تحت المظلة
انعقد السحاب، وتكاثف كلَيلٍ هابطٍ، ثم تساقط الرذاذ، اجتاح الطريقَ هواءٌ بارد مفعمًا بشذا الرطوبة، حثَّ المارَّةُ خطاهم غير نفر تجمعوا تحت مظلة المحطة، وأوشكت الرتابة أن تجمد المنظر لولا أن اندفع رجل؛ اندفع راكضًا كالمجنون من شارعٍ جانبي، واختفى في شارعٍ آخر على الجانب الآخر، تبعه على الأثر جماعة من الرجال والغلمان وهم يتصايحون: «لِص … أمسكوا اللصَّ!» وما لبثت الضجة أن خفَّت رويدًا حتى ماتت وتتابع الرذاذُ، وخلا الطريق أو كاد، أما المتجمِّعون تحت المظلة فبعضهم ينتظر الباص والبعض لاذ بها خوف البلل. وبُعثت ضجة المطاردة مرةً أخرى، وتدانت في اشتداد وتضخم، ثم ظهر المطارِدون وهم يقبضون على اللصِّ، ومن حولهم الغلمان تهلِّل بأصواتٍ رفيعةٍ حادة. وعند عرض الطريق في المنتصف حاول اللص الإفلات؛ فأمسكوا به وانهالوا عليه صفعًا ولكمًا، فمن شدة الضرب قاوم وضرب كيفما اتفق. وشُدَّت أعين الواقفين تحت المظلة إلى المعركة.
– يا لها من ضرباتٍ قاسيةٍ عنيفة!
– ستقع جريمة أشد من السرقة.
– انظروا .. الشرطي واقف في مدخل عمارة يتفرج.
– بل أدار وجهه إلى الناحية الأخرى.
واشتد الرذاذ؛ فتواصَلَ أسلاكًا فضية بُرهة ثم انهمر المطر، خلا الطريق إلا من المتعاركين والواقفين تحت المظلة، نال الإعياء من الرجال فكفُّوا عن تبادل الضربات، ولكنهم أحاطوا باللص، وتبادلوا كلماتٍ غير مسموعة معه وهم يلهثون. ثم انغمسوا في مناقشةٍ هامة، لم يميزها أحد، دون مبالاة بالمطر. التصقت الملابس بأجسادهم، ولكنهم واصلوا النقاش بإصرار وبلا أدنى اكتراث بالمطر. ووشت حركات اللص بحرارة دفاعه ولكن لم يصدقه أحد. ولوَّح بذراعَيه فكأنما يخطب، ولكن ضاع صوته في البعد وانهلال المطر. إنه بلا شك يخطب، وها هم يصغون إليه، تطلعوا إليه خُرسًا تحت المطر، وظلت أعين الواقفين تحت المظلة مشدودة إليهم.
– كيف أن الشرطي لا يتحرك؟!
لذلك خطرت فكرة؛ أن يكون الحدث منظر تصوير سينمائي!
– لكن الضرب كان حقيقيًّا!
– والمناقشة والخطابة تحت المطر؟
شيءٌ طارئ جذب النظر، فمن ناحية الميدان انطلقت سيارتان في سرعةٍ جنونية، مطاردةٌ حامية فيما بدا، المتقدمة تطير طيرًا، والأخرى توشك أن تدركها، وإذا بالمتقدمة تفرمل بغتة حتى زحفت فوق أديم الأرض، فصدمتها الأخرى صدمةً عنيفةً مدوِّية، انقلبتا معًا محدثتَين انفجارًا، وسرعان ما اشتعلت فيهما النيران. وارتفع صراخ وأنين تحت المطر المنهمر، ولكن لم يهرع أحد من المحدقين به إلى بقايا السيارتَين اللتين أدركهما الخراب على بُعد أمتار منهم، لم يبالوا بهما كما لا يبالون بالمطر. ولمح الواقفون تحت المظلة آدميًّا من ضحايا الحادث يزحف ببطءٍ شديد من تحت سيارة ملطخًا بالدم، حاول النهوض على أربع ولكنه سقط على وجهه سقطةً نهائية.
– كارثةٌ حقيقية بلا أدنى شك.
– الشرطي لا يريد أن يتحرك!
– لا بد من وجود تليفون قريب.
ولكن أحدًا لم يبرح مكانه خشية المطر، وقد انهلَّ انهلالًا مخيفًا، وقعقع الرعد، وانتهى اللص من خطابه، فوقف ينظر إلى مستمعيه بثقة واطمئنان؛ وفجأة راح يخلع ملابسه حتى تجرد عاريًا، رمى بملابسه فوق حطام السيارتَين اللتين أطفأ نيرانَهما المطرُ، دار حول نفسه كأنما يستعرض جسمه العاري، تقدم خطوتَين وتأخَّر خطوتَين، وبدأ يرقص في رشاقةٍ احترافية؛ وإذا بمطارديه يصفقون له تصفيقاتٍ إيقاعية، على حين تشابكت أذرع الغلمان وراحوا يدورون من حولهم في دائرةٍ متماسكة؛ وذُهل الواقفون تحت المظلة ولكنهم رغم ذلك استردوا أنفاسهم.
