَ رءوس لواياتان» (المزمور، ٧٤).
ومن جهةٍ أخرى فقد استولى يهوه على وظائف بعل الإخصابية، وادَّعى لنفسه لقب بعل الرئيسي وهو راكب السحاب الذي يَرِد مرارًا في ملحمة بعل وعناة. نقرأ في المزمور ١٠٤: «الجاعل السحاب مركبتَه، الماشي على أجنحة الريح» (المزمور: ١٠٤: ٢). وكما كانت غيوم البعل تسقي الأرض العطشى لتُنبِت زرعًا للإنسان، كذلك هو يهوه: «الساقي الجبال من علاليه، من ثَمر أعمالك تُشبِع الأرض، المُنبت عشبًا للبهائم وخُضرةً لخدمة الإنسان، لإخراج خبز من الأرض» (المزمور: ١٠٤: ١٣-١٤). كما ادَّعى لنفسه أسلحة البعل وهي البرق والرعد والصاعقة، وهي أدواتٌ إخصابيةٌ وقتالية في آنٍ معًا؛ فالبعل يزمجر بصوته من السماء فيُشتِّت أعداءه، على ما نقرأ في نصوص أوغاريت، وكذلك يهوه عندما يُرعِد ويقدح بُروقَه ويُلقي صواعقه، على ما نقرأ في المزمور: ١٨: «طأطأ السماوات ونزل وضبابٌ تحت رجلَيه … أَرعَد الرب من السماوات، والعلي أعطى صوته بَرَدًا وجمْر نار، أرسل سهامه فشتَّتَهم وبروقًا كثيرةً أزعجتهم» (المزمور: ١٨: ٩–١٣). وأيضًا: «صوت الرب على المياه، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة، صوت الرب بالقوة، صوت الرب بالجلال … صوت الرب يقدح لهب نار، صوت الرب يُزلزِل البرِّية» (المزمور، ٢٩).
-
(١)
المستوى الأول وهو أقدمها، ينتمي إلى إله المناطق الصحراوية الجنوبية، وهو إلهٌ بركاني يتجلى في ثَورة البراكين وقوَّتها التدميرية، ومنه اكتسب الإله التوراتي طبعه الغضوب وهيجانه الدائم وميله إلى العنف والانتقام، وردود أفعاله التلقائية؛ فهو لا يفكِّر ثم يفعل، وإنما يفعل ثم يفكِّر بنتائج عمله؛ ولهذا كان يندم في كثيرٍ من الأحيان على ما قدَّمَت يداه.
-
(٢)
المستوى الثاني وينتمي إلى كبير الآلهة الكنعانية إيل إله السماء، وهو ألوهةٌ خالقةٌ وحافظة لخلقها، مهيبة وجليلة، مفارقة للعالم، ولكنها في الوقت نفسه رحيمة وحنونة على مخلوقاتها.
-
(٣)
المستوى الثالث وينتمي إلى الوجه الأول للبعل، باعتباره ربًّا للظواهر الطبيعانية المولِّدة لخصب الأرض.
-
(٤)
المستوى الرابع وينتمي إلى الوجه الثاني للبعل، وهو وجه المُحارِب الذي يستخدم الظواهر الطبيعانية نفسَها في محاربة خصومه.
وعلى الرغم من أن المستوى الثاني الذي ينتمي إلى كبير الآلهة إيل كان الأبرز في تشكيل صورة الله في الأديان اللاحقة، إلا أن بقية المستويات بقيَت قابعةً في خلفية هذه الصورة.
وسأقدِّم فيما يأتي نماذج من هذا التناصِّ تفي بالغرض:
-
يسوع هو من سلالة داود ويَرِث عرشه:
-
«لأنه يُولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفَيه … لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود أبيه» (إشعيا، ٩: ٦–٩).
-
«وها أنتِ «يا مريم» ستحبلين وتلدين ابنًا وتُسمِّينه يسوع، هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد» (إنجيل لوقا، ١: ٣٢-٣٣).
-
-
المسيح يُولد في بيت لحم:
-
«أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة في ألوف يهوذا، فمنكَ يخرُج لي الذي يكون مُتَسلِّطًا على إسرائيل» (ميخا، ٥: ٢).
-
«وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا، لستِ الصغرة بين رؤساء يهوذا؛ لأن منكِ يخرج مُدبِّر شعبي إسرائيل» (إنجيل متى، ٢: ٦).
-
-
يُولد من عذراء:
-
«ولكن يعطيكم السيد نفسه آية؛ ها العذراء؛ تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل» (إشعيا، ٧: ١٤).
-
«هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا … وتدعو اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (إنجيل متى، ١: ٢٠-٢١).
-
-
اليهود يرفضون المسيح ويتآمرون عليه:
-
«تآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع قيودهما ولنطرح عنا رُبُطهما» (المزمور: ٢: ١-٢).
-
«ليس نبي مقبولًا في وطنه» (إنجيل لوقا، ٤: ٢٤). «جاء إلى بيته فما قبلَه أهل بيته» (إنجيل يوحنا، ١: ١١).
-
-
يدخل أورشليم راكبًا على حمار:
-
«هو ذا ملككِ يأتي إليك، هو عادل ومنصور ووديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زكريا، ٩: ٩). «قولوا لابنة صهيون: هو ذا ملككِ يأتيك وديعًا وراكبًا على أتان وجحش ابن أتان» (إنجيل متى، ٢١: ٥).
