المحور التاسع
صيغ أخرى لمفهوم الله
الوحدانية في التعددية
(س): لقد فهمنا مما سبق أن فكرة الله قد نشأَت وتطوَّرَت
في ثقافة الشرق الأوسط، ووجدَت صيغتها التامة في العقيدة الإسلامية،
فهل يعني هذا أن بقية ثقافات العالم لم تتوصَّل إلى صياغة فكرةٍ
مماثلةٍ أو حتى مقاربة؟
(ج): لدينا في الثقافة الهندية
مفهومٌ توحيديٌّ عبَّر عن نفسه من خلال عقيدة وحدة الوجود في
الهندوسية، ولكنه يتميز عن التوحيد الشرق أوسطي في جمعه بين الوحدانية
والتعدُّدية الوثنية؛ فالله الذي يُدعى براهمان في الهندوسية هو الإله
الخفي الذي صدرَت عنه الموجودات، ولكنه يتجلَّى في هذا العالم من خلال
كائناتٍ إلهيةٍ وهمية يتعبَّد إليها الناس ويطلبون عونَها، ولا يعرفه
حق المعرفة إلا من اكتشف أن هذه الآلهة ليست إلا حجابًا يستُر وجهه
ووحدانيته، وسار في طريق المعرفة الباطنية التي تكشف له عن تماثُل
الروح الإنسانية مع الروح الكونية، وهي المعرفة المحرِّرة التي تقود
إلى الانعتاق من عالم المادة.
(س): ولكن الغنوصية قالت أيضًا
بتماثل النفس الإنسانية مع النفس الإلهية ولم تكن مذهبًا في وَحْدة
الوجود.
(ج): في وَحْدة الوجود الهندوسية
لا وجود حقيقيًّا إلا لله، أما هذا العالم المتغير الدائم الجريان
فغيرُ موجودٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو أشبه بسرابٍ لا قوام له ينجم
عن المايا، وهي الطاقة المبدعة لبراهمان التي تُنتِج ذلك الوهمَ
الكوني. ولما كان براهمان وطاقته شيئًا واحدًا، فإن الوجود بأَسْره
واحد.
(س): هذه فكرةٌ صعبة على الأفهام
العادية.
(ج): سوف تغدو أسهل كلما
تَوَغَّلنا في عقائد الهندوسية.
(س): هل بإمكاننا القول إذن بأن
جوهر الهندوسية يقوم على مبدأ وحدة الوجود؟
(ج): ليست الهندوسية في الحقيقة
دينًا موحَّدًا يؤمن به كل الهندوس، بل هي مجموعة من الطوائف الدينية
التي تختلف في عقائدها وفي طقوسها وفي رؤياها لطريق الانعتاق، ولكنها
مع ذلك تتفق جميعًا في عددٍ من المعتقدات التي لا يصح إيمان الهندوسي
بدونها، أولها تناسُخ الأرواح؛ فالأرواح في أصلها عبارة عن جواهرَ
فرديةٍ مستقلة عن بعضها وخالدة، وهي حُرة وبدون صفاتٍ وواعية، ولكنها
غير فاعلةٍ على أي صعيد، ولا تبدأ فعاليتها إلا بعد حلولها في الكائنات
الحية. وعندما تبدأ بالفعل والنشاط الحقيقي من خلال الجسد والعمليات
العقلية، فإن كلًّا منها يراكم كارما خاصة به. والكارما بمعناها اللغوي
في السنسكريتية هو الفعل أو العمل، ولكنها في سياق العقائد الهندية
تعني الفعل وجزاءه سواء أكان ثوابًا أم عقابًا. إلا أن ما يميِّز فكرة
الثواب والعقاب هنا عن مثيلتها في أديان التوحيد هو أن الجزاء ليس
مفروضًا من شخصيةٍ إلهيةٍ ترعى العدل، وإنما يتم بشكلٍ أوتوماتيكي من
خلال قانون الكارما الكوني، فإذا كانت الكارما إيجابية عادت الروح إلى
التقمُّص في جسدٍ أعلى، وإذا كانت سلبية تقمَّصَت في جسدٍ أدنى لكي
تُسدِّد دينها. هذه الدورة من الفناء والتجدُّد تتجاوز عالم الإنسان
لتشمل عالم الظواهر المادية برُمَّته، والزمن يُشبه عجلةً تدور على
نفسها، كلما بلغَت دورة منتهاها فَنِي العالم برُمَّته ثم عاد إلى
التشكُّل من جديدٍ دونما نشدانِ غاية أو سعيٍ إلى هدف. إلا أن الانعتاق
من هذه الدورة السببية ممكن التحقيق وهو بؤرة الحياة الدينية عند
الهندوسي.
(س): بين هذه الأفكار التي تجمع
الطوائف الهندوسية لا نجد مفهومًا واضحًا عن طبيعة الألوهة ودَورِها
على مستوى الكون والإنسان.
