المحور الثامن
إله الغنوصية
(س): نالت الغنوصية حيِّزًا لا بأس به من اهتمامك، فما هي؟
وكيف تُقدِّمها لمن لا يعرف عنها شيئًا؟
(ج): أعتقد أن الغنوصية ستبدو
مألوفةً للكثيرين إذا قلتُ إنها طريقةٌ صوفيةٌ اشتد عودها خلال القرون
الميلادية الأولى في مصر وسورية، ومنها شعَّت نحو أقطارٍ بعيدة، فوصلَت
إلى الصين شرقًا وإلى فرنسا غربًا. كما أنها تمازجَت مع المسيحية
واليهودية، ثم مع الإسلام منذ مطلع القرن الرابع الهجري.
(س): ولكن مصطلَح الصوفية لا يعني
شيئًا واحدًا للجميع، فما هو تعريفك له؟
(ج): الصوفية ليست حِكرًا على دينٍ
بعَينه، ولكنها تيَّارٌ يسري في أديانٍ متباعدةٍ ومتخالفة. نجدها في
الهندوسية مثلما نجدها في الثقافة اليونانية والرومانية، وفي الثقافة
الشرق أوسطية. وهي تقوم على فكرةٍ جوهريةٍ مفادُها أن روح الإنسان هي
قبسٌ من رُوح خالقه، ولكن الإنسان جاهل بهذه الحقيقة، وهذا الجهل يُبقي
الروح أسيرةً في دورة الحياة والموت تنتقل من جسدٍ إلى آخر إلى ما لا
نهاية، ولكن الإفلات من إسار هذه الدورة ممكن عندما تتوصَّل هذه الروح
من خلال فعالية العرفان إلى اكتشاف أصلها وموطنها الحقيقي، وتغدو
مهيَّأة للانعتاق. وفعالية العرفان التي أُشير إليها هنا تُدعى باللغة
اليونانية Gnosis، ومنها جاءت تسمية
Gnosticism أي الغنوصية. وهذه الفعالية
العرفانية ليست فعاليةً عقليةً بل فعاليةٌ روحانيةٌ وتجربةٌ باطنيةٌ
تقود إلى معرفة الله في أعماق النفس، وعلى حد قول المتصوِّفين
المسلمين: «من عرف نفسَه عرف ربه.» وهم يتداولون حديثًا قدسيًّا يقول:
«ما وسعَتني سمائي ولا أرضي، ووسعَني قلب عبدي المؤمن.»
(س): هل يُمكِننا إذن تعريف
التصوُّف بأنه المعرفة القلبية بالله؟
(ج): نعم، وأكثر من ذلك. إنه فَتْح
قناة تواصُلٍ مباشرٍ مع الله، ومن يبلُغ هذه الدرجة يغدو وليًّا عند
محيي الدين بن عربي الذي يرى أن مرتبة الولاية تلي مرتبة النبوة في
سُلم الارتقاء الروحي الإنساني؛ فالمتصوف لا يقنع بدين العامة لأنه
دينٌ براغماتيٌّ سطحي؛ ففي الإسلام مثلًا يتوجَّب على المسلم أن يؤمن
بالله وملائكته ورسله وباليوم الآخر، وبالقضاء والقدَر خيره وشره من
الله تعالى. هذا الإيمان الذي هو نوعٌ من الإقرار يجب أن يُتمَّم
بالأعمال وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. ومن قام بهذا كله حجز
لنفسه مقعدًا في الجنة واتقى عذاب النار. أما المتصوف فإن جنة الله
وناره لا تعنيه في شيء، وهو في علاقة حب مع الله تحكُمها الآية الكريمة
القائلة: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (الانشقاق: ٦).
والكدْح هنا هو كدْحٌ روحي يرتقي خلاله المريد عَبْر مراتب من المعرفة
تُوصلُه أخيرًا إلى ملاقاة ربه عندما تنكشف بصيرتُه ويغدو بالمصطلح
الصوفي عارفًا بالله. ورحلة الكدْح هذه تكتنفُها الأسرار ولا يعرف
تفاصيلها إلا من هم في الداخل.
(س): هل يُوجد في القرآن ما يؤيد
السعي الصوفي كما شرحتَه؟
(ج): هناك آياتٌ عديدةٌ أذكُر منها: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ
(فصلت: ٥٣). فالله ظاهر في خلقه وباطن في داخل النفس الإنسانية؛ فأهل
الظاهر يرونه في الآفاق، أما أهل الباطن فيَرونَه في داخلهم. وأيضًا:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ (ق: ١٦). فالله أقرب إلى الإنسان من ذلك الشريان
الذي يصعد في الرقبة لينقل الدم إلى الرأس؛ أي إنه أقرب إليه من جسده،
وهذا يعني أنه وروح الإنسان شيءٌ واحد. هذه الصلة بين روح الإنسان وروح
الله تُقِرُّ بها جملةٌ في قصة خلق آدم تجاهلَها الإسلام الرسمي حتى
الآن وكأنها لم تَرِد في القرآن على الرغم من تكرارها في ثلاثِ سُور؛
فبعد أن صنع الله جسَد آدمَ من تراب الأرض نفخ فيه من روحه: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر: ٢٩). ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ (السجدة: ٩).
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (ص: ٧٢). فروح الإنسان من روح الله؛
ولهذا السبب دعا الملائكة إلى السجود له.
(س): لماذا تم التغاضي عن هذه
الحقيقة الناصعة؟
(ج): لأن الإنسان غافلٌ عن حقيقة
نفسه، وهو لا يتوصَّل إليها إلا بالكدْح، فمن عرف نفسه عرف ربه، ومن لم
يعرفها عاش وراء حُجُب الجهل. هذه الآية لم تُفهم لأن البشر هم في نوم
الغفلة ورقدة الجهالة، على حد تعبير رسائل
إخوان الصفا التي أسَّسَت للغنوصية
الإسلامية، وعلى من توصَّل إلى الاستفاقة من نوم الغفلة هذه ألا يبوح
بسر الصوفية؛ ولذلك قال الحلَّاج:
بالسر إن باحوا تُباح دماؤهم
وكذا
دماء البائحين تُباح
وهذا السر لا يتوصل إليه إلا من بلغ أعلى درجات الكدْح
الروحي وصار التماهي بين روحه والروح الإلهية حالةً ماثلةً في الوجدان.
وهذا ما عبَّر عنه الحلَّاج في قوله:
رأيتُ ربي بعينِ قلبي
فقلتُ من
أنتَ؟ قال أنتَ
وقال أبو يزيد البسطامي:
أشار سِرِّي إليكَ حتى
فنِيتُ عني
ودمتَ أنتَ
محوتُ اسمي ورسمَ جسمي
سألتَ عني
فقلتُ: أنتَ
هذه الوحدة في الهُوية بين العبد الواصل والمعبود
الموصول، تُشعِل في الداخل حالة وجدٍ تلتهب جذوتُها وقد تدفع بالواصل
إلى إباحة السر، وهذا ما حصل للحلَّاج عندما صرخ أمام شهود: أنا الحق.
فحُوكِم وصُلِب على الرغم من أنه لم يفعل سوى التنبيه إلى حقيقةٍ وردَت
في كتاب الله.
(س): ذكرتَ منذ قليلٍ أن رسائل
إخوان الصفا هي التي أسَّسَت للغنوصية الإسلامية، على الرغم من أن
الحركة الصوفية في الثقافة الإسلامية سابقة على رسائل الإخوان!
