هذا سفر الذي هو: محمد الناصر أحمد
مثل قطة منعمة أمك.
تمطيتَ، أشعلتَ سيجارة، أطفأتها، حدثتَ نفسك بأنها مسكينة مسالمة، حاولت أن تغفو قليلًا، حاولتَ أن تقول عكس ذلك، أي أن نهديها كدلو الجلد الفارغ، وأنها متيمة بأشياء كثيرة، وما والدك من بينها. سألتَ ابنتك مُنى: ماذا قال لكِ رجل الشجرة؟
قالت وهي تحملق في عينيك كأنها تبحث فيهما عن التعبير المناسب: لن أقول لك الآن، ولن أقول لك غدًا أيضًا؛ لأنني أعلم أنك سألتني لا لكي تعرف ماذا قال رجل الشجرة لي، لكن لأنه ليس لديك ما تسأل عنه، في هذه اللحظة بالذات، أليس كذلك يا أبي؟
فقلت لها مستسلمًا: نعم، نعم يا مُنى، إذا كانت أمك حية، إذا …
أيضًا، لم تَدْرِ ماذا تريد أن تقول، هكذا تغيب عنك الأشياء، تخاصمك اللغة، حتى لغة البنوة، لغة الدم واللحم والسقف الواحد.
أجهشتَ بالبكاء.
قويَ إيمانك بأنه ما عادت الأشياءُ كما تريد، إنها المشيئة الضد، أن تلتهم التنينَ نارُه، أن يجد المسيح نفسه يهوذا الأسخريوطي، أو بروتس، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار.
قلتَ لابنتك مُنى: تخيلينا الآن أنا وأنت في مقهى رفاعي — في ناصية الجامعة — نتفرس الطلاب، لم تُخْفِ اهتمامكَ بالذباب، وصفته وهو يتجمع على حافة كوب الشاي الفارغ، شبهتَ طنينه بأشياء شتى، منها ذكرى زوجتكَ الأولى نعمة بنت خالتكَ، تلك السيدة السمينة البيضاء. منها أيضًا … ومنها جعفر.
تعرف أنت تمامًا أن ابنتك مُنى تمتلك سحرًا أنثويًّا طاغيًا لا يستطيع الرجال معه صبرًا. خلاسية جيداء يعانق ظهرها شعرها الأسود الكثيف في دلال وفوضوية، وتعرف أن جموح صدرها، دعج عينيها وغموض نظراتها، طريقة لبسها، كل ذلك يثير عواصف كانت موقوتة في الشباب، وأنه هنالك حتمًا من يقع في غرامها، لكنك ما كنت تدري حقيقة تفضيلات أبناء هذه الأزمنة، أو أطفال الريح — كما يسميهم جعفر — قالت لكَ وقد تماهت تمامًا في التخيل: ذلك المُقعي تحت شجرة النيم.
كان متواضعًا عاديًّا كصفقة العُشر، فقيرًا، وليس هنالك ما يميزه عن غيره، غير أنه يجلس تحت شجرة، يتمعن بعمق وخصوصية، الفراغ.
أما أنتَ؟
فما اخترت أمها مليكة شول مادنق، فتاة الدينكا الحسناء ذات الأرداف الخصبة، المشحونة بالأطفال والأناشيد، ما اخترتَها من تحت شجرة باباي، أو رأيتَها تنحني لتجني ثمار البافرا وهي تغرد بصوتها العذب فسحرتْك فتزوجتها، لا، لكنك وأنت تمارس تفاهات الحياة وتجلو صدأ أحزانك وجدتها، فتاة على هامش الخمارة بالعشش، ما كانت مليكة شول مادنق سكرى، ولم تكُ بَغِيًّا، لكنها صبية على هامش الخمارة تقدم قِداح المريسة، وكئوسها القرع للندماء، وما كانت أيضًا طفلة خالية من التجارب بريئة كقوس قزح، فلقد قالت لكَ فيما بعد: بعد الأسر ونحن في الطريق إلى مدينة آمنة، كنا جميعًا من النساء والصبايا، قُتل الرجال أو فروا مع جيش الغابة، أو انضموا إلى جيش الحكومة، عندما أدركَنا الليل ونحن في الطريق اقتسمَنا الجندُ، كل خمسة من الجنود نصيبهم امرأة واحدة، إلا أنا، كنت صغيرة ولم أبلغ الحُلُم بعدُ، ولي جسدٌ هزيلٌ، ولم تنمُ لي أثداء، قال الضابط لي: أنت صغيرة، سآخذك معي إلى الخيمة، حتى لا يلتهمك الجند المسعورون.
وفي خيمته قال لي: أنت جميلة رغم صغر سنك، وستكونين امرأة ساحرة في المستقبل، وأنا سأتزوجك على شرط ألا تصرخي هذه الليلة! سأكون معك في غاية اللطف.
وأرَتْكِ مليكة خرقًا مدمية، لا تزالين تحتفظين بها أنتِ في دولابك الخاص، تخبئينها عن أطفالك.
قالت ابنتك وهي تحملق في فراغات رجل الشجرة، البنيات يحببن الرجل الخاص، الخاص جدًّا، قالت: إنه فقير وما عنصري، وعنده قلب كبير، أتدري يا أبي إنه في إمكان أية بنت أن تحب الرجل الذي يحبها، فقط عليه أن يحبها بصدق، ورجل الشجرة هذا يحبني، يحبني بصدق. وابتسمتَ من عمق في نفسها بعيدًا.