(ج): هذا صحيح؛ لأن الهندوسية
تُبدي تحرُّرًا من أي دوغمائية تتعلَّق بطبيعة الألوهة، وجوهرُ الدين
لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود إلهٍ واحد، أم عدة آلهة، أم على
نكران وجودها على ما نجده لدى بعض المذاهب الهندوسية؛ من هنا فإن
الهندوس يتمتَّعون بخياراتٍ واسعة من المعتقدات والممارسات ينتقون منها
ما يريدون، أو يختارون من الآلهة ما يعبدون؛ لذلك فقد تعدَّدَت طرق
الانعتاق التي يختار الفردُ من بينها ما يُناسِب تكوينه النفسي والفكري
والجسدي، وهي ثلاثة؛ أولها طريق المعرفة، وهو الطريق المؤدي إلى معرفة
الله معرفةً ذوقية اختبارية في أعماق النفس، وذلك من خلال تدريباتٍ
روحيةٍ خاصة وأسلوبٍ خاصٍّ في الحياة يعتمد على الزهد والتنسُّك وقهر
رغبات الجسد، وهذا ما يقوده أخيرًا إلى كشف حُجُب الجهل، جهل النفس
الإنسانية بطبيعتها وأصلها، فتنفَّلَت من تلك العجلة الدائمة الدوران
وتعود إلى أصلها، ولكن هذا الطريق صعب سلوكه على معظم الناس، وهو
يتطلَّب مقدَّراتٍ عقليةً ونفسية وجسدية لا تتوافر عند الجميع؛ ولذلك،
ولمثل هؤلاء، جرى الاعتراف بطريقَين آخرَين هما طريق الأعمال وطريق
التقوى. يقوم طريق الأعمال على تأدية الطقوس لا سيما المنزلية منها،
كتلك المتعلقة بالولادة والموت والزواج والحصاد، إضافةً إلى تقديم
القرابين إلى الآلهة وإلى أرواح الأسلاف، وبهذه الطريقة يكسب المؤمن
حسنات ويراكم كارما إيجابية تساعده على الانتقال إلى درجةٍ أعلى في
سُلَّم التناسُخ. أما طريق التقوى فهو الانقطاع لعبادة إلهٍ معيَّن،
والدخول في علاقة حبٍّ معه، والاستسلام الكامل له، وممارسة الطقوس
الواجبة له في المعبد، وبذل العمل الصالح؛ ولهذا يقول الإله كريشنا في
ملحمة المهابهراتا عندما يتجلَّى للمحارب أرجونا: «التصق بي، ضمَّني
بالعقل والقلب، قم بأعمالٍ تسرُّني، مجِّدني، اخدمني، هبْ لي قلبك،
اجعلني ملجأك الوحيد، وسأحرِّر روحك.»
(س): ما هي مكانة عقيدة وحدة
الوجود في دين الهند، وكيف نشأَت في وسطٍ وثني لا شبيه له من حيث كثرة
الآلهة؟
(ج): هنا لا بد لنا من إلقاء نظرةٍ
عاجلةٍ على الكيفية التي تطوَّرَت بها الهندوسية خلال تاريخها الطويل
الذي يبتدئ مع دخول الجماعات الهندو-أوربية إلى الهند في أواسط الألف
الثاني قبل الميلاد. وقد احتل هؤلاء وادي السند أولًا ودمَّروا ثقافةً
راقيةً قديمة قامت هناك قبل ألف عام بتأثيرٍ من ثقافة وادي الرافدين،
ثم تابعوا ببطءٍ تقدُّمهم نحو وادي الغانج، ولم يصلوا أقصى الجنوب إلا
في بدايات الألف الأول قبل الميلاد. وخلال تقدُّمهم كانوا يُخضِعون
السكان الأصليين من ذوي البشرة الداكنة.
(س): من هي هذه الجماعات؟ ومن أين
جاءت؟ وما سبب تسميتها بالهندو-
أوروبية؟
(ج): هي فرعٌ من الأقوام الذين
يدعوهم المؤرخون بالهندو-آريين أو الهندو أوروبيين لأنهم انطلقوا من
موطنهم الأصلي في السهوب الأوراسية الواقعة بين آسيا وأوروبا في
هِجراتٍ جماعية، فوصلَت جماعاتٌ منهم أولًا إلى آسيا الصغرى وأوروبا،
وبعد ذلك إلى الهند وإيران. وقد كانت لهم في الأصل لغةٌ واحدة انقسمَت
بعد تفرُّقهم إلى عدة لغات، وهي أصل اللغة السنسكريتية المقدَّسة في
الهند ومعظم اللغات الأوروبية المستعملة الآن. وقد حمَل هؤلاء معهم إلى
الهند ديانتهم التي يدعوها الباحثون اليوم بالفيدية نسبة إلى الفيدا،
وهي مجموعة من الأدبيات والأناشيد الدينية دُوِّنَت بالسنسكريتية في
مواطنهم الجديدة بالهند. وقد اتسعَت أسفار الفيدا حتى اشتملَت على أربع
مجموعاتٍ ضخمة، ولا أدل على ضخامتها من أن المجموعة المعروفة باسم الرج
فيدا احتوت على عشرة آلاف ترتيلةٍ دينية.
وهنا تحضُرني حادثةٌ طريفةٌ ذات علاقة بالفيدا؛ فعندما كنتُ مقيمًا
في الإمارات العربية، طلبتُ من صديقٍ هنديٍّ ذاهب في إجازة إلى موطنه
أن يُحضر لي معه الرج فيدا معتقدًا أنه مجرد كتابٍ في ثلاثمائة أو
أربعمائة صفحة، وعندما عاد دخل إلى مكتبي ومعه علبةٌ ثقيلة يَنوء
بحملها، فوضعَها أمامي قائلًا: هذه هي الرج فيدا. وكانت في نحو عشرة
مجلَّداتٍ ضخمة يحتوي كلٌّ منها على ٤٠٠ صفحة، وترتَّب عليَّ أن أدفع
مقابلَها ثمنًا باهظًا لم أكن أتوقَّعه.