(ج): أرجو ألا يُفهم من كلامي أني
أجعل مصطلح الصوفية معادلًا لمصطلح الغنوصية. كل ما أردتُه من هذه
المقدمة هو شرح مصطلحٍ غيرِ مألوف في الثقافة العربية هو الغنوصية من
خلال مصطلحٍ مألوفٍ هو الصوفية. فالصوفية الإسلامية حركةٌ غنوصية،
ولكنها لا تختصر الغنوصية؛ فالغنوصية عباءةٌ فضفاضةٌ تنضوي تحتها كما
أسلفتُ الطوائف العرفانية التي نشأت في المشرق العربي خلال القرون
الميلادية الأولى وهي الغنوصية الكلاسيكية، وكذلك الصوفية الإسلامية،
وإخوان الصفاء، والطوائف الإسلامية ذات الطابع الفلسفي مثل الإسماعيلية
والنصيرية والدرزية. وبما أن موضوعنا هنا هو الغنوصية الكلاسيكية
بالدرجة الأولى، فسوف أبدأ بتقديم تعريفٍ عامٍّ بهذه الشيعة
الدينية.
فالغنوصية ليست دينًا بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، بمعنى أنها لم
تُطوِّر أيديولوجيا دينية وعقائدَ ثابتة، ولم يكن لها معابد أو كهنة أو
كتبٌ مقدسة، وإنما بقيَت على شكل طوائفَ دينيةٍ أشبه بالطرق الصوفية
الإسلامية التي تتبع كلُّ طريقةٍ منها شيخها. وهذه الطوائف لم تتصارع،
ولم يستبعد بعضها بعضًا، ولم يعتبر أيٌّ منها نفسه قيِّمًا وحيدًا على
الإيمان الغنوصي، وإنما تعاونَت وأغنى بعضها بعضًا، ووجدَت في التنوع
إثراءً لفكرها المشترك. أما عن مصادرها فيبدو أنها تأثَّرت بشكلٍ
رئيسيٍّ بالرسائل الهرمزية، وهي عبارة عن ثلاثَ عشرةَ رسالةً منسوبة
إلى هرمز مثلَّث العظمة، أو مثلَّث الحكمة كما يُدعى في الغنوصية
الإسلامية، وهو شخصيةٌ غير تاريخية. وهذه الرسائل كانت متداولة في
الحلقات الإيزوتيرية السرَّانية خلال القرن الأول الميلادي، وهي تركِّز
بشكلٍ خاصٍّ على مثنوية الإنسان وانقسامه إلى جسدٍ يمثِّل كل ما هو
ماديٌّ ومظلم وفانٍ، وإلى روحٍ تتطابق مع العقل وتمثِّل كل ما هو
نورانيٌّ وحقيقي وخالد، وهذه الروح مدعوَّةٌ دومًا من قِبَل الله
المدعو بالأب الكلي للالتحاق بعالمه الروحاني الأعلى، وما على الإنسان
سوى الاستجابة إلى دعوة الله من خلال معرفة نفسه. نقرأ في رسالة
بيوماندريس على سبيل المثال: «إن من عرف نفسه حصل على الخير الأسمى،
أما من أضلَّته الرغبات وحُب الجسد فسوف يَتِيه في ظلمات عالم الحواسِّ
ويذوق الموت … إن الله أبٌ للجميع، وهو النور والحياة، فإذا عرفتَ أنكَ
مجبول من النور والحياة فسوف تعود إلى النور والحياة.»
(س): هل يمكننا القول إذن بأن
الغنوصية نشأَت في وسطٍ وثني ثم انتقلَت بعد ذلك إلى المسيحية؟
(ج): يبدو أن الأمر كذلك؛ فأول
غنوصيٍّ تذكُره المصادر المسيحية التي تصدَّت لنقد الغنوصية كان
سوريًّا من مدينة السامرة الفلسطينية عندما كانت حافلة بالشيع الدينية،
وهو سمعان ماجوس أو سمعان الساحر كما يُشار إليه في سفر أعمال الرسل في
كتاب العهد الجديد. وقد عاصر سمعان يسوع المسيح وورَد ذكره في سِفر
أعمال الرسل باعتباره ساحرًا أَدهش الناس بسحره فتبِعوه ولقَّبوه بقوة
الله العظمى (أعمال، ٨: ٩–١٣). أما عن أفكار سمعان هذا فنعرفها عن طريق
المؤلِّفين المسيحيين الذين تصدُّوا لنقد الغنوصية؛ فهو يقول، وَفْق
ناقده هيبوليتوس، بأن الله هو قوة أزلية موحَّدة وغير متمايزة، منغلقة
على نفسها في صمتٍ مطلق. ثم إن هذه القوة اتخذَت شكلًا وانقسمَت على
نفسها، فظهر العقل Nous وهو مذكَّر،
وعن العقل ظهرت الفكرة إينويا/Enoin
وهي مؤنَّث. وبعد ذلك أنتجت إينويا قُوًى ملائكية عملَت من خلالهم على
صنع العالم المادي، وبذلك انشطَرَت الألوهة إلى قسمٍ علويٍّ هو عالم
الأب الأعلى وهو عالم روحاني، وقسمٍ سفليٍّ هو عالم المادة. ولكن
إينويا بعد ذلك فقدَت السلطة على القوى التي نتجَت عنها وصارت أسيرةً
لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب. ثم ظهر سمعان ماجوس كتجسيد لله على
الأرض لكي يُحرِّر إينويا من قيودها، ويُقدِّم الخلاص من العالم المادي
لكل من يتعرف عليه بصفته هذه من البشر. وقد كان لسمعان عددٌ من
التلامذة السوريين أشهرهم دوتيسيوس وميناندر.
(س): نلاحظ هنا ظهور فكرةٍ جديدةٍ
على العقائد الشرق أوسطية وهي عدم مسئولية الله عن خلق العالم، واضطلاع
ألوهةٍ أخرى بهذه المهمة، فما مبعث هذه الفكرة؟
(ج): العالم المادي نقيض الله؛
فالله كمال والمادة نقص، والله خيرٌ مطلَق والشر يُعشعِش في نسيج
المادة، والله نورٌ صافٍ والمادة كثيفةٌ كتيمة، والله أزلي أبدي
والمادة مخلوقةٌ ثُم فانية؛ ولذلك لا يمكن أن يكون العالم قد نتج عن
الله إلا من خلالِ وسائط.
(س): وهل فكرة الفصل بين الله
المتعالي عن المادة والإله الخالق هي فكرةٌ مشتركةٌ بين الطوائف
الغنوصية كلها؟
(ج): نعم، ولكنها لم تعالَج
بالطريقة نفسها؛ ففي الغنوصية المسيحية هنالك فصلٌ تامٌّ بين الله/الآب
النوراني الأعلى وبين الديميرج، وهي كلمةٌ يونانية تعني الإله الخالق.
وهذا الديميرج الذي صنع العالم هو الإله التوراتي يهوه، وهم يُطَابقون
بينه وبين الشيطان أمير هذا العالم كما يُلقَّب في الأناجيل؛ لأن
العالم شَر ومن صنعة الشرِّير. أما في الغنوصية الإسلامية فإن الإله
الخالق هو حالةٌ وسيطةٌ ضمن الألوهة الواحدة نفسها؛ فإخوان الصفا مثلًا
لا يرون أن العالم شَر بطبيعته وإنما ناقص، ونقصه ناجمٌ عن كونه الحلقة
الأخيرة من سلسلة الفيض الإلهي؛ فالعلاقة بين الله وما خلق هي علاقة
فيضٍ لا علاقة صناعةٍ يدوية؛ فما دون الله فاض عنه مثلما يفيض النور من
الشمس أو مثلما يفيض الماء من النبع، وأول ما فاض عن الله جوهرٌ روحاني
في غاية التمام والكمال والفضل، فيه صور جميع الأشياء يُسمى العقل
الفعَّال، ومن العقل الفعَّال فاض جوهرٌ آخر هو النفس الكلية، ومن
النفس الكلية فاض جوهرٌ آخر هو الهيولى أو المادة الأولى التي توقفَت
عندها سلسلة الفيض.