وأخذتَ تحكي لابنتك المراهقة كيف أنكما اصطحبتما رجل الشجرة المنعزل العادي إلى المنزل، بكامل خصوصيته وصدق مشاعره المتخيلة تجاه ابنتك منى، وأنك أخليتَ لهما البيت، وادعيت الذهاب إلى السوق لشراء البرتقال، وقلتَ إنك ستتأخر قليلًا؛ لأنه سيقابلك في الطريق جعفر، وطلبتَ منها ألا تدع رجل الشجرة يدخل إلى غرفتها، وأن يظل مُقعيًا بالديوان، يجتر أحلامه ويغزل أناشيد الشجرة، وطلبت منها ألا تطل من النافذة لتعاكس المارة، ألا تحدث الأغراب بالتلفون أو تفكر في أمور ملتوية، لكنك أيضًا لن تنكر كيف عدتَ وتخيلتَ أمامها بكل وقاحة وشوارعية، لكن بما أمكن من سعة أفق، كيف أنها أغوت رجل الشجرة.
وألَّفَتْ حوارًا ذكيًّا، انتهى بها عارية في فِراش رجل الشجرة، لتطفئ جموح شبقها، تذكَّرت جعفرًا، قلت لها: إن الرجل الحر يستطيع أن ينام جاريًا، والمرأة الحرة تقدر وهي في ذروة البؤس والألم أن تبكي بعين واحدة، وبالأخرى تبحث عن نشوة حقة. قالت: إنه أنت، وإنه جعفر، جعفر مختار.
ثم أضافت: هل المرأة تحب الرجل أكثر مما هو يحبها؟
قالت أيضًا: لكن أمي مليكة تحبك وتبكي إذا تأخرت خارج المنزل لمنتصف الليل، وأنت لا تهتم.
لكنكَ كعادتكَ تهرب من الأسئلة هروب الجندي الذكي من ميدان المعركة، وكم مرة تخفيتَ من أسئلة زوجتك مليكة، عندما حاصرتْكَ بحقائق مُرَّة وأخرجتْ رأسك من الرمال، ما رأيكَ في الحرب؟
قل لي الآن: هل أنت مع جيش الحكومة أم مع جيش الغابة؟ عشرات السنين وأنا أسألك نفس السؤال.
فأخذتَ تحدثها عن الحُب وأريتَها ذكرك، حدثتَها عن ابنيكما رياك ومُنى، وقلتَ لها المستقبل فيما يقررانه، وحاولتَ أن تضاجعها، وعندما تذكرتَ أنها حائض حدثتها عن الزواج بفوضوية، وحصرته في نصيب الفرد من الدخل القومي وحرية اعتناق الأفكار، وعندما دخل عليكما فجأة ابنكما رياك وضبطك ورأسك في الرمال خوفًا من أسئلة زوجتك الملحَّة، صرختَ فيه: أنت سطحي وقِشْري وهش كرماد القصب.
تمطيتَ، أشعلتَ سيجارة، أطفأتَها، تذكرتَ جعفرًا، خرجتَ من المنزل، خرجتْ خلفك مليكة، خرج خلفك رياك، كنتَ لا تدري إلى أين أنتَ ذاهب، لكنه الإحساس القوي الذي دائمًا يراودك بأنه هنالك مَن ينتظرك، رجل لا تدري، امرأة لا تدري، قدر لا تدري أم شيطان! المهم أنه ينتظرك في مكان ما، بشوق ما، بقلق ما، بصبر ما، بشيء، وعندما تأخرت عليه أو لم تصله، زِهِج منك، وصرخ في انتظارك قائلًا: صبرا ود الحرام.
فابتسمتَ في تفاهة نفاد صبر، وتخيلت أنك ناقشته في مسألة تخص ابنتك الجميلة مُنى، سكرتما معًا، تذكرتما جعفرًا، جعفر مختار، فمرت في خاطرك وأنت تقذف كئوس الخمر بعيدًا في عمق حلقك أطياف شتى، أطياف لا تعرف لها اسمًا أو عنوانًا، أطياف سوداء، سوداء كجسدك، كنتَ تبحث عن مليكة بين المسافات الصغيرة التي تفصل ذرات السواد عن بعضها البعض، تجدها نائمة تحلم بالعصافير، قرود الموز، أباب دير والأناناس، تقبِّلها، تنفلت من تفاهات أشواقك، تذوب في موتها، تفاهات حياتها الأبدية، تعيدك أغنيات الكأس إليك، كنتما متفائلين كقردين في شجرة باباي، تذكر أنه قال لك بوضوح: مُنى ابنتك شبقة هذه الجرو الصغير، وضحك كما لا يضحك المساطيل. في عمقكَ بينك وبين ضميرك، تعرف أنك رجل صالح، رجل تقي، تحفظ أسماء الله الحسنى، أسماء أطفال المدينة كلها وألقابهم، تكره الحرب، ولا تعرف كيف تستعمل سكينة المطبخ، لم تَنَمْ وفي رأسك سؤال مقموع، تصلي في غرفتك، ممددًا على التراب، مثلك مثل رجال شتى يعتقدون أن الله لا يهتم بهم لتفاهتهم وضآلة وجودهم، أو لا أحديتهم، فأنت تقول عن نفسك: إنك لا أحد.
بصقتَ على الأرض، كانت مليكة تصرخ خلفك دائمًا: اسمعني يا محمد الناصر ومت، اسمعني ومت.
هذه الفتاة الدينكاوية الحسناء سوداء كقلب الأبنوس، أسنانها أقمار تائهة فيه، حدثتك عن خطيبها الأول قبل الخروج مباشرة، دووت منقار، وكيف أنها قضت معه جلسة الونسة: جاءنا وكنتُ أنتظره في كوخ هيأته لنا والدتي، وكالعادة كنت شبه عارية، وهو كذلك، تحدثنا كثيرًا، تكلم أكثر من اللازم، ليظهر لي براعته في الحديث ومقدرته على الإقناع، وحدثني عن مواقف له تنم عن شجاعة لا نظير لها، وكرم ومروءة، وظل ساكنًا ومؤدبًا في شأن الجسد، حتى يظهر شهامته وعفته وتأدبه، لم يمسسني بلغة فاضحة، أو يحاول أن يطفئ فيَّ جمرًا ملتهبًا كان يحرقه.
وأنتَ أنتَ!