(س): هل جاء هؤلاء معهم بعقيدة
وحدة الوجود؟
(ج): كلا؛ فهذا المفهوم نشأ عن
تمازُج دين الفيدا مع دين السكان الأصليين؛ فقد كان دين هؤلاء القادمين
دينًا طقسيًّا عمليًّا لا يحتوي على كثيرٍ من الأفكار المجرَّدة، وكان
القربان الحيواني مركَز طقوسهم، ومن خلاله اعتقدوا أنهم قادرون على
الحصول من الآلهة على ما يريدون. ومع تقديم القربان، كان الكهنة
القائمون عليه يتلون صيغًا كلاميةً سحرية من شأنها أن تضع تحت تصرُّفهم
تلك القوة فوق الطبيعانية التي تجعل الإجراء السحري فَعَّالًا.
على أن معتقد الفيدا أخذ بالتبدُّل عندما تبدَّل الفاتحون نتيجة
اختلاطهم بالسكان، فتشكَّل خلال الفترة المعروفة بالبراهمانيين معتقدٌ
صوفيٌّ طوَّرَته فئة من الكهنة كانت في الماضي تُشرِف على طقوس
القرابين، وقد دُعي هؤلاء بالبراهمانيين، أو البراهمة كما دعَتْهم
المصادر العربية في العصر العباسي؛ فقد أخذ هؤلاء بتكوين مفهومٍ جديدٍ
عن الألوهة، والنظر إلى آلهة الطبيعة المختلفة باعتبارها وجوهًا
لحقيقةٍ كُلانيَّةٍ وكينونةٍ خافيةٍ هي براهمان، الألوهة غير المشخصة
والقدرة الكامنة خلف مظاهر الكون المتبدِّية. وقد تطوَّر فكر هؤلاء من
خلال الأسفار المعروفة باسم البراهمانات (مفردها براهمانا)، وهي عبارة
عن تعليقاتٍ وشروحٍ على الفيدا كان آخرها كتاب الأوبانيشاد الذي دُوِّن
في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد وأُسِّس للتصوف الهندي.
(س): كيف تمَّ عبور الهُوة الواسعة
بين عقيدةٍ تعدُّدية طقسية تجعل من القربان الحيواني صلةً بين السماء
والأرض، وعقيدةً صوفية تُوحِّد بين السماء والأرض؟
(ج): يبدو أن الأمر حصل هكذا؛ فمن خلال تفرُّغهم للشئون
الدينية، وإشرافهم على أداء الطقوس المعقَّدة المصحوبة بالصيغ السحرية
المنطوقة، طور البراهمة مفاهيم عن معنى الطقس وغاياته والقوة الخافية
التي تمنحه التأثير والفعالية. فالتضحية ليست قربانًا يُقدَّم إلى
الآلهة مع الصلاة والشكر، بمقدار ما هي عملٌ سوي يضع تحت تصرفهم تلك
القوة الماورائية السارية في الكون، والتي ينبغي على الآلهة أنفسهم
الانصياع لها. وقد دُعيت هذه القوة براهمان، وهي كلمة كانت تُطلَق في
الأصل على الصيغ السحرية المستخدمة لاستنهاض القوة ثم تحوَّلَت لتصبح
دلالةً على القوة نفسها. ومع تركيزهم على هذه القوة ومحاولة فهمها،
راحوا ينظرون إليها على أنها مصدر كل شيء ومآل كل شيء، وتحوَّل سعيهم
من محاولة التأثير فيها إلى التوحُّد معها. وشيئًا فشيئًا، أخذَت
الآلهة الفيدية تفقد شخصيتها وتغدو رموزًا طقسيةً لا أكثر، فأدار
الكهنة لها ظهورهم وراحوا يمارسون رياضاتٍ رُوحيةً باحتساء شراب السوما
المخدر الذي لا نعرف كيف كانوا يصنعونه، من أجل التوصل إلى حالةٍ من
الوجد، يشعرون معها بذوبان الأنا الفردية بالكل. هذه الحالة التي
يختبرها البراهماني هي مقدمة للانعتاق والاتحاد مع براهمان. وهذا
الانعتاق كان في البداية وقفًا على البراهمة من دون غيرهم. ولكي تؤدي
الرياضات الروحية المطلوب منها، كان على البراهماني أن يلتزم نظامًا في
الحياة يقوم على النسك والتزهُّد والفقر والعزوف عن مُتَع الحياة
الزائلة.