– إن لم يكن منظرًا تصويريًّا فهو الجنون!
– منظرٌ سينمائي بلا ريب، وما الشرطي إلا أحدهم ينتظر دوره.
– وحادث السيارتين؟
– براعةٌ فنية، وسوف نكتشف المخرج في النهاية وراء إحدى النوافذ.
فُتحت نافذة في عمارةٍ مواجهة للمحطة محدِثة صوتًا لافتًا للنظر، لفتت الأنظار رغم التصفيق وانهمار المطر؛ ظهر بها رجلٌ كامل الزي، فصفَّر صفيرًا متقطعًا، وفي الحال فُتحت نافذةٌ أخرى في نفس العمارة، فظهرت بها امرأةٌ متأهبة الزينة والملابس، فاستجابت لصفيره بإشارة من رأسها، اختفيا معًا عن أنظار الواقفين تحت المظلة، بعد قليل غادرا العمارة معًا، سارا متشابكَي الذراعَين بلا مبالاة تحت المطر، وقفا عند السيارتين المهشمتَين، تبادلا كلمة. أخذا يخلعان ملابسهما حتى تعرَّيا تمامًا تحت المطر. استلقت المرأة على الأرض طارحة رأسها فوق جثة القتيل المنكفئ على وجهه، ركع الرجل إلى جانبها، بدأ غزل رقيق بالأيدي والشفاه، ثم غطَّاها الرجل بجسده ومضى يمارس الحب. وتواصل الرقص والتصفيق ودوران الغلمان وانهمار المطر.
– فضيحة!
– إن لم يكن تصويرًا فهو فضيحة، وإن يكن حقيقة فهو جنون.
– الشرطي يشعل سيجارة.
واستقبل الطريق شبه الخالي حياةً جديدة، جاءت من الجنوب قافلة من الجمال، يتقدمها حادٍ ويقودها رجال ونساء من البدو، عسكرت على مبعدةٍ قصيرة من حلقة اللص الراقص. شُدَّت الجِمال إلى أسوار البيوت ونُصِبَت الخيام، وتفرَّقوا؛ فمنهم من تناول طعامه، أو راح يحتسي الشاي أو يدخن، وبعضهم غرق في السَّمر. ومن الشَّمال جاءت مجموعة من سيارات السياحة محمَّلة بالخواجات، توقفت فيما وراء حلقة اللص، ثم غادرها راكبوها من الرجال والنساء، فتفرقوا جماعات تستطلع المكان في نهم دون مبالاة بالرقص أو الحب أو الموت أو المطر.
ثم أقبل عمال بناء كثيرون تتبعهم لوريات مثقلة بالأحجار والأسمنت وأدوات البناء، وبسرعةٍ مذهلة شيدوا قبرًا رائعًا، وعلى مقربة منه أقاموا من الأحجار سريرًا كبيرًا، فغطَّوه بالملاءات، وزيَّنوا قوائمه بالورد، كل ذلك تحت المطر. ومضوا إلى حطام السيارتَين فاستخرجوا منه الجثث، مهشمة الرءوس، محترقة الأطراف، وضموا إليها جثة المنكفئ على وجهه من تحت العاشقَيْن اللذين لم يكفَّا عن ممارسة الحب، ثم رصوا الجثث فوق السرير جنبًا إلى جنب، وتحوَّلوا إلى العاشقَين فحملوهما معًا وهما لا ينفصلان فأودعوهما القبر، ثم سدوا فوهته، وأهالوا عليهما التراب حتى سوَّوها بالأرض. استقلوا بعد ذلك اللوريات فانطلقت بهم في سرعةٍ عاصفة وهم يهتفون بكلام لم يميزه أحد.
– كأننا في حلم!
– حلمٌ مخيف، ويحسن بنا أن نذهب.
– بل علينا أن ننتظر.
– ماذا ننتظر؟
– النهاية السعيدة.
– السعيدة؟!
– وإلا فبشِّر المنتج بكارثة!
في أثناء الحديث تربَّع فوق القبر رجل يرتدي روبَ القضاء. لم يرَ أحد من أين أتى! من عند الخواجات، أو من عند البدو، أو من حلقة الرقص، لم يعرف أحد! بسط صحيفة بين يديه، وراح يتلو نصًّا كأنما ينطق بحكم، لم يميز كلامه أحد؛ إذ غطى عليه التصفيق وضوضاء الأصوات بشتى اللغات والمطر. ولكن كلماته غير المسموعة لم تَضِع، فانتشرت في الطريق حركات كالأمواج الصاخبة في عنف وتضارب، نشبت معارك في محيط البدو، وأخرى في مواقع الخواجات، واشتعلت معارك بين بدو وخواجات، وجعل آخرون يرقصون ويغنون، وأقبل كثيرون حول القبر، وراحوا يمارسون الحب عرايا، وأخذت النشوة اللصَّ؛ فتفنَّن في رقصه وأبدع، واشتد كل شيء وبلغ غايته؛ القتل، والرقص، والحب، والموت، والرعد، والمطر.
