المهمة
(بقعةٌ صحراوية خالية، تقوم في وسطها هضبةٌ صخرية، أمام الهضبة يتمشى شاب
جيئة وذهابًا وهو ينظر في ساعته من آنٍ لآنٍ. الوقت أصيل، الشاب أنيق بدرجةٍ ملحوظة،
والجو
يوحي بأنه ينتظر موعدًا غراميًّا.
يترامى من الخارج وقْع أقدامٍ ثقيلة، الشاب يرهف السمع في قلق، وباقتراب
الأقدام يتجهَّم وجهه، ويتوقف عن المشي، فيلزم مكانه أمام الهضبة.
يدخل رجل في الخمسين، مهمل الهندام، ولكنه قوي البنية، يلقي على الشاب
نظرةً عابرة، ثم يمضي إلى يسار الهضبة فيقف متطلعًا إلى الخلاء.
الشاب ينظر صوب الرجل مقطِّبًا، ولكن الآخر يبدو وكأنه لا يشعر له بوجود،
يقترب منه خطوة.)
الشاب
(مخاطبًا الرجل بصوتٍ مرتفع لا يخلو من تحدٍّ وغضب)
:
ماذا تريد؟ (يظل الرجل رانيًا إلى الخلاء كأنما يسمع
صوتًا)، (بصوتٍ أشد ارتفاعًا) إني أسألك عما تريد؟ (الرجل يبدو مستغرقًا في الأفق، ويترنم مغنيًا).
والله زمان، زمان والله. (بحدة حانقة). لماذا
تتبعني؟ (الرجل يواصل ترنُّمه في هيمان) إنني
أخاطبك وأنت تعلم ذلك، لا أحد سوانا في هذا الخلاء.
الرجل
(ملتفتًا في دهشة)
:
حضرتك تخاطبني؟
الشاب
:
دون سواك!
الرجل
:
معذرة، ماذا قلت؟
الشاب
:
إني أسألك عما تريد مني!
الرجل
(متظاهرًا بالدهشة)
:
أنا؟
الشاب
:
أنت، أنت دون سواك.
الرجل
:
عجيبٌ سؤالك يا سيدي، أنا لا أريد منك أي شيء.
الشاب
:
لم إذن تتبعني بإصرار؟
الرجل
:
أتبعك! إني أراك لأول مرة في حياتي.
الشاب
(بعناد)
:
إنك تتبعني منذ الصباح الباكر، ولم تكُفَّ عن تتبُّعي حتى هذه اللحظة من الأصيل.
الرجل
:
أنت مخطئ في ظنك فأنا لم أرك؛ وبالتالي لم أتبعك.
الشاب
:
لم أذهب إلى مكان إلا رأيتك قادمًا في أثري.
الرجل
:
لا يحق لي أن أكذِّبك، ولكني لم أرك، ولم أتبعك.
الشاب
(بنبرة لا تخلو من تهكم)
:
أهي مجرد مصادفة؟
الرجل
:
سمِّها كيفما شئت.
(صمت، يعود الرجل إلى النظر صوب الأفق، أما الشاب فلا يبرح مكانه،
ولا يكفُّ عن النظر إليه.)
الشاب
:
هل تتفضَّل بإخباري عن الجهة التي تنوي الذهاب إليها بعد هذه الوقفة؟
الرجل
(ملتفتًا نحوه في دهشة)
:
بأي حق تسألني هذا السؤال الغريب؟
الشاب
:
معذرة، أودُّ التخلص من فكرة اتباعك لي.
الرجل
:
أنا لا أعرفك، لم أتبعك، وفي هذا الكفاية!
الشاب
:
ألم توجد في ميدان القلعة صباحًا؟
الرجل
:
بلى.
الشاب
:
ألم تتناول فطورك في مطعم .. فلافل .. بشارع محمد علي؟
الرجل
:
بلى.
الشاب
:
ألم تذهب بعد ذلك إلى مقهى الشمس؟
الرجل
:
بلى.
الشاب
:
ألم تقم بزيارةٍ قصيرة لدار الآثار؟
الرجل
:
بلى.
الشاب
:
ألم تشهد مزادًا بصالة المعروضات بالدقي؟
الرجل
:
بلى.
الشاب
:
ألم تذهب بعد ذلك إلى عيادة الدكتور عرنوسي طبيب الأسنان؟
الرجل
:
بلى.
الشاب
:
ألم …
الرجل
(مقاطعًا)
:
أكنتَ تتبعني يا سيدي؟
الشاب
(ضاحكًا ضحكةً جافة)
:
أنا؟
الرجل
:
أليس من الغريب أن تعرف تحركاتي طيلة اليوم بهذه الدقة؟
الشاب
:
ولكنك كنت، لا مؤاخذة، كأنك كنت تتبعني!
الرجل
:
لقد شغلتَ نفسك بي أكثر مما يُتصور.
الشاب
:
في كل مكان رأيتك قادمًا في أثري، حتى في هذه المنطقة النائية الخالية!
الرجل
:
عجيب أنني لم أرك ولا مرةً واحدة.
الشاب
:
الحق أن عينَينا التقتا أكثر من مرة.
الرجل
:
لا يرى الإنسان جميع ما تقع عليه عيناه من أشياء.
الشاب
:
إذن فأنت لا تتبعني؟
الرجل
:
ولِمَ أتبعك؟
الشاب
:
لعلك تعذرني.
الرجل
:
لك العذر.
الشاب
:
مصادفةٌ عجيبة.
الرجل
:
هي بالقياس إليَّ لا شيء. (الشاب يضحك ضحكةً عصبية، ثم
يسود الصمت، وعندما يهمُّ الشاب بالابتعاد يتكلم الرجل) آسفٌ جدًّا لأني
أزعجتك بغير قصد.
الشاب
:
أن تصدق أن شخصًا ما يتبعك أمرٌ مزعج حقًّا.
الرجل
:
ليس في جميع الأحوال.