(س): ما طبيعة هذه الرياضات
الروحية؟
(ج): إن عقل الإنسان مشغول على
الدوام بالأمور اليومية، وعندما لا يكون مشغولًا بها تراه يقفز مثل
قردٍ دائم الحركة من فكرة إلى أخرى دونما غاية؛ ولذلك فإن المهمة
الأولى التي يتوجَّب على السائر في طريق المعرفة القيام بها هي ترويض
العقل ووضعه في حالة استرخاءٍ تامٍّ لكي يغدو مُهَيَّأً لتلقي المعارف
العليا، ويتم ذلك بواسطة اتخاذ جلسة التأمُّل الباطني التي نراها في
التماثيل البوذية عادةً، وإبعاد كل الأفكار والصور التي يمكن للعقل أن
يتداولها، مع التنفُّس بطريقةٍ إيقاعيةٍ خاصة. ويترافق ذلك مع التركيز
على اللحظة الراهنة، فلا ماضٍ ولا مستقبل ولا جريان للزمن، وإنما لحظةٌ
أبدية خارج الزمان والمكان. ومع المضي في هذا التدريب اليومي، قد يصل
الفرد إلى حالةٍ من الوعي تجعله يدلف إلى عالم الحقيقة فيشعر بومضة
يقينٍ مثيرة للفرح ويحصُل على الاستنارة التي من شأنها كفُّ الكارما عن
فرض تأثيراتها، وتصل دورة التناسُخ إلى نهايتها.
(س): هل انتقلَت هذه الرياضة
الروحية إلى البوذية كما نفهم من كلامك؟
(ج): هذا صحيح؛ فقد نشأَت البوذية
المبكِّرة في حاضنةٍ دينيةٍ هندوسية، وبإمكاننا اعتبارها هرطقةً
براهمانية.
(س): نفهم من كل ما سبق أن براهمان
ليس إلهًا بالمعنى المتعارَف عليه لهذه الكلمة، أليس كذلك؟
(ج): نعم، إنه ليس إلهًا وبالتالي
فهو بلا صفات؛ أي إننا لا نستطيع التحدُّث عنه على أنه كذا وكذا، بل
على أنه ليس بكذا وليس بكذا، ودائمًا بصيغة النفي لا بصيغة
الإثبات.
(س): فكيف يفعل في العالم إذا كان
بلا صفات؟ أعني إذا لم يكن: الخالق، القادر، المنعم، وما إلى
ذلك؟
(ج): لقد حلَّت عقيدة وحدة الوجود
مشكلة كيف يمكن لبراهمان الذي لا ماهية له ولا فعل أن يُنتج عالمًا من
الصور المرئية والمتغيرة، من خلال قولها بوجود حالَين لبراهمان هما حال
الخفاء حيث لا أسماء ولا صفات، وحال التجلي حيث تلحق بالألوهة الأسماء
والصفات، الأولى براهمان نرغونا، والثانية براهمان ساغونا، وقد حقَّق
براهمان هذه النقلة بين الحالتَين بواسطة قوَّته الخلاقة مايا التي
أنتجَت الإله الخالق الذي يُعيد خلق العالم بعد فَنائه في كل دورة.
وهذا الإله الخالق هو قناعُ براهمان الذي يتوجَّه الناس إليه بالعبادة،
وعنده تقف أفهامهم، إلا من شاء اجتياز بحار الوهم والتعرُّف على ما
وراء القناع.
(س): هذا يُشبه قول الغنوصيين
بوجود الأب النوراني الأعلى الذي لا علاقة له بالعالم، والديميرج الإله
الصانع الذي خلَق العالم، أليس كذلك؟
(ج): هذا صحيح؛ فدروب العقل
الإنساني تلتقي كلما افترقَت، وقد حلَّ التصوُّف الإسلامي أيضًا، في
شقه الفلسفي الذي يمثله عبد الكريم الجيلي ومحيي الدين بن عربي، مشكلةَ
صدور العالم عن ذات الله التي لا صفات لها ولا أسماء من خلال تصوراتٍ
مشابهة لتصوُّرات وَحْدة الوجود في الهندوسية. يقول الجيلي في كتابه
الإنسان الكامل — على ما أوردتُ في محور الغنوصية — إن الأصل في
الألوهة هو الكمون والغنى عما سواها؛ فذات الله عبارة عن نفسه التي هو
بها موجود لأنه قائم بنفسه، وهو وجودٌ مطلق لا ظهور فيه لاسمٍ أو نعتٍ
أو إضافة؛ ولذلك ارتفع من حيث الاصطلاح معناه في الكلام، وانتفى أن
يُدرَك للأنام. المتكلم في ذات الله صامت والناظر باهت، ولكن الألوهة
تخرج من كمونها وغناها في علاقتها بالعالم وتتجلى على مراتب؛ الأولى هي
مرتبة الأحدية التي تظهر فيها الممكنات جميعًا ولكن بحكم البطون، فكل
ما سيظهر للوجود فيما بعد كان في حيِّز الممكن الثابت في الذات الإلهية
لا في حيِّز الوجود المتحقِّق؛ فهنا يتجلى المطلَق في نفسه ولنفسه،
وتتأمَّل الألوهة نفسها دون أن تلحقها الاعتبارات والإضافات. والثانية
هي مرتبة الألوهة التي تظهر فيها الأسماء والصفات، والله اسمٌ لرب هذه
المرتبة، وكل الأسماء والصفات واقع تحت هذا الاسم الذي يُبصر به الحق
نفسه وبه يتوصَّل الخلق إلى معرفته. الثالثة هي مرتبة الرحمانية، وهنا
تدخل الألوهية مرحلة الخلق وتتجلى كقدرةٍ خالقة لكل مظاهر الكون. إلا
أن الخلق هنا ليس خلق صانعٍ ماهر، وإنما خلق ألوهة تنقسم إلى حق وخلق
دون أن تفقد وحدتها، فالله يظهر في الموجودات ولكنه لا يتعدَّد بتعدُّد
مظاهره بل هو واحد في تلك المظاهر جميعها. المرتبة الأخيرة هي
الربوبية، والرب اسم لهذه المرتبة، وهي مختصة بعالم الخلق، فإذا كانت
الذات تمثِّل بطون الألوهة وغناها عما عداها، فإن الربوبية هي ظاهر
الألوهة الذي يتجه نحو عالَم الخلق.