ثم إن المادة الأولى قبلَت المقدار الذي هو الطول والعرض والعمق
فصارت جسمًا مطلقًا وهو المادة الثانية، ثم إن الجسم المطلَق قَبِل
الشكل الكروي الذي هو أفضل الأشكال، فكان من ذلك عالم الأفلاك التي
أعلاها الفلَك المحيط بالكل، يليه فلَك الكواكب الثابتة، ففلَك زحل، ثم
فلَك المشترى، ثم فلَك المريخ، ثم فلَك الشمس، ثم فلَك الزهرة، ثم فلَك
عطارد، ثم فلَك القمر، تسع أُكَرٍ في جوف بعضها بعضًا، أما دون فلَك
القمر فهنالك الأرضُ أغلظ الأجسام جوهرًا وأكثفُها جِرمًا، وتتكوَّن من
الأركان الأربعة وهي النار والماء والهواء والتراب. وهكذا فإن ما يبدو
من نقصانٍ في عالم الأرض الذي يعيش فيه الإنسان، ناجمٌ عن كَون هذا
العالم هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الفيض الإلهي وأكثرها بُعدًا عن
مصدر الفيض. وخلال توالي هذه الحلقات كانت كل حلقةٍ تقصُر عن اللحاق
بسابقتها وتعجز عن التماثل معها تمامًا، وصولًا إلى أكثر الحلقات نقصًا
وعجزًا وهي هذا العالم المادي الذي نعيش فيه.
(س): هل يمكننا القول إذن إن النفس
الكُلية هي وسيط الخلق وإنها تلعب دَور الديميرج في الغنوصية
المسيحية؟
(ج): إلى حدٍّ ما إذا كان لا بد من
إيجاد صلة بين المنظومتَين؛ فالنفس الكُلية هي أداة في الخلق، وهي التي
تُديم الكون وتبُث فيه الحركة، وعندما ينتهي الزمن المحدَّد لوجود
الكون تنسحب النفس منه وتُبطِل الحركة، وببطلان الحركة يتداعى الكون
ويئول إلى الفناء.
(س): أعتقد بأنه سيكون لنا وقفةٌ
أخرى مع إخوان الصفا في سياق هذا المِحور. والآن نعود إلى أصول
الغنوصية المشرقية لنسأل: هل من شخصياتٍ معروفةٍ أخرى إلى جانب سمعان
ماجوس ساهمَت في تكوين الغنوصية المبكِّرة؟
(ج): هنالك شخصٌ آخرُ لا يخطر ببال
أحد هو يوحنا المعمدان.
(س): هل هو نفس الشخصية المذكورة
في الأناجيل بالاسم نفسه وفي القرآن باسم يحيى؟
(ج): هو نفسه، ولكن الأناجيل تنسبه إلى سلسلة الأنبياء
اليهود، وتجعل منه الأخير في هذه السلسلة، وتعتبر أن رسالتَه كانت
التبشير بظهور يسوع المسيح. ولكن أخبارًا أخرى وصلَتنا من عصر يوحنا
تُفيد بأنه كان مُعَلِّمًا غنوصيًّا وأن سمعان ماجوس نفسه كان تلميذًا
له، بل كان من أنجب تلامذته، وهذه الأخبار تكتسب مصداقيةً من خلال وجود
طائفةٍ معمدانيةٍ في جنوب العراق والمناطق العربية من إيران وهم
الصابئة المندائيون. وهذه الطائفة هي الفرقة الغنوصية الوحيدة الباقية
حتى الآن من العصور القديمة، وأفرادها يتكلمون الآرامية إلى جانب
العربية، والآرامية هي لغة كُتبهم المقدَّسة. أما عن عقائدهم فيقولون
إنهم تلقَّوها من يوحنا المعمدان عندما كانوا يعيشون في فلسطين قبل
الحرب اليهودية الرومانية التي تسبَّبَت بهجرتهم، وهم يمارسون حتى الآن
طقس التعميد بالماء الجاري على سُنة يوحنا. ويقوم جوهر العقيدة
المندائية على الإيمان بأن نفس الإنسان هي نفحةٌ من روح الله، وهذه
النفس ستعود يومًا ما إلى باريها وتتحد به في حياة خالدة. وقد حلَّت
النفس، أو نشمتا بلغتهم، في جسد آدم ومعها شيءٌ من جلال موطنها الأصلي
وجماله، وفي الوقت نفسه حلَّت في ذلك الجسد روح الشر المَدعُوَّة روها،
ولكن من خلال العرفان أو الماندا بلغتهم يستطيع الإنسان اكتشاف أصله
السماوي ويصارع الشر في داخله، ويحقِّق أخيرًا الانعتاق من دورة
التناسُخ ومن عالم المادة.
(س): لماذا دَعَوا أنفسهم بالصابئة
المندائيين؟ وهل هم المذكورون في القرآن الكريم باسم الصابئين؟
(ج): من الممكن أن يكونوا هم
المذكورين في القرآن؛ لأن ذكرهم ورد أكثر من مرة في زمرة الأديان
التوحيدية. أما عن معنى التسمية فيجب أن نبحث عنه في لغتهم لا في اللغة
العربية؛ فكلمة صابئة مشتقة من الجذر صبأ الذي يعني التطهُّر بالماء
الجاري، أما المندائية فمشتقَّة من كلمة مندا، التي تعني معرفة أو
علمًا، وتُعادِل كلمة غنوص في اليونانية.
(س): هذه الغنوصية المبكرة التي
نشأَت في وسط وَثَنِي ثم شقَّت لنفسها طريقًا خاصًّا، كيف تحوَّلَت إلى
غنوصيةٍ مسيحية؟
(ج): الغنوصية المسيحية هي التيار
الغنوصي الرئيسي الذي عاش طويلًا. أما عن نشوئها فلي في ذلك نظريةٌ
خاصةٌ لا تتفق مع نظريات بقية الباحثين؛ فأنا أرى أن حلقةً فكريةً
يهودية توسَّطَت بين الغنوصية المبكِّرة والغنوصية المسيحية، وقد جرى
ذلك على مرحلتَين؛ ففي البداية نشأَت شيعةٌ يهوديةٌ ضاقت ذرعًا بالمدى
الذي بلَغه تشخيص الألوهة في التوراة، وتبنَّت من الكتاب موقفًا
تأويليًّا، فقالت بوجود إلهٍ آخرَ إلى جانب يهوه يُدعى يوئيل يجلس على
عرشٍ قُرب عرشه، ويلعب دَور الوكيل، وهو الذي تُشير إليه نصوص الكتاب
بملاك الرب، وقالوا إن كل الصور التشخيصية ليهوه يجب أن تُعزى إلى
الإله الوكيل. وهذه هي المرحلة الأولى التي وصلَتنا عنها أخبار من ذلك
العصر. المرحلة الثانية فافتراضية؛ إذ ليس من المستبعد أن تكون هذه
الشيعة التي نشأَت في الإسكندرية أو غيرها قد طوَّرَت مفهوم الإله
الوكيل إلى نتيجته المنطقية بأن عزَت إليه مهمة خلق العالم، وتصوَّرَت
وجود إلهٍ خفيٍّ أعلى يسمو فوق ثنائيات الكون. ومن أجل التخلُّص من
سطوة الشريعة اليهودية التي لم تعُد مقبولة في ثقافةٍ عالميةٍ منفتحة
مثل ثقافة الإسكندرية، فقد آمنوا بمسيحانية يسوع الذي حرَّر أتباعه من
الشريعة، ثم إن فكرهم التقى بفكرِ مسيحيين منشقين لم يكونوا راضين عن
تفسير الأناجيل لسيرة يسوع، وعن هؤلاء نشأَت حلقات المسيحية
الغنوصية.
