هذا سفر الذي هو: رياك …
جئت ملتحيًا غريبًا، متفائلًا بما تحمل، وعندما سألك والدك محمد الناصر: أين كنت؟
قلت مزهوًّا: في معسكر المجاهدين!
ولو أن المفاجأة لم تكن مفاجأة تامة بالنسبة لوالدك إلا أنه ذهل ذهولًا كاملًا، فتذكر جعفرًا، جعفر مختار.
أحس بأكلان في خصيتيه، تململ قليلًا، حاول أن يحك موضع الأكلان، حاول أن يأخذ نفسًا طويلًا من الهواء، ممتدًّا لنصف الساعة، حاول أن يستشعر رطوبة الجو، وأن يغمض عينيه لثوان ثم يفتحهما للأبد، حاول أن يتذكر ما إذا كان قد صلى صلاة العشاء ليلة البارحة، أم أنه تأخر في انتظار جعفر بين أشجار المسكيت الخضراء قرب النهر، حاول أن يغني، حاول أن يبكي، حاول أن يسمع نداء عصفور ود أبرق خلف النافذة على شجرة الأركويت، حاول أن يعطس لكنه أشعل سيجارة ثم أطفأها، ونظر إلى ساعته ولم يرها، فقال في نفسه: لا بد أن تتزوج هذه البنت، فلقد كبرت مُنى بما يكفي لكي تنجب أطفالًا، أطفالًا في جمال العصافير، ليروا جعفرًا قبل أن يبتلعه الدهر، فمن يعرف ماذا سيحدث غدًا؟ فمن يعرف أين سيكون جعفر غدًا؟ بل من يعرف أين يكون في هذه الآن، هذه الآن بالذات؟
ثم سأل وبصوته برود غريب: من أجل من تجاهد؟
قلت بسرعة: من أجل الدين.
فناولك فنجانًا من قهوته المرة فلم تستطع بلعها، أعَدْتها إليه.
سألك بعد أن حدثك عن أشعار جعفر الخمسة: أتعرف الفرق بين شرح سيد قطب للقرآن وأبي الأعلى المودودي؟
قلت: لا.
سألك: هل سمعت بنظرية الانفجار الكبير لجيمس هوكنج؟
قلت: لا.
فسألك: أتعرف زرادشت ودينه، ولماذا وضعه البعض ضمن الأنبياء؟
– لا.
فسألك: هل تدري أن كلمة آمين هي من اللغة العبرية وتعني نعم؟
قلت: يقولون ذلك.
فسألك: هل قرأت كتاب وحيد الدين خان «نحو مدخل علمي للقرآن»؟
قلت له: لكني قرأت كتاب مصطفى محمود «التفسير العلمي للقرآن» وهو كتاب جيد.
قال ضاحكًا: ماذا تقول؟
ثم ضحك مرة أخرى، ثم حاول أن يشعل سيجارة أو يتذكر جعفرًا، لكنه سألك: أتدري ما هو رأي أبي حنيفة في الخمر؟
سألك: أتدري مِن أجل من مات محمود محمد طه؟
سألك، سألك، سألك، قال: هل يستطيع الأعمى أن يختار سبيله من بين ثلاث سبل، ولو كانت متباينة، وواضحة؟ الاختيار ليس للعميان لكن للمبصرين، للأحرار، والأحرار هم العارفون، أنت عبد يا ولدي، أنت عبد للسائد والمعروف والبديهي، أنت عبد لخطب الجمعة وخطاب الرئيس وبرامج الراديو والتلفزيون الموجهة، أنت عبد لخطيب الندوة السياسية وافتتاحية الجرائد الحكومية والميكروفون، أنت عبد صغير كبيضة ذبابة في بياتها الشتوي!
فقلت له وقد خنقتك العبرات: الدين في خطر يا أبي!
كيف بقي هذه القرون الطويلة؟ هل بقي لأن الحكام كانوا يحمونه؟ إذًا من عذَّب الإمام مالك وشله؟ إذًا من قتل الإمام أحمد بن حنبل؟ وشيخ الإسلام ابن تيمية، من قتله؟ ومن قتل الإمام وموسى الصدر؟ من شنق الحسين بن منصور الحلاج؟ ومحمود محمد طه؟ إذًا من قتل حسن البنا؟ ومن يا بني قتل شيكيري توتو كوه؟
يا ولدي رياك، اسمع ما قاله لك جعفر: إن دين الحاكمين هو البقاء في كرسي العرش، وربهم هو أيضًا المال، اقرأ، فكر، ابحث، أجهد عقلك، قارن، تعثر في سبلك الخاصة، لكنك اخترت الطرق السهلة، الفكر الرخيص، فكر كلمة العدد، أسفًا عليك!