كنتَ حزينًا وهادئًا كتمثال من عفن الخبز، كان جعفر فيك، جعفر مختار، تذكرته عندما تكلم ابنك رياك بصوته الجهوري القوي، الذي حينما يتكلم كأنه يستعير طبولًا مسحورة.
إذا لم تقف لن نمضي وراءك أكثر.
هذه الفتاة المخلوقة من ليل قدسي، الرشيقة كغزالة ترقص في الريح، كم أنت تحبها وتدللها! ما كانت تخبئ عنك شيئًا، إلا ما يجب إخفاؤه، كَوَلَهِ جارتها الحسناء آمنة بك، كسؤالها الملحِّ عن فحولتك، كقولها المباشر أو غير المباشر.
هل تهتم أنت بها؟
قلت لابنتك مُنى ذات مرة وأنت في قمة تناقضك: لو كانت أمك حية لما أضافت لك شيئًا.
وقلت لها أيضًا: إن الرجل يحب ثلاثة أشياء في فتاته … ولم تقل لها ما هي هذه الأشياء الثلاثة، لكنها خمنت أحدها وقالته لنفسها: أن ترى أن أهم ما في هذا الكون هو الله؛ لأنه خلق زوجها، هذا المتفرد الذي يحبها، وأهم ما يجعل زوجها متفردًا وعظيمًا ولا شبيه له في الأزواج هو حبه لها، أما الشيء الثاني، فلم تستطع مُنى تخيله، لكنها تخيلت الشيء الثالث وقالته لنفسها أيضًا في سرية كاملة: أن تصبح طفلته المُدلَّلة وأمه المُدلِّلة.
وأنت دائمًا لا تدري كيف استطاعت ابنتك مُنى أن تتعلم الحكمة منك، أو من جعفر، جعفر مختار، وأنتما مثل كتابين مكتوبين بحبر مسحور، يعمي كل من يحاول أن يقرأه، تحدثت ابنتك مُنى عن البساطة وعن أقوالك المعقدة أحيانًا، والساذجة جدًّا أحيانًا أخرى، عن خالها مجوك وجمجمة جدها بدولاب أمها القديم المغلق منذ وفاتها، الدولاب الأسود المصنوع من قلب الأبنوس، جمجمة جدها ماجوك المجني عليه، مخترقة بطلقة بندقية، حدثتك عن خالها وقوله: إنه فتر من حرب جيش الحكومة، أو كما عبر عنه هو في رسالة سابقة: جيش أخي ملوال.
وأنت أنت.
لا تعرف، أتقف مع ماجوك، وهو الأخ الأصغر لزوجتك مليكة شول، وهو يحارب مع جيش الغابة، ضد جيش الحكومة، أم تقف مع ملوال، وهو الأخ الأكبر لزوجتك مليكة شول، وهو يحارب مع جيش الحكومة ضد جيش الغابة؟ أما مليكة فقد قالت لك بوضوح: أنا مع الاثنين، بنفس القلب، وبنفس الحب والحقد، قلبها في الغابة مصوبًا جحيمًا أبديًّا ضد ماجوك، وهو يحلم بالأطفال والخريف، أما روحها فتحميه من رصاص جيش الحكومة، خاصة رشاشة أخيه، وقلبها جحيم مستعر ضد جيش الحكومة، طالما كانت هي أخت الاثنين، والأمر ليس كما يبدو لك من التعقد والحيرة؛ الله واحد، ولا نستطيع أن نقول: إنه يقف مع جيش الغابة وينصره، ويقف في ذات اللحظة وذات الصراع مع جيش ملوال وينصره؛ وذلك لأنني أحب الاثنين؛ لأنه حيثما وجد نصر، توجد هزيمة، أن ينتصر أخي يعني أن يُهزم أخي، أن ينتصر الاثنان يعني أن يُهزم الاثنان، فما أكبر الحزن! لكنك كما تعرف نفسك لا تقتنع بالإجابات السهلة والأسئلة المجانية؛ لذا أجبتها بابتسامة غامضة، وأنت تحدد لها بالدقة العلمية أنك لست المسئول، ولن يلومك أحد ولم يؤنبك ضمير؛ لأن ضميرك دائمًا في جانبك، أو كما يقول جعفر، جعفر مختار: ضمير الرجل الحر، ضمير مسالم ووديع.
مُنى قد تحتقر خيالاتك وجنونك وعبثك، وهذا لا يعني أنها غير معجبة بك، أو تحتقرك في شخصك، وحكاية رجل الشجرة ما كانت لتقنعها أو تشبع فيها شبقًا، لولا أنها وجدت رجل شجرة في بيت الجيران القريب، ولدًا مدللًا، لا يعرف شيئًا عن الآلية، ولا الخطر النووي، أو الأسطول السادس الأمريكي، لم يسمع به إطلاقًا، أو يفهم في الاقتصاد، ولم يسمع عن كاتبة صينية تسمى كان شو، مثلما تثرثر أنت معها، لا يعرف لكنه يستطيع أن يحبها، أن يخليها تلحس شفاهه، وهي مسترخية مخدرة تحت صدره، قائلة في حلية رومانسية: أرجوك، أرجوك. صرخت زوجتك نعمة ابنة خالتك قائلة: ما كانت حياتك كلها نساء، لكنك تعشقهن، تحلم بهن كثيرًا وتحب أن تردد قول جعفر، جعفر مختار: المرأة كالهواء، إذا حرمت نفسك منه اختنقت، كلما سنحت لك فرصة لقول ذلك، وترى من حق كل شخص أن يشبع حاجاته من الجنس الآخر، في حدود الممكن وفي إطار حريته، وما زلت تبحث لابنتك عن رجل حر يشبع جموح شهوتها، كما لو كان كل الرجال مثلك، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، رأيته ذات مرة ينام معلقًا على فرع شجرة لالوب، أيقظته، مشيتما إلى قرية عند حنية النهر، تجولتما بين الأكواخ الصغيرة القديمة الهشة، لعبتما مع شيخ عجوز السيجا، حكى لكما عن شباب في القرية بعقلية الأطفال وأجساد الشيوخ وقال: ربما نحن الآن في آخر الزمان، ضحك جعفر، جعفر مختار، وهو يؤكد له باختصار شديد أن ذلك في مصلحة الوطن في المدى البعيد، وحاول أن يشرح له ذلك بشكل أوضح، لكن الشيخ لم يُعِرْهُ انتباهًا؛ لأنه كان على وشك أن يُهزم، كنت تجري في جدية ورعب نحو الذي ينتظرك، إلى الأمام، إلى الأمام، وكان صوت مليكة يتبعك هاتفًا: اسمعني، اسمعني ومت.