(س): مع الأخذ بعين الاعتبار ما
ذكرتَ، ألا يمكن أن تكون الغنوصية المسيحية قد تطوَّرَت ضمن حلقاتٍ
مسيحية؟
(ج): أستبعد ذلك بسبب توكيد
الطوائف الغنوصية المسيحية كلها على نقد الشريعة اليهودية ونبذها، حتى
إن بعض المعلِّمين يَرونَها وسيلة الديميرج الخالق لإبقاء الإنسان في
حُجب الجهل التي تمنعه من اكتشاف حقيقة أصله. وفي هذا المجال أذكر ما
يُروى عن أتباع المعلم باسيليد قولهم: لم نعُد يهودًا ولم نُصبِح
مسيحيين.
(س): فيما عدا فكرة الديميرج، ما
هي الفوارق الأساسية بين المسيحية والمسيحية الغنوصية؟
(ج): المسيحية القويمة كما تدعو
نفسها (من أجل التمييز بينها وبين الهرطقة الغنوصية) تنظر إلى الله على
أنه كيانٌ مُفارِق على كل صعيد، والهوة عميقة بينه وبين الإنسان، ولا
يمكن عُبورها إلا من خلال الإيمان بيسوع المسيح ربًّا ومخلِّصًا؛ أي إن
المسيح هو شفيع الإنسانية الوحيد لدى الله، وكل علاقة مع الله تمُر
عَبْر المسيح. أما المسيحية الغنوصية فترى أن قنوات الاتصال بين الإلهي
والإنساني مفتوحة من خلال معرفة النفس التي تُوصل إلى معرفة الله،
وبذلك فإنها تُحِلُّ العرفان محل الإيمان كوسيلةٍ للخلاص؛ ولذلك فإن
النصوص الغنوصية لا تتحدَّث عن الخطيئة والتوبة، وإنما عن حالة الجهل
والنوم التي يكون فيها غير العارفين، وعن حالة اليقظة والاستنارة التي
يصير إليها العارفون. ويسوع قد جاء إلى العالم كمعلِّمٍ روحيٍّ وكمرشدٍ
على طريق العرفان، ولم يأتِ ليفدي العالم من الخطيئة الأصلية ويُصالِح
البشرية مع الله. وترى المسيحية القويمة أن يسوع هو ابن الله بطريقةٍ
فريدةٍ لن تتكرر؛ ولذلك فإنه يبقى نسيجَ وحده ومتميزًا عن بقية البشر،
أما المسيحية الغنوصية فترى أن كل من حقَّق العرفان يتحوَّل إلى مسيح.
وبذلك تبدو الغنوصية أقرب إلى البوذية حيث يغدو المستنير بوذا بعد أن
يكتسب البوذوية أو طبيعة البوذا.
(س): هل توافَرَت لدينا معلوماتٌ
عن المسيحية الغنوصية وهي في طَور التشكُّل؟
(ج): لعل أفكار
Marcion، أو مارقيون كما يَدْعوه
المؤلِّفون المسلمون، هي المُعبِّر الأوضح عن تلك الحلقة الوسيطة بين
المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية؛ فقد كان مارقيون في شبابه عضوًا
في الكنيسة القويمة، لكنه انشق عنها وأخذ بتكوين عقيدته الخاصة
المتلوِّنة بالغنوصية والتي تسبَّبَت أخيرًا بحرمانه من الكنيسة عام
١٤٤م؛ فقد أخذ مارقيون عن الغنوصية فكرة الديميرج، وقال إن خالق هذا
العالم ليس الآب السماوي الذي بشَّر به يسوع المسيح بل يهوه إله
التوراة، وهو الذي خلق الإنسان وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة
لعنة. وهذا الإله الذي يقول مارقيون إنه يعرفه حق المعرفة، لا يستحق
الطاعة والعبادة التي يطلُبها، وهو ليس أبًا ليسوع كما يعتقد
المسيحيون. أما الآب السماوي الذي يدعوه مارقيون بالإله المتعالي
والإله المجهول، فليس له علاقةٌ بكل ما يجري في العالم لأنه ليس صانعه،
وهو لم يتدخل في أمور هذا العالم إلا بأن أرسل ابنه يسوع المسيح الذي
هبط من السماء إلى هذا العالم التافه وصُلب من أجل الإنسان الذي أحبَّه
وأراد له الخلاص. وعلى عكس الغنوصية التقليدية فإن مارقيون لا يعتقد
بأن روح الإنسان هي قبس من نور الله بل هي من صنع الديميرج أيضًا؛
ولذلك فإن خلاصه يعتمد على الإيمان بيسوع لا على العرفان
المحرر.
(س): المسيحية القويمة تستمد
أفكارها من الأناجيل الأربعة ومن رسائل بولس، ولكن من أين تستمد
المسيحيةُ الغنوصيةُ أفكارها؟
(ج): يقول المعلِّمون الغنوصيون
إنهم يستندون إلى تعاليمَ سريةٍ بثَّها يسوع في حلقة المقرَّبين إليه
ولم يُعلِنها للعامة، وإلى تعاليمَ سريةٍ أخرى لبولس. وفي الحقيقة
فإننا نجد في الأناجيل القانونية كثيرًا من أقوال يسوع ذات طابعٍ
غنوصيٍّ واضح لا سيما في إنجيل يوحنا. وهنالك إنجيل معروف باسم إنجيل
توما يقع في نقطة الوسط بين الأناجيل الرسمية والأناجيل الغنوصية، وهو
عبارة عن مجموعةٍ لأقوال يسوع بعضها ورَد في الأناجيل الرسمية والبعض
الآخر ذو طبيعةٍ غنوصيةٍ لا تُخفي نفسها.
(س): تتحدَّث هنا عن أناجيلَ
غنوصية، فهل وصلنا منها شيء؟
(ج): قبل أواسط القرن العشرين لم
يكن بين أيدي الباحثين سوى قلةٍ من المخطوطات الغنوصية الأصلية، ولكن
في العام ١٩٤٥م تم العثور على كنز من المخطوطات الغنوصية الأصلية قرب
بلدة نجع حمَّادي بصعيد مصر، وهو عبارة عن ٥٢ نصًّا بينها معظم
الأناجيل الغنوصية التي كنا نعرف عناوينَها فقط من خلال المؤلِّفين
المسيحيين الذين تصدَّوا لنقد الفكر الغنوصي. وكانت هذه المخطوطات
محفوظةً في جَرَّةٍ فخاريةٍ ضخمةٍ مدفونة في التراب، ويبدو أن أصحابها
قد أخفَوها خوْفًا من ملاحقة السلطات الكنسية لهم بعد أن صارت المسيحية
دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية في مطلع القرن الرابع الميلادي،
وصار اقتناء النصوص الغنوصية جريمةً بحكم القانون، لا سيما وأن
الغنوصية كانت في ذلك الوقت قد انتَشرَت في أوروبا أيضًا.
(س): لقد كان انطفاء شعلة الغنوصية
إذن نتيجة الاضطهاد الواسع والمنظَّم الذي قامت به كنيسة روما!
(ج): الأصل في تعريف الجريمة أنها عملٌ يهدِّد سلامة
الآخرين وأمن الجماعة؛ وبالتالي فإن الفرد يُحاكَم على عملٍ قام به أو
شرع به، أما في الأيديولوجيات الدينية المغلقة فإن الفرد يُحاكَم على
أفكاره، وغالبًا ما تكون المحاسبة على الأفكار أقسى وأشد من المحاسبة
على الأعمال، ولقد اضطُهد الغنوصيون المسالمون على أفكارهم، ولكن
الغنوصية لم تَندثِر تمامًا وبقيَت حيةً في جمعياتٍ سريةٍ حافظَت على
ميراثها، ثم كان لها انتفاضةٌ علنيةٌ قوية عندما تشكَّلَت دولة الكاثار
أو المتطهِّرين في جنوب فرنسا، وأعلنَت عن هويتها كمسيحيةٍ غنوصية،
وكانت بمثابة بقعة ضوءٍ في ظلام العصور الوسطى؛ فقد نَشِط فيها
التعليم، ونشطَت التيارات الفكرية والفلسفية المختلفة، وعلا شأن الشعر
والشعراء، وتعلَّم الطلاب اللغات اليونانية واللاتينية والعربية.