-
-
يخونه أحد المقرَّبين إليه:
-
«رجل سلامتي الذي وثقتُ به، الذي أكل من خبزي، رفع عقبه عليَّ» (المزمور: ٤١: ٩).
-
«إن واحدًا منكم سيُسلِمني، الآكل معي» (إنجيل مرقس، ١٤: ١٨).
-
-
قَدَّم نفسه للموت وعُدَّ بين خاطئين:
-
«سكَب نفسه للموت وأُحصِي مع أثَمة» (إشعيا، ٥٣: ١٢).
-
«وصلَبوا معه لصَّين؛ واحدًا عن يمينه وآخر عن يساره، فتَم الكتاب القائل أُحصِي مع أثَمة» (إنجيل مرقس، ١٥: ٢٧-٢٨).
-
وفي مشهد الصلب تَرِد التقاطُعات الآتية:
-
لا تُكسر عظامه:
-
«كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحدٌ منها لا ينكسر» (المزمور: ٣٤: ١٩-٢٠).
-
«فجاء الجنود فكسَروا سيقان الأول والآخر اللذَين صُلِبا معه، أما يسوع فلم يكسروا ساقَيه لأنهم لما وصلوا إليه رأوه ميتًا … وحدث هذا ليتم الكتاب القائل: عظم له لا يُكسر» (إنجيل يوحنا، ١٩: ٣٣–٣٧).
-
-
تُثقب يداه ورجلاه:
-
«جماعةٌ من الأشرار اكتنفَتني، ثقبوا يديَّ ورجليَّ» (المزمور: ٢٢: ١٦).
-
«بعد قيامته من القبر ظهر يسوع لتلاميذه وأراهم مواضِع الثقب في يدَيه ورجلَيه» (إنجيل لوقا، ٢٤: ٣٨–٤٠).
-
-
يقترعون على ثيابه:
-
«يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون» (المزمور: ٢٢: ١٨).
-
«ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ما يأخذ كلُّ واحد» (مرقس، ١٥: ٢٤).
-
-
يُشربونه خلًّا:
-
«العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرتُ رقةً فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يُسقونني خلًّا» (المزمور: ٦٩: ٢٠-٢١).
-
«لكي يتم الكتاب قال يسوع أنا عطشان. وكان إناء موضوعًا مملوءًا خلًّا، فمَلئوا إسفَنجة من الخل ووضعوها على قضيبٍ من الزوفا وقدَّموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال: قد كَمُل. ونكَّس رأسه وأسلم الروح» (إنجيل يوحنا، ١٩: ٢٨–٣٠).
-
-
كلمات يسوع الأخيرة:
-
«إلهي، إلهي لماذا تركتَني بعيدًا عن خلاصي؟» (المزمور: ٢٢: ١).
-
«ونحو الساعة التاسعة صَرخَ يسوعُ بصوتٍ عظيمٍ قائلًا: إيلي، إيلي لما شبقتَني؛ أي إلهي، إلهي لماذا تركتَني» (إنجيل متى، ٢٧: ٤٦).
-
«هو ذا عبدي يعقِل، يتعالى، ويرتقي ويتسامى جدًّا … لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقَر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومُختبرُ الحزن، وكمُسْتَرٍ عنه وجوهنا، محتقَر فلم نعتدَّ به. لكن أحزانًا حملَها وأوجاعنا تحمَّلَها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا … كلنا كغنمٍ ضلَلنا، مِلنا كلُّ واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظُلم. أما هو فلم يفتح فاه كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جلَّاديها فلم يفتح فاه … سكَب للموت نفسه وأُحصي مع أثَمة، وهو حمَل خطيئةَ كثيرين وشفَع في المذنبين» (إشعيا، ٥٣: ١–١٣).
إن صورة العبد الصالح المتألِّم هذه قد زوَّدَت مؤلِّفي الأناجيل بنبوءاتٍ تفسِّر ما حصل ليسوع من آلام وموتٍ فاجع؛ فقد وضع مؤلِّف إنجيل مرقس على لسان يسوع قوله: «إنا لصاعدون إلى أورشليم، وسيُسلِّم ابن الإنسان إلى رؤساء الكهَنة والكتَبة، فيحكُمون عليه بالموت ويُسلمونَه إلى الوثنيِّين، فيسخرون منه ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيامٍ يقوم» (مرقس، ١٠: ٣٢–٣٤). وهذا ما حصل ليسوع قبل المحاكمة وبعدها وانتهت آلامه بالصلب. ومن ناحيته فقد جعل متَّى يسوع يبقى صامتًا طيلة مدة المحاكمة لا يرُدُّ على اتهامات خصومه (متَّى، ٢٧: ١١–١٤)، وذلك تحقيقًا لما فعلَه العبد الصالح: «وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازيها فلم يفتح فاه». كما قام مؤلِّف إنجيل يوحنا بإطلاق لقب حَمَل الله على يسوع، (يوحنا، ١: ١٩). وأطلق عليه مؤلِّف سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي لقب الخروف (سفر الرؤيا، ٥: ٦).
كما وجد هؤلاء الإنجيليون في سِفر المزامير ما يُعزِّز صورة عبد يهوه المتألم مما ذكرتُه أعلاه.