هذا سفر الذي هو: ملوال
من خندق واحد قاتلتم، يد ليد، طلقة لطلقة، قلب لقلب، فما ذنبك إذا وقعتم في كمين نصبه لكم جيش الغابة فخسرتم المعركة؟ وما ذنبك إذا قفز نمر على عنق قائد الكتيبة من على شجرة تبلدي فأرداه قتيلًا، ما ذنبك؟ وما ذنب الشجرة؟
لاحظت أنت ورفاقك حركة غير عادية في وسط جنود كتيبتك من جنود المليشيا الملحقين، ثم تشكلت عبر همسات ووسوسات حركة عملية عبرت عن كرهها لكم بالشتائم، ثم وجهت إليكم الاتهامات مباشرة: من منكم أيها الجنوبيون الخونة باع أسرار الكتيبة وخططها للمتمردين؟
من بين أفراد الكتيبة كنتم عشرين جنديًّا من الجنوب، من الدينكا، من الشلك، من النوير، من اللكويا، ومن الباريا، من بينكم ثلاثة مسلمون، عشرة مسيحيون، وسبع ديانات أفريقية، قال قائلك: ليس فينا خائن أو جاسوس، فلقد حاربنا معكم عشرات المعارك، منذ هطول الأمطار في العام الماضي، وإلى هطول الأمطار في هذا العام، مات منا من مات، عبد الله شول، توج مادنق، دنق لوال، بيتر سعيد، خرتيت، أشول وورل، وغيرهم كثير، كثير، أنتم تعرفون ذلك بالتفصيل، وفي هذه المعركة الأخيرة قتل الرجل الطيب أبونا: أيوم لادو لادو، واختطف المتمردون سامسون آرنستو جوبا، ووجدتموه كما وجدناه معكم مذبوحًا على القنطرة قرب النهر، فكيف نكون نحن الخونة؟ أنخون أنفسنا؟!
قالوا: أحدكم جاسوس على الأقل، وكلكم متمردون، تحاربون معنا وقلوبكم هنالك في الغابة، كالذئاب المستأنسة!
وجردتم من أسلحتكم وربطتم تحت شجرة تبلدي عملاقة، التي قفز منها النمر والتهم وجه قائد الكتيبة، ثم أمطرتم بوابل من الرصاص، مطر من الجحيم، ثم حرقتم والشجرة، شجرة التبلدي العملاقة، وكنت قد كتبت من قبل إلى أختك مليكة شول مادنق ما قاله لك جعفر يومًا ما، عندما التقيت به في ميدان المعركة ولا تدري من أين أتى وكيف: نفس البندقية التي تطلق النار إلى الأمام، هي نفسها التي تطلق النار إلى الوراء، وبالجنب أيضًا فانتبه، عسى أن ترتد رصاصات بندقيتك إلى صدرك، فأنت رجل ميت طالما كنت تمسك بالبندقية، هيا ألقها ونم، وحينها قلت لأختك في خطابك: إن ما قاله جعفر يخيفني، جعلني أتفحص بندقيتي عشرين مرة قبل أن أطلق رصاصها.
لكنك أيضًا لم تفهم جعفرًا جيدًا، فإذا كنت قد فهمته حقًّا لهربت إلى حبيبتك أببا الحبشية أينما وجدت، اختبأت بين نهديها الدافئين، لكنك رجل بائس، رجل حزين، بائس، كنت وأنت تنضم لجيش الحكومة لتدافع عن وحدة الوطن من الغابة للصحراء، هل حقًّا أنك التحقت بالجيش لكي تدافع عن وحدة الوطن من الغابة للصحراء؟ هل حقًّا كنت تفهم ما هي وحدة الوطن؟
هل كنت حقًّا تفهم ما هو الوطن؟
بل هل كنت تدري أن الوطن يمتد غابات ما بعد الغابات إلى صحاري ما بعد الصحاري والعرب؟
ألم يحدثك قلبك أن وحدة الوطن والتراب لا تعني أحيانًا أكثر من الحفاظ على حياة النظام الحاكم؟
ألم يقل لك جعفر: إن وحدة التراب قد تعني أن يضاجع رجل امرأتين في آن واحد، وبنفس العاطفة والتشوق، لكنه لا يصل إلى نشوته أبدًا؟ لكنك لا تفهم في الخبائث والسياسة، ولا أيضًا في الدين، كنت في ١٩٨٢ في قمة بؤسك وقمل إبطيك، كنت جائعًا مشردًا بالمدينة الكبيرة، وكان بإمكانك أن تفعل كما فعل دووت تابان، ولا يكلفك أن تحصل على المال جهد ما، فقط ما عليك إلا أن ترتدي الجلابية، وكل يوم جمعة تصلي في أحد الجوامع، وبعد الصلاة تشهر إسلامك، فتنهال عليك الجنيهات من المسلمين ذوي القلوب الرحيمة وهم يذرفون الدمع، وفي الجمعة القادمة تصلي في مسجد آخر وبعد الصلاة تفعل، وهكذا، تسافر إلى المدن المجاورة والضواحي، القرى البعيدة جدًّا، أينما تصلي جمعة تشهدك مشهرًا إسلامك، ثم تفعل كما يفعل جوون تابان: يا كنيسة الرب، اللي في القلب في القلب.