ونظرًا لقرب المنطقة من مركز الإشعاع الحضاري في الأندلس، فقد وردَتها
تأثيراتٌ عربيةٌ عن طريق الموانئ البحرية وعبر جبال البيرنيه، ولكن هذه
الدولة لم تُعمَّر سوى قرابة قرن ونيف؛ ففي عام ١٢٠٩م أمر البابا
إنوسنت الثالث بتجهيز حملةٍ صليبيةٍ قوامها ثلاثون ألف مقاتلٍ وجَّهَها
نحو مقاطعة الكاثار أفنت تدريجيًّا وبعد معارك دامت طويلًا معظم سكان
المنطقة، ومحت عن الخارطة أرقى ثقافة في عصور الظلام الأوروبية.
(س): أعود إلى إخوان الصفاء لأسأل
من هم؟ ومتى ظهروا؟ وأين؟
(ج): إخوان الصفاء هم جمعيةٌ سريةٌ
نشطَت قيادتُها في مدينة البصرة منذ أواسط القرن الرابع الهجري. ونفهم
من إحدى رسائلهم أن هذه القيادة تتكوَّن من أربعة أشخاص، وهؤلاء
الأربعة مُنتقَون من أربعين، والأربعون منتقَون من أربعمائة،
والأربعمائة منتقَون من أربعة آلاف، ووراء الأربعة آلاف عددٌ غيرُ
محدَّد من أعضاء هذه المرتبة الأخيرة منتشرون في أنحاء العالم الإسلامي
جميعه. وقد تركَت لنا هذه الجماعة ميراثًا فكريًّا وروحيًّا يتمثل في
اثنتَين وخمسين رسالةً تستغرق في الطبعات الحديثة نحو ألفين وخمسمائة
صفحةٍ لا نعرف أسماء مؤلِّفيها، هدفَت إلى التأسيس لمذهبٍ إسلاميٍّ ذي
طابعٍ كونيٍّ يستغرق المذاهب كلها ويُوحِّد بينها. وقد ظهرَت هذه
الرسائل في زمنٍ كانت فيه المذاهب الإسلامية الفلسفية في طَور
التشكُّل، فتأثَّرَت بها هذه المذاهب ودخلَت أفكار الإخوان في صلب
عقائدها، كما أثَّرَت على الفكر الصوفي لا سيما فكر محيي الدين بن
عربي. وعلى الرغم من أن الإسماعيليين يتبنَّون الإخوان ويعتبرون
رسائلهم نوعًا من الفلسفة الإسماعيلية المبكِّرة، إلا أن الإخوان لم
يكونوا إسماعيليين، ولا أدلَّ على ذلك من نقدهم لمبدأ الإمامة الذي
تقوم عليه العقيدتان الشيعية والإسماعيلية. ومع ذلك فإن البِنية
السامقة للفلسفة الإسماعيلية قامت على أرضيةٍ فرشتها رسائل الإخوان
التي كانت متداولةً قبل ظهور بواكير تلك الفلسفة.
(س): ما هي نقاط الالتقاء ونقاط
الخلاف بين فكر الإخوان وفكر الغنوصية؟
(ج): الروح الإنسانية عند
الغنوصيين هي شرارة من النور الإلهي الأسمى تم احتباسها في الجسد
المادي. وقد عبَّر الإخوان عن هذه الفكرة بقولهم إن النفس الجزئية، كما
يفضِّلون تسميتها، هي قوةٌ منبعثةٌ وفائضة من النفس الكلية. وقد
أُهبطَت هذه النفس الجزئية إلى مركز العالم المادي وهو الأرض، واتحدَت
بالأجسام الجزئية. ويتبع ذلك عند الإخوان أن الإنسان عبارة عن جملةٍ
مجموعةٍ من جوهرَين متباينَين هما جسدٌ ماديٌّ منفسدٌ يتحوَّل بعد
الموت إلى العناصر التي تشكَّل منها، ونفسٌ روحانيةٌ سماويةٌ نورانية،
حية بذاتها وفعَّالة في الجسد ومستعملةٌ له إلى وقتٍ معلوم، ثم إنها
تاركةٌ له وراجعةٌ إلى أصلها السماوي.
وهم يتفقون مع الغنوصية في أن فِكاك النفس من أَسْر العالم المادي
وسجن الجسد لن يتأتَّى لها إلا بمعرفتها لأصلها بعد صَحْوِها من حالة
الجهل والنسيان التي آلت إليها عقب ارتباطها بالجسد؛ فالشريعة وحدها لا
تكفي عندهم لتحقيق الانعتاق، ولا بد من اقترانها بالكدْح المعرفي الذي
يُحوِّل النفس الغافلة إلى نفسٍ منتبهة مهيَّأة للانعتاق بعد الموت،
ولكن النفوس العارفة التي فارقَت أجسادها بالموت لن تُردَّ إليها إثر
قيامةٍ عامةٍ للموتى لأن الجسد يسقط ولا يقوم أبدًا، ولكنها تبقى
سعيدةً ملتذَّةً حُرةً في عالم الأفلاك، بينما تبقى النفوس غير العارفة
بعد مفارقة أجسادها حبيسةً في العالم المادي الأسفل، فإذا حان وقت دمار
العالم انسحبَت منه النفس الكلية فبطلَت حركتُه وتهاوى وآل إلى فناء،
وحُشِرَت النفوس الجزئية؛ أي اجتمعَت بالنفس الكلية واتحدَت معها، ثم
إن النفس تلتحق بالعقل، والعقل يلتحق بباريه عَز وجل.
هذه أهمُّ نقاطِ اتفاق الإخوان مع الغنوصية التقليدية. أما عن نقاط
الاختلاف فإن الغنوصية ترى أن العالم شَر ولا سبيل إلى إصلاحه؛ لأنه من
صنع الديميرج لا من صنع الآب النوراني الأعلى خالق العوالم الروحانية
التي تسمو على العالم المادي. من هنا يأتي رفض الغنوصية للعالم
واحتقارها للجسد الذي ينتمي إلى هذا العالم والتنكُّر لرغباته. أما
الإخوان فلا يَرونَ أن العالم شَر ولكنه ناقص، ولكنه على نقصه وكونه
سجنًا للنفوس الهابطة، فإنه يُقدِّم لتلك النفوس فرصة للانعتاق عن طريق
المعرفة المنجية؛ فالنفوس إنما تقضي المدة اللازمة في هذا العالم من
أجل التعلُّم والتبصُّر والارتقاء من أجل الانتفاع بالحياة الثانية.
والجسد ليس شرًّا إلا بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم
مجرد جسد، أما العارفون فإنهم في موقع السادة لأجسادهم لا في موقع
العبيد، ويتحوَّل الجسد عندهم، بما فيه من وظائفَ حسيةٍ وعقلية ونفسية،
إلى أداة للمعرفة المنجية.
كما تختلف غنوصية الإخوان عن الغنوصية التقليدية في وسائل وأساليب
تحقيق المعرفة؛ فبينما تركِّز الغنوصية على المعرفة الصوفية في معزل عن
العالم ومؤثِّراته، فإن الإخوان يرون أن معرفة النفس لن تتأتى قبل
معرفة العالم ومجرياته، ومعرفة الجسد بكل وظائفه؛ لأنه مسكن النفس
ووسيلتها إلى الانعتاق؛ من هنا فقد تحدَّث الإخوان في رسائلهم عن
الفلسفة والرياضيات والموسيقى وعلم الفلك، وعن الأرض وبيئاتها الطبيعية
وكرويتها وطول قطرها ومحيطها، ووصفوا جسم الإنسان ووظائفه وآليات
حواسه. وفي غمار ذلك كانوا يبسطون لمذهبهم وَيدْعون إليه. هذه الذخيرة
المعرفية للإخوان خطفَت أبصار الباحثين في رسائلهم، فاعتقدوا أنها
مقصودة لذاتها وأشبعوا فروع المعرفة التي تكلَّم فيها الإخوان بسطًا
وبحثًا وتحليلًا، ولكن دون عناية بفهم مذهبهم على أنه مذهبٌ غنوصيٌّ لا
لبس فيه.