حكى لك والدك عن جعفر مختار ثم سألك: أين ستبدأ جهادك؟ هل ستفتح أمريكا؟ أم الفلبين أولًا؟ هل ستفتح القاهرة أم تغزو جزر القمر؟
لكنك أبدًا لا تقل لي سأقاتل في الجنوب، لا، فإذا قلت ذلك ستقتلني، ستقتلني يا بني رياك، ستقتلني من الضحك!
وبقدر ما كنت مقتنعًا برأيك لم تسمع كلمة مما قال أبوك محمد الناصر، فكنت ترى فيه رجلًا فاسقًا خارجًا عن تعاليم الدين ومضلًّا، لكنك لا تستطيع أن تنكر أنك كنت ترى نفسك حقيرًا ضئيلًا أمام ثقافته ومعرفته، ولم تستطع للحظة واحدة إثبات ذاتك أمامه، ولو أنك كنت مؤمنًا إيمانًا تامًّا بأنه على خطأ، فكان دائمًا ما يحطمك صارخًا: أنت سطحي، أنت قشري هش كرماد القصب!
وتعرف أنه كان بين الحين والآخر يدفعك ويحثك لكي تعرف، ويقول لك: الإنسان العارف هو الإنسان الحر، أما الجاهل فهو عبد للسائد والمعروف، عبد للبديهي، كان يقول لك: اقرأ، غامر، افشل، وحاول … لكنه لم يعطك يومًا كتابًا قائلًا لك: اقرأ هذا.
لكنه لم يدفعك لشخص قائلًا لك تعلم منه، إنه ما كان يشكلك كما شكل هو، يريدك أن تبني نفسك بمشيئتك ولو أنه كان يعلم أنه بذلك يغامر بمستقبلك إلا أنه يؤمن بالحرية، حرية الفرد في المعرفة والاختيار.
قال لك يومًا ما: هل تريد مساعدة ما مني؟
قلت صادقًا: عفوك … فقط، أرجو ألا تغضبك الطرق التي اخترت، فكما أنت حر في نفسك أنا حر في نفسي، وهذا ما علمتنا إياه وعلمنا جعفر أيضًا، جعفر مختار.
قال مبتسمًا: طالما قلت ذلك فإنك حتمًا ستنتصر، ولا يعني أنك ستصبح مثلي أو مثل جعفر، بل قد تكون عكسنا تمامًا وتكون حرًّا وعارفًا، فما عليك إلا أن تستفتي نفسك ولا تتبع طرائق الآخرين في التفكير.
صمت قليلًا ثم أضاف: جعفر نفسه قد بدأ متعثرًا، بدأ زاحفًا على بطنه وفي فمه جرح غائر، وبرأسه شيطان رجيم.
دخلت أختك الحجرة فجأة وكانت جميلة وبوجهها نعومة فائقة، فدهشت لمرآك وذقنك الصغيرة فقالت ضاحكة: إنها تشبه ذقن بوب مارلي، إنها موضة قديمة.
ثم سألتك قائلة: أين اختبأت كل هذه الأشهر، هل كنت في مغامرة؟ أنا أحب المغامرات، لم لا تصطحبني معك؟ حتى ياسمين إبراهيم لا تدري أين أنت، وسألتني عنك وداد بنت كلية الهندسة كثيرًا، فأين كنت؟
شرب والدك قهوته المرة، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرًا، قام تمشى في الحجرة، ابتسم، قال لك: أرجوك ألا تغيب كثيرًا من البيت، وكن نفسك، كن نفسك ولا تتهيب الطريق، أنا عاف منك وأحبك جدًّا.
