التركة
(حجرة انتظار في بيت ولي الله؛ حجرة ذات طابعٍ عتيق، في
الصدر كونصول؛ باب إلى اليمين وآخر إلى اليسار، تصطف بجوانبها كنبات تفصل بينها كراسيُّ،
ثمة حُصرٌ
مزركشةٌ معلقة على الجدران في مواضعَ محددة. يدخل فتًى وفتاة، يتفحصان الحجرة باستطلاع
من يراها لأول
مرة، ثم يقفان في الوسط.)
الفتى
:
البيت صامت كأنه قبر.
الفتاة
:
صفِّق لتشعرهم بوجودك.
الفتى
:
إنه يكره ذلك، ما زلت أذكر طبعه.
(صمت قصير.)
الفتاة
:
بيتكم قديم، والحواري المفضية إليه شُقَّت فيما يبدو من عهد نوح.
الفتى
:
لا تنسَيْ أصلك وأنت تتكلمين عن الحواري كسائحة.
الفتاة
:
تأدَّب، المفروض أننا مهذبون.
(صمت قصير.)
الفتى
:
لِمَ دعاني يا ترى؟
الفتاه
:
هو أبوك مهما يكن من أمر.
الفتى
:
ظننت أن الماضي لن يعود.
الفتاة
:
الحاضر يمضي والماضي يعود، ولا ينبغي لرجلٍ مذنب أن ييئس، فأي ذنب يغفر ما دام
المذنب رجلًا.
الفتى
:
ألم تحلمي يومًا بأن يدعوك أبوكِ ليغفر لكِ؟
الفتاة
:
لو رآني ساعة احتضاره لغالب الموت حتى يفتك بي.
(الفتى
يبتسم من خلال ثوانٍ من الصمت.)
الفتى
:
ترى لماذا دعاني بعد ذلك الفراق الطويل؟
الفتاة
:
إنك وحيده وللقلب حنينه، ومن يدري فلعلك …
الفتى
:
لعلي؟
الفتاة
:
لعلك تذهب مكرمًا بثروة لم تخطر لك على بالٍ!
الفتى
:
طردني يافعًا ولا مليم في جيبي!
الفتاة
:
ماذا كنت تتوقع جزاءً لسلوكك المشين؟
الفتى
:
تشردتُ وجُعتُ ولولا …
الفتاة
:
ولولا فجورك لمتَّ جوعًا.
الفتى
:
اقطعي لسانك يا بنت الأبالسة.
الفتاة
:
ولأنك رجل فكل ذنب مغفور لك.
الفتى
:
ولأنكِ امرأة فكل ذنب مرجعه إليك.
الفتاة
:
أنت صعلوك ولكن تخافه الشياطين.
الفتى
:
فلنتأدب ولو ساعة من الزمان.
الفتاة
:
حتى تضحك على الرجل.
الفتى
:
العبي دور الزوجة بإتقان.
الفتاة
:
كان عليك أن تجيء وحدك وتتركني في سلام.
الفتى
:
لأن أتقدم إليه مصحوبًا بزوجتي خير من الحضور وحدي كرجلٍ أعزب محوط بشبهات
العزاب.
الفتاة
:
لعله يعرف عنك أكثر مما تتصور.
الفتى
:
لو صح ذلك لما دعاني بإعلان في الجرائد.
الفتاة
:
ولكنه ولي من أولياء الله؛ فكيف لم يعرف أنك صاحب خمارة وأنك مغامر؟
الفتى
:
على أي حال فإنه لم يدخل السجن، فهو خير من أبيك المرحوم.
الفتاة
:
تدفعني إلى استعمال حذائي في هذه الحجرة العتيقة المباركة.
الفتى
:
استعمليه، وسأردُّ بكسر رأسك، ونقدم بذلك الدليل على صدق علاقتنا الزوجية.
(صمت.)
الفتاة
:
آه لو يتحقق حلم الثروة!
الفتى
:
وتتحول الخمارة الصغيرة إلى ملهًى لَيلي عالمي.
الفتاة
:
والمغامر الهاوي إلى قوادٍ دولي!
(يُكوِّر لها قبضة يده
مهددًا فتتراجع خطوة وهي تضحك دون إحداث صوت.)
الفتاة
:
الحق أن أباك ذو سمعةٍ طيبة كرائحة الورد.
الفتى
:
أجل.
الفتاة
:
ما سألْنا أحدًا عن بيته إلا ولهج بالثناء عليه.
الفتى
:
أناس هذه الأحياء طيبون!
الفتاة
:
ولكنهم يؤكدون خوارقه.
الفتى
:
إنهم يرون في الحاوي معجزة.
الفتاة
:
وينوِّهون بالطمأنينة التي يزرعها في القلب.
الفتى
:
جميع هؤلاء يجيئون إلى هنا، ويجودون بنقودهم عن طيب خاطر.
الفتاة
:
ربما لأنهم يأخذون ما هو أقيم مما يعطون.
الفتى
:
إن قلبكِ لا يخلو من موطن للخرافة رغم اكتنازه بالشر الباهر.
الفتاة
:
وأنت، ألا تذكر يوم تأزمت بالمغص الكُلوي؟
الفتى
:
كُفِّي عن الثرثرة، الرجل مليونير ما في ذلك من شك.
الفتاة
:
لندعُ الله أن يكون ذلك صحيحًا.
الفتى
:
هنا .. هنا ثروةٌ طائلة!
الفتاة
:
هنا؟
الفتى
:
أولياء الله لا يتعاملون مع البنوك.
الفتاة
:
وعند حلول الأجل يمكن استخلاص التركة بعيدًا عن قبضة الضرائب.
الفتى
:
ولكنَّ ثمة خطرًا أفظع من الضرائب.
الفتاة
:
ماذا تعني؟
الفتى
:
أعني من يقومون بخدمته.
الفتاة
:
من يخدم أولياء الله؟
الفتى
:
الشياطين!
الفتاة
:
هل تعني ما تقول؟
الفتى
:
أعني شياطين الأرض.