وكما أن خروج الألوهة من كُمونها يتم عبر مراتب متتابعة للتجلي، كذلك
يتم تواصُل الإنسان مع عالم الألوهة عَبْر المراتب نفسها وبما يتلاءم
واستعداد كل فرد؛ فعامة الناس يبقون عند ظاهر الألوهة يتعبدون لله
تعالى من حيث اسمه الرب إله الشرائع، وفوقهم العارفون الذين يعبدونه من
حيث اسمه الرحمن، وفوقهم المحقِّقون الذين يعبدونه من حيث اسمه
الله.
(س): يشعر المرء في قراءته للجيلي
أنه قدَّم صيغةً إسلاميةً لوحدة الوجود الهندوسية.
(ج): هذا صحيح؛ فالعقول الإنسانية
تلتقي في النهاية دونما ضرورة لاتصالٍ مباشر، والمتصوفة ينطلقون من
بيئاتٍ ثقافية مُتنوِّعة ليصلوا في النهاية إلى رؤًى مشتركة.
(س): في عقيدة التناسخ تلعَب
الأخلاق الدور الأهم، أما في عقيدة وحدة الوجود فإن العِرفان هو الأهم.
كيف وفَّق البراهمة بين العقيدتَين؟ وأيهما الأجدى بالنسبة إلى الساعي
إلى الانعتاق، الأخلاق أم العرفان؟
(ج): السلوك الأخلاقي في حد ذاته
لا يؤدي إلى الانعتاق، وإنما يؤهِّل صاحبه للدخول في تجسيدٍ أفضل وأرقى
في حياته الثانية؛ ولهذا نجد أن الهندوسي الصالح يلتزم بقواعد الأخلاق
الخاصة بطبقته، فيتزوَّج وينجب ويساهم في كل نشاطٍ بنَّاء تتطلبه حياة
الجماعة إلى أن يصل أواسط العمر، فإذا وجد في نفسه الرغبة والقدرة على
الشروع في رحلة الانعتاق، انسحب من العالم وترك كل ما له علاقة بحياة
الجماعة، وهجر أُسرته التي لم تعُد بحاجة إليه، وتوجَّه إلى الغابات
ليعيش حياة الزهد والتنسُّك وقهر الجسد والتأمل. لقد ترك العالم بخيره
وشره وتحوَّل إلى أرهط؛ أي إلى ناسكٍ متجولٍ يحمل قصعة التسوُّل التي
يضع له فيها من يمُر بهم من القرويين ما يُبقيه على قيد الحياة. نقرأ
في كتاب الأوبانيشاد: «إن طالب الخلود ليس لديه خوفٌ مما ارتكبه من شر،
ولا أملٌ فيما قدَّمَه من خير. لا شيء مما فعله أو لم يفعله يمكن أن
يكون له أهمية عنده.»
(س): الحديث عن التزام الهندوسي
بأخلاق طبقته يثير عندي سؤالًا يتعلق بنظام الطبقات في الهند. متى نشأ
هذا النظام الفريد من نوعه؟ وهل له صلةٌ ما بالدين؟
(ج): عندما دخل الآريون الهند كان
المجتمع الهندي يتألف من طبقتَين هما: طبقة الفاتحين، وطبقة السكان
الأصليين. وقد بقي الأمر على هذا الحال حتى أواسط الألف الأول قبل
الميلاد عندما أخذ نظام الطبقات يتأسَّس حتى صار سمةً بارزة للمجتمع
الهندي الذي انقسم بحدة إلى أربع طبقات هي: (١) الكشاتيريا، وهم
النبلاء من أصحاب الأراضي والمحاربون، (٢) البراهمة. (٣) الفايساس، وهم
عامة الشعب الآري من فلاحين وحرفيين وغيرهم. (٤) الشودرا، أو الخدم،
وهم السكان الأصليون من ذوي البشرة الداكنة. وفي الحقيقة فإن كلمة طبقة
في اللغة السنسكريتية تعني في الأصل لونًا؛ لأن اللون كان أول ما ميَّز
به الآريون البيض أنفسهم عن سكان الأرض السود. وهنالك طبقة تقع خارج
النظام الاجتماعي الهندوسي وهي طبقة المنبوذين الذين يُشكِّلون حثالة
المجتمع، والذين لا يمكن للطبقات الآرية أو لطبقة السود التعامل معها
بأي طريقةٍ كانت، حتى إن طبقة النبلاء أو البراهمة كانت تتلوَّث بمجرد
النظر إلى المنبوذين. وعلى الرغم من أن الطبقات الآرية الثلاث ميَّزَت
نفسها بحدة عن السكان الأصليين، إلا أن الحدود الفاصلة بين الطبقات
الآرية نفسها كانت حادة؛ فالتزاوُج ممنوع وحتى العلاقات الاجتماعية.