وطالما لم تكن مسيحيًّا في يوم ما فستحور القول إلى: يا كجور الرب اللي في القلب في القلب.
ففي نهاية الأمر القلب واحد، والرب واحد، وأنت أنت، وهذه البلاد الكبيرة هي أمك الحقيقية، لكنك رفضت أن تفعل فعل جوون تابان، لسبب واحد بسيط، هو — كما قلت لجوون — إذا ذهبت للجامع سيخنقني الكجور بالليل وأموت، نحن كجورنا صعب.
وكان بإمكانك أن تعمل ببيع السجائر في أماكن تجمع السيارات وعند بوابات المصالح العامة والشركات، وكان بإمكانك العمل كخادم في المنازل تغسل الأطباق، والملابس وتكويها وتقوم بكنس الغرف، كان بإمكانك … كان بإمكانك. لكنك فجأة تجد نفسك أمام القيادة العامة للقوات المسلحة طالبًا تجنيدك في المشاة، قائلًا لنفسك: المرتبات مجدية والعسكري محترم ومهاب وله مكانة اجتماعية، فلن يستوقفني رجل الشرطة لأن لا بطاقة شخصية لي، ولن أحمل في الكشة. تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، كان يقول لك وأنت تحمل رياك الطفل الرضيع بين كفيك: هناك رجلان؛ رجل حر، ورجل عبد، الحر من يبحث عن سبيله ويجدها، العبد من لا يبحث عن سبيله ولا يجدها.
كنتما تتمشيان بين أزقة المدينة، أنت وجعفر، ثم التقيتما صدفة بمحمد الناصر، وكان قلقًا، وهو يتلفت مهلوعًا بحثًا عن الذي ينتظره، حينما رآكما صاح فيكما هاتفًا: هل كنتما في انتظاري هنا؟
قلت له: لا بالتأكيد.
قال: إذًا اذهبا معي إلى النهر.
قال جعفر: أنا لا أستطيع أن أذهب معك إلى أي مكان كان.
وقلت له أنت أيضًا ذلك.
وفي اللحظة التي همَّ فيها بمغادرتكم إذا برجل أنيق يمشي قربكم، وحوله عشرة من الشبان، وكان واضحًا أنهم من طبقة فقيرة، ويعملون بالأشغال اليدوية، وأن حظهم من التعليم متواضع، أما هو فكان مظهره يوحي بعكس ذلك تمامًا، قلت أنت لجعفر: انظر، هذا الرجل المتواضع، تواضع العلماء.
فضحك وقال إنه أكثر الناس تكبُّرًا وافتراء وجهلًا.
ثم شرح لك محمد الناصر بالتفصيل الحقيقة التي يرمي إليها جعفر في قوله، فتعجبت، وتبولت واقفًا تحت عامود النور، ثم مشيت مع محمد الناصر إلى النهر.
قالوا لك في الكتيبة: أنت هنا للدفاع عن وحدة التراب.
وفي الحقيقة هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها كلمة وحدة التراب، ولم تفهم ماذا تعني هذه الكلمة إلا عندما استلمت بندقيتك الكلاشنكوف رقم ٣٣٤٠٠، ثم شُحنت والآخرون على متن طائرة حربية، توجهت بكم إلى غابة هي مسقط رأسك، لكن ما الذي جعلك تصر على حمل السلاح وقد علمت أن بندقيتك لن تطلق النار إلا للوراء، للوراء جدًّا، للوراء الجميل، الذي هو أنت! تذكرت جعفرًا، جعفر مختار، ولو …
إلا أنك لم تتوقف لحظة لتفهم جعفرًا، فكنت أول المتقدمين للمعركة تلو المعركة وآخر العائدين منها، أعوامًا قضيتها ما بين الرصاصة والرصاصة مطيعًا للأوامر العليا، ما تحدث قلبك بأمور ملتوية، حقيقة كنت تغامر أحيانًا ببعض المال تختلف إلى بعض الداعرات، في أيام السلم تستمني في الميدان، مثلك مثل بقية الجنود، وليس أكثر من ثلاث مرات سرقت لحظات حب مع زوجة صديقك ماكير، تلك المرأة اللعوب.