الفتاة
:
من حسن الحظ أنك شيطان وبوسعك أن تتعامل مع الشياطين، هل لك امرأة أبٍ؟
الفتى
:
ماتت من زمنٍ بعيد.
الفتاة
:
أهو طاعن في السن؟
الفتى
:
جدًّا.
الفتاة
:
هذا يبشر بالخير.
الفتى
:
لا تحلمي، ماتت أجيال وهو حي يمارس عمله.
الفتاة
:
لم تعد أعصابي تتحمل الصبر أكثر من ذلك، عليك أن تقابله.
الفتى
:
بل علينا أن ننتظر، إني أعرف طبعه. (صمت، يمشيان
ذهابًا وجيئة) (يُفتَح الباب إلى اليسار، يدخل غلام حاملًا مبخرة؛ غلامٌ جميل
يلبس جلبابًا وطاقية ومركوبًا، يدور في الحجرة حارقًا البخور دون أن يلتفت إلى
الفتى والفتاة، ودون أن ينبس بكلمة. يقف الفتى والفتاة جنبًا لجنب وهما
يتابعانه بعينَيهما) يا غلام! (الغلام يكف
عن الدوران ويقف قبالتهما) هل أنت من يقوم على خدمة الشيخ؟
الغلام
:
الناس جميعًا يقومون على خدمته.
الفتى
:
وماذا تفعل أنت؟
الغلام
:
إني خادم البيت.
الفتى
:
أنا ابن مولاك.
الغلام
:
أعرف ذلك يا سيدي.
الفتى
:
وكيف عرفتني؟ (الغلام لا يجيب) لم لا تجيب؟
الغلام
:
لقد أجبت يا سيدي.
الفتى
(باسمًا)
:
طيب .. لقد جئت ملبيًا دعوته.
الغلام
:
أعرف ذلك يا سيدي.
الفتى
:
ألا تدري متى يدعوني إلى لقائه؟
الغلام
:
لقد كلَّفني مولاي أن أخبرك …
الفتى
(مقاطعًا)
:
إني أسألك متى يلقاني؟
الغلام
:
لقد ذهب.
الفتى
:
أين؟ ومتى؟
الغلام
:
غادر البيت عقب صلاة الفجر.
الفتى
:
ومتى يعود؟
الغلام
:
لن يعود.
الفتى
:
أنت تهذي يا غلام.
الغلام
:
سامحك الله يا سيدي.
الفتى
:
ولِمَ لن يعود؟
الغلام
(مُحنيًا رأسه من الحزن)
:
لقد ذهب إلى لقاء ربه.
الفتاة
:
(جزعة) ماذا تعني يا شاطر؟
الغلام
:
قال إنه يشعر بدنوِّ الأجل ثم ذهب.
الفتى
:
ولِمَ لَم يبقَ في فراشه؟
الغلام
:
نذر من قديم أن يلقى ربه في الخلاء.
الفتى
:
ولكنك تعرف مكانه؟
الغلام
:
كلَّا.
الفتى
:
ولماذا دعاني؟
الغلام
:
دعاك لتعود إلى بيتك القديم.
الفتى
:
وهل حمَّلك رسالة إليَّ؟
الغلام
:
قال: دنا الأجل، آن لي أن أدعو ابني الضال لعله يصلح لأن يرث التركة.
الفتى
:
التركة؟
الغلام
:
أمرني أن أسلمك التركة لعلك تثوب إلى رُشدك.
الفتى
:
ليرحمه الله .. أعني ليمدَّ الله في عمره.
الفتاة
:
وأين التركة يا شاطر؟
الغلام
:
قال سيجيء غارقًا في الضلال ساحبًا معه قرينة سوء.
(صمت مع تبادل نظرات.)
الفتاة
:
هذا يعني أنها أيضًا في حاجة إلى نصيب من تركته.
الفتى
:
ومتى تسلمنا التركة؟
(الغلام يشير إلى حصيرةٍ معلَّقة على
الحائط إلى يمين الكونصول.)
الغلام
:
التركة في خزانة وراء الحصيرة .. هاك المفتاح يا سيدي.
(يتناول الفتى المفتاح ويمضي إلى الحصيرة، يهم الغلام بمغادرة
الحجرة، الفتاة تهرع إليه فتقبض على يده.)
الفتاة
:
ابقَ حتى نتسلم التركة.
(الفتى يزيح الحصيرة، يفتح
الخزانة، يأخذ في إخراج كتبٍ صفراء، ويقرأ بعض العناوين وهو يخرجها ويرصُّها فوق
الكنبة.)
الفتى
:
الحق .. مدارج الروح .. سلام للقلب.
(يستمر في إخراج الكتب
التي تتراكم فوق الكنبة، ويتهاوى بعضها على الأرض.)
الفتى
:
أين التركة؟
الفتاة
(للغلام)
:
أنت سرقتها!
الغلام
:
سامحكِ الله.
الفتى
(مواصلًا إخراج الكتب)
:
أين التركة؟
الغلام
:
لا علم لي بما في الخزانة.
الفتى
:
كان المفتاح معك.
الغلام
:
أعطانيه قبل أن يغادر البيت.
(الفتى يواصل إخراج
الكتب، ثم يصيح بفرحٍ جنوني.)
الفتى
:
التركة!
(يخرج رزمًا من الأوراق المالية ويرصُّها فوق
خوان.)
الفتاة
:
ثروةٌ طائلة.
الفتى
:
ما أكرمك يا أبي وما أبرَّك!
الغلام
:
إنه يوصيك بألا تنفق منها مليمًا واحدًا قبل أن تستوعب ما في هذه الكتب.
الفتاة
:
الأوفق أن نبدأ باستيعاب هذه النقود.
الغلام
:
تلك كانت وصيته.
الفتى
:
شكرًا يا غلام، يمكنك أن تنصرف إذا شئت.