أما ابنك رياك فعاد أدراجه إلى المنزل ونام، دائمًا ما كانت الطرق السهلة مقفلة أمام زوجتك مليكة، فلم تستطع يوم الكارثة أن تودع أمها، ولو بنظرة سريعة خاطفة، ولو بهمسة، أمها العجوز، ولم تستطع أن تقبل خد والدها الأعجف وعظامه البارزة، لم تتمكن من تلبية ندائه: اديني حُقَّة التمباك.
لم تستطع أن تأخذ من جدتها العجوز ذات السن الواحدة آخر حكمة تخامر عقلها القديم، فكانت القذائف كالصواعق، والرصاص كالمطر تنشد موسيقى الرعب في سماء القرية الوادعة الجميلة النائمة على أحلام الغزلان والسناجب، المموسقة بتغريد الطيور وزقزقة العصافير. مليكة لم تسمع في حياتها أروع من زئير أسد الأبقار، وما كانت تتخيل أن هنالك صوتًا أكثر رعبًا وعنفًا من زئير هذا الأسد الأحمر، جدها بونا لا يعلم أيضًا أن في هذا العالم الذي يمتد من غابات ما بعد الغابات إلى بلاد العرب، يمكن أن يوجد صوت أقوى وأعنف من زئير أسد الأبقار الأحمر الغاضب في ليلة هادئة، وأنت تعرف جيدًا أن مليكة شول انتزعت من ديار ما كانت تود مغادرتها، لتصبح في حضنك دافئة مباركة، ولو أنك تعرف جيدًا خلفية الصراع في الجنوب كنت تقنع نفسك بأنها لا تنوي غير إرهابك، عندما كانت تريك جمجمة والدها الذي أرسلها لها ماجوك بعد حريق القرية، وهو يحمل حربته ويدخل الغابة، كنت تمشي نحو الذي ينتظرك، وأنت موقن أنه هنالك، في نهاية المسافة ينعس في انتظار طويل، أو يصرخ في وجهك الغائب: أيها الأبله!
ما كنت تدرك له وجهًا، جسدًا أو علامة، وما كنت تستطيع أن تتخيله كشخص ما، أو شيء ما، لكن أقل ما يمكن أن تصفه به أنه كطنين ذبابة تحلق في وجهك، عميقًا كحلم مليكة شول مادنق، يجلس على حجر بضفاف النهر، أو على ماء النهر، أو يطير كالغراب محلقًا في السماء، أو يقبع في وكر كيمامة، أو يجلس في ركن قصي في سجن مظلم رطب على أذنيه غراب أسود يبتسم، أو قملة، أشعلت سيجارة، أطفأتها، سألت رجلًا عجوزًا له وجه قديم مهمل، قلت: هل رأيت يا شيخنا القديم، الجميل وأنت تجلس هنا، هل رأيت امرأة، امرأة مرت بهذا الطريق قبل عام؟ أو رأيت رجلًا، هل رأيت شيئًا ينتظرني؟ هل أنت تنتظرني؟
فابتسم الشيخ العجوز القديم بعينيه؛ لأنه ما كان بإمكانه فتح فمه ليريك أسنانه المتآكلة، وفمه ملآن باللالوب، وأخيرًا عندما استطاع أن يبتلع حصاة ثلاث لالوبات، ويبصق واحدة، بالتالي يصبح فمه فارغًا، قال لك: أنت حزين يا بني …
ثم حشا فمه باللالوب مرة أخرى، واندس في شيخوخته، كنت تعرف إجابته مسبقًا، لكنك فقط كنت تريد إثارة دهشته، أو كسب عواطفه، حقيقة أنك لا تدري، حقًّا لا تدري! لأنك لست في حاجة لإثارة دهشة هذا الرجل العجوز، النائمة في ضوء أيامه السوداء، لست في حاجة لكي توقظ دهشته، تلك الباردة الكسولة، من عهر وسنها، لكي تثبت لنفسك أنك موجود، وبإمكانك فعل شيء تجاه شيء ما، ولو مجرد إثارة دهشة! دهشة صغيرة خرفة، كما أنك لست محتاجًا لعاطفة هذا الشيخ الهرم، الذي رغم قدم كتفيه وأدواته التناسلية ما زال يختلف إلى منزل جارته العانس ليحتسي وإياها فنجانًا من القهوة بالقرنفل أو الهبهان، يخطر بباله أن يراودها عن نفسها، لكنه دائمًا ما يعدل عن رأيه في اللحظات الأخيرة الحاسمة، فيحدثها عن الرجال الإنجليز، حرب الصحراء الليبية أو مجاعة «سنة ستة» يقول لها كيف أنه كان فحلًا تعشقه النساء، يسألها: هل لديك عشاء؟
يخرج وهو نعسان، ينام قرب معزاته وحماره المكادي، ليحلم بأطفاله الذين لا يدري وطنًا لهم، لكنه لا يزال بإمكانه أن يتذكر هيئتهم وأسماءهم، فهم بنتان وولدان، وخامسهم كلبهم، وهو جرو، يذكر إلى الليلة كيف سرقه من أمه الشرسة، فأنت لست محتاجًا إلى مثل هذه العاطفة الشائخة المعقدة والمرهقة من جراء تجوالها في البلاد بحثًا عن لحمة تخصها؛ لأن مليكة شول مادنق أعطتك كل ما تمتلك من عاطفة، وما لا تملك أيضًا، وباعترافك أنت وجعفر تأكد قولها.
