هذا سفر الذي هو: جعفر محمد مختار
لم تَدْرِ مقدار الرعب الذي أصاب أباكِ، عندما هتفتِ في وجهه في ذلك الصباح منفعلة: أبي، لقد فقدت عذريتي بالأمس، فقدتها تمامًا.
وقبل أن يفيق من نوبة رعبه، أخذتْ تحكي التفاصيل، التفاصيل التي ما كان يسمعها، تذكَّر جعفرًا، جعفر مختار، أشعل سيجارة، أطفأها.
قلتُ: لقد ذهبنا للرحلة، أمي مليكة أيضًا كانت هناك، ذهبنا للرميلة، حدث ذلك بالأمس القريب، وكانت الرميلة كما هو معروف في مثل هذه الأيام — أيام العيد — مكتظة بالبشر من المدينة، والمدن المقاربة: رطانيون، أعراب، بجا، طلاب جامعيون في رحلات جماعية، مساطيل يدخنون البنقو تحت أشجار السنط، سكارى تفوح من أفواههم خمارات العرق، مستوحدون يبحثون عن الرفقة، بائعات الفول والتسالي والشاي، عمال وضباط المحلية يتحصلون ألف جنيه عن كل زائر، وخمسة آلاف جنيه عن كل عربة، عساكر الجيش المرابطون قرب الخزان على ضفاف البحيرة، يرفهون عن أنفسهم بمعاكسة البنات والنساء والداعرات، رجال الشرطة، وخلق لا أول له ولا آخر، يأكلون ويشربون ويغنون ويرقصون، يلعبون الشطرنج على الرمال، يذبحون الخراف، يغتابون بعضهم بعضًا، يصلون، يتناسلون في العشب، يتوقعون جعفرًا، يشعلون النار، يتذكرون أيامهم الجميلة، يلعنون الحكومة، وكنت وزميلاتي نشوي لحمًا على النجيل تحت سنطات شائكات، وكنا كالعادة لا نفكر في شيء يفسدنا، لكننا نعلق على الأولاد والرجال وبعض البنات اللائي يتصرفن في الظاهر بعفة ونعلم ما يضمرن من خبث وفجور لئيم: على لبسهن، مشيهن، كلامهن، لبانهن، كعوبهن العالية، أوجههن المقشورة بالمساحيق والمراهم الكيماوية الحارقة، عطورهن، تصفيف شعورهن، نظراتهن، مناجاتهن، مصاحبتهن للأولاد، شذوذهن، أيديهن، سوقهن، وكيف يكن إذا اختلين بالأولاد الأشقياء، أسرهن، كنا ماكينات تعليق وضحك ولا شيء يعجبنا أبدًا، وكنا ساحرات وجميلات، وكلنا نرتدي على الموضة الشائعة مناطيلنا الضيقة الساحرة، وبلوزات القطن ذات الأكمام القصيرة، التي تلتصق بصدورنا، تلك الملابس التي اشتريتها لي يا أبي قبل أسبوعين، إنها آخر صيحة في الموضة، لبستها رُغم أنف رياك أخي، كنا أجمل البنات في الرميلة، كنا هادئات ولا نفكر في أمور ملتوية، حتى رجل الشجرة ما كان يخطر ببالي في تلك اللحظات، لكن حدث الأمر كما يلي: سمعنا جميعًا نداء أحدهم، كان يقف على الشاطئ ويصيح بصوت أجش قوي قائلًا: جعفر، جعفر محمد مختار، سوف يظهر على الجزيرة الآن، الآن سوف يظهر جعفر على الجزيرة، جعفر مختار، وفي لحظات قلائل تجمع كل الناس على الشاطئ المقابل للجزيرة، على الرمال البيضاء الباردة النقية الشهية، رمال الشاطئ، كل الناس، حتى بائعات التسالي والفول السوداني والشاي، كل شيء، الكلاب، والذباب، والأطيار، والبهائم، وحمير الأعراب الجربانة تفوح منها رائحة القطران، الجمال، أطيار الرهو، الأعراب، وقد جاءوا مهرولين من منازلهم التي تقع خلف الأشجار، أطفالهم خلفهم، نساؤهم خلف أطفالهم، في ثيابهن الزرقاء وأحذيتهن البلاستيكية القديمة، وعلى رءوسهن شعورهن، في بحيرة من الزيت والودك، كلابهن، كل شيء، وكل شخص، تجمعوا على طول الشاطئ المقابل للجزيرة، حيث أعلن أن جعفر مختار سيصل إليها بعد قليل، وهذا في ذاته، حدث يجب ألا يفوته أحد، فذهبنا وتدافعنا على رمال الشاطئ، لكن جعفرًا لم يصل الجزيرة، وغابت الشمس، وكنا ننتظر قدوم جعفر، فأشعل الحطب للإضاءة وأتى بعض القرويين بفوانيس كيروسين، ووجه بعض السائقين كشافات عرباتهم نحو الجزيرة الصغيرة، كنا ننتظر جعفرًا، وكان قربي أحدهم، لم أنتبه لوجوده، فكنتُ مثلي مثله، متشوقة لرؤية جعفر على الجزيرة الخضراء، لكنه تعمد أن يحتك بي، ثم تعمد أن يقرصني على فخذي، ثم تعمد أن يقول لي: إلى متى أظل أجري خلفك؟
عندها تعرفتُ عليه، كان أحد صعاليك المدينة المعروفين والمشتهرين بخداع الصبيات واللعب عليهن، ومعروف عنه أيضًا أنه بذيء، وأنه لا يوق، لا ينقطع ولا ينغسل، قلت له: هيا نذهب بعيدًا عن هؤلاء الناس.