الغلام
:
والتركة؟
الفتى
:
هل ثمة تركةٌ أخرى؟
الغلام
(مشيرًا إلى الكتب)
:
إنما أعني هذه التركة.
الفتى
:
ستنفذ الوصية بأمانة.
(الفتاة في سيرها تدوس على بعض
الكتب.)
الغلام
:
ارفعي قدمك.
الفتاة
:
تفضَّل بسلام وكُفَّ عن إلقاء الأوامر.
الغلام
:
فلأعيدها إلى الخزانة إذا لم تكن بكما من حاجة إليها.
الفتى
:
خير ما تفعل أيها الغلام الأمين.
(الغلام يعيد الكتب
إلى الخزانة، يحملها باحترام وهو يبكي صامتًا، ولما ينتهي يقول بنبرةٍ
حزينة.)
الغلام
:
إني ذاهب.
الفتى
:
مصحوبًا بالسلامة. (ثم مستدركًا)، انتظر، أنت
غلامٌ طيب، تحب أن تشتغل عندي؟
الغلام
:
أي شغلة يا سيدي؟
الفتى
:
أدربك لتعمل جرسونًا ماهرًا.
الغلام
:
في مقهى؟
الفتى
:
خمارة، وهي أربح للجرسون من عشرة مقاهٍ.
الغلام
:
إني ذاهب يا سيدي.
الفتاة
:
مع السلامة. (الغلام يذهب)، ألا ترى أن نُفتِّشه
قبل أن يرحل؟
الفتى
:
لو كان لصًّا لما أخبرنا عن التركة.
الفتاة
:
علينا أن نجد حقيبة لنضع فيها النقود.
الفتى
:
سنجد حقيبة أو بقجة في هذا البيت العتيق.
الفتاة
:
وعليك أن تفكِّر في استغلاله.
الفتى
:
الأفضل بيعه، إنه قديم حقًّا، ولكنه يدرُّ ذهبًا لو بيع أرضًا.
الفتاة
:
واشترِ بالثمن عمارة، ولنبع الخمارة أيضًا لنعيش أحرارًا كأبناء الذوات.
الفتى
:
أفكارٌ طائشة، سوف أنشئ ملهًى ليليًّا يضاهي الأوبرج.
(يظهر رجل عند الباب الأيمن، يلبس جلبابًا ومعطفًا، وهو ذو قامةٍ ضخمة، وطابعٍ
رسمي كالمخبرين، يتقدم خطوات حتى يصير على مبعدةٍ قصيرة من الفتى والفتاة اللذين
يطالعانه بدهشة، يجيل في المكان نظرةً فاحصة، ويرى النقود المكدسة، ثم يعود
لينظر إلى الفتى والفتاة.)
الفتى
:
مَن حضرتك؟
الرجل
:
هل أنت ابن ولي الله؟
الفتى
:
نعم ولكن من حضرتك؟
الرجل
:
مخبر من قوات الشرطة.
الفتى
:
أكنتَ على موعد مع الشيخ؟
الرجل
:
الشيخ يرقد الآن إلى جوار ربه.
الفتى
:
كيف عرفت ذلك؟
الرجل
:
أسلم الروح في الخلاء، فيما وراء مسكني، في الموضع الذي كان يتعبد فيه.
الفتى
:
وأين جثمانه؟
الرجل
:
في المثوى الذي سنمضي إليه جميعًا، لم يعد في حاجة إلى عنايتك، ويبدو أنك مشغول
عنه بما هو أهم عندك.
الفتى
:
وماذا تريد حضرتك؟
الرجل
:
جئت لأذهب بك إلى القسم.
الفتى
:
لماذا؟
الرجل
:
أنت متهم بقتل أبيك!
الفتى
:
دعابة ولكنها ثقيلة!
الفتاة
:
إنه لم يره منذ عمرٍ مديد.
الرجل
:
أنت متهم بقتل أبيك.
الفتى
:
كُفَّ عن ترديد هذا السخف!
الرجل
:
شهدته وهو يُحتضَر، وأنا أعرفه منذ قديم، صرح لي قبل صعود روحه بأنك قتلته!
الفتى
:
محض افتراء وهذيان.
الرجل
:
الميت لا يكذب، وهو ولي من أولياء الله.
الفتى
:
لعلك لم تسمعه بوضوح أو لم تفهم ما يريد قوله.
الرجل
:
قال: «إني أموت مطعونًا بيد ابني الوحيد.»
الفتاة
:
كان يعرب عن حزنه لفراق ابنه الطويل له.
الفتى
:
هل وجدت في جسده طعنةً واحدة؟
الرجل
:
لنترك ذلك إلى التحقيق.
الفتى
:
أي تحقيق يا رجل؟ إني لم أره منذ عشرات السنين.
الرجل
:
وكيف سوَّلت لك نفسك أن تنهب أمواله قبل أن تراه؟
الفتى
:
المال ميراثي الشرعي.
الرجل
:
هل علمت بوفاته؟
الفتى
:
كلَّا.
الرجل
:
فكيف تمدُّ يدك إلى ماله وهو حي في ظنك؟
الفتى
:
وهبه لي قبل مغادرته البيت كما أخبرني غلامه.
الرجل
:
أين غلامه؟
الفتاة
:
ذهب.
الرجل
:
استدعِهِ ليُدليَ بأقواله.
الفتى
:
لا أدري أين ذهب.
الرجل
:
هلمَّ معي إلى القسم.
الفتى
:
لا جريمة هناك ألبتة!
الرجل
:
قتلتَ أباك وسرقتَ الدولة!
الفتى
:
الدولة؟
الرجل
:
ألا تعلم أنه لا يجوز التصرف في هذا المال حتى تأخذ الدولة حصتها منه؟
الفتى
:
لم يكن في نيتي أن أتصرف في مليم قبل أن تأخذ الدولة حصتها كاملة، والله على ما
أقول شهيد!
الرجل
:
براعتك في التنكيت تفوق براعتك في القتل والنهب.
الفتى
:
أؤكد لك أن التحقق سيسفر عن براءتي.