(س): في سياق حديثك عما هو مشترك
بين الإخوان والغنوصية، قلت إنهم لا يؤمنون ببعث الأجساد وإنما ببعث
الأرواح وخلودها، وهم في هذا، وفي مسائلَ أخرى عديدة، يطرحون أفكارًا
لا تتفق مع التفسير الرسمي للقرآن الكريم، أليس كذلك؟
(ج): نعم، فأفكارهم قد لا تتفق
أحيانًا مع التفسير الرسمي للقرآن، ولكنها في رأيهم تتفق مع المرامي
الحقيقية للنص؛ فالنص القرآني مؤلف من مستويَين، مستوًى موجَّه نحو
العامة، وآخر موجَّه نحو الخاصة؛ فالعامة تفهم منه ما شاء لها أن تفهم،
وهم أهل الظاهر، والخاصة تفهم منه ما شاء لها أن تفهم وهم أهل الباطن،
وفي كل فهمٍ خير لأهله؛ ولذلك فإن إخوان الصفاء يلجئون إلى التأويل من
أجل الكشف عن المعنى الباطن لآيات الكتاب كلما كان هناك تعارض بين
أفكارهم والمعنى المباشر الظاهر للنص القرآني. ولا أستطيع هنا سوى
إيراد نماذج من تأويلاتهم؛ فهم يرون مثلًا أن الملائكة الذين خلقهم
الله وأوكلهم بحفظ العالم وتدبير الخليقة ليسوا شخصياتٍ روحانية، وإنما
هم بعض قوى النفس الكُلية منبثَّة منها في الأجسام كلها التي دون فلك
القمر. وهذه القوى تُدعى باللفظ الشرعي ملائكة ولكنها تُدعى باللفظ
الفلسفي قوًى طبيعية. وبذلك يكون إخوان الصفاء قد توصَّلوا إلى
مقدِّماتِ ما نَدْعوه اليوم بقوانين الطبيعة.
(س): نُلاحِظ هنا غلبة التفكير
العقلي على التفكير الأسطوري، فهل كانوا على هذه الدرجة من العقلانية
دومًا؟
(ج): لقد أعلى إخوان الصفاء من شأن
العقل وجعلوه مرشدًا وهاديًا للإنسان؛ ولذلك فإنهم يرون أن الفلاسفة
والحكماء هم ورثة الأنبياء. والإخوان يُعلون من شأن التفكير العقلي
ويضعونَه في مرتبة العبادة، ويَرونَ أن أجود أحوال العامة والجهال
الصوم والصلاة وما شاكل ذلك من العبادات، وأن أجود أحوال الخواصِّ
التفكُّر بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات.
(س): هل لدى الإخوان تأويلاتٌ أكثر
تطرُّفًا مما ذكرتَ؟
(ج): من الأفضل أن نقول أكثر
عقلانية. نعم؛ فهم لا يرون أن إبليس عبارة عن شخصٍ روحانيٍّ ناصَب
اللهَ العداوةَ وأقسَم بعزَّته أن يُغويَ الناس ويدفعَهم إلى المعصية،
وإنما هو نوازع النفس الشهوانية إذا تغلَّبَت على نوازع النفس العاقلة؛
فهو في داخل الإنسان وليس في خارجه، ويجري من ابن آدم مجرى الدم. وهذا
هو معنى الآية الكريمة القائلة: وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ
مَنْ دَسَّاهَا (سورة الشمس: ٧–١٠). وليس اندحار إبليس وجنوده
في آخر الزمن إلا تعبيرًا عن وصول الإنسانية إلى ذروة ارتقائها، وضعف
النفس الشهوية وظهور النفس العاقلة عليها.
وأكثر من ذلك، فإن الأوصاف المادية لجهنم على أنها خندق من نار
يُعذِّب فيه الله العصاةَ كلما احترقَت أجسادهم عادت إليهم الرطوبة
لتحترق ثانية، وكذلك الأوصاف المادية للجنة على أنها بستانٌ فيه من كل
الثمرات وأنهار من لبن وعسل وخمر، وأن أجساد أهلها لحمية، وأنهم شبَّان
لا يهرمون وأصحَّاء لا يمرضون، كلها أوصافٌ رمزية تصلُح للجهال
والصبيان؛ لأنها تقرِّب لأذهانهم ما وُعِدوا به وتزيد خوفهم من سُوء
أفعالهم فيتركونها، وتُقوِّي رجاءهم لثواب أعمالهم. وأما من رزقه الله
قليلًا من التمييز والعقل ونظر في علوم الحكمة فإن ذلك لا يصلُح
له.
(س): إلى أين تذهب أرواح الموتى
قبل نهاية الزمن؟
(ج): أرواح الصالحين العارفين
خفيفة، وهي تصعد إلى عالم الأفلاك حيث تبقى سعيدةً ملتذَّة، كما قلتُ
منذ قليل. أما أرواح الطالحين فثقيلةٌ بأعمالها السيئة؛ ولذلك تبقى
حبيسةً في العالم المادي الأسفل، وقد سُلبت منها كل الحواسِّ التي كانت
تنال بواسطتها اللذَّات الجسمانية؛ فهي ليست مثل الحي الذي يلتذ بالعيش
ولا مثل ميتٍ يستريح من العذاب. وفيما عدا ذلك فإن الإخوان لم
يُقدِّموا الكثير من الإيضاح، واعتبروا هذا العلم من العلوم الدقيقة
الغامضة فلا يُباح به لغير العارفين الذين قطعوا شوطًا بعيدًا في فهم
رسائلهم.
هذه الجنة والنار لا تدوم إلى الأبد؛ فقد ورد في القرآن الكريم:
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ (هود: ١٠٧). ولكن
السماوات والأرض لا تدوم لأن النفس الكلية سوف تنسحب من العالم في آخر
الزمان، وبانسحابها تبطُل الحركة ويحدُث بوار العالم. عند ذلك يُعتق
أهل النار وتبطل جهنم الدنيا، وتُبعث الأنفس لتلتحق بباريها.
(س): وماذا عن تناسُخ الأرواح الذي
تقول به كل الأنظمة الغنوصية؟
(ج): لم يُصرِّح الإخوان بإيمانهم
بتناسُخ الأرواح، ولكن كثيرًا من تعليقاتهم بخصوص رمزية الجنة والنار
تُوحي بأنه جزءٌ من عقائدهم المخفية، لا سيما تكرارهم ذكر الآية
القائلة: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ. وذلك في معرض وصفهم لأحوال الأرواح التي لم
تَنعتِق. وهم يعنون بذلك في رأيي، أن تلك الأرواح سوف تحُل في أجسامٍ
جديدة، وكلما بليَت هذه الأجسام بالموت بُدِّلوا بها أجسامًا
أخرى.