الشاب
:
أعني إذا كنت تجهله وتجهل مقصده بالتالي.
الرجل
:
ولكنك شابٌّ مهذبٌ بريء الساحة.
الشاب
:
لا يكفي هذا لإسكات وساوسك ما دمتَ تجهله وتجهل مقصده.
الرجل
(باسمًا)
:
أيهما أبعث على الخوف؛ المجهول أم المعروف؟
الشاب
:
الأمر يتوقف على السبب وعلاقته بنا.
الرجل
:
الحق أننا نخاف أكثر مما ينبغي. (الشاب يصمت
متجهِّمًا) أكرر الأسف.
الشاب
(بعصبية)
:
الحق أنك أفسدت عليَّ يومي كله!
الرجل
:
عجيب أن نرتكب جريمة ونحن لا ندري.
الشاب
:
وجئت إلى هذه البقعة الخالية النائية لأكتشفك وأحرجك!
الرجل
:
لعل مجيئي يقطع ببراءتي.
الشاب
:
ترى ما الذي دعاك إلى المجيء إلى هنا؟
الرجل
:
إنها أحد الأماكن المختارة التي أشهد فيها الغروب.
الشاب
:
أتحب الغروب؟
الرجل
:
إنه أحب ساعات اليوم إلى نفسي.
الشاب
:
ألم يزعجك أن تجدني هنا؟
الرجل
:
أنا أحب الناس.
الشاب
(بعد تردد واضح)
:
هلا أخبرتني عن خطواتك التالية؟
الرجل
:
أما زلت على ريبٍ مني؟
الشاب
:
كلا، ولكني أودُّ أن أمتحن دهاء المصادفة.
الرجل
:
الواقع أني سرت طيلة اليوم على غير هدًى وبلا خطةٍ موضوعة، إنه يوم عطلتي.
الشاب
:
لا بد من فكرة تقودك في يوم عطلتك.
الرجل
:
من طول خضوعي للتخطيط على مدى الأسبوع فإني أتحرر يوم العطلة من أي قيد.
الشاب
:
أما أنا فسأبقى هنا بعض الوقت ثم أذهب إلى حانة «الأحمر والأبيض.»
الرجل
(بحماسٍ مفاجئ)
:
حانة النبيذ الفاخر والسلطة الخضراء .. ما أجملها!
الشاب
:
هل تقرر الذهاب إليها؟
الرجل
:
أعترف بأنك ذكَّرتني بمكانٍ أُحب الجلوس فيه.
الشاب
:
وبعد ذلك سأمضي إلى بيتي.
الرجل
:
من يدري، ربما توثقت العلاقة بيننا في «الأحمر والأبيض» فنمضي إلى البيت
معًا.
(يضحكان معًا، ثم يسود الصمت، يلتفت الشاب إلى الناحية الأخرى فيعود
الرجل إلى التطلع صوب الأفق، الشاب يتمشى غير خالٍ من القلق، يختلس إلى ظهر الرجل
النظرات، ينظر في ساعته، يتضاعف قلقه. تدخل فتاةٌ جميلةٌ متأنقة، ما إن ترى الشاب حتى
تهرع نحوه مُتهلِّلة، ولكنها تنتبه إلى وجود رجلٍ غريب؛ فتتمالك مشاعرها وتلوح في وجهها
خيبة، الشاب يمضي بها إلى يمين الهضبة، يتبادلان قبلة.)
الشاب
:
لسنا وحدنا.
الفتاة
:
ماذا يفعل؟
الشاب
:
ينتظر الغروب!
الفتاة
:
الغروب؟
الشاب
(متهكمًا)
:
أَحب ساعات اليوم إليه.
الفتاة
:
هل تعرفه؟
الشاب
:
كلا.
الفتاة
:
هل حادثتَه؟
الشاب
:
نعم.
الفتاة
:
لِمَ؟
الشاب
:
الواقع أنه لم يفارقني منذ الصباح الباكر.
الفتاة
(بدهشة)
:
كيف؟
الشاب
:
ظننته يتبعني.
الفتاة
:
ما دام لم يفارقك طوال اليوم.
الشاب
:
ولكنه أكد لي أنه لم يرني.
الفتاة
:
وهل صدَّقته؟
الشاب
:
لم أكذبه.
الفتاة
:
ألا ترى أنه يحسن بنا أن نذهب؟
الشاب
:
إني ضنين باللقاء.
الفتاة
:
ولكن قلبي غير مطمئن.
الشاب
:
لعله ينتظر صديقة.
الفتاة
:
ليتها تجيء لتحل المشكلة من أساسها. (يتبادلان قبلةً
طويلة)، (مشيرة إلى الناحية الأخرى من
الهضبة) لم يفارقك طوال اليوم؟
الشاب
:
بلى.
الفتاة
:
لنذهب!
الشاب
:
لماذا يتبعني؟
الفتاة
(بقلقٍ واضح)
:
ترى هل يتعلق الأمر بي؟
الشاب
:
هل سبق لكِ أن رأيتِه؟
الفتاة
:
لا لم ألمح إلا ظهره، وبسرعةٍ عابرة، لم يذكرني بأحد أعرفه.
الشاب
:
لا داعي لكثرة الظنون.
الفتاة
:
أرى أنه يحسن بنا أن نذهب.
الشاب
:
لننتظر فإني ضنين باللقاء.
الفتاة
:
أعترف بأنني بتُّ أكرهه بقدر ما أخافه.
الشاب
:
كيف تخافينه وأنت لم ترَيْ إلا ظهره!
الفتاة
:
إنه ذو قصةٍ مريبة تدعو للانزعاج.
الشاب
:
بوسعنا أن ننساه تمامًا ونعبث بنواياه.
الفتاة
:
نواياه؟!
الشاب
:
أعني إن كان ثمة نوايا يضمرها حقًّا.
الفتاة
:
ولكن كيف؟
الشاب
(وهو يجذبها نحو صدره)
:
هكذا.