قالت مُنى وقد أثارها المشهد والرومانسية: أهو مسافر؟
حقيقة كنت محتارًا ولم تفهم موقف والدك، أهو معك؟ أهو عليك؟ لكنك أحسست بطمأنينة بالغة، نظر إلى ساعته، قال إن أحدهم ينتظره، الساعة تشير إلى التاسعة والثلث مساءً، قال لمُنى: تخيلي أننا في هذا الآن — هذا الآن بالذات — نقف أمامه وجهًا لوجه؟
قالت أختك مُنى وهي تضع حقيبة كتب الجامعة على مقعد كان بقربها: سأسأله، لماذا لم يستطع أن يجدك إلا اليوم؟
ثم سألت والدك: أين تعرفت عليه أول مرة؟
قال مبتسمًا: وجدته مع جعفر قرب النهر، يلعبان مع السلاحف المائية، وقد وعدني بأن نتقابل مرة أخرى، لا أدري لماذا يريد أن يقابلني، وأنا لا أدري لماذا أصر على أن أجده؟ أقابله وأراه، ألم تره؟ نعم لقد كانا يلعبان مع السلاحف المائية عندما جئت إلى الشاطئ هو وجعفر، ورأيت جعفرًا، وكان فرحًا ومبتهجًا، وعندما سألته عما سره؟ حدثني عنه وقال لي: إنه ذهب بعيدًا خلف السلاحف المائية وقال لك انتظره أو ابحث عنه، وهو بدوره سينتظرك أو يبحث عنك؛ لأنكما لا بد أن تتقابلا، فلم أسأل جعفرًا أي سؤال ملح عنه، لا عن جنسه أو نوعه أو حتى كيف يتكلم؟ أيومئ برأسه أو بذيله، أو يتحدث بلسانه، أو أنه يرقص كلماته مثل زوربا اليوناني؟
خرج والدك، كان رجلًا نشطًا خفيفًا كالريح، يمشي فتخاله يرقص في العاصفة، أخذت تحادث أختك مُنى في شئون شتى، تذكرتما جعفرًا، جعفر مختار، قلت لأختك: جعفر هو أساس ما نحن فيه من ألم، وله دور خطير فيما يجري الآن، قالت لك خائفة: لا، لا تتحدث عن جعفر بهذا الأسلوب، إنه يحبنا.
قال في حزن: أنا لا أنكر حبه لنا، ولا أنكر أنني أحبه أيضًا، لكن هذا ما أحس به! قالت لك: تخيل حال والدنا محمد الناصر إذا لم يكن في حياته جعفر؟
فقلت لها جادًّا: كان سيصبح رجلًا بريئًا عاديًّا وديعًا، ولوفر علينا ما نحن فيه من هم، حيرة، وأسئلة، ومأساة.
ثم حذرت أختك من عذاب يوم القيامة، وأيضًا حذرتها من الإعجاب بوالدك، وقلت لها: إنه سيضيعك، وأكدت لها أن والدك أفسدته المعرفة، وإنه عرف أكثر مما يجب، نضح أكثر مما يجب، وضربت لها مثلًا ثمرة الباباي، إذا أسرفت في النضج أكلها الطير أو تعفنت وسقطت على الأرض، طعامًا للديدان والنمل، وكادت أن تقول لك: وتقصد جعفر مختار أيضًا؟
إلا أنك قلت لها: أنا أعترف بأنني لا أعرف جعفرًا جيدًا، إنه معنا كل يوم وكل لحظة يلعب معنا الشطرنج، وكثيرًا ما أقرأني القرآن، إلا أنني دائمًا ما أحس بأنني لا أعرفه كأنما كان هنالك جعفر آخر لا نراه، وجعفر مجسد أمامنا نعايشه، نؤاكله ونشاربه.
قالت لك ضاحكة: أحس أن جعفرًا الذي نعرفه ليس هو الذي نعرفه.
ثم تغير مجرى الحديث فجأة إلى مبدئه وقلت لها: لماذا لا تواظبين على الصلاة؟ إنها لا تكلفك شيئًا.
قالت لك: أنت دائمًا لا تكف عن الوعظ، مرة عن وجهي، مرة عن علاقتي بعبد الله، مرة عن السهر ومرة عن جعفر، مرة، مرة، ثم تشاجرتما، تشاجرتما كالعادة.
سافرت، سافرت إلى مدينة بعيدة، محاولًا نسيان أيامك السابقات، تجاربك الماضية، أن تنسي جعفرًا، جعفر مختار، محمدًا الناصر، مُنى، وحتى مليكة أمك الجميلة فتاة الدينكا الذكية، كنت تحاول جاهدًا نسيانها، فقط كنت تفكر في حبك الجديد: الله.
رسول الله محمد.
الإسلام.
ولا تستطيع أن تقول إنك كنت ممتلئًا بذلك الجمال الإلهي الصوفي العميق، ولا تنكر أنك حاولت أن تعيد النظر في مسألة فهمك للجهاد، لولا أن فكرة أن والدك أثر فيك وقفت دونك وأي فهم أو فعل إيجابي، كنت في صراعك مع ذاتك تحارب في المقام الأول ما يمكن أن يعبر عن وجهة نظر والدك، أو أن يخلق منك محمد ناصر آخر، وكخروج نهائي من جلد أبيك فكرت جادًّا في تغيير اسم والدك نهائيًّا: رياك محمد، رياك جاك، رياك رياك.
وربما الفكرة التي أعطاك إياها الأشخاص الذين حاولوا تزييف أب لوالدك ورد اسمك إلى أصول عربية، أو تغييره كلية هي التي أخذت تمتد وتسيطر عليك، وتوقفت كثيرًا عند الاسم الذي أصلته أنت، أسموك به، رياك، رياك.