وقد كانت الصدارة في البداية لطبقة النبلاء ثم آلت إلى البراهمة، ولكن
النزاع على الصدارة لم يهدأ بين الطبقتَين.
(س): في حديثك عن الطبقات في الهند
أشرتَ إليها مرة على أنها طبقات المجتمع الهندي، ومرةً أخرى على أنها
طبقات المجتمع الهندوسي، فهل كان هذا النظام اجتماعيًّا أم
دينيًّا؟
(ج): كان نظام الطبقات في بدايته
نظامًا اجتماعيًّا في الهند مثلما هو الحال في بقية البلدان، ولم تكن
الحدود بين الطبقات صلبةً مثلما صارت إليه بعد ذلك، ولكن الفكر البرهمي
عندما تبنَّى عقيدة التناسُخ والكارما من جُملةِ ما تبنَّى من عقائد
السكان الأصليين، قام بعقد صلةٍ بين هذه العقيدة ونظام الطبقات
الاجتماعي، فإذا كان البراهماني يتمتَّع بكل ما تُقدِّمه له طبقته من
مزايا، والشودرا يُعاني من كل الشروط الحياتية البائسة لطبقة الخدم،
فلأن كُلًّا منهما قدَّم في حياته السابقة ما يُسوِّغ حياته الحالية.
وبذلك تم ربط نظام الطبقات بالدين، وصارت أي محاولةٍ لإزالة الفروق بين
الطبقات نوعًا من الهرطقة لأنها تُعاكس القانون الكوني للسبب والنتيجة،
وتُجادل في عواقب الكارما.
(س): تحدَّثنا عن بعض نواحي
التشابُه بين عقيدة وَحْدة الوجود في الهندوسية ومثيلتها في التصوُّف
الإسلامي، ولكن ما الذي يميِّز بحدَّة بينهما عدا الإيمان
بالتقمُّص؟
(ج): تنفرد عقيدة وحدة الوجود
بنظرتها إلى الزمن؛ فالزمن لا يسير بشكلٍ خطيٍّ نحو الأمام دون نهايةٍ
منظورة، كما هو الحال في الديانة الفيدية أو أديان الشرق القديم. كما
أنه لا يسير نحو نهايةٍ محتومةٍ مقرَّرة في عقل الخالق، ينتهي عندها
التاريخ ويفنى العالم، كما هو الحال في أديان التوحيد. الزمن في
الهندوسية يتحرك بشكلٍ دائري، والعالم لا يفنى مرةً واحدة وإنما مرات
لا يمكن حصرها، وذلك مع انتهاء كل دورة وابتداء دورةٍ جديدة. في نهاية
كل دورة يتهدَّم العالم بما فيه من بشرٍ وكائناتٍ حيةٍ وآلهة، ويتلاشى
في مياه الأبدية، أما الأرواح التي فَنيَت أجسادها مع ما فَنِي من عالم
الظواهر، فإنها لا تفنى ولا تنعتق، بل تبقى هاجعةً في سكونٍ ناسيةً
أعمالها الماضية، ويخيِّم على الوجود ليلٌ وصمت. وفي أول لحظة من نهار
الدورة الزمنية التالية يُولد الإله براهما ليخلق عالمًا جديدًا وتحمل
كلُّ روحٍ أعمالها وتحلُّ في أجسادٍ جديدة، وهكذا إلى ما لا نهاية حيث
لا يمكن عدُّ الدورات الماضيات ولا أفق تنتهي عنده الدورات الآتيات،
وما من غايةٍ منظورةٍ ولا هدفٍ ولا معنًى.
(س): ما هي المدة الزمنية للدورة
الواحدة؟
(ج): تدوم الدورة مدة ٤٣٢٠٠٠٠٠٠٠
سنة (أربعة مليارات وثلاث مائة وعشرين مليونًا)، وهذه هي الدورة الكبرى
المدعوة كالبا، والتي يأتي العالم في آخرها إلى نهايته. ولكن كل دورةٍ
كُبرى تتألف من ألف دورةٍ صُغرى تُدعى ماهايوغا. وكل دورةٍ صغرى
تتألَّف من أربعة عصور. يتصف العصر الأول بالكمال في كل شيء لأن الناس
يولَدون فيه أخيارًا ويكرِّسون حياتهم لأداء واجباتهم، وهو أطول
العصور. في العصر الثاني يبدأ الفساد بالتسرُّب إلى المجتمع الإنساني؛
ولذلك يتوجَّب على الناس أن يتعلَّموا الفضائل بعد أن كانت مغروسة في
طبعهم. في العصر الثالث يحصُل توازنٌ حرِجٌ بين النقص والكمال. في
العصر الرابع تطغى الرذيلة على الفضيلة، وتسود البغضاء بين الناس وتقوم
المنازعات بينهم، وتنشب الحروب بين الشعوب، وهو أقصر العصور الأربعة،
والعالم الآن يعيش في أحد هذه العصور السوداء.