(يتعانقان وهما يتبادلان قبلةً طويلة، يواصلان العناق والقُبل كأنما
قد نسيا الآخر تمامًا، في أثناء ذلك يجلس الآخر على الأرض كأنما أتعبته الوقفة، يمدُّ
ساقَيه ويسند رأسه إلى حافة الهضبة، صوت غراب ينعق، الشاب والفتاة يفيقان من سكرة الحب،
يتبادلان النظر في دهشة.)
الفتاة
:
كم مضى من الوقت؟
الشاب
:
لا أدري، ولن أنظر في الساعة؛ فما أحب أن أكدِّر صفونا بالزمن.
الفتاة
(مشيرة إلى الناحية الأخرى)
:
تُرى هل ذهب؟
الشاب
:
سيَّان عندي أن يذهب أو أن يبقى. لا يندُّ عنه صوت، لعله مات. (صمت يتخلله تبادل قُبَل) من الحماقة أن أخافه.
الفتاة
:
ولكنك تجهله.
الشاب
:
هو على أي حال كهل وبوسعي أن أصرعه بلكمةٍ واحدة.
الفتاة
:
ولكني وجدتك قلقًا لدى حضوري.
الشاب
:
لم أكن أفقت من فكرة مطاردته لي.
الفتاة
:
لعله … (وقبل أن تتم كلامها يترامى إليهما شخيرٌ منتظم
من ناحية الرجل؛ يتبادلان نظرةً ذاهلة) نام؟
الشاب
:
لعله شخير رجلٍ آخر.
(الشاب يمضي في حذرٍ شديد نحو الرجل، تتبعه الفتاة، يلقيان عليه نظرةً
داهشة، الرجل يستيقظ لدى وقوع نظرتهما عليه كأنما رُمي بطوبة، ينهض بسرعة ويحدق فيهما
بانزعاج وتحدٍّ معًا.)
الرجل
(متجهمًا)
:
من أنتما؟ .. ماذا تبغيان؟
الشاب
:
لا مؤاخذة لم نقصد إزعاجك!
الرجل
(مستعيدًا تذكره وهدوءه)
:
آه .. أنت .. (صمت وارتباك والرجل يردد بصره بينهما)
(باسمًا) وقعت أحداثٌ جديدة في أثناء غفوتي!
الشاب
:
أي أحداث؟
الرجل
(ناظرًا إلى الفتاة)
:
كنتَ وحدكَ فيما أذكر!
الشاب
:
ثم لحقت بي خطيبتي.
الرجل
(مبديًا دهشةً سمجة)
:
خطيبتك!
الشاب
(بحدة)
:
نعم خطيبتي.
الرجل
(بقحة)
:
وكيف تجيء بخطيبتك إلى هذه البقعة النائية المهجورة؟
الشاب
(غاضبًا)
:
بأي حق تحاسبني على ما أفعل؟
الرجل
(متراجعًا)
:
معذرة. لم أسترد تفكيري السليم بعدُ. (يهم الفتى والفتاة
بالذهاب، ولكن الرجل يسارع باعتراض سبيلهما). متى نذهب إلى حانة
«الأحمر والأبيض»؟
الشاب
:
نذهب؟
الرجل
:
ألم نتفق على ذلك؟
الشاب
:
كلا .. قلتُ لك إني ذاهب لا إننا ذاهبان، وقد عدَلتُ عن قراري.
الرجل
:
يا للخسارة!
الشاب
:
اذهب أنت إذا شئت.
الرجل
:
لعلك ضحكت عليَّ حين كنت تنتظر خطيبتك؟
الشاب
:
لا داعي للأخذ والرد.
الرجل
:
إذن فلم تقصد هذا المكان لتحرجني كما قلت؟
الشاب
:
لنُنهِ حديثًا لا جدوى منه.
الرجل
:
ولكننا وصلنا في الحديث إلى حافة الصداقة.
الشاب
:
لندعْ ذلك إلى فرصةٍ أخرى.
الرجل
(راجعًا إلى مكانه الأول)
:
أتمنى لكما وقتًا طيبًا.
(الرجل يعود إلى موقفه الأول ليرنوَ من جديد إلى الأفق، يعود الشاب
بالفتاة إلى موقفهما إلى يمين الهضبة.)
الشاب
:
ها قد عدنا إلى الجنة.
الفتاة
:
ليتنا لم نغادرها.
الشاب
:
لعنة الله على الفضول.
الفتاة
:
دعني أذهب.
(يضمها إلى صدره ويقبلها؛ فتستسلم دون استجابة.)
الشاب
:
ابتسمي.
الفتاة
:
يا له من رجلٍ كريه.
الشاب
:
لنلقِ به في النسيان.
(يتعانقان حتى يغيبا عن الوجود، في أثناء ذلك يتسلل الرجل من موقفه
حتى يقف قبالتهما ويبدو سعيدًا بمشاهدتهما، ينتبهان إليه. ينفصلان في ارتباك وانزعاج،
الشاب يرميه بنظرةٍ غاضبة.)
الرجل
:
ما أجمل هذا!
الشاب
:
وقاحة!
الرجل
:
استمرَّا في لعبكما الظريف.
الشاب
(محتدًّا)
:
ماذا جاء بك؟
الرجل
:
بالله لا تغضب.
الشاب
:
وقح!
الرجل
:
إنك لا تقدر وقع كلمةٍ قاسية على رجل يحب الناس.
الشاب
:
ماذا جاء بك؟
الرجل
:
أحب أن أرى الأشياء الظريفة.
الشاب
:
احذر أن تدفع ثمن قِحَتك.
الرجل
:
لقد تسلَّلتما لتُلقيا عليَّ نظرة وأنا نائم، وها أنا أرد التحية.
الفتاة
(وهي تهم بالذهاب فيمسك الشاب بها)
:
إني ذاهبة.
الرجل
(للفتاة)
:
لا تذهبي، لم أقصد إزعاجك.