(س): من كل ما سبق نستنتج أن ما
قدَّمه الإخوان كان بمثابة ثورةٍ تقدميةٍ في الفكر الإسلامي، فهل كان
لهذه الثورة حامل بعدهم؟
(ج): هذا صحيح؛ فقد تنازع في الفكر
الإسلامي منذ البداية اتجاهان هما اتجاه العقل واتجاه النقل؛ الأول كان
يركِّز على الإبداع وتحكيم العقل في فهم النص المقدَّس وتمييز الحديث
الصحيح، والثاني يركِّز على النقل عن السلف الصالح. وقد ابتدأ الاتجاه
العقلي مع المعتزلة ثم تابعه من بعدهم إخوان الصفاء، ولكن الثقافة
العربية بعد إخوان الصفاء أخذَت تدخُل تدريجيًّا في عصر الانحطاط، إلى
أن جاء عصر المغول الذي اجتاح المشرق العربي، ودخلَت الثقافة العربية
بعده في فترة ركودٍ ثقافي ضعفَت خلالها حركة الإبداع الحر في الفكر
والعلوم والآداب، وعزَف الناس عن العلم والتعلُّم. وقد انعكسَت حالة
الانحطاط هذه على الفكر الديني، وقام ابن تيمية ومن بعده تلميذه ابن
القيم الجوزي بصياغة هذه النسخة الرديئة من الإسلام السائد
اليوم.
(س): وماذا عن عصر النهضة العربية
وما قدَّمه من إعادة نظر في إسلام ابن تيمية؟
(ج): ما يُدعى بعصر النهضة العربية
لم يكن سوى بارقة نهضةٍ سرعان ما انطفأَت. لقد أحدث مفكِّرو عصر النهضة
في القرن التاسع عشر نهضةً عابرةً في الفكر الإسلامي بقيَت آثارُها إلى
أواسط القرن العشرين، وبعد ذلك عاد الفكر إلى أحضان ابن تيمية ثم
آل اليوم إلى ما أدعوه بالجاهلية الإسلامية التي يبدو ابن تيمية
مقارنةً بها مُصلحًا ثوريًّا.
(س): نعود إلى ما ابتدأنا به؛ أي
الصوفية. ما هو تأثير رسائل إخوان الصفاء على الصوفية
الإسلامية؟
(ج): لقد كان الإخوان أول من قال
بوحدة الوجود في تاريخ الفكر الإسلامي. وعلى الرغم من أنهم لم يستخدموا
هذا المصطلح، إلا أن نظريتهم في الفيض الإلهي تستدعي قولهم به، فإذا
كان العالم قد فاض عن الله فإن وجوده هو امتداد لوجود الله. وسوف
أتوقَّف فيما يأتي عند اثنَين من أعلام الصوفية المتأخرة ممن قالوا
بوحدة الوجود، وهما عبد الكريم الجيلي المولود في بغداد، ومحيي الدين
بن عربي الأندلسي.
يضع الجيلي فكرة التجلِّي مقابل فكرة الفيض عند إخوان الصفاء؛
فالتعبيران مختلفان والمضمون واحد؛ ذلك أن الألوهة تتجلى على مراتب،
وهذا التجلي أمرٌ اقتضاه ظهور الموجودات عنها، وبغير الموجودات تبقى
الألوهة ذاتًا مستغرقة في نفسها كوجودٍ مطلق لا ظهور فيه لاسمٍ أو نعتٍ
أو إضافة. المرتبة الأولى في خروج الألوهة من كمونها وغناها، يؤشِّر
إليها ظهور الممكنات فيها جميعًا. فكل ما سيظهر للوجود فيما بعدُ هو
الآن في حيِّز الممكن الثابت في الذات الإلهية؛ فهنا يتجلى المطلَق في
نفسه ولنفسه، وتتأمَّل الألوهة نفسها دون أن تلحقها الاعتبارات
والإضافات. هذا التجلِّي الأول للذات يُدعى الأحدية، وهو أول تنزُّلات
الذات من ظلمة العماء إلى نور المجالي. المرتبة الثانية في التجلي بعد
الأحدية هي الألوهية، والله اسم لرب هذه المرتبة وهو الاسم الذي يُبصِر
به الحق نفسه ويتوصَّل الخلق من خلاله إلى معرفته. وكل الأسماء والصفات
واقع تحت الاسم الله؛ لأنه لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق أسمائه
وصفاته. المرتبة الثالثة هي الرحمانية، وهنا تتجلَّى الألوهة كقدرةٍ
خالقةٍ مظاهر الكون كلها، ولكن الخلق هنا ليس خلق صانعٍ ماهرٍ وإنما
خلق ألوهةً تنقسم إلى حقٍّ وخلقٍ دون أن تفقد وحدتها الأصلية؛ ذلك أن
الوجود خلقٌ من حيث مظاهره، وحق، أو ألوهةٌ مولدة من حيث جوهره. والاسم
الظاهر في هذه المرتبة هو الرحمن؛ لأن أول رحمة رحم بها الله الموجودات
أن أوجد العالم من نفسه، ولهذا سرى ظهوره في الموجودات ولم يتعدَّد
بتعدُّد مظاهره، بل هو أحدٌ على ما تقتضيه ذاته الكريمة. آخر تجليات
الألوهة هو الربوبية. وهو مختصٌّ حصرًا بعالم الخلق، والرب اسم لهذه
المرتبة. ويقع تحت هذا الاسم كل الأسماء التي يتطلبها وجود المخلوقات،
مثل العليم والسميع والبصير والمريد والملك، وغيرها؛ لأن كل واحد من
هذه الأسماء والصفات يطلُب ما يقيم عليه؛ فالعليم يقتضي المعلوم،
والقادر مقدورًا عليه، والمريد يطلب مُرادًا، وما أشبه ذلك.
عند هذه المرتبة يظهر الرب في مخلوقاته، ويناجي الساعي إلى معرفته
قائلًا: أنتَ خلاصة الأكوان والمقصود بالوجود والحدثان. تقرَّب إلى
شهودي فقد تقرَّبتُ إليك بوجودي. لا تبتعد فإني أنا الذي قلتُ: ونحن
أقرب إليه من حبل الوريد. لا تتقيد باسم العبد؛ فلولا العبد ما كان
الرب. أنتَ أظهرتَني كما أنا أظهرتُك، فلولا عبوديتُك لم تظهر لي
ربوبية. أنتَ أوجدتَني كما أنا أوجدتُك، فلولا وجودُك ما كان وجودي
موجودًا.
(س): أعتقد بأن هذه المناجاة
تُلخِّص الموقف الصوفي بأكمله!
(ج): هذا صحيح؛ فالوجود مثل دائرة باطنها حق وظاهرها خلق.
وكما تتجلى الألوهة ابتداءً من الذات عند مركز الدائرة وانتهاءً إلى
الربوبية عند محيطها، كذلك يكتشف الإنسان الألوهة من خلال هذه المراتب
نفسها وبما يتلاءم مع استعداد كل فردٍ لوطأة الصلة مع المرتبة؛ فالصلة
الأولى بين الحق والخلق تُعقد مع المجلى الخارجي، مجلى الربوبية، ومع
الاسم الرب الذي هو إله الشرائع. وعامة الناس يبقون عادةً عند هذه
المرتبة عابدين لله تعالى من حيث اسمه الرب، وفوق هؤلاء هنالك زمرة
العارفين الذين يعبدونه من حيث اسمه الرحمن، وفوقهم زمرة المحقِّقين
الذين يعبدونه من حيث اسمه الله.
فإذا انتقلنا إلى ابن عربي نجد أن العالم ينشأ عن الله من خلال الفيض
الذي قال به إخوان الصفاء؛ فأول ما خلق الله العقل الكلي أو العقل
الأول، وهو ما يدعوه أيضًا بالروح الكلي وبالقلم، استنادًا إلى ما ورَد
في حديثٍ شريف: «أول ما خلق الله العقل»، وحديثٍ آخر: «أول ما خلق الله
القلم»، وهو «الحق» أيضًا و«الروح» الوارد ذِكرُهما في أكثر من آية.