قلت لنفسك: ما مصلحة هؤلاء في أن يكون أبي شخصًا آخر غير محمد الناصر؟ وما مصلحتهم في أن يكون اسمي عربيًّا؟ بل ما مصلحتهم في أن يكون هنالك أب محدد لأبي؟ وأيضًا سألت نفسك سؤالين قويين كالجرانيت، لكنك عندما عجزت في إيجاد إجابة مناسبة لهما صليت ركعتين وطلبت من ربك أن يجنبك شر الأسئلة.
قال أبوك محمد الناصر لأمك مليكة شول مادنق: كانت ابنة خالتي نعمة زوجة غير ذكية؛ لأن الزوجة الذكية — كما يقول جعفر — هي التي تحتفظ بزوجها إلى حين أن يتوفاه الله، وليس إلى أن يتوفاها الله هي؛ لأن الزوجة الذكية أيضًا لا تموت قبل زوجها؛ لأن زوجها دائمًا في حاجة إليها حتى بعد موته، فإنه يحتاج إلى من يبكيه بدموع فيها اشتهاء حقيقي وخصوصية، ونعمة لم تستطع أن تبقيني في شباكها لأنها لم تستطع أن تفهمني وأن تعي جنوني الخاص جدًّا، جنوني الذي يجعل دمي حلوًا وهو يسري في شراييني لترقص عليه الأحلام وهي تخامر الأسى، تخامر سحليات الروح.
إذًا ما كانت ستبكيني بدموع كلها اشتهاء، هي امرأة ليست لها مقدرة على الحلم، مثل الولد رياك تمامًا، تريد واقعًا جاهزًا ومعطى.
فحاولت أمك أن تقارن بينك وبين نعمة لكنها لم تجد أوجهًا للشبه غير تلك التي في مخيلة أبيك محمد الناصر، في وهم خوفه عليك، وخوفه منك!
كان يقول لها عنك: إنه مثل الصرصور الذي لا يمكنه أن يرى أبعد من قرني استشعاره صرصور صغير وباهت.
ثم سألها سؤالًا لم تستطع أن تسمعه لأن أنامله كانت تعبث بزغب ناعم في عنقها الطويل الرشيق، محركة صمت اشتهائها في أقبيته النائمة فأحست بحاجتها إليه، حاجة ماسة وملحة، وكانت تخافه أن ينهض فجأة هاتفًا: أحدهم ينتظرني.
لذا عبرت عن رغبتها في سؤال تقليدي تعرف كيف يجاوب عليه أبوك: ما رأيك في الحرب بالجنوب؟
مثل تلك الاشتهاءات كنت وأختك ثمرة لها، فأبناء العاطفة الأصلية هم الأجمل والأبقى لأنهم عصارة اللذة، وخطاب الوجود الصريح والأكثر عمقًا، أو كما قال جعفر مختار.
السماء مسحبة بطيئة، مياه النهر ثقيلة كأنها الزيت، أشجار السيسبان العجوز تخشخش مرحة عندما تقبلها الريح الصيفية، الجنوب غربية.
الريح الخيرة أبدًا، فترسل ثمارها الذهبية المتطاولة إلى الأرض ليتقاسمها معزة، وحملان، وطفل الراعي طفل صغير أعجف، رجل عجوز هو الراعي النائم تحت شجرة لالوب وارفة، عليها يمامتان تتناشدان مرح القيلولة، وقربه على الأرض عصفور ود أبرق بين رياش ظهره، ريشة شديدة السواد، يحجل نحو عشوشاي تظهر عدم الاكتراث به، وأيضًا عدم الرغبة، صفرت الريح وهي تتخلل أشجار الشاطئ، تنسل ما بين صخوره الرمادية القديمة وتعبث بذرات الرمال الذهبية الناعمة كزغب أميرة مراهقة، يحاول طفل الراعي الأغبش ذو الشعر المنكوش أن يرضع المعزة لكنها تبعده عن ثدييها بنطحة قوية تلقيه على ظهره، فتنطلق من بين فخذيه ضرطة لها صوت الريح عندما تمر بين أشواك السيسبان الجافة، يتململ الراعي العجوز كما لو أنه يستيقظ، لكن شخيره تعالى بقوة، ينهض الطفل، يمسك المعزة من وسطها ويعضها بغضب في أذنيها، تتألم المعزة في صمت، جعفر يمد رجليه، يغرقهما في ماء النهر الساكن، يفكر بشكل جاد.
والدك ينظر بعيدًا إلى الضفة الأخرى يراقب سربًا من الأطيار، أطيار الرهو وهي تلتقط الأسماك الصغيرة، بين أصابعه سيجارة مطفأة، قال جعفر فجأة: رياك.