قلب المرأة الجنوبية يمكنه أن يسع عشرة من الأفيال الأفريقية، وأن هذا القلب كله مملوء بالحب لرجل واحد ووطن واحد، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار.
صليت، حاولت أن تشرب شيئًا باردًا، أو ليكن صاليًا كالجحيم، أشعلت سيجارة، أطفأتها، السماء كانت زرقاء، حاولت أن تحصي أكبر عدد من النجوم ممكن، ضحكت، تبولت تحت حائط هرم، تذكرت قصة قصيرة لكاتب يقول في المقدمة إنه حداثي، وإن طرائق كتابته تحتاج إلى ثقافة وسعة أفق وفهم لبعض مذاهب النقد الحديثة، بصقت. بصقت مرة أخرى، فكرت في العجوز الهرم القديم الجالس أمام منزله المهمل، وجهه القديم الجاف، شاربه الكث الأبيض، فكرت فيه وقلت في نفسك: لماذا لا يترك هذا الشيخ ما تبقى له من عمر قرب مربط حماره ويموت؟ لماذا يصر على الحياة؟ لكنك لم تسأل نفسك: لماذا تصر أنت على الحياة أيضًا؟
لم ترَ ماجوك، لكن مليكة أرتك صورته، وأيضًا الجمجمة التي أرسلها، جمجمة والده المثقوبة بطلق ناري التي هي الآن بدولاب مليكة شول مادنق، الأسود المغلق منذ وفاتها، وكنت تتخيله دائمًا ماسكًا بجمجمة والده وهو يرقص رقصة شيطانية غاضبة، رقصة حرب حقيقية، هل يرعبك ماجوك؟ قلت لها: تخيلي أن بحرًا من دماء السحالي يمر من هذه الناحية، دماء سحالي بارد لزج ونقي، تخيلي أن امرأة كانت تمر من هنا بهذا الطريق منذ مليون سنة، امرأة خصبة حرة، نقية كالخيال، امرأة كالقرنفل، تخيلي أن جيشًا من الدهشة سكن هذا الطريق، جيشًا سيفه أعور، تخيلي أن بئرًا من العصافير ذات الأرياش الذهبية والغناء البنفسجي. عصافير …
وغلبك الاسترسال في الاستعارة فأحسست بضآلتك وعقم روحك وقلت لها وأنت تبرد تدريجيًّا كريح شتوية: إن أحدهم ينتظرني في مكان ما، زمن ما، شجر ما، ينتظرني حاملًا بندقية صيد آلية أو رشاشة توجه بالليزر أو حمامة مشوية، وفي فمها غصن زيتون ذابل. ربما ينتظرك وفي قلبه سلام حقيقي لست تدري، كنت بليدًا كالنائم، تعبًا كلحظة الحزن، قصيرًا كالدهشة، سكيرًا إذًا، كنت تظن أن أمك تلك المرأة القصيرة البدينة الغنية الشحيحة هي السبب الأول والنهائي فيما أنت فيه على كل حال، قابضة على لا وعيك، محركة وعيك بشيطانية كما لو كنت بيدق شطرنج بين أناملها السمينة. أشعلت سيجارة، أطفأتها، حاولت مرات عديدة أن تتعلم التدخين لكنك حتى الآن لم تحدد موقفًا سلبًا كان أم إيجابًا.
وأنت تجري نحو الذي ينتظرك. تتذكر جعفرًا، جعفر مختار، تشعل سجائرك وتطفئها وتقول لنفسك كلامًا أنت نفسك لا تفهمه، إلى أن أمسك بك رجلان، رجلان قويان بليدان، ولا تدري أن مليكة هي التي استأجرتهما، ألقياك على الأرض، سحباك سحبًا كجوال الفحم إلى منزلك، ومليكة هي التي أوحت إليهما أن يربطاك، أنت تعي حقيقة أنك لست بالمجنون، ولا كنت تدعي الجنون في يوم ما، لكن في الغالب أن علاقتك بأمك هذه العلاقة المشوهة هي محصلة ما أنت فيه، هي لا تحبك ولا أحبتك في يوم من الأيام، حتى في أول نظرة ألقتها عليك وأنت طفل صغير، ترفس في الهواء كالجرو، وتتلوى ما أحست أنك ابنها، جرو لكلبة ضالة بالته في زقاق مظلم وواصلت جريها نحو الجيف المتقيحة، ولما لم تفق بعد أمك من آلام المخاض، صرخت في وجهك الصغير وعينيك المغمضتين: أنت غلطة العمر، ثم أخذت تنادي: أبعدوا عني هذا المسخ، أبعدوه.
وكأنها ما حبلت بك ستة أشهر ويومين، عانت فيك ما عانت، كأنها ما هيأت فراش أبوك في أمسية مثيرة، أغوته ببهاء الدلكة وعطر الصندل، أشعلت فيه نار الرغبة وهي تبدي له جموح جسدها في ضوء الشموع الناعسة، كأنها ما صرخت حين اشتعال لحظة اللذة في أعماقها وغور اشتهائها، كأنها ما نامت ليلتها تلك تحلم بك تكبر فيها، تنبت فيها، تحيا في دمها، أنت أيها المرفوض، ألم تقل لك: ما كان أحد من آبائك يرغب فيك … كلهم كانوا ينشدون اللذة، فقط اللذة لا أكثر، إذًا.
