هذا سفر التي هي: سلمى
كتبت سلمى لمحمد الناصر عندما ألحَّ عليَّ المعرفة: إذًا، طالما أردت ذلك فإنك لن تنجو من الحقيقة، أرجو أن تلتهمك الحقيقة أو تقصيك عن نفسك، فلا تموت فيها، ولا تحيا، إذًا سأقول لك: إنني كنت أعرف جعفرًا منذ أن كنت صبية في أيام مراهقتي الأولى، وكان هو طفلًا رضيعًا جاءت به سيدة من ضواحي المدينة، وكنا جميعًا نعرف اسمه، ولا ندرك اسمه، وكنا نعرف أهله، ولا ندرك أهله، وكنا نراه وما نحس أن الذي نرى هو جعفر! كان دائمًا ما ينزلق من بين أصابع ذاكرتنا كما انزلقت أنت من تحتي، إذًا، لا تحدثني عن جعفر!
وأؤكد لك يا محمد الناصر أنك عندما بزرت في نطفة دافئة من رجل لا أستطيع أن أتذكر من ملامحه شيئًا، فقد رجوت الله ألا يخلقك في رحمي، إذًا ما كنت أريدك أن تأتي أبدًا سهلًا بلذة مسروقة يصعب الوعي بها، وأيضًا الرجل الذي قذف بك فيَّ، هو الآخر ما كان يرغب فيك، فقد كانت منتهى غايته هي اللذة، لا يريد أكثر من ذلك، لذة سهلة كتلك التي ينشدها جندي مُغرب من داعرة سوقية بائسة، والحق لم أكن داعرة إطلاقًا، فقد كنت صبية لأسرة محافظة، عريقة في تقاليدها، وأيضًا لن أخاطبك عن ذلك أيضًا؛ لأنني أعلم أنك لا تهتم كثيرًا بمسائل «العراقة» والتقليد، ومثلك ابنتك الجميلة الدينكاوية الساحرة، قابلتها في صيف مضى، عام بالضبط، إني أعترف أنها شيء لم نعتد عليه، ولم يعتد عليه أحد في هذه البلاد الكبيرة، شيء متفرد في غرابته وعاداته في ذات الوقت، أنا نفسي لم أعتد على مثل هذا النوع من الإنسان البسيط المعقد! إنها بلا شك صنيعتك وجعفر، صنيع خبث مشترك ووسخ لا كابح له.
قلت لها: احترمي شيئًا من عاداتنا ولو يسيرًا!
فضحكت كثيرًا ثم قالت: اخرجوا أنتم قليلًا من جحوركم الرطبة، ثم مضت في طريقها ومعها صبيات جميلات، يمشين كما تتراقص أغصان البان، الأبنوس، أقدامهن ترسم على تراب الظهيرة تاريخًا قادمًا متمردًا، يبدو لمن ينظر إليه من على بعد كافٍ كأنه عاصفة من الرماد، قد لا نفهم شيئًا عنهن، لكنا أيضًا قد لا نحيا لكي نتمكن من استيعابهن بشكل مريح، هل كذبت عليك عندما قلت لك: إنك نتاج لذة مسروقة؟ هل كنت قاسية معك؟ طالما أردت أنت الحقيقة فلتحرقك الحقيقة، وتقصيك عن نفسك، فلا تموت فيها، ولا تحيا، تزوجت أباك الأول قبل ثلاث سنوات من التقائي بوالدك، أو ما يمكن افتراض أنه والدك، تزوجته كما يتزوج الناس في ذلك الزمان وتزوجته وكفى؛ لأن المرأة خلقت للرجل، أي رجل، لا يهم من! هكذا تعلمنا من جداتنا وأمهاتنا، كما لم تتعلم ابنتك من الشيطان، أبوك الأول رجل فارع كالسيال، أصفر البشرة، كثير الصلاة، ولا أعني بكثرة صلاته أنه كان يصلي كثيرًا، لا، لكنه كان يصلي اليوم كله ويصوم أربعة أيام في الأسبوع، رجل لا يختلف اثنان في كونه من رجال الجنة، لكن به عيب واحد، وهو أنه عاجز عن فعل مشبع لرغبات صبية جموح في السابعة عشرة من عمرها، هنا في الحياة الدنيا، في الأرض، ذات صباح بعد سنتين من المعاشرة الفاشلة، قلت له: أريد الطلاق!
قال وقد أوقف تمتمة — لا شك في قدسيتها — فجأة ثم صمت للحظات كأنه يريد أن يستعيد صوت تمتماته المنعكسة على جدران الفراغ: طلقانة.
وواصل تمتمته المقدسة بكل هدوء وبرودة أعصاب كالمُنوم، لست أدري لماذا كنت أبكي بحرقة وأنا ألملم حاجياتي من بيته استعدادًا للرحيل لبيت أبي، أهي كانت صرخات السعادة ودموعها، أم كانت صرخات هي إحساس المذلة التي تحسها المرأة عادة حين وقوع الطلاق؟
حقيقة لست أدري، فقط أعرف أنني كنت أبكي بصدق تام ووعي مُر، قالت أمي التي كانت تعرف تفاصيل الحُزن: ربنا يعطيك رجلًا!
أما أبي فزمجر وهاج لكنه بكلمة من أمي — قالتها له في خلوة من الآخرين ومني — التزم الصمت، الصمت الشبيه بموت الأفاعي، كانت الساعة الكبيرة تشير إلى الخامسة إلا ربعًا عندما استيقظت على وقع أقدام كانت تنتظم البيت كله، في البدء كانت هادئة وحذرة ثم صخبت، ثم علا صوت «صباح الصغيرة» وهي تتشاجر و«ضحى»، انتهرتهما أمي فاطمة، حينها نهضت من السرير، وتوجهت مباشرة إلى المرحاض.
كانت تغمرني سعادة بالغة، وفي عمقي تتلاقح الأغنيات مع ذكريات شتى وجعفر، ذلك الصبي القصير ذو البشرة الصفراء، الذي يقفز دائمًا إلى مخيلتي كلما وجد فسحة من التناغم الروحي، لقد التقيت به كثيرًا جدًّا، وعرفته كثيرًا جدًّا، كيف؟ لست أدري، لكن ليس لقاءً جسديًّا كما يتخيل إليك، أو تحاول أن تظن، لكن لقاءً من صنف لا تسهل تسميته بكلمة واحدة، لكن ربما فسرته قصة أو دلَّ عليه مشوار طويل جدًّا.
كان فرق العمر بيني وجعفر محمد مختار ثلاثة عشر عامًا، أنا أكبره، وهو نفس فرق العمر بيني وبين أبيك الثاني، إذا أمكن أن نطلق لذلك الرجل هذا اللقب المقدس، لعله يصدف أن يكون هو والدك الفعلي، وهو أيضًا نفس فرق العمر بينك ومليكة شول مادنق الدينكاوية، إذًا ليس جعفر هو والدك، جعفر مختار، وربما أيضًا أبوك الثاني ليس هو والدك بالضبط، ولا حتى الشيطان الذي كنت أخاله جديرًا بأبوتك، في العام الثالث من طلاقي من أبيك الأول، وحينما كنت وبعض الصديقات نحاول اقتناص لذة سهلة بمشاركة بعض الأصدقاء الذين نلتقي بهم عرضًا، في حفلات الأعراس أو في باصات النقل العام، أو حتى في حديقة عامة، التقيت بأبيك الثاني، والحق أقول لك: إنني لم أغرم به إطلاقًا، ولو أنه ما كان يفتقر الوسامة، إلا أن المرأة دائمًا ما تحتاج لأشياء أخرى في الرجل لجانب وسامته.
كنت ونايلة وسوسن نتمشى عند الشاطئ حينما رأيته جالسًا وبيده كتاب كبير، بينما هو يحملق في النهر أو الشط الآخر، لست أدري، جلسنا بالقرب منه، وما كنا قد تعمدنا ذلك لكنه حدث عرضًا، أو رتبته أقدار خارجة عما نعيه من إدراك للأشياء، طلبت منه نايلة أن يدعها تتفحص الكتاب، فابتسم وهو يلقي به في كفها المبسوطة أمامه، ليست لنايلة في حقيقة الأمر أي اهتمامات أدبية، وليست لي أنا أيضًا مثل هذه الاهتمامات، ولا سوسن، ولم نقرأ في حياتنا غير روايات بوليسية مترجمة عن الإنجليزية أو الفرنسية، وبعض الروايات السهلة التي يكتبها إحسان عبد القدوس أو يترجمها خليل حنا تادروس، وهي تتميز — كما تعرف أنت — بالطابع الجنسي المكشوف، ولا أظن أن لذلك علاقة بالأدب، كما أكد لي فيما بعد أبوك الثاني.
ألقيت نظرة سريعة على عنوان الكتاب الذي كُتب بحبر ذهبي، وبخط متداخل أو «مشخبط» كما علقت سوسن، استطعنا قراءته بصعوبة «كليلة ودمنة»، فهمست نايلة في أذني: إنها قصة حب مثل ليلى وغيث، أو تاجوج وأوهاج، فأسرعنا في تقليب صفحاته علَّنا نجد بها بعض الصور المثيرة التي تمثل العاشقين في أوضاع مختلفة، كما في روايات إحسان عبد القدوس، لكن لسوء الحظ، ولخيبة أملنا لم نجد غير رسومات لحيوانات بخطوط ميتة باردة، كما لو رسمها أعشى سكران، أو طفل متخلف عقليًّا، أسد وحمار وثعلب، ضبع وقرد، جرذ وغراب وحمامة، إلى آخر الرسومات التي لم تعجب أية واحدة منا، قالت لي نايلة هامسة: إنه كتاب أطفال.
أضافت سوسن: أول مرة في حياتي أرى رجلًا في عمره يقرأ كتاب أطفال، ثم أضافت بشكل حاسم: إنه مجنون، ضحك ثلاثتنا في وقت واحد، مما جعله ينتبه ويحملق فينا بعينين مندهشتين كبيرتين، مما أكد لنا أنه مصاب بمس، وتأكد ذلك أكثر عندما ابتَدَرَنا سائلًا: لا بد أن قصة الغيلم والقرد قد أعجبتكن؟!
قلت له وبدون تفكير: بالتأكيد.
قال: إنها فلسفة عميقة، هنا فجأة شعرنا ثلاثتنا بتفاهة صلبة تتثاءب في داخلنا، فكلمة فلسفة أعادتنا إلى مواقع نخشاها: أولًا؛ لأننا لا نفهم معناها، وهي عندنا ليست سوى كلمة غامضة تدل على أشياء عظيمة كبيرة غير مستدركة، وأمور متعلقة بالثقافة والجامعة، إذًا قالت نايلة: كنا سطحيين، لا بد أن الأسود والكلاب والحمير هذه تعني أشياء أخرى.
فضحكنا مرة أخرى ونحن نعيد إليه كتابه الغريب، قال: أنتن جامعيات؟
قالت نايلة لسوسن: قولي له.
فأجبته أنا باختصار: لا.
قال: إذًا، في مشوار للترفيه؟
قلت له: الجو في البيت خانق جدًّا.
قال لي وهو يركز نظره في وجهي: هل رأيتك من قبل؟
قلت لأبيك الثاني: لا أظن، أو ربما …
اعلم يا بني محمد الناصر أن جعفرًا لم يحدثك عن حقيقة علاقتي بأبيك الثاني، ولا حتى علاقتي به، واعرف أنه ربما يكون قد همس الشيطان في أذنك قائلًا: ربما تكون أنت الابن الشرعي لجعفر، والابن غير الشرعي لأحمد، والابن الشرعي وغير الشرعي أيضًا للشيطان!
قال لي أبوك الثاني مراوغًا: المهم في الأمر، أنا سعيد جدًّا بلقائك.
قلت مغمغمة: ونحن أيضًا سعداء بذلك.
قال ثم قال: أنا أعمل موظفًا بفندق صحاري.
ثم أضاف وبسرعة: هل ستقومنَّ بزيارتي في الفندق أثناء وقت العمل؟
قالت نائلة: لسنا ندري بالضبط، لكن دع الدعوة مفتوحة.
قالت سوسن: أما أنا فمسافرة غدًا للبلد.
قلت أنا، وبشكل محدد جدًّا: غدًا سأزورك في الصباح.
وبذا انتهى كل شيء على ما أظن بشأن ميلادك.
مررت بعد أبيك الثاني بآباء لك شتى، آباء من جنسيات مختلفة، عادات مختلفة، واهتمامات أيضًا متباينة، فقط كان بهم قاسم مشترك واحد، وهو: أنهم لا يرغبون فيك، وكأنما كنت نائمة طوال أعوام عمري الماضية، وفجأة أيقظني أبوك الثاني من هذا السبات الطويل، دق أجراس الحياة فيَّ، ممزوجة بإيقاع الخطيئة، الخطيئة الكبرى، خطيئة أن أنجبتك أنت، لا أدري لِمَ لم أكن أحس وأنا ألتقي بأبٍ لك تلو الأب، أنني أفعل شيئًا مشينًا إلا عندما أحسست بك تتحرك فيَّ، في سكون ظلمات أحشائي، فانتبهت، أنا لست مثلك أخون روحي بأن أجد مبررًا مقنعًا لجرائمي، ولا أُسمي الأشياء بغير أسمائها، فالخطيئة هي الخطيئة، والفاحشة هي الفاحشة، كان الندم فيَّ يستفحل يومًا بعد يوم، وأشجار الخطيئة تمد أشواكها العنيدة في فراغات روحي، وأنا أذكرها لآبائك جميعًا — بمن فيهم الشيطان — يومًا بعد يوم، وبعد كل خطيئة، وكلما أحسست بك كرهتك أكثر، وكلما كرهتك أكثر كرهتك أكثر! ثم قال لي جعفر: ماذا لو عرف والدك، هل سيموت كمدًا؟ ألا تضعين اعتبارًا لذلك؟ كان جعفر يصغرني بثلاثة عشر عامًا، وأيضًا كان يكبرني بسبعين سنة، وسبعين بحرًا وجبلًا، وسبعين من أمور أخرى. كان عارفًا وخبيثًا، بينما كنت وجعفر تتمشيان على الشاطئ، شاطئ النهر في صباح ما، إذا بأبيك الثاني يجلس على شاطئه وبيده كتاب، يتفحص الشاطئ الآخر أو النهر، لا أدري، أو يصطاد البنيات بطرائقه الخبيثة، لا أدري فمنذ أن افترقنا ذات حوار ساخن بشأن غيرته من آبائك الآخرين، لم نلتق، ومرت على ذلك شهور، قال له جعفر: سلام.
ثم تخطيناه وعيناه الكبيرتان جاحظتان في غيرة ورعب حقيقيين، قال لي جعفر، جعفر مختار، فجأة: لماذا لا أتزوجك؟
قلت مقاطعة: من؟ أنت؟!
قال مبتسمًا: لا، لا كما تتوقعين، لكن من أجل الذي فيك، وكما تعرفين أنا وأنت لسنا دائمًا رجلًا وامرأة، وسنظل غريبين من هذه الناحية، وقريبين من ناحية أخرى مهمة، أقول لك أيضًا: إن والدك يعرف أنك سافح. هل تعلمين أنه يكرهك جدًّا؟ أتعرفين ذلك؟!
قلت مستسلمة: أعرف، أعرف.
قال: أتعرفين أنه كان يحبك حبًّا قويًّا؟
قلت: لا تحدثني يا جعفر عن الماضي، تزوجني وافعل بي ما شئت، أنا رهن إشارتك.
إذًا ما كنت تعرف أن جعفرًا قد تزوجني زواجًا شرعيًّا بمأذون وفاتحة وطقوسه الأخرى، وأنه أسكنني بهذه المدينة، بعيدًا عن أسرتي وأقاربي والآخرين، ولم تكن تعرف أن جعفر مختار هو الذي فتح في وجهي آفاق الثروة والمال، وهو أيضًا لم يكن يومًا ما أبًا من آبائك، وما شارك آباءك الكُثر أبوتك، هكذا ألقي عليك الحقيقة، فلتأكلك الحقيقة، فهل كنت أنت الحاجز ما بيني والطهر، ما بيني وقلب أبي، أم كنت انتباهي للخطيئة؟ هل هذا هو ما دفعني على كرهك، أم هو دواء الحبشي؟ قال جعفر: ليس هذا هو السبب الوحيد، لكن هنالك أسباب شتى، أهمها: قال ذلك وفي فمه نصف ابتسامة مؤكدًا أن أهمها أنه لم يكن أبًا لك؟! لا أدري كيف تحصل جعفر على هذه الحقيقة المشوهة؟ أولا قلت لنفسي ودون تردد: يجب أن أجهض.
وفعلًا شرعت في ذلك، استعنت بطبيب من الأحباش، فسقاني محلولًا أصفر كريه الرائحة، ثم سقاني مرة أخرى محلولًا أصفر كريه الرائحة، ثم سقاني مرة أخرى مشروبًا أصفر كريه الرائحة، ولم أجهض، فابتسم الحبشي وقال: هذا أول جنين في الدنيا لم يسقطه هذا المحلول الأصفر!
أدخل يده فيَّ، ألعب أصابعه قليلًا ثم قال بكل ثقة: غدًا سيسقط، غدًا الفجر عندما يصيح أول ديك.
وعندما عدت إليه بعد أسبوع بأكمله بادرني سائلًا: هل تخلصت؟
قلت: ليس بعد.
فوضع كفتيه على رأسه قائلًا: من الذي أحبلك؟
قلت: رجال كثيرون.
قال: لا بد أن يكون واحدًا منهم فقط.
قلت: لقد كانوا في أزمنة متقاربة، فكل واحد منهم أحبلني قليلًا قليلًا إلى أن تكوَّن هذا الجنين.
قال ضاحكًا مستسلمًا: هل من بينهم الشيطان؟
قلت: زوجي هو جعفر.
قال: من هو جعفر؟
قلت: جعفر مختار.
قال: من هو جعفر مختار؟
قلت: الذي لم يكن أبًا لهذا الجنين.
فسقاني محلولًا أصفر كريه الرائحة، كاد أن يقتلني المحلول الحبشي الأصفر كريه الرائحة، فالتهبت بشرتي مخرجة دمامل صفراء كبيرة، لها رائحة المرحاض، قال لي جعفر: إنك تتحررين من عفنك، تتجهين نحو نقائك الكامل، قال لي: ربما كان هذا الحبشي هو إبليس نفسه. أتدري؟
إلى اليوم السابع قبل ميلادك كنت أبحث عمن يجهضك، أبدًا ما كنت أرغب فيك، ولا كان آباؤك يهدفونك، ولكي لا أجحف في حقك إجحافًا كاملًا أقول حقيقة، وهي أنني كنت أحيانًا أحس بسعادة، سعادة مرة وأنا أتحسسك تعبث فيَّ، تنمو في داخلي، تقاوم المحاليل والعقاقير وأنامل الحبشي، لقد كنت تصارعني صراعًا خفيًّا جبًّارًا لا هوادة فيه، وكنت أستعذب هذا الصراع، وقلت بيني وبين نفسي: يومًا ما سأنتصر عليه، سأهزمه، فلقد هزمني الآن، عندما أحسست بآلام المخاض في الشهر السادس قلت: ها قد استسلم أخيرًا، لكن كانت خيبة أملي كبير جدًّا عندما سمعت صراخك فأفزعتني حينها، حقًّا، وانتصرت عليَّ بشكل حاسم، أصابتني أنا هستيرية، وأخذت أصرخ في جنون: خذوا عني هذا، لا أريد أن أراه، خذوه …!
ولم أرضعك إطلاقًا ولو مرة واحدة، إذًا لم تكسب أنت المعركة تمامًا كما كنت أظن، إن هنالك حلبات للصراع أخرى، وحلبات معارك جانبية لكنها أيضًا حاسمة، حملك جعفر لمرضعة استأجرها ولم أرك منذ ذلك الحين إلى أن بلغت الثالثة من عمرك، رأيتك صدفة مع جعفر والمرأة الحاضنة، ثم رأيتك مرة أخرى وأنت في السادسة، أتى بك جعفر للبيت، قبل أن يقودك إلى المدرسة، ثم رأيتك في التاسعة وأنت تتشاجر مع أحد التلاميذ، وقد ألقى بك على الأرض وأخذ يعضك بأسنانه، وحينها كنت في طريقي إلى الورشة لتصليح فرامل سيارتي، فوجدتني أندفع نحوك، أرفع عنك التلميذ الذي كان يكبرك سنًّا وحجمًا، أنفض عنك التراب ثم أتركك وأذهب إلى سبيلي، فمن أين أتت هذه العاطفة الفجائية نحوك؟ لست أدري، لكن جعفرًا قال لي فيما بعد: «الكلبة، حتى الكلبة تحرس نطفتها.»
فتخاصمنا لزمن لا أعرف مقداره، ثم تصالحنا، صرنا أصدقاء مرة أخرى، هل كنت تعرف أن بإمكان جعفر مختار أن يصير أحد آبائك؟
أكنت ترغب في ذلك؟
إذًا أنت لا تعرف شيئًا عن جعفر، لقد تعرفت عليه وأنا في مراهقتي الأولى، وكان هو طفلًا صغيرًا هزيلًا أتت به سيدة، فكيف اختصر جعفر مختار المسافة ما بيني وبينك، وبينك وبينه، ثم ما بينك وبينك، هكذا ألقي عليك الحقيقة، فهل تميتك الحقيقة أم تقصيك عن نفسك، فلا تموت فيها ولا تحيا؟