واندسَّ بين الواقفين رجلٌ ضخم؛ عاري الرأس يرتدي بنطلونًا وبلوفر أسود، وبيده منظارٌ مكبِّر، شقَّ مكانه بينهم بعنف واستهتار، وجعل يراقب الطريق بمنظاره متجولًا به بين الأركان. وتمتم: لا بأس .. لا بأس!
تعلقت به أعين المتجمعين تحت المظلة باهتمام: هو؟
– نعم .. هو المخرج.
وعاد الرجل يخاطب الطريق مغمغمًا: استمروا بلا خطأ وإلا اضطررنا لإعادة كل شيء من البدء!
عند ذاك سأله أحدهم: هل سيادتك …
ولكنه قاطعه بإشارةٍ عدائية وحاسمة؛ فازدرد الرجل بقية سؤاله وسكت، ولكن آخرَ استمد من توتر أعصابه شجاعةً فسأله: حضرتك المخرج؟
لم يلتفت إليه، وواصل مراقبته؛ وإذا برأس آدمي يتدحرج نحو المحطة فيستقر على بُعد أذرع منها، والدماء تتفجر من مقطع العنق بغزارة. صرخ الرجال فزعًا، أما الرجل فحدَّق بالرأس مليًّا، ثم غمغم: برافو .. برافو!
وصاح به رجل: ولكنه رأسٌ حقيقي ودمٌ حقيقي.
فوجَّه الرجل مِنظاره نحو رجل وامرأة يمارسان الحب، ثم هتف نافد الصبر: غيِّر الوضْع .. حذارِ من الملل!
ولكن الآخر صاح به: ولكنه رأسٌ حقيقي، فمن فضلك فهِّمنا!
وآخر قال: كلمةٌ واحدة منك تكفي لنعرف من أنت ومن هؤلاء.
وثالث قال بتوسُّل: لا شيء يمنعك من الكلام!
ورابع تضرَّع قائلًا: يا أستاذ لا تضنَّ علينا براحة البال.
ولكن الأستاذ تراجع في قفزةٍ مباغتة، كأنما كان يُداري نفسه خلفهم، ذاب الصَّلف في نظرةٍ مترقَّبة، وتوارت نفخته، كأنما طعَن به السن أو تردَّى في مرض. رأى المتجمعون تحت المحطة نفرًا من الرجال ذوي هيئةٍ رسمية يتجولون غير بعيد من المحطة كأنهم كلاب تشمم. واندفع الرجل راكضًا مجنونًا تحت المطر، انتبه إليه رجل من المتجوِّلين فاندفع أيضًا صوْبه يتبعه الآخرون كعاصفة. وسرعان ما اختفوا جميعًا عن الأنظار مخلِّفين الطريق للقتل والحب والرقص والمطر.
– يا ألطاف الله! لم يكن المخرج كما توهمنا!
– من يكون؟!
– لعله لص.
– أو مجنونٌ هارب!
– أو لعله ومطارديه ضمن المنظر السينمائي.
– هذه أحداثٌ حقيقية لا علاقة لها بالتمثيل.
– ولكن التمثيل هو الفرض الوحيد الذي يجعلها معقولة على نحوٍ ما.
– لا داعي لاختلاق الفروض.
– فما تفسيرك لها؟
– هي حقيقة بصرف النظر …
– كيف أمكن أن تقع؟
– هي واقعة.
– يجب أن نذهب بأي ثمن.
– سنُدعَى للشهادة عند التحقيق.
– ثمة أملٌ باقٍ.
قال ذلك واتجه ناحية الشرطي وصاح: يا شاويش!
كرر النداء أربعًا حتى انتبه إليه الرجل؛ فقطَّب متنحنِحًا، فأشار إليه يستدعيه قائلًا: من فضلك يا شاويش!
نظر الشرطي إلى المطر متسخِّطًا، ثم حبك المعطف حول جسمه، ومضى نحوهم مسرعًا حتى وقف تحت المظلة، تفحصهم بقسوة متسائلًا: ما شأنكم؟
– ألم تَرَ ما يحدث في الطريق؟
لم يحول عينَيه عنهم، وقال: كل من كان في المحطة استقلَّ سيارته إلا أنتم، فما شأنكم؟
– انظر إلى هذا الرأس الآدمي.
– أين بطاقاتكم؟
ومضى يتحقق من شخصياتهم وهو يبتسم ابتسامةً ساخرةً قاسية، ثم سألهم: ماذا وراء اجتماعكم هنا؟
تبادلوا نظرات إنكار، وقال أحدهم: لا يعرف أحدنا الآخر.
– كذبة لم تعد تجدي.
تراجع خطوتَين، سدَّد نحوهم البندقية، أطلق النار بسرعة وإحكام؛ تساقطوا واحدًا في إثر الآخر جثةً هامدة، انطرحت أجسادهم تحت المظلة، أما الرءوس فتوسدت الطوار تحت المطر.