اذهب إليها واطلب منها أن تسامحك، أن تغفر لك خطيئة ميلادك، خطيئة أن تصر على الحياة وتظل باقيًا إلى الآن، قل لها: أعيديني نطفة دافئة في صلب من تظنين أنه أبي، قل لها: ابصقي على وجهي ما يكفي من لعنات لكي أمسخ ذرة غبار فأهيم في فضاء لا نهائي، أو حدثها عن جعفر وأنت لا تدري ماذا يعني جعفر لأمك، جعفر مختار، لكنك لا تستطيع أن تقول لها شيئًا ولا تقدر على مواجهتها بما تظن أنه الحقيقة، مدعيًا أن لكل إنسان حريته الشخصية كاملة غير منقوصة، يكره من يشاء، يعز من يشاء، ولا يُسأل إلا في حالة واحدة: إذا لم يكن حرًّا بقدر حريته، إذا كان عبدًا في أعماقه، لكنك تحبها، تحبها جدًّا، وهذا حق شخصي لا تلام عليه، كما أنه من حقك الشخصي أن تطلِّق نعمة بنت خالتك؛ لأنها لم تسعك — أو على حد قولك — رغم أن أنها سمينة جدًّا، إلا أنها كانت أضيق من حلمي، وأنه أيضًا من حقك الشخصي أن تتزوج مليكة شول مادنق، فتاة الدينكا الحسناء التي يسع قلبها عشرة من الأفيال وخرتيتًا واحدًا، ومن حقك الشخصي أن تتفاخر أمام الآخرين بأنه لا أب لك، أترى ما يقول الناس عنك في خلواتهم الخاصة، في مكاتبهم، مدارسهم، بيوتهم، في أفراحهم وأتراحهم؟ إنه رجل فاجر، وأيضًا ابنته الجميلة، وعندما ينظرون إلى ابنك رياك يستعجبون قائلين: كيف لرماد أن ينجب جمرة؟
ولم تتمكن من إقناعهم بأن لكل رجل أخلاقه الخاصة النابعة من ذاته، من وعيه بالوجود ونظرته للعالم، وعيه بالعلاقة المعقدة لوحدات الزمن، وحدات المكان والإنسان، بفهمه لشفرات السلوك البشري من خلال ثقافته الحرة وامتلاكه لحريته بإرادته، إذًا أنت ترى نفسك أكثر البشر صلاحًا وتقوى، هل تريد أن تقول للآخرين قولك لابنتك مُنى: إن الداعرة امرأة فاضلة إذا كانت مقتنعة في حقيقة وعيها بأنها لا تمارس شيئًا رذيلًا أو نابيًا، إذا لم تتناقض مع نفسها في فضيلة ما تفعل، هي إذًا تؤسس لأخلاقها الخاصة جدًّا ويجب احترامها، هي إذًا تؤسس لفضيلتها الإلهية، ويجب أن ينظر إليها كفيلسوف، إذًا مثل الشعرة من العجين تنسل نقية من خطايا المجتمع؛ لأن خطاياه هي نتيجة نقضه لأخلاقه التي ارتضاها، أخلاقه التي أسسها، التي ليست أخلاقها، بالتالي ليست ملزمة بها، وبهذا الفهم يا محمد الناصر تصبح فيلسوفًا صغيرًا رعديدًا لكنك بلا شك بك ما يكفي من الشجاعة لكي تصبح أول من يطبق نظريتك، وآخرهم أيضًا؛ لأنه لا أحد يقبل أن يسمعك، لا أحد سوى ابنتك الجميلة مُنى، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تكوم رماد السجائر أمامك.
تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، احتسيت قهوة مرة، قفزت إلى ذاكرتك آخر لحظة قضيتها مع مليكة، قبل موتها المفاجئ بالنسبة لك؛ لأنه أبدًا لم يكن مفاجئًا بالنسبة لمليكة ذاتها، أحسست بدفء صوتها المبحوح، وهي تهمس في أذنك: سأظل أشتاق إليك، سأظل أجري خلفك لأعيدك إلى المنزل، وأنت تجري بحثًا عن الذي ينتظرك، سأظل أمطرك بالأسئلة، هل ستهرب من سؤالي أبدًا بعد أن أموت؟
ولم تستطع أن ترد على همسها إلا بدمعات ساخنات قطرت من عينيك اللتين رأتا كثيرًا من تصدعات الإنسان، عاصرتا مليونًا من أعاصير الموت وعذابات الضحك والمسخرة، ثم انفجرت بالبكاء، مثل طفل جائع، ولم تتخيل نفسك أنه بإمكانك أن تبكي في يوم ما بهذا العمق، بهذه الحرية، أنت لم تحب في حياتك غير مليكة شول، فتاة الدينكا الحسناء، ذات الأرداف المملوءة بالأطفال والبافرا ولن تحب غيرها، حاولت أن تتذكر آخر لحظة حب قضيتها في فراشها، آخر قبلة، آخر همسة، آخر آخر، كان الرجلان قد أحكما وثاقك بحبل متين، قلت لهما: اتركاني، قالت لك مليكة: لا.
فتحدثت إلى ابنك رياك وابنتك مُنى بكل موضوعية فأفهمتهما حقيقة الإنسان أو الشيء الذي ينتظرك دائمًا في مكان ما، في زمان ما، قالت مليكة بشكل مؤكد: أنت موهوم …
هي تفهمك أكثر من نفسك وتعرفك عندما تريد شيئًا وتقول غيره، وعندما لا تريد شيئًا وتبدو وكأنك تريد العالم كله، وأنت غامض بقدر وضوحك، مخبول بقدر عقلك، صغير بقدر كبرك، أنت قوي بقدر ضعفك، لكنك لست بشأن ما تعتقد أن تكون ولا بفهم ما تعتقد، ولست ضئيلًا بما يجب لكي يتجاهلك الله. رأت مُنى في رجل الشجرة كثيرًا ما كانت تفتقده فيك، وأهم ذلك الشجرة ذاتها.