الرجل
:
ولكن سيسبق ذلك القبض عليك والتحفظ على المال.
الفتاة
:
أهكذا تعامل شخصًا يوم وفاة أبيه؟
الفتى
:
الشيخ الطيب الذي طالما ثبَّت القلوب بالطمأنينة!
الرجل
:
إنك رجلٌ شرير.
الفتى
:
أنت متحامل وسيئ الظن.
الرجل
:
كُلفتُ بمهامَّ كثيرة في مواطن الشبهات؛ فعرفت الكثيرين من أمثالك.
الفتى
:
أنا تاجرٌ شريف.
الرجل
:
هلمَّ معي، ولا تدفعني إلى الضحك في بيت ميت.
الفتاة
:
كن لطيفًا ودعه في حاله.
الرجل
:
إنكِ تدافعين عنه كأنكِ بعيدة عن التهمة!
الفتاة
:
أنا؟!
الرجل
:
أنتِ شريكته في الجريمتَين.
الفتى
:
أنا بريء. (يتناول رزمة من النقود ويضعها في يد
الرجل)وهذا المال مالي.
الرجل
:
أترشوني يا رجل مرتكبًا بذلك جريمةً ثالثة؟
الفتى
:
معاذ الله، ولكنني أؤدي حق الدولة عليَّ.
الرجل
:
حق الدولة يمثل ربع التركة.
(الفتى يعطيه رزمةً
أخرى.)
الفتى
:
إليك رزمةً أخرى دون تعرض لمناقشة المقدار المستحَق.
الرجل
:
والقضية وتكاليفها؟ والتحفظ على المال وتعرضه للضياع؟
الفتى
:
أعتقد أنني أعطيت ما فيه الكفاية.
الرجل
:
أتعاب المحاماة .. الرسوم .. سجنك .. تعرُّض عملك الذي ترتزق منه للخسران؟
(الفتى يعطيه رزمةً ثالثة.)
الفتى
:
تذكَّر أنني أعطيتك ثروة.
الرجل
:
لعل هذا يكفي بالنسبة لك. (صمت وتبادل نظراتٍ
حائرة)
الرجل
:
ولكن هذه السيدة لم تدفع مليمًا بعدُ؟
الفتاة
:
إني زوجته.
الرجل
:
قلت إنني عملت طويلًا في مواطن السوء فلا تحاولي الضحك على ذقني.
الفتى
:
لقد أعطيت فديةً لكلينا.
الرجل
:
بل فدية لك وحدك!
الفتى
:
ماذا تريد؟
الرجل
:
الأتعاب الخاصة بالسيدة.
(يعطيه رزمةً رابعة.)
الفتى
:
هاك رزمةً رابعة.
الرجل
:
كن كريمًا كسائر القتلة واللصوص.
الفتى
:
أتريد أن تستولي على نصف التركة؟
الرجل
:
الأمر يتوقف على مدى تقديرك لحريتك.
(يقطِّب الفتى في
قهر، ثم يسلمه رزمةً جديدة.)
الفتى
:
تفضل مصحوبًا بالسلامة.
(الرجل يدير ظهره ليذهب، الفتى
يسلُّ من ملابسه مطواة فيفتح نصلها ويهجم على الرجل. الرجل حذر وكان يتوقع حركةً
غادرة فيتفادى من الطعنة، ويقبض على معصمه فيلويه، ثم يلكمه فيسقط على الأرض.
يجيء بكرسي فيجلسه عليه ويخرج من ملابسه حبلًا ويُكبِّله بمهارة قبل أن يفيق من
اللكمة، وهو يهدد الفتاة بأنها إذا ندَّت عنها حركة أو صوت فسوف يُساقان إلى
القسم. ثم يجيء بكرسي آخر ويأمر الفتاة بالجلوس مهددًا ويكبلها بحبلٍ آخر. يتجه
نحو النقود على الخوان فيستولي عليها، ثم يلفُّها في الحصيرة، يلقي عليهما نظرة
ثم يذهب.)
(الفتى يُفيق من أثر اللكمة، ينظر فيما حوله، يتذكر ما وقع، يحاول
تخليص نفسه ولكن عبثًا.)
الفتى
:
ذهب؟
الفتاة
:
بعد أن استولى على النقود كلها.
الفتى
(غاضبًا)
:
لِمَ لَم تُصوِّتي؟ كان يجب أن تُصوِّتي بأعلى صوتك.
الفتاة
:
خفت أن يرجع فيضربنا أو يقتلنا.
(يحاول تخليص نفسه مرة
ثانية دون فائدة.)
الفتى
:
سأقتله ولو اختفى في بلاد الواق.
الفتاة
:
تهورك هو المسئول عما حلَّ بنا، لم حاولت الهجوم عليه؟
الفتى
:
ليس من مبادئي أن أسمح لإنسان باستغفالي.
الفتاة
:
ها هو قد ذهب بالثروة كلها.
الفتى
:
سيكون التنكيل به هو هدفي الأول في الحياة.
الفتاة
:
وقد تحقق هدفك ولكن الحلم السعيد تبدَّد.
الفتى
:
سأقبض على عنقه عاجلًا أو آجلًا.
الفتاة
:
ولا شاهد أو دليل لدينا عما حصل.
الفتى
:
المهم الآن أن نتحرر من قيدنا.
الفتاة
:
نحن مقيدان في بيتٍ مغلق النوافذ والأبواب.
الفتى
:
ويعزُّ عليَّ أن أتصور أن الثروة حقًّا ضاعت.
الفتاة
:
هي الحقيقة الأليمة، وربما تقتله ولكنك لن تسترد مليمًا من ثروتك.
الفتى
:
لم يعبث بي أحد من قبلُ.
الفتاة
:
ها قد عبث بك كأنك لا شيء.
الفتى
:
أين المفر؟ إنه يعمل في دائرة هذا القسم.
الفتاة
:
إذا كان حقًّا مخبرًا.