الشاب
:
هذا سلوكٌ غير لائق.
الرجل
:
بل هو طبيعي وجميل.
الشاب
:
اذهب!
الرجل
:
ألا ترى أني أعرض مودتي بغير حساب؟
الشاب
:
اذهب وإلا …
الرجل
:
يجدر بكَ ألا تهددني.
الشاب
:
سأفعل أكثر من التهديد.
الرجل
:
كلا، لا تدفعنا إلى عواقبَ غير محمودة.
الشاب
:
لك.
الرجل
:
ولك أيضًا.
الشاب
:
لا تحملني على تأديبك وأنت في سن أبٍ.
الرجل
:
لا تغتر بفوارق السن.
الفتاة
:
دعني أذهب.
الرجل
(للفتاة)
:
محال أن تكدِّري صفوك بسببي.
الفتاة
:
إذن فابتعد عنا.
الرجل
:
إنها فرصةٌ نادرة لمشاهدة الحب.
الشاب
:
أنت مجنون؟
الرجل
:
أنا رجل يحب مشاهدة الطرائف، جرب ذلك بنفسك إذا شئت.
الشاب
:
ماذا تعني؟
الرجل
(حانيًا رأسه بأدب)
:
دعني أحلُّ محلك، وتفضل بمشاهدتنا أنت لتحكم بنفسك.
(الفتاة تلطمه، الرجل يتلقى اللطمة باسمًا.)
(صمت.)
الفتاة
(هامسة للشاب)
:
دعني أذهب.
الشاب
(بعناد وكبرياء)
:
كلَّا!
الفتاة
:
بل يجب أن أذهب في الحال.
الشاب
(بإصرار)
:
لن تذهبي!
(الرجل يبتعد خطوات، يتحسس خده مكان اللطمة وهو ما يزال
يبتسم.)
الرجل
:
(مخاطبًا الخلاء) بنوايا طيبة أسير، ولكني
أتلقى اللطمات، وكلماتٍ أقسى من اللطمات، لماذا؟ لماذا يصرُّ الناس على الوهم
والحماقة؟ لِمَ لا يقفون على أرض الواقع؟ كيف لا يفرقون بين العدو والصديق؟
الفتاة
(للشاب)
:
لا تكن عنيدًا.
الشاب
:
لن تذهبي!
الفتاة
:
لا فائدة …
الشاب
:
ولكنك لن تذهبي.
الرجل
:
(مستمرًّا في مخاطبة الخلاء) المتعلم والأمي في
الجهالة سواء، لِمَ يسيئون الظن بي؟ ماذا عليهم لو استمروا في لهوهم أمام وجودي
البريء؟ أحب مشاهدة الأفراح، ولا عدو لي إلا الحماقة والأنانية.
الفتاة
(للشاب)
:
إنه مجنون.
الشاب
:
ليكن.
الفتاة
:
إني خائفة.
الشاب
:
لست عاجزًا عن حمايتك.
الرجل
(مخاطبًا الخلاء أيضًا)
:
يخلقون المتاعب من لا شيء ثم يلقون بها في وجهي، أهيم على وجهي باحثًا عن أشياء
ثمينة فلا ألقى إلا الصدَّ، الخلاء يشهد بأنني ذو شأن ولكن اللعنة على الحماقة!
الفتاة
:
إنه مجنون، لن أبقى دقيقةً أخرى. (الفتاة تمضي نحو
الخارج، الشاب يلحق بها فيمسك بيدها) لا بد من ذهابي.
الشاب
:
ولكن …
الفتاة
:
لا تُكرهني على البقاء.
الشاب
:
إذن فلأوصلْكِ.
الفتاة
(مانعةً إياه بيدها)
:
ابقَ هنا حتى لا يتبعنا.
(يتصافحان، تغادر المكان، الشاب يُتبعها عينَيه، الرجل يقترب منه
ولكنه يتجاهله.)
الرجل
:
أقدم لك اعتذاري بقلبٍ ملؤه الأسف. (الشاب يصرُّ على
تجاهله) أي نحس يفسد عليَّ مطالبي البريئة؟! (الشاب يمشي والرجل يتبعه كظله) أكرر الأسف من كل قلبي.
الشاب
(متوقفًا عن المشي في مواجهته)
:
ألَا تخجل من نفسك؟
الرجل
:
انظر إلى جزاء من يسعى إلى حب الناس!
الشاب
:
أتسخر مني؟
الرجل
:
صدِّقني فيما أقول، بيد أني رجلٌ سيئ الحظ.
الشاب
:
لقد ضيعتَ عليَّ ثمرة يومي المرهق الطويل بلا حياء.
الرجل
:
أنا؟
الشاب
:
دون غيرك.
الرجل
:
كلما سعيت إلى إنسان بقلبٍ مفتوح رُميت بهذه التهمة.
الشاب
:
يخيل إليَّ أنك ذو تاريخٍ قديم في النحس.
الرجل
:
لا ذنب لي على الإطلاق. (الشاب يغادره إلى يسار الهضبة
فيتبعه على الأثر.)
الرجل
:
أودُّ أن تؤمن ببراءتي.
الشاب
:
أمن الضروري أن تلاحقني لتحدثني عن نحسك؟
الرجل
:
فرصة طيبة للحديث والتعارف. (الشاب يقطب ثم يسود
صمت) افتح لي صدرك.
الشاب
:
أكنت تتبعني منذ الصباح كما ظننت؟
الرجل
(باسمًا)
:
بصراحة نعم.
الشاب
:
إذن كذبت عليَّ؟
الرجل
:
بسبب نحسي المزمن أصبح الكذب وسيلتي المفضلة للدفاع عن النفس.
الشاب
:
أكنت تعرفني؟
الرجل
:
كلا.
الشاب
:
لمَ تَبِعتني؟
الرجل
:
إني أهيم على وجهي من مطلع الصبح فأتبع أول من يصادفني.
الشاب
:
أيًّا كان؟
الرجل
:
أيًّا كان.
الشاب
:
كل يوم؟
الرجل
:
كل يوم.
الشاب
:
أليس لك عمل في الحياة؟
الرجل
:
ليس لي عمل.
الشاب
:
ثَرِي؟
الرجل
:
موفور الإيراد.
الشاب
:
ما قصدك من مطاردتي؟
الرجل
:
أتصيَّد لحظة للتعارف.
الشاب
:
أليس لك أصدقاء؟
(صمت.)
الرجل
:
وآمل من وراء التعارف أن أحطم أسطورة النحس.
الشاب
(ضاحكًا ضحكةً مكفهرَّة)
:
الآن وقفت على سر الحظ العاثر الذي لازمني طيلة يومي.
الرجل
:
لا تكن كالآخرين.
الشاب
:
في ميدان القلعة زلَّت قدمي فوقعت على ركبتي.
الرجل
(باسمًا)
:
كنت تنظر إلى امرأة في نافذة.
الشاب
:
وفي المطعم شرقتُ حتى قذفتُ بما في معدتي.
الرجل
:
كنت تأكل بسرعة كأنك في سباق!
الشاب
:
وفي مقهى الشمس خسرتُ نقودي.
الرجل
:
كنت تبلف باستمرار حتى كُشِفَ ورقك.
الشاب
:
وفي دار الآثار وقعت على ركبتي المصابة للمرة الثانية.
الرجل
:
كنت شارد اللُّب وتحادث نفسك.
الشاب
:
وأخيرًا أفسدت عليَّ أجمل ثمرة في يومي.
الرجل
:
ألم توقظني من النوم بنفسك؟
(الشاب يعاود ضحكته المكفهرة ثم يسود الصمت.)
الشاب
:
أليس لك أصدقاء؟
الرجل
(متنهدًا)
:
كلَّا.
الشاب
:
ألست رب أسرة؟
الرجل
:
جربت حظي مرات ولكني لم أوفق!
الشاب
(يضحك رغمًا عنه)
:
لا مؤاخذة.
الرجل
:
العفو.
الشاب
:
أظن آن لي أن أذهب.
الرجل
(يتوسل)
:
كلَّا.
الشاب
:
ليس ثَمة ما يدعوني إلى البقاء.
الرجل
:
فلنشهد الغروب معًا.
الشاب
:
لا أحب الغروب.
الرجل
:
ثم نذهب إلى حانة «الأحمر والأبيض».
الشاب
:
لن أذهب!
الرجل
:
إذا كنت مفلسًا فلا يهمك.
الشاب
:
لن أذهب.
الرجل
:
تكره مرافقتي؟
الشاب
:
نعم.
الرجل
:
لا تجعل للخرافة سيطرة عليك.
الشاب
(محتدًّا)
:
إنك وراء ما فقدت من صحة ومال وحب!
الرجل
:
أقْلِع عن الخرافات.
الشاب
:
أقلع أنت عن نحسك.
الرجل
:
أتوسل إليك أن تبقى ولو حتى ساعة الغروب فحسب.
الشاب
:
وداعًا.
(الشاب يمضي صوب الخارج بعزم وصرامة، الآخر ينظر إليه بأسف، عند
منتصف المسافة يتوقف الشاب فجأة، ويعلو صوته بالتأوُّه، ثم ينحني قابضًا بيديه على ركبته،
الرجل يلحق به متسائلًا.)
الرجل
:
مالك؟
الشاب
:
ركبتي!
الرجل
:
مدَّ ساقك، دلِّكها.
الشاب
:
نار .. نار موقدة!
(يثب راجعًا على قدمه الأخرى حتى يجلس في أسفل الهضبة، يمدُّ ساقه
السليمة ويُثني الأخرى، ثم يتأوَّه من الأعماق.)
الرجل
:
ماذا حدث؟ .. كنت في غاية الصحة!
الشاب
:
الحق أنها لم تعد إلى حالتها الطبيعية أبدًا!
الرجل
:
لكنك لم تشكُ طيلة الوقت.
الشاب
:
كان يعاودني ألمٌ خفيف فظننته عابرًا.
الرجل
:
حالةٌ طارئة لا تلبث أن تزول.
الشاب
:
لعل وعسى.
الرجل
:
من المفيد أن تُدلِّكها.
الشاب
:
لا أستطيع لمسها!
الرجل
:
حالٌ بسيطة فيما أعتقد.
الشاب
(متأوهًا)
:
قلبي يحدثني بأن الأمر أخطر مما تتصور.
الرجل
:
لا تعتمد كثيرًا على حديث قلبك.
الشاب
:
صدقني فإن الحال خطيرة حقًّا.
الرجل
:
أرجو أن تكون واهمًا.
الشاب
:
أريد إسعافًا عاجلًا!
الرجل
:
سأذهب لاستدعاء الإسعاف.
الشاب
:
وتعود بسرعة من فضلك.
الرجل
:
لا أظن؛ فإن أقرب تليفون يقع على مسيرةٍ غير قصيرة.
الشاب
(بقلق)
:
لا تتركني وحدي طويلًا.
الرجل
:
ماذا تخاف؟
الشاب
:
المساء قريب، وهذه بقعة غير مأمونة لإنسانٍ عاجز.
الرجل
:
وما الحل؟
الشاب
:
هل يمكن أن أسير معتمدًا عليك؟
الرجل
:
سأضطر إلى حملك وهو ما أعجز عنه، جرِّب أن تسير على مهل.
الشاب
:
الحال أخطر مما تتصور.
الرجل
:
لا بد من حل، وبخاصة أنني لن أبقى بعد الغروب.
الشاب
:
ولكنك لن تتركني وحدي!
الرجل
:
أخشى أن أضطر إلى ذلك إذا لم تسعفني بحل.
(صمت وتأوه.)
الشاب
:
ولكنك لن تفعل ذلك.