(س): عندما أتأمَّل هذه
الميثولوجيا الهندوسية التي تشفُّ عن عقلٍ فلسفيٍّ قلَّ نظيره، يبدو لي
أن مذهب وحدة الوجود اقتصر في الهند على نخبة العقول والنفوس
الشفَّافة، فماذا عن بقية شرائح المجتمع؟
(ج): لم يكن الهندي العادي، في
الحقيقة، بحاجة إلى تلك الألوهة الخافية الغائبة براهمان، بقَدْر حاجته
إلى إلهٍ مشخِّص قريبٍ يمكن محبَّتُه وعبادتُه والدخول معه في علاقةِ
محبة، إله يلبي له مطالبه اليومية، ويساعده على تجسُّد أفضل أو حتى على
الانعتاق. وقد كان البراهمة مدركين لهذه الحقيقة، فحاولوا الحصول على
نصيبٍ لهم في الديانة الشعبية، وطوَّروا عقيدة تقول بأن براهمان يتجلى
في عالم الظواهر من خلال ثلاثة آلهة تُمثل الوظائف الرئيسية للألوهة،
وهي الخلق والحفظ والتدمير، وهم برهما الخالق وفيشنو الحافظ وشيفا
المُدمر. وفي العلاقة مع هؤلاء تحُلُّ محبة الإله والإخلاص له محل
الكدح الروحي، وتحُلُّ الأعمال وتأدية الواجبات محل العرفان. وقد أخذ
هؤلاء الثلاثة يستوعبون إليهم وظائف عشرات الآلهة المحلية. وبذلك ظهرت
إلى الوجود ابتداءً من القرن الثاني قبل الميلاد الهندوسية الكلاسيكية
التي سيطرَت على المشهد الديني حتى الوقت الحاضر. وقد أنتجَت هذه
الهندوسية أدبًا حل محل الفيدا والأوبانيشاد وغيرها من الأدبيات
البراهمانية، لعل من أبرز مظاهره ملحمة الماهبهاراتا وملحمة
النارايانا، وأسفار البورانا؛ أي القصص القديم.
كانت عبادة شيفا هي الأقوى والأكثر انتشارًا قبل أن تكسفها عبادة
فيشنو. والخصيصة الرئيسية لشيفا هي التدمير، إلا أن التدمير الذي يقوم
به هو من أجل إفساح المجال لخلقٍ جديد؛ فموت الحياة النباتية ليس سوى
مقدمة لنشأة أشكالٍ جديدةٍ من الحياة تتغذى عليها الحياة الإنسانية،
وموت الإنسان هو تحرُّرٌ مؤقتٌ وتحوُّلٌ إلى حياةٍ أخرى جديدة. وعندما
يقف شيفا عند نهاية الدورة الزمنية الكبرى في مركز الكون، ويرقص رقصته
الشهيرة الهادفة إلى تدميره، إنما يفعل ذلك من أجل خلق كونٍ آخر. وبذلك
فقد غدا شيفا المُدمر رمزًا لطاقة الحياة والتجدُّد، تساعده في ذلك
زوجته شاكتي ذاتُ الأسماء المتعددة؛ فهي مايا، ودوركا، وشاندي، وكالي
السوداء. وترُكِّز عبادة شيفا، أو الشيفاتية، على القِران المقدَّس
بينه وبين شاكتي، فنراهما في الرسوم والمنحوتات في حالة عناقٍ واتحادٍ
جسدي، وهذا الاتحاد هو الذي يُديم طاقة الحياة فاعلةً في عالم الطبيعة
والكائنات الحية. وقد ينوب عن هيئة الإلهَين منحوتة اللينغام-يوني، وهي
تُمثِّل عضو الذكورة وعضو الأنوثة في وضعية الاتحاد. وقد يُنصب تمثالٌ
لقضيب شيفا في المعبد وفيه كوَّة تبدو من خلفها شاكتي.
كانت عبادة شاكتي في البداية موضوعًا ثانويًّا لعبادة شيفا، ولكنها
تحوَّلَت في المناطق الشمالية الشرقية إلى عبادةٍ مستقلةٍ تُدعى
بالشاكتية. وقد ركَّزَت هذه العبادة على شاكتي باعتبارها الإلهة الأم
المُجسدة لطاقة الطبيعة الجامعة للحياة والموت، وهذه الطاقة ليست سوى
مايا، الطاقة الخلَّاقة لبراهمان، والتي يقول فيها المعلِّم الهندوسي
راما كريشنا، الذي عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، ما يأتي: «عندما
أفكِّر في الكائن الأعلى في حالته السكونية عندما لا يحفظ ولا يُدمِّر
ولا يُبدِع فإني أسمِّيه براهمان. وعندما أفكِّر في حالته الفعَّالة
عندما يحفظ ويُدمر ويُبدع فإني أسميه شاكتي أو مايا أو كالي. براهمان
ومايا شيءٌ واحد، تمامًا كما هو الحال مع الحليب وبياضه أو الماس
وبريقه؛ حيث من المستحيل تصوُّر هذا بدون ذاك. الأم الإلهية وبراهمان
هما براهمان وقوَّته.»
(س): يبدو أن مفهوم المايا هو
قاسمٌ مشترك بين العقائد الهندوسية!