فتحدث والدك كثيرًا عنك، دافع عن موقفك، أكد على مبدأ الاختلاف وحرية الاعتقاد، ثم دافع عنك جعفر بكلمة واحدة قائلًا: من حقه.
هدأت الريح، حاول الطفل رضاعة المعزة مرة أخرى فنطحته، التقط كل ثمار السيسبان، أطعمها للحملين ونفسه، حارمًا منها المعزة التي وقفت بعيدًا تحملق في الحملين وهما يكرمشان ثمار السيسبان بلذة، كانت مندهشة وحانقة، تحدث والدك عن الإعصار القادم حتمًا، وعن أجيال منفعلة متفائلة لكنها جاهلة وسطحية، شديدة العاطفة لكنها ستغير الكثير في هذه البلاد وتهيئ الوطن لثورة فعلية تقتلعهم أول ما تقتلع؛ لأنهم بتفاهتهم وعجالتهم سينضجون كل أمراض المجتمع ويضعونها على السطح عارية يفوح منها عفن يدل عليها، فيقول المسيح: من ثمارهم تعرفونهم، إذًا …
سيرمي بهم وبسطحيتهم في جحيم المسافة، أي ما بين غاياتهم ووسائلهم، ما بين اندفاعهم العاطفي غير المؤسس وحركة الواقع الفعلية، ما بين جهلهم ووعيهم الغائب.
ضحك جعفر، تثاءب، ثم خلع ملابسه ورمى بنفسه في النهر، فزعت أطيار الرهو في الضفة الأخرى، طار بعضها لكنها حالما عادت مرة أخرى لتلتقط المسكيتات الصغيرة وهي تصيح: كعو، كعو، كعو، استيقظ الراعي النائم، نادى الولد الصغير بصوت عذب رقيق: نور الله، نور الله.
كان نور الله يحرم المعزة ويأكل السيسبانات الذهبية، حينما سمع نداء الراعي بصق ما بفمه من ثمرة، وجرى ملبيًا النداء، أيضًا ظهر كلب الراعي من مكان ما، فسبق الطفل لتلبية النداء هازًّا ذيله بمرح. فطارت اليمامتان بعيدًا في عمق السماء، ثم حلقتا على النهر، أما ود أبرق وعشوشاي فطارا إلى شجرة سيسبان قريبة يرقبان الموقف عن كثب، سأل الراعي الطفل: أين بقية الأغنام؟
فأشار الطفل إلى النهر، قال الراعي: آتي بها.
فجرى الطفل وخلفه الكلب نحو النهر بين الأشجار قافزًا على شجيرات المحريب والسنسنات ذات الزهيرات الصفراء، وعلى الصخور القديمة والرمادية على الرمال الذهبية المفترشة عليها، كزغب أنثى، أميرة مراهقة.
هش الراعي على الحملين والمعزة بعصاه كما كان يفعل موسى عليه السلام، فتساقط العلف ليتخطفه الحملان والمعزة، فتكرمشه بلذة وامتنان، قال والدك لجعفر الذي كان يسبَح مستمتعًا بمياه النهر الدافئة: ستمطر.
قال جعفر وهو يشير لأطيار الرهو الهادئة المطمئنة على الشط المقابل: ليس قبل ساعة، انظر لهدوء الأطيار.
غطس جعفر عميقًا في جوف النهر، خرجت خلفه مئات الفقاقيع وهي تبق، قبل أن تظهر على السطح قطعة من الخراء كبيرة سوداء توقفت قليلًا وكأنها تتفحص الاتجاهات ثم دارت حول نفسها مع دوامة صغيرة، ثم سبحت في بطء شمالًا في خيلاء مع تيار النهر الواهن، ضحك والدك، ضحك طفل مختبئ وكلبه بين شجيرات المحريب، أشعل سيجارة، أطفأها، نظر إلى ساعته، فكر في قبلة سريعة على فم مليكة شول مادنق، خرج جعفر من الماء، هز رأسه كخروف هطلت على صوفه أمطار، سأل والدك: كم عام مضت منذ وفاة مليكة شول؟
ثم عاد مرة أخرى للماء، ثم عاريًا كما خرج آدم من الجنة خرج، صغيرًا مبتلًا كسحلية فقست لتوها من البيضة، كانت أسنانه بيضاء وبكفه الصغيرة سمكة تصارع من أجل الفكاك.
قال مبتسمًا: شلباية!
تفحصها والدك ثم رمى بها في النهر، ضحكا معًا في آن واحد، بلع الطفل ريقه من بين المحريبات، تعانقا، غنى لحنًا كان جعفر قد سرقه من ذات الطفل وذات الكلب وذات الراعي وذات الأغنام وذات الريح وود أبرق واليمامات، والموج والرهو، والسيسبانات، وضرطة الطفل وذات الراعي والشخير، اتسعت عينا الطفل دهشة، وهز الكلب ذيله القصير، أخرج والدك من بين ملابسه الملقاة على رمل الشاطئ زجاجة صغيرة بها خمر، حاول ألا يشرب منها شيئًا، حاول ألا يعيدها، حاول أن لا يلقيها في النهر، صب كأسًا ابتلعها في جرعة واحدة، خلع والدك ملابسه الداخلية، فكر لحظة في مليكة أمك، فكر فيك، أشعل سيجارة أطفأها، رمى بنفسه في النهر، سبح بعيدًا عبر النهر نحو الشط الآخر، فطارت أسراب الرهو في بطن السماء المسحبة، اختفت تمامًا، رقد على رمال الشاطئ الذهبية الباردة، تذكر جعفرًا، جعفر مختار، بنى بيتًا صغيرًا من الرمل، نظر إلى جعفر في الشط الآخر والذي كان يغني وهو يصطاد الأسماك الصغيرة اللامعة بكف ويعيدها بالأخرى إلى الماء مبتهجًا كطفل في روضة، يغني والدك، يعلو صوت جعفر بنفس الأغنية التي يغنيها أبوك بشطه، لبس جعفر ملابسه، هرب طفل الراعي الصغير وكلبه إلى أجمة من أشجار السيسبان المتشابكة فاقدًا الأمل في السميكات الصغيرة التي كان جعفر يصطادها ويعيدها لمائها مرة أخرى.
ذهب جعفر بعيدًا، مخلفًا وراءه في ماء النهر عجينة خراء سوداء كبيرة تدور مع الدوامة، تقرضها أسماك البلطي وهي تتجه شمالًا، شمالًا في خيلاء، لقد فهمت فلسفة والدك وهو يحاول أن يفهمك، إنك تافه لأنك أغضبته عندما صفعت أختك مُنى في وجهها؛ لأنها تأخرت خارج المنزل لوقت متأخر من الليل، وعندما سألتها أجابتك: عليك بنفسك فحسب!
قال لك: لا أحد يسوى شيئًا ولا أنت ولا خطايا مُنى، تقواك أنت أيضًا لا تسوى شيئًا، ولا كلمة جعفر، كان يتحدث كالهامس رغم أن صوته كان ملء الغرفة كلها، انظر. هذا الكون الشاسع الممتد.
انظر لضآلة درب التبانة مقارنة به.
انظر لضآلة المجرة الشمسية مقارنة بدرب التبانة.
ضآلة الأرض مقارنة بضآلة مجرتك.
ضآلة قارتك مقارنة بضآلة أرضك.
ضآلة وطنك مقارنة بضآلة قارتك.
ضآلة مدينتك مقارنة بضآلة وطنك.
ضآلة قريتك مقارنة بضآلة مدينتك.
ضآلة بيتك مقارنة بضآلة قريتك.
ضآلة مخدعك مقارنة بضآلة حجرتك.
ضآلة جسدك مقارنة بضآلة مخدعك.
ضآلة قلبك مقارنة بضآلة حلمك.
بالمقارنة بملايين المجرات!
فماذا تسوى أنت؟
ماذا تسوى خطايا مُنى؟
وكان يريد أن يقول لك بمعنى أقرب: ماذا يهم أن يقولوا عني صغير تافه ابن حرام زنديق جعفري؟ ماذا يزن هذا بالنسبة لخلق الله غير المتناهي؟
بالنسبة لفراغ الموجود الشاسع، قصة الخلق، بالنسبة لله، حيث لا يحيط به خيال؟ بالنسبة للانفجار الكبير؟ ملايين الشموس وذرات الغبار المشعة، بلايين الشهب والنيازك، بلايين البشر والحيوانات والفيروسات والبكتريا، قناطير وأطنان، بل محيطات الخراء الآدمي، أو يقول بأسلوب ألطف: ألا تحس بأنك بك من الغرور الكثير المخجل عندما تظن نفسك وكل البشر بأنك اهتمام الله؟
وكان والدك يهمس في وجه المجرات: ماذا يعني أن تعشقني مليكة شول مادنق، وكلما ورطتني بأسئلتها ضاجعتها فنامت، ماذا يعني هذا؟ هكذا.
كانت الهوة شاسعة بينك وبين أبيك محمد الناصر، كان ينزع الإجابة من الصخر وأنت تلحسها من صحائف مذهبة، تلحسها كالعسل، كان يشكل الأسئلة من النار ثم يضمها لصدره إلى أن تنضجه بلهيبها، أما أنت فكلما غازلتك الأسئلة أخفيت وجهك في الإجابات الجاهزة المعطاة، شتان ما بين لا ونعم!
شتان شتان ما بين لا ولا، إذًا، ما بين لا ولا، ونعم ونعم.
شتان ما بين أن تغرق في النهر وأن ترقص على طوق النجاة.
شتان ما بين أن تغني وأن تكون أنت الأغنية.
نظر إلى ساعته، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرًا، قال لمليكة شول مادنق أمك الجميلة: دعيني أحدثك عن روزا لكسمبورج أو نازك الملائكة.
لكنه عندما تحدث حكى لها عن طفلة جميلة لها أم أدمنت الحزن، أقمت في خلوتك في مدائنك النائية تبحث عن سلام دائم وتام عبثًا، عبثًا، كنت بين نارين: الحقيقة ونار الجهل، لكنك أبدًا ما كنت بين الله والشيطان، فكان الله دائمًا في قلبك، وكما يقول جعفر: إذًا أنت في أول الطريق أول الأسئلة، هكذا، تبدأ أشجار الأسئلة الكبرى في النمو، تبدأ من الله وتتجه نحو الشيطان؛ لأن السؤال كما يقول جعفر: انطلاق مقدس من اليقين المتخيل إلى الشك والإجابة، كما يقول والدك محمد الناصر: هي عودة أخرى نحو اليقين الحقيقي.
ولن تنكر أنك آمنت أنه ليس غير الأحرار يمكنهم المشي في ظلمات المسافة المرة المقدسة، وهم يتغنون مثل زرادشت، أو يرقصون مثل شيفا، أو يعشقون مثل محمد الرسول، هكذا تتذكر والدك، وكلما حاولت الخروج من جلبابه وجدت نفسك تغوص في ثناياها تريد أن تكون نفسك رياك رياك، أو كما أسماك البعض: رياك العربي.
لكنك حتى الآن لم تتحصل على المعرفة التي تحررك من ذاتك ووالدك ومن الكون كله، لا تحرر — كما يقول جعفر — من غير معرفة، والمعرفة لا تأتي إلا لمن يبحث عنها، ابحث عنها، تذكرت جعفرًا، جعفر مختار.
نظرت عبر النافذة، الشارع بارد خالٍ من المارة، وأيضًا الكلاب الضالة والقطط، بعيدًا في المنحنى رأيت نسرًا شائخًا يحجل عابرًا الطريق نحو جيفة لقط، بصقت، تخللت أصابعك المرتعشة لحيتك الصغيرة السوداء، بالباب طرقات تصلك واهنة، علا صوت المؤذن، توضأت، أقمت الصلاة، قرأت سورة الفاتحة ثم أخذت تتلو: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، تشككت في ترتيبك لآيات السورة، أعدت تلاوتها، صمت طويلًا، قرأتها مرة أخرى، توقفت حيث الآية الأولى، كبرت، انحنيت، أحسست بيقين خرافي يغمر نفسك، أحسست بأهميتك كإنسان يقف الآن أمام ربه، أكملت صلاتك، تذكرت والدك وهو يحدثك عن ضآلة الأشياء وفقره أمام ضخامة الكون، لا تنكر أنك معجب بأسلوبه الذكي في توصيل آرائه، وأنت كنت لا تؤمن بآرائه وتعتبرها خروجًا عن الدين، علا الطَّرق على بابك، قلت لنفسك: من أين لي بالسيف المبصر؟
فتحت الباب، وجدت رجلين تعرفهما جيدًا، تختلف معهما جيدًا، تصارعهما جيدًا، وتحبهما جيدًا أيضًا، سألك جعفر: هل مر بهذا الطريق الذي يمر أمام كوخك ولد خلاسي اسمه رياك؟ كدت أن تقول له: إنه أنا …
منذ عام وأنت تجمع الأطفال ونساء الحي في خلوتك لتعلمهم أسرار القرآن، وأيضًا لتتعلم منهم؛ لأن جعفرًا قال لك: كن تلميذًا لما حولك تصبح أستاذًا لما حولك.
عاشرت في غربتك خلقًا مختلفًا أجناسه وألوانه وسبل حياته، تعلمت لغات محلية وأسرارًا، ديانات لم تسمع بها من قبل، جالست الداعرات في الخمارات والبيوت الخاصة، عاشرت قومًا متدينين متسامحين وقومًا متدينين متعصبين، وقومًا لا دين لهم ولهم الأخلاق السامية، جعت جوعًا حقًّا، فسرقت لتأكل، وبعت حذاءك لتشرب وشحذت الناس لقمة خبز، خنت، تشردت، إذًا دخلتك مدرسة الحياة أذابت فيك ألوانها جميعًا وكنت بين الحين والآخر تجد وقتًا ولو صغيرًا لتقرأ كتابًا، أو لتقف أمام شجرة تتأمل خلق الله، إذًا كنت تبحث عن المعرفة، فتعلمت من براءة الأطفال سر نفاق الآباء وتشوههم، وتعلمت من قصف الرعود سر رقة ألحان جعفر المسروقة، وتعلمت من خجل الصبيات سر كتابة كان شو المعقدة، ولماذا ألحت عليك داعرتان بالعشق؟ نعم، لقد أصبحت تلميذًا نجيبًا لما حولك، فكنت تشرح للقرويين بغربتك قول علي بن أبي طالب: القرآن حمَّال أوجه.
تقول لهم: حاولوا أن تعرفوا جعفرًا أكثر وأكثر؛ لأن هذا الرجل القصير ذا الابتسامة نصف المنجزة يمتلك الكثير من أجلكم، تحدثهم عن العلاقة بين الرقص الأوكراني وانهيار الاتحاد السوفيتي.
تسألهم: ما معنى أن يقول الحلاج: ما في الجبة إلا الله!
تناجي ربك ليل نهار بأن يلهمك معنى مناسبًا لقول علي بن أبي طالب: ما اغتنى غني إلا بإفقار فقير.
كنت تقول لهم: حل مشكلة الجنوب أن تلبس الجنوبيات الثوب، وأن تلبس الشماليات اللاوي، لكن أيضًا إذا اتفقن على ثوب به إغراء، الثوب وشعرية اللاوي، أيضًا ستحل المشكلة.
عام وأنت تبحث بصدق وإخلاص عنك، تبحث عنك في الآخرين والأشجار وعصافير الود أبرق، تنحت بأظافرك صخرتك الملساء الصلدة، لكي تتجاوز والدك، ثم تتجاوز نفسك وتمضي قدمًا، تعيد صياغة الأشياء، ومثل مليكة شول مادنق أمك تؤسس لموت خاص بك، خاص بك شخصيًّا، موت يليق بلحيتك الصغيرة السوداء وطيور الكلج كلج المغردة على أشجار حديقتك الصغيرة، يليق بطرق الشوك والبرتقال، هكذا، ولأن الأشجار تموت واقفة، يموت موتك كالأشجار، يوم أن زارك جعفر ومحمد الناصر خرج أبوك ولم يعد، فخرجتما للبحث عنه، وجدتماه في فلاة بعيد القرية، كان يحمل معولًا ويحفر به الأرض في حماس منقطع النظير وإصرار فأخذت أنت منه المعول، لكنه واصل الحفر بأظافره وهو يرجوكما أن تتركاه وشأنه، فقلت له أنت مشفقًا: لا يمكنك أن تجد الذي ينتظرك بهذا الأسلوب، رفقًا بنفسك.
قال لك جعفر: دعه، فالرجل الحر يعرف ما يريد، فلا نظلمه.
أعدت إليه المعول وأخذت وجعفر ترقبانه عن كثب وهو يحفر بكل جهد وهمة وبين وقت وآخر ينادي: ماء باردًا، قليلًا من الجلوكوز، قليلًا من ملح الطعام بالجلوكوز، غنِّ لي يا جعفر، غنِّ لي يوم تبولت على الهاتفين، حدثني عن تلاميذك يا رياك، تلاميذك الذين هم أساتذتك!
إلى أن انتصب أخيرًا، نتنفس الصعداء، كان وجهه غارقًا في العرق وبفمه ابتسامة كاملة مستديرة ودافئة، بيديه حجر مسطح مربع في حجم الصحيفة اليومية، مده إلى جعفر الذي نفض عنه التراب ثم أخذا يتفحصانه بدقة وصبر وهما يتبادلان بعض العبارات من وقت لآخر، وجئت أنت ورأيت، كان منحوتًا على الحجر بلغة غريبة ومتداخلة، وبه رسومات لأشياء لم ترها في يوم ما، أو لربما دفن في هذا المكان رجل حاولت أن تعرف، قال جعفر: ربما كانت هنا مدينة أثرية قديمة، لربما تشهتني امرأة، امرأة عديدة.
ثم قام جعفر، نقش عدة كلمات في مساحة خالية من الحجر، وكذاك فعل والدك، ثم تبولا على الحجر بولًا كثيرًا، ضحكا، أشعل والدك سيجارة، أطفأها، أعاد الحجر إلى حفرته.
أهالا عليه التراب وهما يغنيان غناء غريبًا يضحكان ويتقاذفان بالتراب والحصى كطفلين شقيين.