ويتجه فعل العقل الذي هو بمثابة القلَم إلى النفس الكُلية التي هي
بمثابة اللوح فينتقش عليها ما سيكون في العالم إلى يوم القيامة. وهذه
النفس الكلية هي أول موجودٍ انبعاثيٍّ منفعل عن العقل، وهي للعقل
بمنزلة حوَّاء لآدم. وكان بين العقل أو القلم، والنفس أي اللوح، زواجٌ
معنوي نتج عنه المولود الأول وهو الطبيعة، التي تُعادِل المادة الأولى
ثم الجسم المطلَق عند إخوان الصفاء. على أن فيض الله تعالى الذي أظهَر
الكون إلى الوجود لم يحصل مرةً واحدةً في بدء الزمن، وإنما له صفة
الدوام والاستمرار وإلا قامت الموجودات بقُواها الذاتية في غنًى عن
مُوجِدها وهذا محال؛ فالله خالق على الدوام وفعلُه دائمٌ في كل لحظة،
ولو أنه أمسك تجديد الإيجاد على الموجودات لانعدمَت في طَرفة عين؛
فالوجود الحق هو لله تعالى، أما وجود ما سواه فمستَمدٌّ منه في كل
لحظة، وفي كل لحظة تفنى الموجودات ثم تُستَعاد مرةً أخرى إلى الوجود،
تغيب صُورها لتحُل محلَّها صورٌ أخرى فيما يأتي من اللحظات. وعلى الرغم
من أن هذه الصور الأخرى تبدو عين الصور الغائبة، إلا أنها جديدةٌ كل
الجدَّة وتلي سابقاتها دون فاصلٍ زمنيٍّ ملحوظ؛ لأن الذهاب هو في الآن
نفسه بقاءٌ لما يُظهِره التجلِّي الثاني.
إن كل ما هو موجود في عالم الظواهر عبارة عن مجلًى أو مظهرٍ إلهي؛
فالحق يتجلَّى في الأشياء أي يظهر فيها باسمه «الظاهر» الذي يتجه نحو
الخارج، أما اسمه «الباطن» فيتجه نحو الغيب ولا يكون فيه تجلٍّ أبدًا.
أما كيف يتكثَّر الحق في الأشياء دون أن ينقسم، فإن ابن عربي يستعير من
إخوان الصفاء نظريتَهم العددية في تفسير ذلك؛ فنسبة الباري من
الموجودات كنسبة الواحد من العدد، وكما أن الواحد أصل العدد ومنشؤه،
كذلك الله هو علة الأشياء وخالقها وأولها وآخرها. وكما أن الواحد لا
جزء له ولا مثل في العدد، فكذلك الله لا مثل له ولا شبه في خلقه. وكما
أن الواحد محيط بالعدد كله ويَعدُّه، كذلك الله جلَّ جلاله. وأما القول
إن الواحد أصل العدد ومنشؤه، فلأن الواحد إذا رفعته من الوجود بطَل
العدد بارتفاعه، ولكن إذا رفعتَ العددَ لم يبطُل الواحد.
(س): وماذا عن الكسور العشرية مثل
الربع والنصف؟ ألا تعني أن الواحد يتجزأ؟
(ج): أبدًا؛ لأن النصف هو واحدٌ من
اثنين ١ / ٢، والربع هو واحد من أربعة ١ / ٤، وعلى هذا المثال سائر
الكسور.
(س): إن فكرة الوجود عند ابن عربي
ليست ببساطة قولنا إن الله والعالم شيءٌ واحد!
(ج): إنها تعني أن الوجود الحق هو
لله، أما وجود ما سواه فمستعار من وجود الله. وأكثر من ذلك فإنه وجودٌ
خياليٌّ لأنه يتناوب بين الوجود والعدم في كل لحظة، ومتقلِّب دائمًا من
حال إلى حال. وهو خيالٌ لأنه يُخيل إلينا أنه قائم بنفسه ولكنه في
حقيقة الأمر ليس كذلك.
(س): هذا القليل الذي عرضتَه من
أفكار الجيلي وابن عربي يثير عندي سؤالًا عن العلاقة بين التصوُّف
والفلسفة!
(ج): أنا أرى أن المتصوفة من أصحاب
النُّظُم أمثال الجيلي وابن عربي هم فلاسفة في ثياب متصوفة. ولو أن ابن
عربي لم يختَر منذ البداية طريق التصوف لكان واحدًا من أنبغ العقول
الفلسفية في تاريخ الحضارة، ولمَّا كان مضطرًّا إلى التقيَّة في عرض
أفكاره مما نجده بشكلٍ خاصٍّ في كتاب الفتوحات المكية؛ حيث بلغ الإلغاز
في عباراته حدًّا جعلها أحيانًا أشبه بالشيفرة.
(س): ممن كان يتقي ابن
عربي؟
(ج): من أهل الحِرَف الذين صادروا
الإسلام ونصَّبوا أنفسهم حُماةً له. لقد عاصر ابن عربي السهروردي صاحب
فلسفة الإشراق، وهو متصوفٌ أمر صلاح الدين الأيوبي بقتله في حلب بعد أن
رفع إليه شيوخ الإسلام عريضةً تتهمه بالكفر، فكان في موته عِبرة لأصحاب
الفكر الحر ودافعًا إلى التزامهم التقيَّة، وذلك عملًا بقول يسوع
المسيح: «لا تُلقوا بدُرركم إلى الخنازير؛ لأنها ستدوسُها بالأقدام، ثم
تنقضُّ عليكم.»
(س): يبدو السهروردي شخصية جديرة
بالاهتمام، لماذا لا نعرف الكثير عنه؟
(ج): هو شهاب الدين السهروردي،
الملقَّب بالحلبي القتيل. وقد اكتسب لقب الحلبي لأن حلب كانت آخر ما
استقر به من مدن وفيها قُتِل. ولد وعاش سنوات طفولته وفتُوَّته في
مدينة سهرورد في إيران، وتلقَّى علومه الأولى في أصفهان، وعندما لم
تسعه أصفهان غادر يطلُب العلم في بغداد، ثم في قونية وغيرها من مدن
السلطنة السلجوقية في الأناضول، وأخيرًا استقر في حلب. وهو من أصحاب
النُّظُم الصوفية التي جمعَت بين الفلسفة والتصوف، وترك لنا نحو خمسين
كتابًا باللغتَين العربية والفارسية، أهمها كتاب حكمة الإشراق الذي
لخَّص فيه فلسفته التي تقوم على الجمع بين التأمُّل العقلي والعرفان
الروحي؛ فقد تَبَنَّى المنطق الأرسطي بعد نقده وإكماله، حيث أنزل
المقولات العشر إلى أربع، ثم جعل من المنطق الصوري سُلَّمًا صاعدًا إلى
عالم الإشراق في منظومةٍ فكريةٍ منسجمة. أما لماذا لم نعرف عنه الكثير،
فلأن الغربيين كانوا أكثر اهتمامًا به من العرب الذين قتَلوه ولم يجدوا
في فكره غير إلحاد وكفر، ومن هؤلاء بروكلمان، وماسينيون، وكوربان
وتلميذه الإيراني الباحث المعاصر سيد حسين نصر.
(س): لماذا يلقَى المفكِّرون
الأحرار هذا المصير؟
(ج): لأنهم يُغَرِّدون خارج السرب،
ولا يتماثلون مع الفكر السائد الذي يلوذ به السواد الأعظم خوفًا من
الحرية.
(س): هل يخاف الإنسان من
الحرية؟
(ج): الحرية هي أكثر ما يُرعب
الفرد. وأنا لا أعني بالحرية هنا أن تذهب إلى صندوق الاقتراع لتنتخب من
بين المرشَّحين لهذا المنصب أو ذاك أقلَّهم غباء. الحرية هي أن تكون
فردًا يتصل بالجماعة فيما يتعلق بشئونه الحياتية وواجباته الاجتماعية،
ولكنه يستقل عنها في تفكيره ولا يقبل منها إلا كل ما يضعه على محك
النقد وينجح في الاختبار. وقد قال أحد الحكماء مرة: إذا وجدتَ نفسك
متفقًا في الرأي مع الأغلبية، فاعلم عندها أنك على خطأ.