الحاوي خطف الطبق
قالت لي أمي: آن لك أن تكون نافعًا.
ودسَّت يدها في جيبها وهي تقول: خذ هذا القرش واذهب لتشتري الفول، لا تلعب في الطريق، وابتعد عن العربات.
تناولتُ الطبق ولبست قُبقابي، وذهبت وأنا أترنم بأغنية. وجدت زحامًا أمام بيَّاع الفول؛ فانتظرت حتى عثرت على منفذ إلى الطاولة الرخامية، وهتفتُ بصوتي الرفيع: بقرش فول يا عم.
سألني بعجلة: فول خالص، بزيت، بسمن؟
لم أجد جوابًا، فقال لي بخشونة: وسِّع لغيرك.
تراجعت مسحوبًا بخَجلي وعُدت إلى البيت خائبًا، فصاحت بي أمي: راجع بالطبق فارغًا، دلقت الفول أم ضيعت القرش يا شقي؟
فتساءلت محتجًّا: فول خالص، بزيت، بسمن، لم تخبريني!
– يا خيبة، ماذا تأكل كل صباح؟!
– لا أعرف!
– خيبة .. خيبة، قل له فول بزيت!
مضيت إلى البياع، وقلت له: بقرش فول بزيت يا عم.
سألني مقطِّبًا نافد الصبر: زيت حار، زيت طيب، زيت زيتون؟
بهتُّ فلم أُحر جوابًا أيضًا، فصاح بي: وسع لغيرك.
رجعت مغيظًا إلى أمي، فهتفت داهشة: عدتَ كما ذهبت، لا فول ولا زيت.
فقلت بغضب: زيت حار .. زيت طيب .. وزيت زيتون .. لِمَ لَم تخبريني؟
– فول بزيت يعني فول بزيت حار.
– إيش عرفني؟
– اِنت خِيبة، وهو رجل مُتعب، قل له بزيت حار.
ذهبت مسرعًا، وهتفت بالبياع وأنا على مبعدة أمتار من دكانه: فول بزيت حار يا عم.
وقفت ورأسي بحذاء الطاولة الرخامية وأنا ألهث. وكررت بانتصار: فول بزيت حار يا عم.
دس المغرفة في القدر قائلًا: ضع القرش على الرخامة.
وضعت يدي في جيبي فلم أعثر على القرش، فتشت عنه بقلق. قلَّبت الجيب ظهرًا لبطنٍ ولكني لم أجد له أثرًا؛ استرد الرجل المغرفة فارغة وهو يقول بقرفٍ: ضيعت القرش، أنت ولد لا يُعتمد عليك.
نظرت فيما تحت قدميَّ وحواليَّ وأنا أقول: لم أضيعه .. كان في جيبي طول الوقت.
– وسع لغيرك، وقل يا فتاح يا عليم.
عُدت إلى أمي فارغًا، فصرخت في وجهي: يا خبر أسود، أنت يا ولد عبيط؟
– القرش.
– ما له؟
– ليس في جيبي.
– اشتريت به حلوى؟
– أبدًا والله.
– كيف ضاع؟
– لا أعرف.
– تقسم على المصحف أنك لم تشترِ به شيئًا؟
– أقسم …
– جيبك مثقوب؟
– أبدًا.
– ربما تكون أعطيته للبياع في المرة الأولى أو الثانية؟
– يمكن.
– ألست متأكدًا من شيء؟
– أنا جائع.
ضربت كفًّا بكف، وقالت: أمري لله، سأعطيك قرشًا آخر، ولكني سآخذه من حصالتك، وإذا عدت بالطبق فارغًا سأكسر رقبتك!