الرجل
:
لا يمكن أن أبقى هنا إلى ما شاء الله، ولكني سأُتَلْفن للإسعاف في طريق العودة.
(الشاب يرمقه بنظرةٍ صامتةٍ متألمة) سأفعل من
أجلك ما لا تنتظره من رجل لا تعرفه ولا يعرفك.
الشاب
(بحياء)
:
حدثتني عن رغبتك في الصداقة وأمامك فرصة لربطنا برباط المودة إلى الأبد.
الرجل
(بشيء من الجفاف)
:
ولكنك رفضت يدي!
الشاب
:
اغفر لي غضبي الأحمق!
الرجل
:
الحق أنك كرهتني طوال الوقت.
الشاب
:
الإنسان عدو ما يجهله، ولكني سأعرفك من خلال سلوكك النبيل.
الرجل
(بنبرة لم يعد بها أثر من الرقَّة القديمة)
:
لا أقبل اصطياد صداقة تحت وطأة ظروفٍ قاهرة.
الشاب
(بضراعة)
:
ولكنك إنسانٌ كبير القلب.
الرجل
:
أول كلمةٍ طيبة أسمعها منك.
(صمت.)
الشاب
:
ماذا تنوي أن تفعل؟
الرجل
:
سأشاهد المغيب ثم أذهب.
الشاب
:
وتتركني عاجزًا للخلاء والليل؟
الرجل
:
لا حيلة لي في ذلك.
الشاب
:
سيكون سلوكك غير إنساني.
الرجل
:
لم ألقَ من السير وراء الناس إلا الصدَّ والاتهام واللعنة! (الشاب يتأوَّه) أأنا الذي خلقت النحس حقًّا؟! (الشاب
يتأوه) كيف تعاملون التُّربي؟ .. إنه يواري جثتكم في التراب، يصون كرامتكم، يعرض
نفسه لألوانٍ شتى من المخاطر، ويستحق في أحاديثكم التقليدية الجنة بغير حساب، ولكنه
لا يسعد في حياته بصديقٍ واحد، ويمضي وحيدًا كالوباء.
الشاب
:
الوقت يمرُّ والحال تزداد سوءًا.
الرجل
:
كم صددتني! كم أهنتني! ولم تصدق أنني إنسان إلا بعد إصابتك وقبيل الغروب.
الشاب
:
يا لسوء حظي!
الرجل
:
ها أنت تعود إلى اتهامي.
الشاب
:
لم أقصد هذا ألبتة.
الرجل
:
ألستُ النحس الذي سلبك المال والحب والصحة؟
الشاب
:
سيدي!
الرجل
:
أين فتاتك؟
الشاب
:
لا سبيل إليها الآن.
الرجل
:
أليست هي أوْلَى بتمريضك مني؟
الشاب
:
إنها لا تعلم بما حلَّ بي.
الرجل
:
زهدت لوجودي في وصالك نفسه.
الشاب
:
(متأوهًا) أريد إسعافًا.
الرجل
:
سأُتلفِنُ للإسعاف في طريق العودة.
الشاب
:
لا تتركني.
الرجل
(متأففًا)
:
إنك مزعج في مرضك كما كنت مزعجًا في صحتك.
الشاب
:
ألا ترى كم أنهكني المرض؟
الرجل
:
ألا ترى كم أنهكني السير؟
(صمت.)
الشاب
:
أليس لك خبرة بالإسعافات الأولية؟
الرجل
:
لا خبرة لي بشيء.
الشاب
:
ولكنك في سن الحكمة والخبرة.
الرجل
:
أعرف كيف أسير على غير هدًى، وأعرف كيف أسير في أعقاب إنسانٍ أحمق، وأعرف كيف آمل
دوامًا في علاقة لا تتحقق أبدًا.
الشاب
(بضراعة متأوِّهة)
:
لا تذهب.
الرجل
:
سأذهب عندما يجب الذهاب.
الشاب
:
لا تذهب.
الرجل
:
اعتدت أن يقال لي اذهب عندما أرغب في البقاء، وأن يقال لي لا تذهب عندما يجب
الذهاب.
(الشاب يتأُوَّه، جو المغيب يهبط فيغطي الخلاء، الرجل يمضي إلى يسار
الهضبة ليتطلع إلى الشمس الغاربة.)
الشاب
:
لا تبتعد عن إنسان يتألم لتشاهد شمسًا تغرب.
الرجل
:
صه، لا تكدر صفو الساعة؛ الساعة الفريدة، الوحيدة التي تلمس فيها حركة الشمس،
الوحيدة التي تنظر فيها إلى الشمس دون أن تصاب بالعمى، الوحيدة التي يرى فيها
الظلام وهو يزحف، الوحيدة التي أسمع فيها التوسلات بدلًا من اللعنات، ها هي الشمس
تختفي تمامًا.
(الرجل يتحول عن موقفه متجهًا نحو الشاب ويرنو إليه دقيقة.)
الرجل
:
الوداع.
(ثم يسير على مهل نحو الخارج.)
الشاب
:
لا تذهب (يواصل السير غير ملتفت إليه)
أستحلفك بالله. (يواصل سيره) انتظر! انتظر!
(الرجل يختفي) عليك اللعنة! (الشاب ينظر فيما حوله بخوف، الظلام يهبط رويدًا رويدًا حتى
يختفي كل شيء)، (تمرُّ فترةٌ قصيرة على تلك الحال)(ثم تترامى أضواء من وراء الهضبة، ويُسمَع وقع أقدامٍ قادمة. من
يمين الهضبة ومن يسارها يجيء رجلان حاملَين مشعلَين، يرتدي كلٌّ منهما سروالًا
وصدارًا أحمرَين، يقفان على مبعدة من الشاب إلى اليمين وإلى اليسار، ويلازمان
الصمت طوال الوقت. يبدو الشاب على ضوء المشعلَين مستغرقًا في النوم، ثم يتبعهما
رجلان في أرديةٍ سوداء يحمل كلٌّ منهما سوطًا وحبلًا معقودًا، يقفان عن يمين الشاب
ويساره وهما يحملقان في وجهه، يوثقان يدَيه وقدمَيه بإحكام، ثم يعودان إلى
وقفتهما ممعنَين فيه النظر، الشاب يفتح عينَيه، ينظر إلى الأمام في ذهول. يهمُّ
بالحركة فيدرك أنه مُكبَّل بالحبال، ثم ينتبه إلى وجود الرجال الأربعة، يردد عينَيه
بينهم في دهشة ووجل) من أنتم؟ وماذا تريدون؟
الرجل ١
(للرجل رقم ٢ في تهكُّم)
:
إنه لا يعرفنا!
الرجل ٢
(في تهكُّم أيضًا)
:
طبعًا. إنه يرانا لأول مرة.
الرجل ١
(للشاب)
:
أليس كذلك أيها المخادع المارق!
الرجل ٢
:
أنت لا تعرفنا، هه؟
الشاب
:
آسف، لم أكن أفقتُ من النوم بعد.
(يركلانه بقدمَيهما فيصرخ.)
الشاب
:
الرحمة.
الرجل ١
(ضاحكًا)
:
ابن الأبالسة يطلب الرحمة!
الشاب
:
لا تحكموا عليَّ بالظواهر، أنا بريء …
الرجل ٢
:
نفس الكلمات، لا جديد، نفس الأكاذيب العفنة!
الشاب
:
كنت دائمًا حسن النية، ولكن الزمن عنيد.
الرجل ١
:
الزمن، الزمن، ذلك المتهم الوهمي.
الشاب
:
الرحمة.
الرجل ٢
:
الرحمة؟
الشاب
:
العدل.
الرجل ١
:
لا يدري ماذا يطلب!
الشاب
:
الرحمة والعدل.
الرجل ٢
:
قلت الرحمة ثم العدل، فماذا تطلب الرحمة أم العدل؟
الشاب
:
الرحمة والعدل.
الرجل ١
:
لا تكن طماعًا.
الرجل ٢
:
نحن لا نعطي عادة إلا الموت.
الرجل ١
:
والرحمة والعدل لا يجتمعان.
الشاب
:
ولم لا يجتمعان؟
(يركلانه مرةً ثانية فيصرخ.)
الرجل ١
:
هذا التأديب عدل لأنك تستحقه، فكيف يمكن أن تعامَل بالرحمة في الوقت نفسه؟!
الرجل ٢
:
حدِّد أفكارك عما تريد، العدل أم الرحمة؟
الرجل ١
(بحدة)
:
العدل أم الرحمة؟
الشاب
:
الرحمة، لعل الرحمة هي ما أريد.
الرجل ١
:
ألست على يقين مما تريد؟
الشاب
:
لستُ على يقين من شيء، لقد أنهكني التعب.
الرجل ٢
:
ألم تبدِّد الوقت بغير حساب؟
الشاب
:
يلزمني شيء من الراحة لأحسن الإجابة، فكُّوا قيودي لأحظى ببعض الحرية.
الرجل ١
(ضاحكًا)
:
ها هو ينادي بالحرية كمطلبٍ جديد!
الرجل ٢
:
الحرية بعد العدل والرحمة!
الشاب
:
أليست جميعها أخوات لا يفترقن؟
الرجل ١
:
ابن الأبالسة عقد بينها أواصر القُربى ليطالب بالدنيا والآخرة!
الرجل ٢
:
استمر في الطلب إلى غير نهاية، وبلا حياء، ماذا تريد أيضًا؟ ثورة؟ صحة؟ جاه؟ ما
رأيك في الحب؟ الذرية؟ طاقية الاختفاء؟ جناحَين للطيران؟ هرمونات لتجديد الشباب؟
مهضِّمات ومليِّنات ومسهِّلات؟ فاتحات شهية؟ جواز سفر إلى جميع البلدان؟ ماذا تريد أيضًا؟
الشاب
:
بعض الرفق، نحن إخوة.
الرجل ١
:
إخوة! من ناحية الأب أم من ناحية الأم؟!
الشاب
:
أعني أننا جميعًا بشر.
الرجل ١
:
تريد أن تستغلنا باسم البشرية، هه؟ ولأنك تتكون من نفس العناصر التي يتكون منها
الكون فسوف تحاول استغفال الكون كله، ماذا تريد أيضًا؟
الشاب
:
إني متألم فكُّوا قيودي.
الرجل ٢
:
تريد الحرية؟
الرجل ١
:
إن كنت تريد الحرية فاختر بنفسك الوسيلة التي نقتلك بها.
الشاب
:
لا تسخروا مني، لا تعارض يا سادة بين الحرية والعدل والرحمة!
الرجل ١
:
كذبت، كل واحدة منها تستورد من بلد غير البلد التي تستورد منه الأخرى.
الرجل ٢
:
ويؤدَّى ثمنها الباهظ بالعملة الصعبة.
الشاب
:
إني متألم لحد العجز.
الرجل ١
:
الحرية، أم العدل، أم الرحمة؟
الرجل ٢
:
نريد جوابًا صريحًا غير متردد.
الرجل ١
:
جوابٌ صريح لا رجعة فيه.
الرجل ٢
:
إن أردتَ الرحمة قتلناك بلا تحقيق، وإن أردت العدل قتلناك بعد تحقيق، وإن أردت
الحرية فاقتل نفسك بالوسيلة التي تفضلها!
الرجل ١
:
ماذا تريد؟ تكلم بوضوح وصراحة، العدل أم هرمونات تجديد الشباب؟ الرحمة أم جواز
سفر إلى جميع البلدان؟ الحرية أم أملاح الفواكه الفوارة؟ ما طريقة القتل المفضلة
لديك؟ ألك وصية بما يتعلق بجثتك؟ .. أترغب في دفنها؟ في حرقها؟ في تركها في الخلاء؟
في شحنها إلى بلدٍ معين؟
الرجل ٢
:
ماذا تريدنا على أن نفعل بالذرات التي يتكون منها جسدك؟ أن نتركها للديدان؟ أن
نهبها للجمعية الطبية؟ أن نصنع منها قنابل مدمرة؟
الشاب
:
لا سبيل إلى التفاهم فيما بيننا.
(يركلانه فيصرخ.)
الرجل ١
:
لقد بدَّدتَ وقتنا سُدًى، ألهذا أرسلناك؟
الشاب
:
أرسلتموني؟ متى كان ذلك؟ لم يرسلني أحد!
الرجل ٢
:
يا لك من كذابٍ مخادع!
(يركلانه فيصرخ.)
الرجل ١
:
أحقًّا لم يرسلك أحد؟
الشاب
:
معذرة، ضعفت ذاكرتي من المرض والإنهاك، معذرة.
الرجل ٢
:
أم تريد أن تتنصل من المهمة التي كُلِّفت بها؟
الشاب
:
المهمة؟
الرجل ٢
:
المهمة التي كُلِّفتَ بها!
الشاب
:
أي مهمة؟
الرجل ٢
:
يا لك من كذاب مخادع!
(يضربه بالسوط؛ الشاب يصرخ.)
الرجل ١
:
وإلا فلماذا أرسلناك؟
الشاب
:
أنتم صادقون وأنا معذور؛ الزحام هناك شديد، والأصوات مزعجة، وعملي اليومي استغرق
جُلَّ وقتي.
الرجل ١
:
وما عملك اليومي؟
الشاب
:
مدرس تاريخ.
الرجل ٢
:
حدثنا عن دروسك، ماذا فعل الإنسان القديم؟
الشاب
:
اكتشف الزراعة، صنع التقويم، بنى الأهرام، هزم وانهزم …
الرجل ١
:
ألم يذكرك شيء من ذلك بمهمتك؟
الشاب
:
كنت مستغرقًا طوال الوقت.
الرجل ١
:
ألم تخطر بذاكرتك ولو كالهمس؟
(الشاب يصمت، الرجل ١ يضربه بالسوط فيصرخ متوجعًا.)
الرجل ٢
:
اعترف.
الشاب
:
اللعنة على ذاكرة لا تسعف صاحبها بما يجب أن يتذكره.
الرجل ١
:
كذَّاب!
الرجل ٢
:
اعترف بأنك تجنبتَ ذكر ما يجرُّ عليك المتاعب.
الرجل ١
:
مخادعٌ جبان.
الشاب
:
جرِّبوني مرةً أخرى!
الرجل ١
:
لتعبث بنا مرةً أخرى.
الشاب
:
أعطوني رسالةً مكتوبة كي لا أنسى.
الرجل ٢
:
وكيف نحيط بالظروف المتقلبة التي تواجهك؟
الشاب
:
الزحام هناك شديد وهو خليق بأن يُشتِّت الذاكرة.
(الرجل ٢ يضربه بالسوط، الشاب يصرخ.)
الرجل ١
:
ماذا فعلتَ بيومك الطويل؟ لم قصدتَ ميدان القلعة؟
الشاب
:
كنت أسير على غير هدًى.
الرجل ١
:
تسير على غير هدًى وأنت لم تُرسل إلى هناك إلا لمهمة؟
الشاب
:
كان اليوم عطلة.
الرجل ٢
:
ألم تقل لك القلعة شيئًا يذكرك بمهمتك؟
الشاب
:
زلَّت قدمي فوقعتُ على ركبتي.
(الرجل ٢ يضربه بالسوط فيصرخ الشاب.)
الرجل ٢
:
ألم يوحِ المطعم لك بشيء؟ ولا المقهى؟ ولا دار الآثار؟ ولا صالة المزاد؟ ولا
عيادة الطبيب؟
(الشاب يصمت في يأس.)
الرجل ٢
:
وماذا جاء بك إلى الخلاء؟
الشاب
:
فتاة.
الرجل ٢
:
ولِمَ اخترتَ للِّقاء مكانًا هو أصلح لدفن الموتى؟ (صمت) لم يُذكِّرك اللقاء بشيء عن مهمتك؟
الشاب
:
ثمة رجلٌ كريه كان يتبعني طول الوقت فشتَّت فكري.
الرجل ١
:
حتى ذلك الرجل لم يذكِّرك بشيء!
الشاب
:
هو النحس نفسه، وقد أفسد كل شيء.
(الرجل ١ يضربه بالسوط فيصرخ الشاب.)
الرجل ١
:
ضيعت وقتك ووقتنا يا جبان.
الرجل ٢
:
وكانت الفرص تناديك من كل جانب يا أعمى.
الرجل ١
:
ولَمْ نبخل عليك بالتحذير تلو التحذير.
الشاب
:
ما تلقيت تحذيرًا قط.
الرجل ١
:
كذاب، غبي، أعمى.
الشاب
:
الرحمة!
الرجل ٢
:
الرحمة أم العدل أم الحرية؟
الرجل ١
:
أم فاتحات الشهية، أم هرمونات الشباب؟
(يضربان معًا بالسوط وهو يصرخ متوجعًا.)
(الرجل ١ يشير إشارةً خاصة إلى الرجلَين حاملَي المشعلَين، الرجل ١
والرجل ٢ يذهبان إلى مكانهما الأول وراء الهضبة.)
حامل المشعل
(مخاطبًا الشاب)
:
لِمَ تحنُّ أسراب الطيور المهاجرة إلى أعشاشها التي تركتها في الجبل؟ (يحمل الشاب بين يديه ثم يقول له) تذكر أن الطفل
يبكي حين تنحيه أمه عن ثديها الأيمن، ولكنه يجد في اللحظة التالية سلوه في ثديها
الأيسر. (يمضي حامل المشعلين في مشيةٍ متمهلة، والآخر
يتبعه حاملًا الشاب بين يديه.)
(ستار)