الفتى
:
ولِم لا يكون مخبرًا؟
الفتاة
:
كان يجب أن تطالبه بإبراز بطاقته الشخصية.
الفتى
:
أعترف بأنني لم أُحسن التفكير ولا التدبير.
الفتاة
:
أنت مغرور، تتوهم أنك إله، ثم تقع كالرطل.
الفتى
:
كيف أصدق ما حصل؟
الفتاة
:
قلبي يحدثني بأنه ليس مخبرًا.
الفتى
:
هو مجرمٌ محترف على أي حال.
الفتاة
:
ويخيل إليَّ … ربما لم يكن إنسانًا أيضًا!
الفتى
:
ماذا تعنين؟
الفتاة
:
أعني أننا في بيت ولي، وهو وكر للأرواح والشياطين.
الفتى
:
أنت حمقاء، لا يسرق النقود إلا إنسانٌ عاقل.
الفتاة
:
تذكر كيف اقتحم علينا المكان وكيف ذهب!
الفتى
:
جاء كما يجيء المجرم، وذهب بما يذهب به المجرمون.
الفتاة
:
أنت لا تحسن الرؤيا عند الانفعال.
الفتى
:
أنت حمقاء، هذه حقيقة مفروغ منها.
الفتاة
:
لنفكر في حالنا، نحن مقيدان بطريقةٍ جهنمية، البيت محاط بفناءٍ واسع يعزله عن
الحارة فلن يسمع صوتنا أحد، الجو هنا لا أرتاح إليه. فثمة روح ميت لعله لم يدفن
بعدُ، وثمة أرواحٌ كثيرة لا علم لنا بها، ولا سيطرة لنا عليها.
الفتى
:
يا مجنونة، يا مخرفة، ما هذا الهذيان؟
الفتاة
:
أنا خائفة.
الفتى
:
عهدتك دائمًا عربيدةً ساخرة، فكيف خانتكِ جرأتك الداعرة؟
الفتاة
:
إنه بيتٌ مهجور ألا تدرك ذلك؟ جثة أبيك الآن في المشرحة، وستُدفَن كجثة رجلٍ
مجهول، ولم ينبس المخبر — إذا كان حقًّا مخبرًا — بكلمة، وسيظل البيت مغلقًا
مهجورًا زمنًا غير قصير، ولكنه يكفي لقتلنا جوعًا وعطشًا، وهناك الأرواح.
الفتى
:
الأرواح!
الفتاة
:
أنا خائفة!
الفتى
:
كيف قيدنا بهذا الإحكام؟ لقد جاء مبيِّتًا النية على فعل ما فعل.
الفتاة
:
وقد يرجع للإجهاز علينا.
الفتى
:
فليرجع.
(صمت تتخلله محاولة منه يائسة لفك قيده ولكن
دون جدوى.)
الفتاة
:
كأننا في حلم.
الفتى
:
ولكنه أسخف من الحقيقة.
الفتاة
:
أحيانًا يكاد يغلبني الضحك.
الفتى
:
اضحكي إن استطعت.
الفتاة
:
حتى حياتنا المألوفة بين المغامرين والمنافسين والأعداء أخفُّ وطأة من هذا السجن
في بيت أبيك.
الفتى
:
ليرحمه الله.
الفتاة
:
ادعه أن ينقذنا.
الفتى
(ساخرًا)
:
أبانا الذي في المشرحة .. أنقذ ابنك الوحيد.
الفتاة
:
ماذا كان رأيك في أبيك؟
الفتى
:
كان دجالًا كوحيده.
الفتاة
:
حدثونا في كل موضع عن كراماته.
الفتى
:
حارةٌ مخبولةٌ مسطولة.
الفتاة
:
لكن الطمأنينة التي بثَّها في القلوب حقيقية.
الفتى
:
ردي إليَّ ثروتي وأنا أغرقك في بحر من الطمأنينة.
الفتاة
:
لم نكن فقراء، ولكننا لم نعرف الطمأنينة.
الفتى
:
وما سبيل الطمأنينة إلى خمارة هي ملتقى للمغامرين، واقعة بين عشرات من الخمارات
المنافسة، في حيٍّ مكتظ بالأعداء، ووراء ذلك كله إحساسٌ ثابت بالمطاردة؟ كنا سنرتفع
بالثروة فوق ذلك كله.
(دقيقة صمت.)
الفتاة
:
سيجيء الظلام ونحن مكبَّلون بالحبال في هذا البيت المسكون.
الفتى
:
لا فرق بين النور والظلام.
الفتاة
:
كيف نخرج من هذا المأزق؟
الفتى
:
اصرخي .. صوتك أحدُّ من الرصاصة.
الفتاة
:
لن يسمعنا أحد.
الفتى
:
علينا أن ننتظر حتى يجيء إنقاذ من حيث لا ننتظر، أو يجيء الموت.
(صمت تتخلله محاولاتٌ فاشلة لفك القيود.)
الفتاة
:
لم دعاك أبوك؟
الفتى
:
مات سرُّه معه.
الفتاة
:
ماذا ظننت؟
الفتى
:
قلت لعله حنين قلب عجوز.
الفتاة
:
لم تقل كل الحق.
الفتى
:
وحلمت بثروة!
الفتاة
:
وقد وهبك ثروة.
الفتى
:
وضاعت!
الفتاة
:
ولكنه أراد أن ترث عمله.
الفتى
:
فكرةٌ سخيفة.
الفتاة
:
كان يجب أن تجاريه ولو في الظاهر.
الفتى
:
لم يكن ليغير من الأمر شيئًا.
الفتاة
:
ربما لم يكن حدث الذي حدث.
الفتى
:
أراهن على أنكِ فقدتِ عقلك.
الفتاة
:
هل حاول أن يلقنك سره وأنت صغير؟
الفتى
:
نعم.
الفتاة
:
ولكنك عصيته؟
الفتى
:
لو أطعتُه ما صادفتِني في طريقك أبدًا.
(الفتاة تضحك ولا تنبس.)