وذهبنا يا أبي، اخترقنا غابة السنط الصغيرة، ذهبنا نحو بيوت الأعراب، كانت فارغة وأبوابها مشرعة، لقد ذهبوا على عجل لرؤية جعفر مختار، وتركوا كل شيء كما هو، قدور على النار، صيجان الكسرة تحتها الحطب، فوقها طرقات الكسرة تحترق، أطفال رُضَّع على المراجيح، شيوخ مرضى على فراش الموت، طعام موضوع على المناضد، ملابس على طست الغسيل، كل شيء ترك كما هو، تجولنا بين حجراتهم، كنا نبحث عن حجرة بها سرير كبير، وملاءات نظيفة، ويا حبذا لو توافر لنا بعض العطر البلدي، وفعلًا وجدنا حفرة دخان مشتعلة، وينطلق منها دخان الطلح عطرًا وشهيًّا دافئًا ومراودًا، ربما جهزتْها عروس وعندما سمعت نداءً بأن جعفرًا سوف يصل الجزيرة، تركتْها موقدة، وذهبتْ حيث جعفر، خلعتُ ملابسي وجلستُ على حُفرة الدخان، وقام هو بمساعدتي بالالتفاف بشملة الصوف الثقيلة، وأخذ ينتظرني إلى أن أنضج، كان كل شيء مُدهشًا في ذلك اليوم، وكل شيء ينتظر ظهور جعفر على تلك الجزيرة الخضراء الرائعة، لم تحدثني أمي مليكة شول مادنق عن الدخان، لماذا لم تقل لي: إنه شيء رائع زي دا، وإنه جميل، وإنه ساحر، وإنه شهي، وإنه يخترق المسام في جنون بهيج، وإنه يفتح المسام وينعش الجسد ويحرره من الموت، لم تقل لي يا أبي ذلك.
كان أبوكِ لا يسمع شيئًا، لا يعي، تذكَّر جعفرًا، أشعل سيجارة، أطفأها، قال في نفسه: إنك من جيل يجب أن يكون ورغم أنفه أيضًا، قلتِ له: انتزعَني من حفرة الدخان انتزاعًا، وما كنت أرغب أن أفارقها أبدًا، كان نداء أن جعفرًا سوف يحضر بعد قليل على الجزيرة الخضراء، يبدو أكثر حماسًا من قبل وأكثر تأكيدًا، كان تصفيق الناس وصفيرهم قويًّا، ونداؤهم لجعفر أقوى، قالوا له: أين تهرب منا الليلة؟ نحن هنا ساهرون وستأتي وسنلعب معك وسنسألك.
في حجرة الأعراب، شممتُ رائحة جعفر، نعم جعفر مختار، وسمعتُ صوته، نعم صوت جعفر مختار، نعم يا أبي، عندها أحسستُ بالخجل، الخجل القاتل، الخجل الذي لم تعلِّمْني إياه، لقد أحسستُ به لزجًا ومُرًّا كالسُّم، وعندها نظرت إلى صعلوك المدينة، كان خائفًا مرعوبًا كفأر في كف قط، كان يقف بعيدًا عند الباب يرتجف، لم يمسسني هذا الجبان، أُقسم لك يا أبي لم يمسسني بشيء لكنني رأيت الدم ولمسته، الدم المختلط بالسائل الأبيض اللزج، لقد رأيته يسيل من تحتي يا أبي، فعرفت أنني لم أعد عذراء، عندما يسيل الدم مختلطًا بالسائل الأبيض اللزج، يا أبي.