وذهبتُ جريًا وأنا أحلم بفطورٍ لذيذ، وعند المنعطف المفضي إلى حارة البياع رأيت حلقة من الصبيان والأطفال، وسمعت تهليل أفراح. ثَقُلت قدماي وشُدَّ قلبي إليهم، على الأقل أُلقي نظرةً عابرة. اندسستُ بينهم، فإذا بالحاوي يطالعني، غمرتني فرحةٌ مذهلة، نسيت نفسي تمامًا، استمتعت بكل قوة بألعاب البيض والأرانب والحبال والثعابين، ولما اقترب الرجل ليجمع النقود تراجعت هامسًا: «لا نقود معي.» انقضَّ عليَّ متوحشًا، تخلصت منه بصعوبةٍ، جريت ولكْمَته تشُق ظهري، ولكني سعدت للغاية، وذهبت إلى البياع وأنا أقول: بقرش فول بزيت يا عم.
جعل ينظر إليَّ ولا يتحرك، فكرَّرت الطلب، فسألني بغيظ: هات الطبق.
– الطبق! أين الطبق؟ سقط مني وأنا أجري؟ خطفه الحاوي؟
– أنت يا ولد عقلك ليس في رأسك!
عدت أُفتِّش في الطريق على الطبق المفقود؛ وجدت موضع الحاوي خاليًا، ولكن أصوات الأطفال دلتني عليه في حارةٍ قريبة. دُرت حول الحلقة، لمحني الحاوي، فصاح بي مهددًا: ادفع أو فاذهب أحسن لك.
فهتفت بيأس: الطبق!
– أي طبق يا ابن الشياطين؟
– رُد إليَّ الطبق.
– اذهب وإلا جعلتك طعامًا للثعابين.
إنه سارق الطبق، ولكني ابتعدت عن مرمى عينيه اتقاء لشره، ومن القهر بكيت، وكلما سألني مارٌّ عما يبكيني قلت له: «خطف الحاوي الطبق.» وانتبهت من كربي على صوت يقول: «اتفرج يا سلام.» نظرت خلفي فرأيت صندوق الدنيا قائمًا، ورأيت عشرات من الأطفال تُهْرع إليه. وتتابع وقوف المشاهدين أمام عينَي الصندوق، وراح الرجل يشرح الصور بإغراء: «عندك الفارس الهمام، وست الكل زينة البنات.» جفت دموعي وتطلعت إلى الصندوق بشغف، نسيت الحاوي تمامًا والطبق، لم أستطع مقاومة الإغراء، دفعت القرش ووقفت أمام العين إلى جانب بنت وقفت أمام العين الأخرى، تسلسلت أمام ناظريَّ صور الحكايات الخلابة. ولما عدت إلى دنياي كنت فقدت القرش والطبق ولم يعد للحاوي من أثر، لم أفكر فيما فقدت، واستغرقتني صور الفروسية والحب والصراع، نسيت جوعي، حتى المخاوف التي تتهددني في البيت نسيتها. تراجعت خطوات لأستند إلى جدارٍ أثري كان يومًا ما مبنًى لبيت المال ومقرًّا للقاضي، واستسلمت بكليتي للأحلام. حلمت طويلًا بالفروسية وزينة البنات والغول، وتكلمت في حلمي بصوت يسمع، ولوَّحت بيدي بأكثر من دلالة، وقلت وأنا أدفع بالحربة الخيالية: خذ يا غول في قلبك.
وجاءني صوتٌ رقيق قائلًا: ورفع زينة البنات خلفه فوق الحصان.
نظرت إلى يميني فرأيت الصَّبيَّة التي زاملتني في الفرجة؛ تبدت في فستانٍ متسخ وقبقابٍ ملون وهي تعبث بضفيرتها الطويلة، وفي يدها الأخرى حبات بيضاء وحمراء من «براغيث الست» تستحلبها على مهلٍ. تبادلنا النظر، مال قلبي إليها، فقلت لها: نجلس لنستريح.