الفتى
:
حاول معي كثيرًا، لم أفهم كلمة من كلماته، واتخذت من سلوكي المشين سبيلًا لتحدِّيه
حتى طردني.
الفتاة
:
واحترفت المغامرة بدلًا من الطمأنينة.
الفتى
:
ورثت عنه الدجل لأستثمره في مجاله الطبيعي.
الفتاة
:
لم أسمع أحدًا يثني عليه مثلك.
الفتى
:
إني أعاشر مغامرين، وكان يعاشر مغفلين.
الفتاة
:
رأسي يدور.
الفتى
:
الحياة الحقة نقيض الراحة، والرجوع إلى الخرافة تفكيرٌ مُضحك، لعله ينقصنا شيء،
ولكن لا بد من مواصلة حياتنا، ماذا تريدين؟
الفتاة
:
أن أخرج من هنا سالمة.
الفتى
:
سنخرج عاجلًا أو آجلًا.
الفتاة
:
عما قليل سيجيء الظلام.
الفتى
:
فليجئ الظلام.
الفتاة
:
أنت المسئول عما وقع.
الفتى
:
أنتِ جبانة.
الفتاة
:
وأنت وغد.
الفتى
:
فلنتسلَّ بتبادل الشتائم حتى تنكشف عنا هذه الغمة.
الفتاة
:
أو حتى يحل بنا الموت.
الفتى
:
أو حتى يحل بنا الموت.
(الفتاة تبكي من القهر، وهو
يضحك ضحكةً عصبية.)
الفتاة
:
إنه يؤدبك.
الفتى
:
من؟
الفتاة
:
أبوك.
الفتى
:
لم يستطع أن يؤدبني وهو حي، وهو أعجز عن ذلك وهو ميت.
الفتاة
:
بين حدث وحدث توجد أسبابٌ خفية.
الفتى
:
بين حدث وحدث لا يوجد شيء.
الفتاة
:
وها قد وقعنا في الفخ.
الفتى
:
فخ لم ينصبه أحد ولكنا وقعنا بسوء تصرفنا.
(النور
ينخفض منذرًا باقتراب المساء، لحظات من الصمت ومحاولاتٌ فاشلة لفكِّ
القيد.)
الفتاة
:
بدأ الليل يهبط!
الفتى
:
ليس في وسع شيء أن يمنعه.
الفتاة
:
كان في وسعنا على الأقل …
الفتى
(مقاطعًا في تهكم)
:
كان يا ما كان.
الفتاة
:
أكره الظلام، أكره الأغلال، وسوف أُجنُّ.
الفتى
:
جربي الجنون فهو أكرم من الشعوذة على أي حال.
الفتاة
:
يا لك من وغدٍ قاسٍ كأنك لم تنعم عمرًا بحبي.
الفتى
:
عودي إلى توازنك لنتفاهم كما تفاهمنا دائمًا.
الفتاة
:
حتى حبك ما هو إلا حب مغامر، نوبة من نوبات الأعصاب بلا قاعدةٍ ثابتة.
الفتى
:
لم يكن ثمة فردوس في الماضي، ولن يكون ثمة فردوس في المستقبل، علينا أن نتقبل
الحياة كما هي.
الفتاة
:
الظلام يتمادى في الاقتراب.
الفتى
:
فليأتِ الظلام.
الفتاة
:
إنك تداري خوفك باللعب بالألفاظ.
الفتى
:
اللعنة .. في هذا الوقت من اليوم يبدأ النشاط في الخمَّارة.
الفتاة
:
يا لها من نهايةٍ رخيصة!
(يستمر انخفاض النور حتى يحتوي
الظلام الحجرة، ويختفي الفتى والفتاة. الفتاة تصرخ مستغيثة ثم يسود
الصمت.)
الفتاة
:
ألا تحفظ تلاوة ندفع بها الشياطين بعيدًا؟
الفتى
:
لا أحفظ شيئًا.
الفتاة
:
إني خائفة!
الفتى
:
لا يوجد هنا سببٌ حقيقي يبرر الخوف.
الفتاة
:
ولكني خائفة.
الفتى
:
أنا قريب منك.
الفتاة
:
ولكني لا أراك.
الفتى
:
فلنغنِّ أغنيةً بذيئة لنهزأ بالظلام.
(الفتاة تصرخ،
صمت يتخلله بكاءٌ خافت، ضوء يتسرب إلى الحجرة آتيًا من شُرَّاعة الباب إلى
اليسار.)
الفتاة
:
ألا ترى .. نور في الداخل، يوجد شخص، البيت مسكون!
الفتى
(بصوتٍ مرتفع)
:
من بالداخل؟
الفتاة
:
مفاصلي سابت.
الفتى
:
من بالداخل؟ (يُفتح الباب، يظهر الغلام وبيده مصباح،
يتقدم ثم يتوقف عندما يرى الفتى والفتاة) أنت .. أكنت بالداخل طيلة
الوقت؟!
الغلام
:
ظننت أنكما ذهبتما.
الفتاة
:
ألا ترانا مكبَّلَين بالحبال؟
الغلام
:
ولم فعلتما ذلك بنفسيكما؟
الفتاة
:
هل تسخر منا يا غلام!
الفتى
:
أكنتَ موجودًا بالداخل؟ أعني ألم تغادر البيت؟
الغلام
:
رجعت مع المساء لأشعل المصابيح.
الفتى
:
لماذا؟
الغلام
:
إكرامًا لروح الشيخ يوم وفاته.
الفتى
:
ضع المصباح وتقدم لحل عقدتنا. (الغلام يمضي إلى
الكونصول فيضع المصباح ويتجه راجعًا نحو الباب) يا غلام، (الغلام يتوقف) تعالَ!
الغلام
:
ماذا تريد يا سيدي؟
الفتى
:
كيف لا تدري ماذا نريد؟
الغلام
:
أمرني الشيخ قبل ذهابه بألا أقدم لك أية مساعدة إذا أهملتَ تركته.
الفتى
:
ولكنه غير معقول أن تتركنا على هذه الحال.