كنت أميًّا يوميًّا لا تفهم حقيقة الصراع السياسي والحضاري والديني بين الجنوب والشمال، وكنت لا تدري ماذا يعني أن يقبل قطب سياسي بالحكم الكونفدرالي، ويرفض قطب آخر، وكنت دائمًا ما تعجز أيضًا عن معرفة الفرق ما بين الحرب والجهاد؟ وكثيرًا ما يدهشك تصرف أفراد المليشيات المحلقين بكتيبتكم وهتافهم، هم نفس الأفراد الذين أمطروا قلبك بالرصاص، وهم يهتفون: الله أكبر، تختلط في رأسهم المفاهيم بالحلم، بابتسامة مليكة شول مادنق، بحكمة جعفر وغموض محمد الناصر أحمد، تختلط الغابة بالمجروس والنملة بحذاء جند سليمان، والصحراء بالعشب والنيل والتمر هندي، وثمار البافرا بصراخ الجرحى ودماء الملغومين وأنانيتهم، وصفير الراجمات بنداء البوم الليلي، وصوت أببا بالطين والخرتيت، الصبيات بالبافرا، والليل الطويل بالوطن الممتد من غابات ما بعد الغابات إلى صحاري ما بعد الصحاري، والذئاب المفترسة بالبلاد الكبيرة، بالنخيل، بالبهجة، بالحزن العميق الحلو، بالفجر، بنباح كلاب الحراسة، بالنصر والهزيمة والفراش بالفراش.
بالنحلة الجميلة، بالموت، بالله، بالله … بالله، السلام الحي المميت.
لم، لم تسأل نفسك: أهي حرب دينية؟
حرب سياسية؟
لم يكن في رأسك معنى للسياسة سوى ما قاله لك الضابط المحاضر: خداع ونفاق ولصوصية.
إذًا، إذا كانت حربًا سياسية، فمع من أنت تحارب؟ ومن أجل ماذا؟
إذًا، إذا كانت حربًا دينية، فمع من أنت تحارب؟ ومن أجل ماذا؟
إذًا ضد من؟ لصالح من؟
في الحق إنك لم تكلف نفسك عناء هذه الأسئلة، فكنت أول المتقدمين في القتال وآخر العائدين، إذًا!
كنت مثل مليكة شول، كنت تؤسس لموتك، كنت مشغولًا بموتك عن موتك، مشغولًا بالرصاصة عن الرصاصة، لم تجد الوقت الكافي لكي تتخذ زوجة، بيتًا أو ولدًا يحمل اسمك، لقد كنت مشغولًا حقًّا بشئون موتك، مكتفيًا بالعلاقات السريعة مع الداعرات واللاجئات ونساء الطريق، لكن أببا كانت أبقاهن في حياتك أثرًا، بغض النظر عن النهاية التي آلت إليها العلاقة، إلا أنك وجدت فيها نفسك، نفسك المشردة ما بين الغابة والنهر.
إذًا لِمَ لَم ترَ هذه الرصاصات الغادرة جمال قلبك قبل أن تخترقه؟ فكنت غريبًا وبائسًا حيران، وأنت تموت مندهشًا كطريق مهجور أضيء فجأة ثم أطفئ.
عاد محمد الناصر في ساعة متأخرة من الليل، وبدخوله الصالون وجد ابنته مُنى الجميلة جالسة وحدها، تشاهد الفيديو وعلى وجهها قناع من الخليط العفن الذي بدأت تظهر على وجهها مفاعيله، حيث أصبحت هامتها وأقواس خديها أكثر بياضًا من بقية وجهها، خاصة الشفاه وتحتها قليلًا ومحاجر العين، كما أنه جعل وجهها يبدو أكثر نعومة ورقة، رغم عدد ألوانه، ولو أن لون وجهها الأصلي كان حلوًا في صفار المانجو البلدي؛ لذا كان يحلو لك أن تناديها: مندكورو شكل منجة.
فبَادَرَت والدها متسائلة: ما رأيك في وجهي؟
قال وهو يحاول أن يعرف ما هو الفيلم الذي جعلها ساهرة إلى هذه الساعة من الليل: إنه كوجه هندي أحمر في احتفال الحصاد كله ألوان.
فقالت له لائمة في رقة: حرام عليك يا بابا، بدلًا من أن تشجعني؟
قال ضاحكًا: هل وجه الهندي في احتفال الحصاد قبيح؟
لا تنسَ أنه احتفال بمناسبة الحصاد.
قالت له: أنت تعني المعنى البعيد، وهذا هو أقرب المعاني فحسب، لكنه غير مجرى الحديث.