بدت مستسلمة لاقتراحي، فأخذتها من ذراعها ودخلنا من بوابة الجدار الأثري، فجلسنا على درجة من سُلمه الذي لا يفضي إلى شيء؛ سُلم يرتفع درجات حتى ينتهي إلى بسطة تلوح وراءها السماء الزرقاء والمآذن. جلسنا صامتَين جنبًا إلى جنب، قبضتُ على يدها، وجلسنا صامتَين لا ندري ماذا نقول. وتناوبتني مشاعرُ غريبة وجديدة ومبهمة، قربت وجهي من وجهها، فشممت رائحة شعرها الطبيعية تخالطها رائحةٌ ترابية وعبير أنفاس ممزوج بشذا الحلوى. قبَّلت شفتيها. ازدردت ريقي الذي اقتبس مذاقًا حلوًا من ذوب براغيث الست، أحطتها بذراعي دون أن تنبس بكلمة، وأقبل خدها وشفتها، فتسكن شفتاها عند تلقِّي القُبلة ثم تعودان إلى استحلاب الحلوى. وقررَّتْ أخيرًا أن تقوم، قبضت على ذراعها بجزع وأنا أقول: اجلسي.
فقالت ببساطة: أنا ذاهبة.
فسألتها بضيق: إلى أين؟
– إلى أم علي الداية.
وأشارت إلى بيت يقيم أسفله كوَّاء بلدي.
– لماذا؟
– لأقول لها أن تأتيَ بسرعة.
– لماذا؟
– أمي تصرخ في البيت، قالت لي اذهبي إلى أم علي الداية، وقولي لها أن تأتي بسرعة …
– وستعودين بعد ذلك؟
فهزَّت رأسها بالإيجاب وذهبت. تذكرت بذكر أمها أمي؛ انقبض قلبي، غادرت السُّلم الأثري عائدًا إلى البيت، بكيت بصوتٍ مرتفع وهي طريقةٌ مجربة أدافع بها عن نفسي. توقعت أن تجيئني ولكنها لم تأتِ، تنقلت بين المطبخ وحجرة النوم فلم أعثر لها على أثر! أين ذهبت الأم؟ ومتى ترجع؟ وضقت بالبيت الخالي، وخطر لي خاطرٌ طيب، أخذت من المطبخ طبقًا، ومن حصَّالتي قرشًا، وذهبت من فوري إلى بياع الفول. وجدته نائمًا على أريكة أمام الدكان مغطيًا وجهه بذراعه، اختفت قدر الفول، وأُعيدَت قوارير الزيت إلى الرف وغُسِلَت الرخامة، اقتربت منه هامسًا: يا عم …
فلم أسمع إلا شخيره، لمست كتفه فرفع ذراعه في انزعاج، وطالعني بعينين حمراوين: يا عم …
انتبه إلى وجودي وعرفني، فسألني بخشونة: ماذا تريد؟
– بقرش فول بزيت حار.
– هه؟
– معي القرش ومعي الطبق.
صرخ في وجهي: أنت مجنون يا ولد، اذهب وإلا كسرت دماغك.
ولما لم أتحرك؛ دفعني بيده دفعةً قوية ألقتني متقهقرًا على ظهري. نهضت متألمًا وأنا أقاوم البكاء الذي يلوي شفتي، ويداي قابضتان إحداهما على الطبق والأخرى على القرش. رميته بنظرةٍ غاضبة، فكرت في عودةٍ خائبةٍ يائسة، ولكن أحلام الفروسية عدَّلت من خطتي، صممت واتخذت قرارًا سريعًا. وبكل قوة ساعدي رميته بالطبق، طار الطبق فأصاب رأسه. ركضت بسرعة لا ألوي على شيء. وملأني اليقين بأنني قتلته كما قتل الفارسُ الغولَ، ولم أتوقف عن الجري إلا على مقربة من الجدار الأثري، نظرت خلفي وأنا ألهث فلم أرَ أثرًا لمطاردة. وقفت حتى تمالكت أنفاسي، ثم ساءلتُ نفسي ما العمل وقد ضاع الطبق الثاني؟ وشيء يحذرني من العودة المباشرة إلى البيت. وما لبثت أن استسلمت إلى موجة من الاستهانة تحملني إلى حيث تشاء، هي عَلْقَة لا أكثر ولا أقل، وسأنالها لدى العودة، فلنؤجل العودة إلى حينها، وها هو القرش في يدي، ويمكن أن أحظى بمتعةٍ لا بأسَ بها قبل العقاب. قررت أن أتناسى جريمتي، ولكن أين الحاوي؟ وأين صندوق الدنيا؟ فتَّشت عنهما هنا وهناك بلا ثمرة. أرهقني البحث العقيم، فمضيت إلى السُّلم الأثري وراء الميعاد. جلست أنتظر وأتخيل اللقاء. تاقت نفسي إلى قبلةٍ أخرى معبقة بشذا الحلوى، واعترفت فيما بيني وبين نفسي بأن الصَّبيَّة وهَبتني مشاعر لم أجرب أطيب منها من قبلُ. وفيما أنتظر وأحلم ترامى إليَّ همس من الجهة الخلفية، رقيت في الدرج بحذر، وعند البَسْطة الأخيرة انبطحت على وجهي لأرى ما وراءها دون أن يلمحني أحد. رأيت خرابةً مطوقة بسورٍ عالٍ، وهي آخر ما بقي من بيت المال ومقر قاضي القضاة، وتحت السُّلم مباشرة جلس رجل وامرأة. هما مصدر الهمس؛ أما هو فأشبه بالمتشردين، وأما هي فغجرية ممن يرعين الأغنام. صوتٌ باطنيٌّ مريب قال لي بأنهما يجتمعان في «ميعاد» كالذي جاء بي. بذلك تنطق الشفاه والنظرات والأعين، ولكنهما على خبرة مدهشة، ويفعلان أمورًا لا يحيط بها الخيال. شُد بصري إليهما مشدوها في استطلاع ودهشة ولذة، ولم يخلُ من انزعاج.
وجلسا أخيرًا جنبًا إلى جنب، لم يعد يهتم أحدهما بالآخر. وبعد فترة ليست بالقصيرة قال الرجل: النقود.
فقالت بضيق: أنت لا تشبع.
بصق على الأرض، ثم قال: أنت مجنونة.
– أنت لص.
بظهر يده لطَمها لطمةً قوية، قبضت حَفنة تراب وقذفتها في وجهه؛ انقضَّ عليها بوجه مغبر فأنشب أصابعه في زمارة رقبتها. بدأ صراعٌ جهنميٌّ مرير. ركَّزت قواها عبثًا لتخليص رقبتها من يده، احتبس صوتها، جحظت عيناها، ضربت بقدمَيها الهواء. حملقتُ فزِعًا أخرس، حتى رأيتُ خيطًا من الدم يتسلسل من أنفها، فرَّت من فمي صرخة. زحفت إلى الوراء قبل أن يرفع الرجل رأسه. هبطت السلم وثبًا وعدوت كالمجنون إلى حيث تحملني قدماي، لم أتوقف عن العَدْو حتى انقطعت مني الأنفاس، جعلت ألهث دون أن أرى شيئًا مما حولي، ولما انتبهت إلى نفسي وجدتني تحت قبوٍ مرتفع يتوسط مفترق طرق، لم تطأه قدماي من قبلُ، ولا فكرة لي عن موقعه بالنسبة لحيِّنا. وكان يقتعد جانبَيه شحاذون لا يبصرون، ويعبره في شتى نواحيه أناس لا يلتفتون إلى أحد، أدركت بخوف أنني ضللت الطريق، وأن متاعب لا حصر لها تتربص بي حتى أهتدي إلى سبيلي. هل ألجأ إلى أحد المارة لأسترشد به؟ ولكن ما العمل لو ساقني الحظ إلى رجل كبياع الفول أو متشرِّد الخرابة؟ هل تقع معجزة فأرى أمي مقبلة فأهرع إليها بكل قلبي؟ هل أجرب السير وحدي فأتخبط حتى أعثر على أثر أستدل به على طريقي؟
وقلت: إن عليَّ أن أحزم أمري، بسرعة ودون تردد، فقد أخذ النهار يولي، وعما قليل سيهبط الظلام من مجاهله.