الغلام
:
لا أستطيع أن أخالف لمولاي أمرًا.
الفتاة
:
لا يمكن أن تعني ما تقول، إنك غلامٌ طيب ونبيل!
الفتى
:
وأنا ابن مولاك يا شاطر، ولا يرضيك أن تتركنا في هذا المأزق.
الغلام
:
لن أعصي لمولاي أمرًا.
الفتى
:
مولاك لم يتصور أننا سنقع في هذه الورطة.
الغلام
:
سامحك الله.
الفتاة
:
لصٌّ أثيم نهب ثروة مولاك وكبَّلنا بالحبال.
الغلام
:
عليَّ أن أذهب.
الفتى
:
لا تُغضِب مولاك في قبره.
الغلام
:
مولاي ارتفع إلى السماء.
الفتى
:
لا تُغضِب مولاك في سمائه.
الغلام
:
ما دمتُ لا أعصيه فلن يغضب.
الفتى
:
أتعتقد أنه يرضيه أن نُترَك هكذا بدون مساعدة؟
الغلام
:
لا أدري.
الفتى
:
أؤكد لك أن ذلك سيحزنه غاية الحزن.
الغلام
:
لا أدري.
الفتى
:
أقدِم ولا تخف.
الغلام
:
لن أعصي لمولاي أمرًا.
الفتاة
:
من أجل خاطري، لا يمكن أن تمتنع عن مساعدة امرأة.
الغلام
:
إني ذاهب.
الفتى
:
انتظر .. ألا ترى؟ إني أريد تركة أبي الحقيقية.
الغلام
:
أنت تعلم بمكانها.
الفتى
:
ولكني لا أستطيع الانتقال إليها.
الغلام
:
سبق أن نبذتها.
الفتى
:
أنا نادم على ذلك!
الغلام
:
لن أعصي لمولاي أمرًا.
(الغلام يستأنف
السير.)
الفتاة
:
على الأقل بلِّغ الأمر إلى الشرطة.
(الغلام يواصل
السير دون مبالاة.)
الفتى
:
هل ستبلِّغ الشرطة؟
الغلام
:
كلا.
(الغلام يختفي ثم يغلق الباب.)
الفتى
:
ملعون ابن ملعون!
(الفتاة تعاود البكاء.)
الفتى
:
كفى .. كفى وإلا …
الفتاة
:
قُضي علينا بالهلاك.
الفتى
:
لقد رجع الغلام، وربما رجع مرةً أخرى، ولعل غيره يجيء. (صمتٌ قصير ثم يواصل حديثه) يخيَّل إليَّ أن العجوز استدرجني إلى بيته
لينكِّل بي. الطيبة كانت حرفته لا طبيعته، وآي ذلك أنني منحدر من صُلبه، غير معقول
أن تكون أمي مسئولة وحدها عن دمي العربيد، ولبَّيت نداءه وأنا في غفلة من مكره
فتتابعت الأخطاء.
الفتاة
:
كفاك قذفًا فالبيت مسكون!
الفتى
:
مسكون بأرواح أسرتنا العريقة في الشر.
الفتاة
:
ليس الغلام غلامًا ولا المخبر مخبرًا .. وسوف تقع كوارث ليست في الحسبان.
الفتى
:
فلتقع الكوارث بغير حساب.
(صمت .. ثم يُنزل
الستار.)
•••
(يُرفع الستار. ضوء النهار يملأ الغرفة رغم أن المصباح ما زال مشتعلًا،
الفتى والفتاة نائمان ورأساهما مطروحان على مسندَي الكرسيَين، يُسمع صوت الباب الخارجي
وهو
يفتح ثم وهو يغلق. يدخل رجلٌ ضخمٌ أنيق الملبس ولكنا نعرف فيه المخبر في ملبسٍ جديد وهيئةٍ
جديدة، يتبعه سكرتير وضابط من الشرطة. الفتى والفتاة يستيقظان، يبدو عليهما الإرهاق،
ينظران إلى القادمين بذهول فلا يعرفان حقيقة الشخص الفخم.)
الضابط
:
من أنتما؟ ومن فعل بكما ذلك؟
الفتى
:
من حضرتك؟
الضابط
:
ضابط النقطة.
الفتاة
:
أنقذنا من فضلك.
(الضابط يحل وثاقهما، يقفان وهما
يتأوَّهان، يحركان أعضاءهما ليستعيدا توازنهما.)
الضابط
:
من أنتما؟
الفتى
:
أنا ابن صاحب البيت، أعني ولي الله المتوفى.
الفتاة
:
وأنا الزوجة.
الضابط
:
ماذا حدث لكما؟
الفتى
:
هاجمنا مجرم غدرًا ثم سرقنا وذهب.
الضابط
:
سأفتح لكما محضر تحقيق بعد قليل.
الفتى
:
هل أبلغك الغلام عنا؟
الضابط
:
أي غلام؟
الفتى
:
غلام الشيخ المتوفى.
الضابط
:
كلا، لقد جئت في صحبة المهندس لمعاينة البيت الذي يرغب في شرائه ظنًّا منا بأنه
بيتٌ خالٍ ولا وريث له.
(الفتى والفتاة ينتبهان لأول مرة
للمهندس فتلوح في وجهيهما الدهشة والانزعاج، يتبادلان النظرات ثم يحدقان في
المهندس بذهول.)
الضابط
:
مالك؟
المهندس
:
لماذا تنظران إليَّ هكذا؟
الفتى
:
أنت!
الفتاة
:
هو .. جسمه وصوته ووجهه!
المهندس
:
ماذا تعنيان؟
الفتى
:
أنت دون غيرك، أيها المجرم!
(ينقضُّ عليه ولكن الضابط
والسكرتير يحولان بينهما، المهندس يتراجع دهشًا مستنكرًا.)
الضابط
:
أي مجرم تعني؟ المهندس أكبر مقاول في الجمهورية.