(ج): هو قاسمٌ مشتركٌ بين معظم تلك العقائد، ووظيفته هي
تفسير الصلة بين الواحد غير المتجزِّئ والكثرة التي صدرَت عنه بواسطة
المايا، وهذه الكلمة في اللغة السنسكريتية تعني الوهم والخيال وكل
مظهرٍ خادع؛ فالمايا، القوة المقدسة لبراهمان، هي التي تُولِّد المشهد
الكوني وتفعل من داخله، وفي الوقت نفسه هي ذلك المشهد بعينه، ولكن ما
تُولِّده المايا لا يتمتع بوجودٍ حقيقيٍّ لأنه دائم التبدُّل
والتغيُّر، لا يثبُت على حالٍ وأشبه ما يكون بحُلمٍ يمُر في عقل
براهمان؛ ففيما عدا براهمان الكينونة الكاملة والوجود الحق، كل شيءٍ
مؤقَّت وعابر، مظهره كالرغوة التي لا قوام لها أو كالسراب الخادع، إنه
ليس بموجودٍ ولا غير موجود؛ لأنه يتكئ على براهمان كأصلٍ له، لكن
براهمان لا تصله بالعالم صلةٌ سببية؛ لأن العالم ظهر على يد الإله
الخالق برهما أو الإله إشفارا عَبْر المايا.
(س): هذا شيءٌ صعبٌ قبوله على
الفهم العادي. هل نحن أيضًا وهْمٌ في جملة ذلك الوَهْم الكبير؟
(ج): حسنًا، إذا سألتُك: من أنت؟
تقول لي فلان ابن فلان، ولكن من هو فلان؟ هل هو ذلك الجنين في بطن أمه؟
لقد تحوَّل الجنين إلى رضيعٍ بعد الولادة، والرضيع تحوَّل إلى طفل،
والطفل إلى مراهق، والمراهق إلى شاب، والشاب إلى كهل، والكهل إلى شيخ،
والشيخ ارتفع من الوجود، فأي من هذه الأحوال المتبدِّلة يمكن أن
يُمثِّل فلانًا؟ إذا لم تُحِر جوابًا أقول لك إذا لم يكن أيٌّ من هذه
الأحوال يُمثِّل فلانًا، فوجوده لم يكن سوى مايا.
(س): ولكن النفس ليست مايا، إنها
شيءٌ حقيقيٌّ لأنها من نفس براهمان.
(ج): هذا صحيح، ولكن النفس واقعةٌ
في إسار الجهل الذي يُوحي لها بأنها نفسٌ مستقلة، وما دامت على جهلها
هذا فإنها تعاين الكثرة والتنوُّع، كثرة الموضوعات الطبيعية وكثرة
النفوس البشرية، ولكنها عندما تُفلح في الانعتاق فإن الوهم الكبير
ينجلي وترى كلَّ شيءٍ متوحدًا في براهمان، فتنمحي الحدود بين الظواهر
وتذوب الفروق بين الأرواح التي كانت تعيش وَهْم التفرُّد
والاستقلال.
(س): هل لفكرةِ وهميةِ عالم
الظواهر معادلٌ خارج فكر الهند؟
(ج): لها معادلٌ في فكر محيي الدين
بن عربي. لقد أشرتُ سابقًا إلى مفهوم الخلق المستمر عند هذا المفكِّر
الإسلامي، ومفاده أن الله لم يخلُق العالم مرةً واحدة في بداية الزمن،
وإنما هو خالق على الدوام؛ ففي كل لحظةٍ يفنى العالم ثم يُستعاد إلى
الوجود، والكائنات الحية لها مع كل شهيقٍ وزفيرٍ فَناءٌ ثم استعادة،
والبطلان يتطرَّق إلى الأشياء مع الخطرات فهي في تغيُّرٍ مُستمِر، ولو
أمسك الحق سبحانه الإيجادَ عنهم لانعدموا في أسرع من طرفة عين. من هنا
فإن وجود المخلوق لا حقيقة له، ولو كان الوجود للمخلوقات حقيقةً لأشبه
وجود الحق سبحانه، وهذا مُحال.
من هذه المقدِّمات ينطلق فكر ابن عربي إلى فكرة الكون الخيالي، فإذا
كان الوجود الحقيقي هو لله وحده فإن كل وجودٍ آخر لا يعدو أن يكون
خيالًا، ونتاج فعل الخيال الخلَّاق عند الذات الإلهية، فالحياة حُلمٌ
وجميع صور العالم الخارجي خيالٌ في خيال، جوهره التبدُّل الدائم، ولا
شيء يبقى على حاله سوى الله، وكل ما عداه خيالٌ حائل وظلٌّ زائل. من
هنا، فإن ظهور العالم ليس خلقًا عن عدم، بل هو خروج من وجودٍ علمي؛ أي
في علم الله، إلى وجودٍ عَيني. ولكن ما يُخرجه الله من علمه لنراه لا
يتعدَّى كَونَه ممكناتٍ أو قوابلَ للوجود يدعوها ابن عربي بالأعيان
الثابتة في العدم؛ فهي موجودة في علم الله ولها ظهورٌ خيالي في العالم
الخارجي؛ فالإمكان ما فارقها حكمه، وهي محفوظة في خزائن الإمكان ولا
خروج لها منه، ولكن الحق سبحانه فتح أبواب هذه الخزائن حتى نظرنا إليها
ونظرَت إلينا، ونحن فيها وخارجون عنها.