أن تكون رجل شجرة؛ لأنك عندما التقيت مليكة لست أكثر من رجل حانة، أو ذلك الجالس قرب زجاجة العرق الزرقاء، هل تدري أن رجل الشجرة يفترش صدر ابنتك مُنى يوميًّا؟ نعم، أنت تعرف ذلك لكنك تتجاهله، مثلما تجاهلت حبوب الحبل المختفية التي كانت تخص مليكة، مثلما تجاهلت تساقط صدرها وارتخاء شفتيها وجفافهما وغيابها المتكرر عن المنزل، وكنت تختلق لها الأعذار، هل سافرت مع صديقتها في سياحة قصيرة؟ ربما تأخرت الليلة في الاستذكار، كم تبَقَّى لامتحانات نهاية العام؟
وتحت باب الحرية الشخصية أيضًا طالبت بالبحث عن الذي ينتظرك، صليت على عجَل، قرأت سورة الكافرون.
تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، اعتذرت لك مليكة عما بدر منها من استئجار رجال أشداء لاصطيادك وربطك، قالت لك: لأننا نحبك ولا نريد أن تضيع، ثم أقرأتك جواب ملوال المرسل إليها من جبهة الحرب، ورأيت اسمك مكتوبًا بخط ركيك لكنه واضح، يقرئك السلام والتحية ويقول لك: احتفظ بسلبيتك بشأن الحرب؛ لأنها ما أضحت حربًا بين بشر، إنها حرب أشباح.
وكتب في موضع آخر: تعتبر الحرب بالنسبة لي انتهت، وما يحدث الآن هو مجرد قتال، قتال عنيف لا فهم له. وكتب أيضًا بين قوسين كبيرين لأخته مليكة: إن الله مع الجانبين. هل كان يخاف على قلب أخته؟ استطعت أن تخفي ارتباكك ورماديتك وخوفك من عيني مليكة، سألك ابنك رياك عن أمور شتى، بشجاعة وصدق وصبر عظيمين، رغم أنك لا تزال تعتبره ولدًا ساذجًا بسيطًا مندهشًا بالظواهر، ولدًا ورقيًّا ريحيًّا، مُنى يعجبها فيك أنك تحاول دائمًا أن تجد فهمًا للحياة خاصًّا بك، فهمًا لا يستطيع ابتلاعه غيرك وجعفر، يعجبها فيك ثقافتك، حريتك وسعيك المتواصل نحو نقطة أبعد عن مرمى البصر، تواضعك وأشياء أخرى تحبها لكنها لا تستطيع أن تقولها لك، وهي تراقبك عن كثب وأنت، وأنت تلاحظ بدقة انكسار جموح نهديها، نموها العقلي، خربشة أظافر الآخر على كتفها وظهرها، ذكاءها الاجتماعي ووعيها، تذكرت جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، حاولت أن تقرأ القصة القصيرة ذات المقدمة التنديدية، لاحظت أن اللغة فيها باردة ومملة ومتعبة جدًّا، بصقت.
أنت تحب كتب الفلسفة والديانات، الباراسايكولوجي، تحب أن تجلس على شاطئ النهر وحيدًا، تقرأ الكون من حولك، وتحاول ما أمكن أن تقرأه نفسك، منذ أن ماتت مليكة شول مادنق، سبعة أعوام وأنت لم تشتهِ امرأة، حاولت مرة أن تعانق ضفائر سيدة عطرة، لكنك وجدت نفسك عاجزًا عن فعل شيء، كنت باردًا كفحم في مخزن رطب مهجور، تذكرت قول مليكة لك: لن تستطيع أن تتزوج امرأة بعدي.
قلت لها ضاحكًا حينها: غير صحيح؛ لأن الرجل لا يهتم كثيرًا بمسائل تبدو لكم معشر النساء مهمة، فالرجال يتزوجون ويتزوجون، وقد لا يذكرون نساءهم الأُوَل.
في الحق أنت لا تؤمن بما تقول، ربما في ذاتك كنت تود أن تقول عكس ذلك، لكن مليكة الجميلة فهمت ما أردت أن تقوله بالضبط ولخصته لك في جملة واحدة. لأني أحبك يا مليكة، فأنا رجل أمامك أنت فقط، رجل لك أنت وحدك، حية كنت أو ميتة. أشعلت سيجارة، أطفأتها، أطرقت تفكر في خطاب الموازنة وإمكانية زيادة الدخل القومي بزيادة توظيف مدخلات الإنتاج وإيجاد حل سلمي للحرب أو إسقاط النظام القائم، بل إسقاط كل التاريخ، وإسقاطك أنت نفسك في نوم ثقيل مرعب. دخل إليك رجلان من الجيران، قال لك أحدهما: بالأمس مات رجل عجوز غريب، كان يجلس أمام بيت له قديم في الحي، ويظن البعض أنه والدك؟ قلت لهما: وهل أنا أبحث عن أب؟ قال أحدهما: إذا عرفنا لك أبًا فربما استطعنا أن نستنطق البعض بأنهم شهدوا عقد قران أمك، بالتالي تصبح ابنًا شرعيًّا. قال الآخر: مسألة مجاهرتك بأنه لا أب لك وافتخارك بذلك يسبب لنا ولكل الجيران مأزقًا أخلاقيًّا، وأيضًا لابنك الصالح رياك. فضحكت، حاولت أن تتبول، لكنك عدت من المرحاض كما ذهبت إليه.
قلت لهما وأنت لا تزال تتفجر ضحكًا: إذًا قدما لي التعازي، لقد كان أبي بالتأكيد رجلًا صالحًا أفنى عمره في حبه لكم.
ولا تدري لماذا ذهبت إلى والدتك في ذلك اليوم، حيث بادرتك قائلة وأنت تلج حجرتها: محمد الناصر، ماذا جاء بك؟
قلت لها وفي فمك ابتسامة صغيرة: لقد مات رجل عجوز غريب، كان يجلس أمام بيت له قديم في الحي، ويظنه البعض والدي. قالت ولم تبرح مرقدها بعد: أنت تبحث عن أب؟
فقلت لها: بل هم الذين يبحثون عن أب لي، يريدون شرعنتي، وإنهم يظنون أنفسهم موتى في مأزق أخلاقي!