قائلًا: من الذي أتى بهذا الفيلم العجيب؟
قالت له: رياك.
– وما الذي يعجبه في الحرب، والحرب بالذات؟
قالت: قال إنه ربما رأى خاله فيه، فهو مصور من ميدان المعركة.
– مَن مِن أخواله؟
قالت: ملوال، فكما ترى أن الفيلم حكومي.
وكانت لا تدري مُنى ابنة أختك مليكة، أنك في هذه اللحظات روحًا تهيم بين الأسلاف في الحياة الأخرى، وفعلًا رأتك وكنت تحمل رشاشة بيدك اليمنى ترفعها في الهواء مُحَيِّيًا الكاميرا، أقسمت أنها سمعت صوتك ضمن الهاتفين: الله أكبر، وأعادت اللقطة مرارًا وتكرارًا بحضور محمد الناصر، ثم بحضور رياك أيضًا الذي أكد أنه لا يستبعد دخولك في الإسلام؛ لأنك جندي في حرب مقدسة ضد الكافرين، خاصة أن بصحبتك المجاهدين والدعاة الذين لا يكلون ولا يملون من إلقاء المحاضرات والخطب الدينية، والدعوة للصراط المستقيم هي: ديدنهم.
وقال لأخته مُنى: كل الناس تجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، إلا أبوك هذا وجعفر، فقالت له وبفمها ابتسامة: وما رأيك فيَّ أنا؟
قال وهو يحملق في عينيها: شأنك شأن ابنة الشيطان.
قالت مبتسمة: وما رأيك في حاج صالح الشجيرة، الرجل التقي صاحب الخلوة التي بجانب زريبة المواشي، فهو أيضًا لا يعترف بأن المشاركة في الحرب في الجنوب جهادًا في سبيل الله؟
قال وقد تضايق من سؤالها: إنه صوفي مخرف.
قالت: ما رأيك في خالي ماجوك وهو مسلم ملتزم، ويحارب الآن بجانب جيش الغابة؟
قال: أنا لا أعرف ما بقلب العابد، لكنه قد خدع أو قد يكون منافقًا، أو أضله الشيطان، من يدري؟
عندما استيقظ محمد الناصر من نومه كان مرهقًا وتعبًا؛ لأنه لم ينم غير ساعتين، خرج من الحمام، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرًا، جعفر مختار.
ارتدى ملابسه على عجل، نظر إلى الساعة، قال في نفسه: ساعتان قبل ميعاد العمل، صلَّى، خرج، ما ذهب إلى المصلحة، لكنه سلك أول طريق إلى اليمين، ثم أول طريق إلى جهة اليمين، ثم أول طريق تقع إلى يمينه، وهكذا تاه في دوامة من الطرق المتجهة إلى جهة اليمين، دوامة في البحث عمن ينتظره، دوامة الوهم الحقيقية.
كان يمشي بخطى سريعة خفيفة، كأنه محمول على بساط الريح، وكلما وجد طريقًا مشرعة إلى يمينه سلكها، إلى أن وجد نفسه أمام القيادة العامة للجيش، نفس المكان الذي تجندت فيه أنت قبل أعوام مضت، قال لنفسه: سأسأل في مكتب المتابعة عن ملوال، فسألهم عنك: رقيب أول ملوال شول مادنق رقم ١٩٩٠٩١ المشاة، الكتيبة ١٩٦٦٠.
كانت مليكة تغسل الأطباق وهي تراقب بين الفينة والأخرى، بصلًا يحمر على الزيت، مُنى تشعر بتقلصات في الرحم، تبتلع قرص دواء، تبدي ضجرها وهي تستبدل منشفة دم الحيض بأخرى، كانت تود أن تحكي حلمًا لوالدتها لكنها غيرت رأيها في اللحظات الأخيرة، حينما طلبت منها مليكة أختك أن تعتني بحلة البصل، أو تغسل أواني الطعام، قالت مُنى إنها تعبانة ومرهقة ومريضة، كانت مليكة تود أن تحكي لابنتها حلمًا، لكنها تراجعت في اللحظات الأخيرة لأن شكوى مُنى أجهضت شهيتها للحكي، كما أن ظهور محمد الناصر الفجائي عند المطبخ — وهو أشعث أغبر — كان مثبطًا مساعدًا، فإذا تجاوزنا الحلم والحيض وجعفرًا، جعفر مختار!
وجد محمد الناصر اسمك مكتوبًا وغيرك في لوحة الشهداء، التي دله إليها رجل الاستقبال، وعلق عليكم بحبر أحمر مؤثر بأنكم ما بخلتم بدمائكم الغالية من أجل وحدة التراب، وأن لكم الجنة، وأن الرصاصات الخائنة الغادرة التي أصابت أفئدتكم الطاهرة، سيثأر لكم منها إخوة لكم ساهرون، ورقيتم جميعًا إلى رتبة ملازم أول.
هكذا أغلق ملفك، وكأن الله لم يخلقك بعد، وكأنك ما زلت كلمة في الغيب تبحث عن معنى، معنى بسيط وسهل.
مليكة أختك كانت قلقة جدًّا من أجلك؛ لأن حلمها كان يخصك، فتذكرت جعفرًا، كان وجه ابنتها قد بدأ ينتظم لونًا واحدًا هو أكثر إشراقًا من لونها الأول، لكنه كان غريبًا؛ لأن عنقها الذي يحمل لون بشرتها الأساسي بدا مسودًا بعض الشيء، قالت لرياك: اذهب للقيادة العامة، مكتب المتابعة، اسأل عن خالك ملوال، رغم أن رياك كان مشغولًا بأمور شتى، إلا أنه لم يمانع في الذهاب، فكان برًّا بوالدته بالذات فلا يعصي لها أمرًا.
وأضافت: لأن أخباره انقطعت عنا، حتى الخطابات التي كان يرسلها لنا كلما وجد من يمليه إياها لم تعد تصلنا، في عودتك من الجامعة اغشَ مكتب المتابعة، لا تنسَ.
في تلك اللحظة هطلت أول قطرة من مطر الموسم الجديد، بعد أن ظلت السماء تحبل لأسبوع كامل بالسحب السوداء الثقيلة والبرق، انفجرت بالريح الممطرة، كانت حبات المطر الكبيرة الدافئة تغسل بقايا رمادك، من بين وريقات الأعشاب وشقوق الأرض لتأخذها إلى مستنقعات أباب دير النائمة منذ آلاف السنين، ترضع الحيوانات والناس ماء الحياة، تشحن السماء بالسحب، ترسلها بالريح إلى البلاد البعيدة، وكان ما تبقى من صبية في القرى الجائعة الحزينة الميتة يجرون تحت السماء الممطرة وهم ينشدون.
وما زالت جدات لك شائخات أخطأتهن الرصاصات والشظايا، يذكرن أبناءهن الذين ولدوا في خريف ما، في مثل هذه الأيام مع نزول المطر الأول ويحسبن أعمارهن وأعمار أحفادهن بعدد ما مر عليهن من مطر، وعندما تمر السيول أمام عتبات بيوتهن يذكرن أبناءهن الميتين الذين ستحمل إليهم هذه المياه المتدفقة المهاجرة في عمق الأرض في الحياة النائية أخبار ذويهم، أصدقائهم، بلادهم، الحرب وانتصارات الأشباح وهزائم الريح، وستخبرهم بعدد شجيرات البافرا واليام التي أنبتتها الأرض، وتحكي لهم كيف إذا دخل الجنود قرية أحرقوها وجعلوا أعزة أهلها أذلاء، فإنهم — أي أبناءهم وأسلافهم — بلا شك مستيقظون، قلقون وهم ينتظرون أخبار الأهل والأحفاد.
إذًا سيحمل لك رمادك أخبار مليكة شول مادنق وأحوال أخوك ماجوك بغاباته، سألت مليكة أختك زوجها، وهو يبحث عن مقعد بالمطبخ قرب ابنته الجميلة، التي كانت تمطره بالأسئلة عن أسباب الدورة الشهرية عند المرأة، ولماذا لا تبدأ بعد الزواج؟ سألته مليكة قائلة: حلمت بملوال، ألا تعرف شيئًا عن أخباره؟
قال وقد بدا عليه الإرهاق أثقل: أريد قهوة مرة، تذكرت جعفرًا، تبولت، حدثها عنه، أنساها كثيرًا من أسئلتها الملحة، قال: إن جعفرًا علمه ثلاثة أشياء أساسية، وهو علم جعفرًا ثلاثة أشياء غير أساسية، ثم أضاف هامسًا في أذنها أنه يريدها الآن، في هذا الآن بالذات، قالت مندهشة: البنت، البنت بالبيت، ورياك سيعود من الجامعة، وأنت تعب وأغبر وأنا مشغولة بطبخ الغداء.
ضحك، أشعل سيجارة، أطفأها، حاول أن يتذكر جعفرًا، حاول أن لا يتذكره، حاول أن يتذكر أمه، حاول ألا يتذكرك وأنت مكتوب تحت اسمك بأن لك الجنة، حاول أن يتذكر الذي ينتظره، حاول أن لا يتذكره، حاول أن يتبول، حاول ألا ينهض من مكانه وألا يقول لابنته مُنى: إن رجل الشجرة العنصري، أعرفه جيدًا.
حاول أن يقول لابنته مُنى: رجل الشجرة ما عنصري، لكن أبوه هو العنصري المتسخ بفكر الشارع.
قال لأختك مليكة حبيبته: إذًا أريد أن أفعل شيئًا، أي شيء، ساعديني أرجوك، قالت له مبتسمة: نم.
قال وبه حرقة النار: النوم ليس فعلًا لشيء.
قالت: إذًا غنِّ، ولو لحنًا مسروقًا من خمارة بالعشش.
قال مبتسمًا ابتسامة مرهقة: هذا قد يبدو معقولًا، لكن لماذا ترفضين الذهاب معي للفراش؟
قالت وقد أنهكها الحديث: أنت دائمًا تجاوب الأسئلة بأسلوب معقد وتسأل بأسلوب أكثر تعقيدًا.
مر العام كله، ورياك ووالده محمد الناصر يخفيان خبر موتك عن مليكة، لكل أسبابه الخاصة جدًّا لكنهما يتفقان على نقطة واحدة على الأقل، وهي خوف أن تموت أختك من صدمة المفاجأة، فهي مصابة بالسكر، ويحكى عنك عندما سمعت أول مرة أنها مصابة بهذا المرض قلت: ما الذي جعل مليكة تصاب بمرض السكري؟ وقد عشت في الجنوب منذ الميلاد، إلى أن غدوت رجلًا، لم أسمع مرة واحدة أن أحدهم مريض بالقلب أو السكر أو السرطان، إلى آخر هذه الأمراض الغريبة، فردت إليك مُنى قائلة: ربما مات الناس — وكثير منهم في الجنوب — بهذه الأمراض، ولا أحد يدري أنهم مصابون بها.
قلت: نحن نعالج بالرماد والكجور وبعض الأعشاب، أحيانًا الرقص، إذًا أهي علاج هذه الأمراض؟
قال لك رياك: وعندما يموت المريض تقولون ببساطة: إن الأسلاف أحبوه، أرادوا أن يكون قربهم!
كان ذلك في آخر إجازة قضيتها في الخرطوم، وهي الفترة التي التقيت فيها أببا، أقنعتها أن تذهب معك إلى حيث مقر وحدتك العسكرية، وعدتها بالزواج إذا هي وافقت، فقبلت، لكنك — وهذا هو طبعك — قلق كالنائم على حبل الغسيل، لا تطمئن على حال، بعد شهر كامل أقامته معك في قطية بقشلاق الوحدة، سألتك ذات مساء أن تفي بوعدك، فسكرت جيدًا، وعدت إلى البيت منتصف الليل فأيقظتها، وقلت لها: لا أريد أن أسمع بموضوع الزواج مرة أخرى، سأذبحك إذا نطقت بهذه الكلمة.
قالت لك: إذًا، كدا.
لكنها لم تظهر غضبها أكثر، كعادة المرأة الحبشية، صبورة، لكنها لا تنسى، فذات مساء حملت ما تقوى على حمله واختفت، ولم ترها بعد ذلك أبدًا.
قالت لك أببا وهي تخبز كسرتها الحبشية ذات فرح وحلم: نستطيع أن نزرع معًا في بلدنا أو نبقى في الحدود بين بلدنا وبلدكم، فلا فائدة في الجيش يا ملوال، الجيش قاتل أو مقتول، والقاتل مقتول يا ملوال.
فقلت لها: أنا لا أجيد أي عمل آخر، لم أمسك منجلًا في حياتي، فقط أعرف رعي الأبقار، والآن تعلمت إطلاق الرصاص، أما الأبقار فليس عندي منها غير الذكريات، فقد أكلتها الوحوش من جيوش الغابة وجيش الحكومة، ابتلعها الرصاص واللغم، أما الرصاص فهو الخيار الأخير، ما تبقى أمامي هو الرصاص.
إذًا كنت تؤسس لموتك، أتذكر؟ قبل أعوام كثيرة وكنت تسير وجعفر ومحمد الناصر في الطريق إلى انتصار طائش، إذ مر أمامكم موكب حاشد كبير يهتف ممجدًا الحرب والانتصارات المتتالية، مناديًا بالموت للخائنين والساكتين، وذوي الآراء المخالفة للطرح العام والمعارضين، فضحكتم كثيرًا والموكب يقترب ليحاصركم من كل صوب وجهة، فقال جعفر: احملاني على كتفيكما، وسأهتف هتافًا قويًّا يمجد الحرب والتماسيح، يمجد البندقية، فحملتماه وما هي إلا هتافات قليلة من جعفر، هتافات قوية ونافعة حركت حماسيات الموكب وجعلته يغلي كالمرجل حتى أخذه الهاتفون المتحمسون الناشطون على رءوسهم وصعدوا به على ظهر شاحنة عالية وعلقوا على جيب سترته ميكروفون وهم يرددون هتافاته خلفه، حتى إذا ذابوا في نشوة الهتاف أسكرهم الحماس، انتصب جعفر ما أمكن على رءوسهم، أخرج ذكره عن طريق فتحة بنطلونه الأمامية، كان ذكرًا أسود طويلًا ومنتفخًا بالدماء والبول، بسم الله، أخذ يتبول على رءوس الهاتفين المنتشين وهو يهتف بقوة أكثر: تحيا الحروب، تحيا تحيا، تحيا الحروب.
فيندفع البول أمامه عشرات الأمتار مطرًا على الرءوس.
قالوا: إن بوله كان عفنًا حارقًا، ولا يمكن غسله إلا بالدماء.
قالوا ولم تر ذلك بأم عينيك، لكن أخبرك به محمد الناصر فيما بعد: إن كل من أصابته ولو قطرة واحدة من بول جعفر، مسخ، فإذا كان شماليًّا مسخ إلى نفس جنسه ذكرًا كان أم أنثى جنوبي، وإذا كان من الجنوب مسخ إلى شمالي، وقال لك محمد الناصر: إنه كان يعرف رجلًا من الشمال أصفر البشرة، ناعم الشعر، قصيرًا وممتلئًا بالشحم، فعندما أصابته قطرات من بول جعفر، تحول إلى رجل طويل أسود البشرة شعره قرقدي ناشف، وحتى لسانه أصبح لا يستطيع نطق الكثير من الكلمات العربية واعتنق الدين المسيحي، فهل الفرق بين الجنوبي والشمالي قطرة بول؟
قالت لك أببا: ستبلعك الحرب.
غضبت، حطمت الدولاب الفارغ، أطلقت طلقتين في الهواء، وعندما ذهبت مليكة أختك بنفسها إلى القيادة العامة، مكتب المتابعة، دلها مكتب الاستقبال إلى لوحة الشهداء، استشهد قبل عام، قال لها جندي سمين كان يبحث في اللوحة عن أسماء رفاق له، قدموا لها شهادة تفيد وتؤكد: إنك عشت شجاعًا ومت شجاعًا في دفاعك عن الأرض والعقيدة، لكنها رفضت أن تأخذها قائلة: لكنه مات، فماذا تفيد الشهادة؟
قالوا: فخر لأبنائه.
قالت: ليس له أبناء.
قالوا: إن له مكافأة أيضًا.
قالت وقد رفضت أن تأخذها: لكنه مات فماذا تفيد المكافأة؟
قالوا: عون لأبنائه.
إذًا ما ماتت مليكة أختك فجأة، كما اعتقد زوجها وبنتها وولدها، لكنها منذ أن كانت طفلة في السادسة عشرة، كانت تؤسس لموتها وهي تكتم صرخاتها عندما اغتصبها الضابط أملًا في الزواج منها.
كانت تؤسس لموتها عندما كان يضاجعها أبناء عمومتها الجنوبيون في العشش.
كانت تؤسس لموتها وهي تستعطفهم أن لا يفعلوا ذلك بوحشية، مليكة شول مادنق أختك، ومثلما تحيك العنكبوت خيوطها كانت تبني شبكة عدمها الخاصة بدقة وصبر، تزوجت من الناصر، أنجبت رياك.
كانت تؤسس لموتها، أنجبت مُنى.
كانت تؤسس لموتها، أجهضت ثلاث مرات ثم استخدمت عقاقير منع الحمل أيضًا.
كانت تؤسس لموتها لدرجة أنها عندما كانت تغني بقايا ما بذاكرتها من أغاني القبيلة التي تُغَنَّى في مواسم الأعياد واحتفالاتهم الجنائزية وأفراحهم كانت تلتقط الكلمات الصغيرة الواهنات الموغلة في القِدم، الكائنة في خبايا أزقة الذاكرة.
وهي تؤسس لموتها عندما يختلط في لسانها لحن الأغاني الجنائزية بالألحان الفرحة الرقصة.
كانت تؤسس لموتها وهي تحلم بسرب الغزلان الذهبية تهرب أمام ثلاثة نمور رقطاء، ثم تشتبك النمور في معركة مع قرود التقل الشرسة، وما استطاعت العاصفة الممطرة المرعدة أن تفضها.
كانت تؤسس لموتها وهي تبكي محتضنة جمجمة أبيها المثقوبة وتتذكر حكمة جدتها نيان دينق ذات السن الواحدة: إذا لم تبك البنت أمام أبيها وزوجها وربها، فإنها لن تبكي إلا في نار الحياة الأخرى، مليكة شول مادنق، أختك الصغيرة، أيها المقتول ملوال، برصاصات من قاتلت معهم خندقًا بخندق، يدًا بيد، قلبًا بقلب، طلقة بطلقة، وموتًا لموت، أصدقاء الانسحاب والتقدم والكأس ورغيف الخبز، والمرأة، تلك البنت الجميلة، ذات العنق العاجي، البنت التي أحبت الحياة مثلما يعشق النيل ماءه، أو كما يتشبث القرد بشجرته الأخيرة تشبثت بالحياة، إلا أن ميلادها كان أول طوبة في قلعة موتها، قلعة موتها الخالدة.
ماتت مليكة موتًا كابوسيًّا طويلًا، موتًا مرسومًا بفنية وبراعة، موتًا دقيقًا أنهى أطول احتضار لإنسان، ثمانية وثلاثون عامًا من الاحتضار، احتضار غني بالمفاجآت والأسئلة، غني بالموت، غني بالابتسام.
غني بجعفر!
كان محمد الناصر في مدينة بعيدة، في أقصى الشمال، مبعوثًا من قِبل المصلحة في مهمة عاجلة، وكان في اجتماع مع نفر من المهندسين يناقشون إمكانية قيام مشروع للطاقة، قوامه المخلفات الآدمية، حينما نهض محمد الناصر فجأة من كرسيه قائلًا: سأحدثكم عن جعفر، جعفر مختار.
وطالما كان هو مدير الجلسة وكبير مستشاري الطاقة المنتدب، قال له الجميع: حدثنا؛ فربما أفادتهم تجارب جعفر في الإتيان بمصادر للطاقة أرخص أجود، ظنًّا منهم أن جعفرًا عالم أو خبير في هذا المجال. قال: جعفر، جعفر مختار، ثم استأذنهم في أنه يريد العودة لمنزله الآن في هذا الآن بالذات؛ لأن هنالك ما ينتظره.
أتدري يا ملوال، إنه في هذه اللحظة بالذات ماتت أختك مليكة شول مادنق، ولو أن روحها انتظرت مجيء محمد الناصر، إلا أنها ماتت كثيرًا، ماتت جدًّا، أختك مليكة شول مادنق تجول بشوارع المدينة، تسكع في المقاهي والمطاعم الشعبية والأندية الكسولة السطحية، والأزقة، كان قلقًا مزحومًا بالأفكار والبؤس، لا يريد أن يصل إلى المنزل، تذكر جعفرًا، جعفر مختار.
كان يريد أن يلتقي الذي ينتظره، بأي ثمن وأينما كان، مختبئًا بأكشاك السجائر، يضاحك الباعة الجنوبيين، بين طلاب المدارس يشتري ساندويتشات الإفطار، والحلوى، نائمًا تحت أشجار النيم قرب المحطة، متجولًا في شوارع الله الفسيحة، يقتل الوقت في المواخير، يضاجع امرأة رخيصة سكرانة، أو يحتسي عرق البلح، في النادي يلعب الورق وهو ينظر الفينة والأخرى لساعته، يلعنه في سره أو يمل الانتظار في الجامع، يؤم المصلين لصلاة العشاء.
هكذا أطلق ساقيه في الدروب، سائبة مشاويره، كماء متسرب من جدول قديم، وجد نفسه عند باب المستشفى العام، دخل، اتجه يمينًا، في أول ممر اتجه يمينًا نحو أول غرفة فلقي ابنه رياك، ابتدأه متسائلًا: هل كنت تنتظرني هنا؟
قال له رياك: ألا تعلم أن أمي مريضة جدًّا؟
قالت له مليكة أختك كلمتها المحفورة عميقًا في غور نفسه: سأظل أشتاق إليك.
ثم ماتت تلك الدينكاوية الحسناء. ها هي الريح الخيرة يا ملوال تأتي بالسحابات الحبلى بماء الحياة الدافئة، مرة أخرى بألحان الصبايا الحالمين، تنزل لتشربها الأرض العطشى فتجري السيول أمام عتبات البيوت، فتحمل لك أخبار الجدات، الأصدقاء، أشجار التك، أسود الأبقار، المدن الساقطة، تحمل إليك كسرة أببا حبيبتك، وهي في المدن البعيدة تنتظر مجيئك، حاملًا منجلًا بدلًا من البندقية، وأنت الآن في الحياة الأخرى تجالس أختك الجميلة الصبية السوداء، ربما لا تتذكران جعفرًا، جعفر مختار.
ربما لا تشتاقان لمحمد الناصر في حياتكما تلك، لكن بلا شك ستحمل إليكم مياه السيول أن في المدن الحية مدن الحروب رجلًا يصلي دائمًا من أجلكم، يصلي دائمًا.