الفتى
:
هو المخبر .. هو اللص .. هو الذي سرقنا. (المهندس
والسكرتير والضابط يضحكون.)
الضابط
:
اضبط لسانك.
السكرتير
:
يا لها من نكتة!
الفتاة
:
هو المخبر.
الفتى
:
هو المجرم.
الضابط
:
كفى هذيانًا!
المهندس
:
ترفَّق بهما يا حضرة الضابط، تذكر كيف قضيا ليلتهما في هذا البيت.
الفتى
:
لا تحاول خداعي.
الضابط
:
إنك تهين رجلًا ولا كل الرجال، رجل أدى لوطنه أجلَّ الخدمات في ميدان الهندسة.
(الفتى والفتاة يتبادلان النظرات الحائرة.)
الفتى
:
خبرني يا حضرة الضابط، هل عندك مخبر يشبهه؟
الضابط
:
كلا على وجه اليقين.
المهندس
:
تمالك نفسك من فضلك، لقد عانيتَ ليلة غاية في السوء، وغير بعيد أن المجرم الذي
اعتدى عليكما يماثلني في بعض الصفات والخصائص، وأنت نفسك تماثل المرحوم أباك في بعض
ملامحه رغم تناقض منهجكما في الحياة فيما يبدو لي، وسوف يقبض الضابط على المجرم
ويرد إليك مالك، هل فقدت مالًا كثيرًا؟
الفتى
:
أنت أدرى بمقداره.
الضابط
:
رجع إلى الهلوسة مرةً أخرى!
الفتى
:
أؤكد لك أن هذا الرجل هو المجرم الذي اعتدى علينا.
الضابط
:
كُفَّ عن هذيانك، من صالحك أن تكفَّ عنه.
السكرتير
:
ثمة أحقادٌ غريبة تستقر في نفوس الشباب، فإذا تعرض أحدهم لهزةٍ نفسية استمد من
حقده الدفين آراء هدامة وراح يرمي بها كبار ذوي النشاط الناجح من الرجال
الممتازين في المجتمع.
الضابط
:
هل أنت من هؤلاء الشبان؟
الفتى
:
إني ضحية، وقد حللتَ بنفسك وثاقي.
الضابط
:
ولكنك لم تستردَّ عقلك بعدُ.
المهندس
:
يجب أن تسترد عقلك سريعًا لأتمكن من إنجاز مهمتي.
(صمتٌ قصير.)
الفتاة
:
وما مهمتك؟
المهندس
:
إني أرغب في شراء هذا البيت القديم لأقيم مكانه مصنعًا للأجهزة الإلكترونية.
الفتاة
:
ألم تحاول الاتفاق مع صاحبه قبل وفاته؟
المهندس
:
حاولت وعرضت عليه بيتًا جديدًا في مطلع الحي، ولكن كان لكلٍّ منا لغة يستعصي على
الآخر فهمها!
الفتى
:
إذن فأنت تعرف البيت، وكنت تعرف صاحبه؟
المهندس
:
وكان أبي رحمه الله من مريديه أيضًا.
الفتى
:
أنت إذن …
(الفتاة تجذبه من ذراعه مانعة إياه من تكملة
كلامه، وتنتحي به جانبًا.)
الفتاة
:
تمالك نفسك.
الفتى
:
لكنه هو عينه.
الفتاة
:
لندع ذلك للتحقيق، المهم الآن بيع البيت.
الفتى
:
سيشتري بمالي.
الفتاة
:
لا يجوز أن تخرج من المولد بلا حمص.
الفتى
:
الجن الأحمر نفسه لا يستطيع خداعي!
الفتاة
:
انسَ شطارتك الآن وأجِّل مشروعاتك. (يعودان إلى
الجماعة) اغفر له تهوره يا سيدي المهندس إكرامًا لذكرى أبيه الطيب.
المهندس
:
ليرحمه الله رحمةً واسعة.
الفتى
:
أكنتَ تؤمن به؟
المهندس
:
كنتُ أحبه.
الفتى
:
هل شهدتَ احتضاره؟
المهندس
:
لكنني مشيت في جنازته، أين كنتَ أنت؟
الفتى
:
كنت موثقًا بحبال المجرم الأثيم.
المهندس
:
حضرة الضابط كفيل باسترداد ثروتك الضائعة، وما عليك الآن إلا أن تتقبل وضعك
بالطمأنينة التي بشَّر بها أبوك.
الفتى
:
ولكنك لم تؤمن به؟
المهندس
(ضاحكًا)
:
كان يقول لي «الطمأنينة هي هدف النفس البشرية.» فأقول له «بل التقدم يا مولانا
ولو بالجهد والقلق.»
الفتى
:
ولو بالاعتداء والنهب!
الفتاة
:
لنعد إلى مشروع المصنع!
المهندس
:
ثبت الآن أن للبيت وريثًا، وعليه فلا بد من انتظار الإجراءات الخاصة بإثبات
الوراثة.
الفتاة
:
إنه بيتٌ كبير وذو موضعٍ ممتاز على مشارف الصحراء، ولا تنس أثاثه القديم النادر.
المهندس
:
لا حاجة بي إلى الأثاث.
الفتاة
:
والكتب التي صنعت المعجزات.
المهندس
:
لديَّ ما أحتاج من كتب ومعجزات.
الفتاة
:
أظن آن لنا أن نتكلم عن الثمن.
المهندس
:
لن أبخسكم حقكم، وسنتكلم عن ذلك في حينه.
(المهندس
يستأذن في الانصراف، وقبل أن يذهب يلتفت إلى الفتى ويسأله:) وأنت .. ما مهنتك؟
الفتى
:
صاحب خمَّارة.
المهندس
(ضاحكًا)
:
لستَ مقطوع الصلة بأبيك، فالناس يقصدون الخمَّارة طلبًا للطمأنينة أيضًا. (المهندس وسكرتيره يذهبان.) (يقترب الضابط من الفتى والفتاة.)
الضابط
:
آن لنا أن نبدأ التحقيق.
(ستار)