إذًا ينتظرونك لكي تبعثهم، أو على الأقل إخراجهم من هذا المأزق الأخلاقي، إذًا اذهب وقل لهم: إن أباك هو الشيطان نفسه، الشيطان الذي يتبول في مناخيرهم كل ليلة وهم نيام، ويزني بنسائهم وبناتهم، ألم أقل لك ذلك من قبل؟ ماذا تريد مني؟ اذهب واسأل جعفرًا، جعفر مختار، إذا شئت، ثم أضافت بكل برود: أنا حرة، لقد قالوا: إنك أيضًا حر.
فقلت لها وتخنقك العبرات: هناك فرق دقيق جدًّا بين الحرية والعبودية، فالمسألة مسألة فهم ووعي، الحرية في العقل، العقل يا أمي!
قالت بنفس برودها: أعلمك جعفر هذه الحكمة؟ فعندما تركتك ليس بإمكانك فعل شيء سوى الصراخ وكثرة التبول!
أشعلت سيجارة، أطفأتها، تذكرت جعفرًا، مثل هرة منعمة أمك، حادة الطبع ربما تعاني بطريقة أو بأخرى من مرض عقلي، ثرية، لا تهتم بشيء سوى نفسها، ونفسها فقط، وأنت ابن غير شرعي، ابن حرام، كما قال لك رجل صعلوك تشاجرت معه في خمارة في أيام المراهقة، المهم سفاحًا أنجبتك من صلب رجل ربما التقيت أنت به في زمان ما أو في مكان ما، ولا ذنب لك في ذلك، ليست أمك هي المسئولة ولا حتى والدك، وأنت تختلق لهما الأعذار كعادتك، ولا تحب الخوض في هذا الشأن لأنه شأنهما وليس شأنك، فأنت وُجدت بطريقة ما في هذا الكون، تحمل على كتفك مسئولية أن تحيا، وفلسفة أن تكون، ولا يهم بالنسبة لهذا الكون الكبير أن تكون ابنًا شرعيًّا أو غير شرعي، قال لك جعفر، جعفر مختار: أنت تكره التحدث عن علاقة ميلادك، فأنت رجل حزين ومصدر حزنك عقلك، وما عليك إلا أن تعري نفسك أمام أفكارك، لتكون أكثر حرية وتجاوزًا للأشياء، هذه الأشياء الصغيرة جدًّا والتافهة. لم تصدق نعمة زوجتك وابنة خالتك أن أحدهم ينتظرك وتحدثك قائلة: هذا الشهر كله دعنا نبحث عنه، فإذا لم نجده يجب عليك أن تعترف بسوء عقلك، ولا تقل لي مرة أخرى شيئًا من هذا القبيل.
أحدهم ينتظرني، أحدهم يفعلني، أحدهم، أحدهم، أو تجري في الشوارع تبحث عن شبح لا وجود له في الواقع، سنمشي في كل الشوارع نبحث عنه. قلت لها: ربما يجيء بعد أن نغادر الشارع.
قالت: سنؤجر من يأتي خلفنا يبحث عنه حتى إذا جاء بعدنا وجده.
قلت: إذا جاء بعد هذا الأخير أيضًا؟
قالت: سنستأجر من يأتي بعد الاثنين، إذًا ماذا تقول؟
قلت: هب أنه وجده فكيف يعرف أن هذا الشيء هو الذي ينتظرني، الذي ينتظرني أنا بالذات؟ لأن من ينتظرني ربما كان شيئًا مفاجئًا، يوجد حيث لا يتوقع، وربما يوجد الآن بيننا، ربما يجلس خلف المنزل معطيًا ظهره للحائط وهو يتبرز، أو يزرع بعض الفجل، ربما يقف الآن تحت الشمس يتقاطر من جبينه العرق في موقف الأتوبيس يتوقع قدومي بعد كل لحظة، وعندما أتأخر عن المجيء يلعنني في سره، أو يغني لحنًا أجنبيًّا! ربما أكل الآن ما في جيبه من تسالي وآخر الأغاني الرخيصة التي بجعبته، وملت شفتاه الصفير، وأصبح فارغًا كوجه رجل مغيب عن حقيقة الصراع اليومي والعلاقات أحيانًا، كنت تظن أنه ينتظرك من أجل نفسه، لتجدد فيه قدمه وذكرياته، أيامه المخبأة خلف غيمة من الوهم، يريدك أن تؤسس له حياة جديدة مستقبلًا حقيقيًّا بوعي حاضر، أو غير ما تعتقد! ربما كان نبيًّا مليئًا بالأشياء الجميلة يحمل إليك بشارة وجودك، يجدد قدمك، يحررك أكثر ويزكيك أمام الريح، يصقل تجاربك، إنه على كل في انتظارك، قد يكون بعيدًا جدًّا، بعيدًا في آخر شبر من الكون، جالسًا على كرسي يحتسي قهوة المساء، وحواليه بنيات حسان يعزفن القيثارة ويغنين له عنك وعن الحرب وابنتك الجميلة مُنى، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تمنيت لو كانت مليكة شول قربك الآن تضع الإفطار لابنيكما، وهي تغني ما لم تسمعه من أغنيات أهلها، في غابات المانجو والباباي، كنت ستسألها: لماذا لم أتمكن من الانفكاك منك، من شوقي إليك؟ وتخيلت ابتسامتها البسيطة المتواضعة العميقة، التي تظهر بياض أسنانها وورد شفتيها، وكيف أنها ستمتلئ بالنشوة النسوانية المثيرة، سألت رجلين جاءا من الحي وطلبا منك أن تقوم باستلام ما تركه الرجل العجوز؛ لأنك وريثه الوحيد.
من أين جاء هذا الرجل العجوز؟ ومن قال لكم إنه أبي؟ وكيف يوصي لي بممتلكاته وهو لم يرني في حياته؟
لكنك عندما أخذت تنقب حاجياته القديمة وجدت جواز سفر وبطاقة عسكرية بها اسم ربما شابه اسمًا قالت لك أمك يومًا: إنه اسم أبيك، سكرت، حاولت أن تنام، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار.