«مَن أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
«كيف لأحد أن يعقد الآمالَ على تنظيم الفوضى التي تُشكِّل هذا التنوُّعَ اللانهائي العديم الشكل؛ الإنسان؟» طرح تريستان تزارا هذا السؤال عام ١٩١٨ في بيانه الدادائي، وفي المقابل، بدأ أندريه بريتون روايتَه السريالية «ناديا» بالسؤال الأكثر تفاؤلًا، ولكن الأكثر إثارةً للقلق، أَلَا وهو: «مَن أنا؟» كانت الأسئلة المتعلِّقة بالهوِيَّة، أو بطبيعة الوعي أو بالعلاقات بين العقل والجسد، محوريةً للدادائية والسريالية، وأساسيةً أيضًا للخلافات بينهما. أودُّ فيما يَلِي أن أبحث كيف ظهرت هذه الأسئلة في كتابات الحركتين وفنهما، وكيف أن تلك الأسئلة تسلِّط الضوءَ على بعض النقاشات الأكثر إثارةً بين المُنظِّرين والفنانين المعنيين. إذا كانت كلتا الحركتين تعتنقان أسبقيةَ اللاعقلاني على العقلاني، فكيف تخيَّلَتَا اللاعقلاني؟ إذا استوجَبَ أمرٌ السعْيَ وراء اللاعقلانية، فكيف خالَفَ ذلك القِيَمَ البشرية التقليدية؟ وإلى أي حدٍّ كان البرنامج المناوِئ للبشرية مرغوبًا؟ كانت الدادائية والسريالية على حدٍّ سواء معارضتين للعقيدة الدينية التقليدية، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن الكثير من أتباع الحركتين نشئوا تنشئةً أخلاقيةً بشكل خانق. ولكن، كيف استطاعوا أن يُضعِفوا ازدواجيةَ العقل-الجسد المتوطِّنة في الفكر الغربي؟
استندت بدائلهما، كما سنرى لاحقًا، إلى العديد من الأنظمة الفلسفية والعقائد التي كثيرًا ما ترتبط بفكر غامض أو مُستغلق. وإذ عارضوا النظرةَ المتشككة لليهودية والمسيحية إلى الجسد، فقد انجذبوا إلى وجهة نظر احتفائية بكل ما هو جسدي وشبقي.
حتمًا كانت وجهات النظر هذه تحمل في طياتها ثقلَها الأيديولوجيَّ، وسيتجلَّى ذلك الموضوع أثناء المناقشة.
اللاعقلانية: أنصار فرويد ومعارضوه
أعلن تريستان تزارا في بيانه الدادائي عام ١٩١٨ أن: «المنطق دومًا زائف؛ فهو يستقطب سلاسلَ المفاهيم والكلمات السطحية نحو استنتاجات وبؤر وهمية.» وإذ كان تزارا على قناعة بأن أيَّ نظام شمولي للفكر إنما هو متحيِّز في جوهره، فهو يفضِّل — شأنه شأن الدادائيين عمومًا — أن يستقرَّ رأيُه على تبنِّي النسبويَّة التامة:
تُعزَى النسبوية في جزءٍ منها إلى تأثير الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي أثَّرَ تقريبًا في جميع المُنَظِّرين الأساسيين للدادائية. إن تفسير نيتشه للطبيعة البشرية باعتبارها شيئًا يحكمه اللاعقلاني، وخاصةً البواعث الأنوية؛ كان نقطةً مرجعيةً مشتركةً بينهم، وكذلك كان فِكْرُ الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، الذي أكَّد في كتب مثل «التطور الإبداعي» (١٩٠٧) على أسبقية الحدس في فهم طبيعة الواقع. ثمة رمز آخَر مشترك تحمَّسوا له؛ أَلَا وهو الشاعر الفرنسي رامبو الذي نادَتْ وثيقتُه «رسالة الرائي» عام ١٨٧١ «بالإرباك المنظم الطويل الأجل لكل الحواس»، كي يتحوَّلَ الشاعرُ الحديث إلى «متفرج».
وبخلاف تلك الشخصيات المحورية، من المفيد أن نميِّز ما بين المصادر الألمانية والفرنسية الدادائية للمذهب اللاعقلاني. وفَّرَ فكر نيتشه وبرجسون توجيهًا نفسيًّا-لوجستيًّا، لكن المذهب الفرويدي هو الذي أكَّد بشكلٍ حاسمٍ الأساسَ اللاعقلاني للحافز البشري في السنوات الأولى للقرن العشرين؛ حيث شدَّد على الطبيعة الممزقة داخليًّا لعلم النفس البشرية والأهمية الشكلية للجنسانية في التطور البشري. لا شك أن أعضاء جماعات الدادائية الألمانية قرءوا كتابات فرويد في فترة مبكرة نسبيًّا (ظهر كتاب «تفسير الأحلام» أصلًا بالألمانية عام ١٩٠٠)، ولكن، كما ذكرنا آنفًا، كان أعضاء تلك الجماعات يشككون عمومًا في المضمون «البرجوازي» لفكر فرويد؛ حيث شعروا أن أهدافه العلاجية تساعد على تكيف الإنسان مع وضعه الاجتماعي، وكان ماكس إرنست في كولونيا استثناءً مهمًّا لهذه القاعدة. ولكنْ، مال دادائيو برلين تحديدًا إلى التعاطف بقدْر أكبر مع «الفرويديين المناوئين لفرويد» اليساريين أمثال الكاتب أوتو جروس، وكما أوضح ريتشارد شيبارد، فإن نقد جروس النفساني للمغالاة في تقدير العقلانية والكبت الخطير للعناصر اللاعقلانية للشخصية؛ كان ملائمًا للبرلينيين في مواجهة عنف الشارع اليومي. وقد ساعدَتْهم أيضًا على تركيز معارضتهم البلاغةُ الواهنة «للروح» التي تبنَّاها الكُتَّاب التعبيريون اليساريون، أمثال لودفيج روبينر، في مواجهة التمزُّقات الجارية في اليسار الألماني. ومن المنطلق نفسه، كانت أفكار ألفرد أدلر زميل فرويد — الذي رأى أن البشر مدفوعون «بنزعة السيطرة والتحكُّم» النيتشوية، وشعر بأن ثمة تقديرًا مبالغًا فيه للمبدأ الذكوري مستقرًّا في صُلب الاضطراب الحديث — أنسبَ بكثير للدادائيين في برلين، في ظلِّ قبولهم العنيد للتعايُش بين النزعات الهدَّامَة والتأكيدية في الطبيعة البشرية.
ولكن، لِمَ الإشارة إلى «الرأفة»؟ في دراسة الأيقونات المسيحية التقليدية تمثِّل «الرأفة» صورة للسيدة مريم العذراء، وهي تحمل المسيح الميت بين ذراعَيْها، ولكنْ يبدو هنا أن لدينا شكلًا من «الرأفة» المعكوسة التي يَظهَر فيها أب، بدلًا من الأم، يحمل ابنه. واستنادًا إلى الكثير من الأدلة، وأبرزُها شاربُه، يجوز في واقع الأمر تحديد هوية «الأب» الموجود بالصورة على اعتبار أنه فيليب، والد إرنست نفسه. ذات مرة في طفولة إرنست، رسم فيليب الأب — الذي كان مُعلِّمًا كاثوليكيًّا تقيًّا جدًّا ورسَّامًا هاويًا — ابنَه على هيئة المسيح في مهده، ويمكننا استنادًا إلى هذه الواقعة افتراض أن الشخص الذي يُمسِك به يمثِّل ماكس إرنست/المسيح؛ وبالنظر إلى منطق الرأفة المعكوس، تستدعي صورة فيليب بشكلٍ تجديفيٍّ الإلهَ الأب؛ وبالنظر إلى أن الابن قد تحجَّر، حيث رُسِم وجهه وكفَّاه باللون الرمادي، فالمعنى الضمني ينمُّ عن أن الأب أحالَ ابنه إلى حجر.
كل ذلك يوحي بقوة بأن إرنست أخذ الآليات الأساسية «لأبحاث الأحلام» الفرويدية — لا سيما عمليتَيِ «الإزاحة» و«التكثيف» اللتين يتمُّ بموجبهما ترميزُ رغبات ومخاوف الحالم في «المحتوى الواضح» للحلم — كوسيلة يستطيع بواسطتها أن يمدَّ نفسه بسيرة نفسية عجيبة، جامعًا عناصر من سيرته الذاتية وجوانب من الأيقونات المسيحية معًا. ويبدو أن نقطته المرجعية الكلية هي حجر الزاوية لرواية فرويد للتجربة الجنسية الطفولية، أَلَا وهي عقدة أوديب، المستندة إلى الخيال اللاواعي للطفل الذكر المتعلِّق بمنافسته لأبيه على حب الأم، والعقاب العنيف (المؤدِّي إلى الإخصاء) الذي يترتب على ذلك؛ ولذا «فالمحتوى الكامن» لِلَّوحة يمكن تفسيره على أن الوالد انتقَمَ من الابن لانتهاكه الممثَّل في زنا المحارم. وبالطبع، لم يكن إرنست بصدد إعادة بناء واحد من أحلامه الخاصة، بل كان بصدد إنتاج شكل من أشكال التحليل الذاتي.
ولكن يجب أن نتوخَّى الحَذَر من الوصول على عجل إلى تفسير محدود؛ فتفسير لوحة «الرأفة» لا يقل صعوبةً عن التعامل مع «عقدة أوديب معكوسة» التي قد تنطوي على تعلُّقٍ مثليِّ الجنس بدائي بالأب، وفي لوحات إرنست خلال تلك الفترة، مثل «لن نعرف شيئًا عن هؤلاء الرجال»، عمل المزيد من النقاط المرجعية المستترة مثل الخيمياء بشكل معارض للتحليل النفساني. وعلى الرغم من أن مؤرخي الفن بذلوا جهودًا ليجدوا أفكارًا فرويدية مثل «الخارق للطبيعة» متفشِّيةً داخل السريالية، فلربما كان فنانٌ مثل إرنست أكثرَ سخريةً بكثير حيال الفرويدية ممَّا توحي به المخططات التأويلية الجادة. لا شك أن فرويدية إرنست كانت سابقة بالنسبة إلى السرياليين الآخرين، ولكنهم نادرًا ما الْتزموا الْتزامًا حرفيًّا بفرويد، ربما باستثناء دالي. إن الترجمة الفرنسية الصادرة عام ١٩٣٠ لكتاب «النكات وعلاقتها باللاوعي» للمحلل النفساني، ربما وجدت لنفسها، على سبيل المثال، صدًى في ولع السرياليين خلال تلك الفترة بالكوميديا السوداء، ولكن في عام ١٩٢٨ كان لويس أراجون يَسخَر صراحةً من شهرة فرويد في فرنسا، زاعمًا في «أطروحة عن الأسلوب» أن الرواية الرومانسية «بول وفرجينيا»، الصادرة في القرن التاسع عشر، «يمكن قبولها جوازًا باعتبارها كتابًا جديدًا مذهلًا في يومنا هذا، على شرط أن تُدلِي فرجينيا بالقليل من التعليقات عن الموز، وأن يخلع بول بغير عمد منه ضرسًا بين الحين والآخَر.» كان فرويد بدوره مشكِّكًا في السريالية؛ فعندما طلب إليه بريتون عام ١٩٣٧ المساهمةَ في تجميعة لروايات بعض الأحلام، رفض؛ استنادًا إلى أن النَّسْخ المباشر للحلم من دون تداعيات المريض لا مغزى له بالنسبة إلى فرويد. كما كانت الاهتمامات الشعرية للسرياليين مختلفة تمامًا عن المشاغل الفعلية للتحليل النفساني.
ثمة سؤال أكثر شمولًا يتعلق بالمكانة الكلية للاوعي بوصفه نموذجًا للسرياليين، وهو: بِمَ يشي اللاوعي عن الطبيعة البشرية إجمالًا؟ إن فكرة اللاوعي تفترض مسبقًا أن الإنسان محكوم ﺑ «آخَر» باطني، وإلى حدٍّ ما، أضفى السرياليون على هذه الفكرة طابعًا رومانسيًّا ممثلًا في ذاتٍ داخليةٍ تيهيَّةٍ وربما متضاربة. بحسب التقليد الرومانسي، قام السرياليون بتأسيس جماعة للجنون؛ إذ كان بريتون جامعًا نَهِمًا لأعمال الفنانين المضطربين عقليًّا أمثال جوزيف كريبين وهيكتور هيبولي، وعزَّزَ إرنست مجددًا من السريالية البصرية؛ إذ جلب نسخةً من كتاب هانز برينزورن «فنية المرضى العقليين» إلى باريس عام ١٩٢٢ كهدية لصديقه بول إيلوار. وفي عام ١٩٣٠، في نصٍّ مشترك تحت عنوان «الممتلكات»، حاوَلَ بريتون وإيلوار محاكاةَ حالات الذهان. ولكنَّ السرياليين لم يُحسِنوا التكيف مع الجنون عندما اقتربوا منه أكثر من اللازم؛ فلم يفعل أحدٌ سوى القليل لمساعدة ناديا، مُلهِمة رواية بريتون الأولى، بعد أن استسلمت للجنون الذي أَسَرَتْ أماراتُه «الشعرية» المبكرة الكاتبَ. وبالمثل، يبدو أن بريتون فَقَدَ رباطةَ جأشه بسبب حالة أنطونين أرتو؛ فهذا الشاعر اللاذع والمُنَظِّر اللاحق ﻟ «مسرح القسوة» لفترة وجيزة، تولَّى مسئوليةَ «مكتب الأبحاث السريالية» القصير الأجل عام ١٩٢٥، لكنه هو وبريتون تشاجرَا؛ حيث أمسى واضحًا أن مفهوم أرتو وبريتون للثورة مختلفان اختلافًا عميقًا؛ فبالنسبة إلى بريتون، كانت الثورة في جوهرها موقفًا فكريًّا، أما بالنسبة إلى أرتو، فقد كانت تتطلَّب استسلامًا عميقًا ومفجِعًا للجنون، وعندما أمسى مجنونًا في نهاية المطاف، لم يُساعِدْه بريتون إلَّا قليلًا.
على الرغم من أنه قد ثبَتَ أن السرياليين ليسوا أهلًا لمخاطر الانغماس الفعلي في اللاوعي، فقد كان ارتباطُهم النظري باللاوعي يعني أنهم كانوا في موقف مناسب يؤهِّلهم لإجراء تشريحٍ للعادات والأعراف البرجوازية، لا سيما ما يتعلَّق بالجنسانية. وسيعنينا المدى الذي استطاعوا به التغلُّبَ على فرضياتهم البرجوازية الخاصة بينما نتابع نقاشنا، ولكنْ سنُضطر على الأرجح إلى الاتفاق مع أنصار الدادائية في التأكيد على أن تكيفًا اجتماعيًّا من نوعٍ خاص يستتر حتمًا وراء فهم بريتون للاوعي. لقد كان اللاوعي باعتباره مكانًا تتحقَّق فيه الرغبات — في طباق جدلي مع أوجه قصور الوجود اليومي — بالنسبة إلى بريتون؛ دربًا يُفضي إلى تجربة حياتية متغيِّرة نوعيًّا. وفي الوقت نفسه، شعر بريتون بأن الحياة اليومية ينبغي أن تتغيَّر استنادًا إلى نموذج ماركسي. ومن وجهة نظر كثير من الدادائيين، فإن إيمانه بوجود عَقْد جدلي جديد بين الوعي واللاوعي، يرسخ بفعل فلسفة إنسانية شكوكية نوعًا ما. وعلى النقيض من ذلك، دعمَتِ الدادائية توجُّهاتِ الفلسفة اللاإنسانية.
النزعة اللاإنسانية
تتحدَّث أغلب أعمال بيكابيا إبَّان تلك الفترة عن ريبة لا إنسانية في جوهرها في الروحانية، وفي الشعور الداخلي الدفين، وشارَكَه مواقفَه تلك إلى حدٍّ ما دادائيو برلين؛ فقفد أكَّدَ مثلًا راءول هاوسمَن على أن «الدادائية هي الغياب الكامل لما يُعرَف بالروح؛ لِمَ يكون لدينا روح في عالم تسير مجرياته ميكانيكيًّا؟» ولكن من المهم أن ندرك أن خطاب التعبيريين عن صراع روح الإنسان الحديث مع الآلة هو الذي كان محطَّ نقْد هاوسمَن. وحقيقة الأمر أن دادائيي برلين عمومًا تبنَّوْا مفهومًا أكثر إيجابيةً تجاه الآلة مقارَنةً بجماعة نيويورك؛ حيث تصوَّروا أن الجانب الجمالي الميكانيكي وسيلةٌ للفَتِّ في عضد الفردية ومناصرة الجماعية. لقد سَعَوْا إلى مادية قوية وتحاشَوا الابتذالات البشرية، ولكنهم، ربما فيما خلا جروتس، لم يؤيدوا بأي حال من الأحوال ازدواجيةَ العقل-الجسد بالطريقة التي بَدَا أن النيويوركيين، ولو بسخرية لاذعة، يؤيدونها بها. وكما سنرى لاحقًا، مال الدادائيون الناطقون بالألمانية عادةً — في زيوريخ وفي برلين على حدٍّ سواء — إلى موقف فلسفي وحداني ذي مسحة صوفية، الْتَأَمَتْ بموجبه ازدواجياتٌ كالجسد والروح في وحدة تناقضية. وفي هذا الصدد، لو لم يكن فكر أندريه بريتون مشبعًا بالمثالية بشدة هكذا، لَانسجموا مع مفهومه للسريالية. ولكن، ماذا تعني «المثالية» تحديدًا هنا؟ لنرجع إلى السريالية.
لقد كان بريتون مثاليًّا من حيث تأييده للوعي الذاتي للعقل في علاقته الجدلية بالمادة، ولكن هل أفضى هذا أيضًا بشكل منطقي إلى الإنسانية الليبرالية المستترة التي كان يمكن أن يراها كثير من الدادائيين مرفوضةً؟ لا تنبع الإجابة عن هذا السؤال من الدادائيين أنفسهم، ولكن من أكثر محاربي بريتون الفكريين حِدَّةً، وهو جورج باتاي.
كما ذكرنا آنفًا، لم يكن باتاي قطُّ جزءًا من جماعة السريالية، لكنه كان الناطق باسمها وسوطها؛ فبعد أن نَبَذَ بريتون الكثيرَ من أعضاء الجماعة عام ١٩٢٩ — وأبرزهم ميشيل ليريس وأندريه ماسون وروبرت ديسنوس — دان كثيرٌ منهم بالولاء إلى دورية باتاي «وثائق». من عدة أوجه، كانت لدورية «وثائق» التي نُشِرت خلال عامَيْ ١٩٢٩ و١٩٣٠ هالةٌ «علمية» شبيهة بالدوريات السريالية، لكنَّ مقالاتها شبه الأكاديمية ركَّزت بقدْر أكبر على قضايا كالأعراق البشرية وعلم الآثار ومعارضة موسيقى الجاز وغيرها من جوانب الثقافة الشعبية. والأهم من كل ذلك، بالنظر إلى النقاش الحالي، أنَّ ثمة هجومًا شنَّتْه صفحاتُ تلك الدورية، في كتابات باتاي تحديدًا، على الفرضيات المثالية المسبقة لتفكير بريتون، وأحيانًا كان هذا الهجوم مجازيًّا لا مباشرًا. في المقالة الكثيرة الاقتباس «الإصبع الكبير»، قيل إن الإصبع الكبير جزء من تكوين الإنسان، وإنه يفصله ويُميِّزه عن السعدان القريب الشبه بالإنسان، وهو أيضًا الجزء الذي يُمَكِّن الإنسانَ من الوقوف منتصبًا، فينصب عقله على أشياء أسمى. لكن الإنسان، بحسب رأي باتاي، يَعتبِر الإصبعَ «المغروس في الطين» شيئًا حقيرًا وخسيسًا، وأكَّد أن الأقدام لا يُقِيم لها أحدٌ وزنًا بالقدر الكافي سوى الفتيشيين عُشَّاق الرمز؛ ولذا، فإن باتاي يبحث عن قَلْب للقِيَم التي ستُشَكِّل، في كتابات أخرى، دعوةً للاحتفاء بالجوانب الخسيسة للطبيعة البشرية في مقابل مراوغات المثالية.
وأهمُّ على الإطلاق، هو أن باتاي يرى أن مفهوم بريتون للسريالية مقيَّد بمفاهيم «الذوق» والجانب الجمالي، على الرغم من الادِّعاءات التي تمَّ الإعرابُ عنها في «البيان السريالي الأول»، فيما يختص بالإطاحة بعرش الأخلاق التقليدية. في مقالة تحت عنوان «انحرافات الطبيعة» نُشِرت في دورية «وثائق»، العدد الثاني (١٩٣٠)، انصبَّ تركيز باتاي على افتنان البشرية ﺑ «فلتات» الطبيعة مثل التوائم السيامية، ويمكن قراءة النص في حقيقة الأمر على اعتباره تعليقًا مستترًا على الشعار الإنساني للخنثى؛ أَلَا وهو المزج بين الذكر والأنثى الشائع في المجازات الخيميائية التي انجذب إليها، كما سنرى لاحقًا، السرياليون البريتونيون. وبالإلماح للخنثى، ولو بشكل غير مباشِر، كمثال آخَر لتوليفة مثالية، تناوَلَ باتاي بإسهاب الأحداثَ الطبيعية التي لا يُسفِر فيها اقترانُ إنسانيْن عن شيء مثالي، بل عن شيء وحشي قبيح. في شتَّى أعداد دورية «وثائق»، نجد تلاعبًا دائمًا بفكرة القبيح كوسيلة لمجابهة المثالي وإبطال أثره بمادية فظَّة؛ على سبيل المثال: كصور إيضاحية لمقالة حول الأقنعة بقلم جورج ليمبور، يؤكِّد فيها على أن المرادفات الغربية الوحيدة للقوة الشعائرية للأقنعة المحيطية القبلية هي أغراض مثل أقنعة الغاز؛ نجد مجموعةً مدهشة من الصور الفوتوغرافية لأقنعة الكرنفالات للمصور جيه إيه بويفارد. وإذ يُفترَض أن واحدًا من تلك الأقنعة يُوحِي بالبهجة والبشاشة، يبدو ذاك القناع لأول وهلة وكأنَّ عينَيْه احترقَتَا تمامًا.
في عام ١٩٢٩، كان هناك صدام مباشر بين بريتون وباتاي؛ إذ استند بريتون إلى أحدث جنود السريالية، وهو سلفادور دالي، كي يمنع باتاي من إعادة استنساخ لوحته الرئيسية ذاك العام «لعبة الحداد» إلى جانب تأويلٍ لها كَتَبَه باتاي لصالح دورية «وثائق». كان على باتاي أن يرضَى برسم تخطيطي للصورة، لكن تعليقه — الذي انصبَّ على مخاوف الاستمناء والإخصاء المميزة لرسوم دالي — يكشف كَمْ كان دالي، بمَواطِن هوسه المُعْلَنَة بالاستمناء والبراز والتعفُّن، فنانًا باتاييًّا مثاليًّا. ويبدو أن بريتون تغافَلَ عن الجوانب «المضطربة» حقًّا لأعمال دالي، ولو أنه لم يتوانَ، إبَّان تلك الفترة تقريبًا، عن الاعتراض على الطبيعة الخسيسة لسريالية أنطونين آرتو. وعلى الرغم من أن باتاي ربما زعم، عن حق، انتسابَ دالي إليه، فإن الأخير ظلَّ إلى حينٍ ضمنَ معسكر بريتون. قرَّرَ فنانون آخرون أن يهجروا معسكرَ بريتون بشكل حاسم بصورة أو أخرى، ومن بين هؤلاء أندريه ماسون الذي كان نزوعُه تجاه فكر نيتشه والصور المجازية العنيفة، في أعمالٍ مثل رسوم «المذبحة» عام ١٩٣٣ التي صوَّرت رجالًا ينحرون نساءً، أكثرَ ممَّا يتحمَّله بريتون.
ربما بَدَا أن نقد باتاي اللاإنساني لبريتون له صدًى في نقد الدادائية ﻟ «بابا» السريالية، لكن موقف باتاي لم يكن متطابقًا مع الدادائية؛ ففي سنواته اللاحقة، بَدَا أن باتاي في واقع الأمر أقرب بكثير إلى السريالية ممَّا كان عليه خلالَ فترة العشرينيات التي اتَّسمت بالاندفاع والطيش، لا سيما أنه نَاصَر مفهومَهم الكلي القائل بأن جزءًا من معضِلة الإنسان المعاصر يتمثَّل في غياب الأسطورة، أو ما أسماه «المُقَدَّس»، للتعامل مع النزعات اللاسلطوية الأكثر سوداويةً للطبيعة البشرية. وعندما أمكن، مع اندلاع الحرب عام ١٩٣٩، النظر إلى الدادائية والسريالية بأثر رجعي على أنهما توسَّطتَا حربَيْن عالميَّتَيْن، أمستِ الحاجة إلى تفكيك فكرة الإنسان «الإنساني» أكثر إلحاحًا بكثير للوَرَثة الفكريين للحركتين، ووَرِث إرْثَ باتاي أشخاصٌ مثل المفكِّر الفرنسي ما بعد السريالي ميشيل فوكو. لكن لا إنسانية باتاي الخاصة بالكاد قدَّمَتْ «حلًّا»، بل لقد كانت هناك فترةٌ في الثلاثينيات جنحت فيها تلك النزعة أكثر إلى الفاشية. وثمة طريقة حاولَتْ بها كلٌّ من الدادائية والسريالية على حد سواء تجاوُزَ القِيَمِ الإنسانية وازدواجيةِ العقل والجسد، وذلك عبر الفكر الصوفي أو المستغلق.
الفكر الصوفي والمستغلق
«حامت الدادائية فوق سطح المياه قبل أن يَخلُق الربُّ العالَمَ، وعندما قال: فَلْيكن هناك نور! لم يكن هناك نور، بل دادائية.» يعكس هذا التصريح المشترك لأعضاء جماعة دادائية برلين الموقفَ التهكمي للدادائية تجاه الأديان التقليدية. لقد ناقشنا بالفعل أمثلةً للمناوأة الشديدة للكاثوليكية من جانب السرياليين؛ إنَّ ما مَقَتَه السرياليون، شأنهم شأن الدادائيين، كان تحديدًا الفصلَ اليهودي-المسيحي بين الروح والجسد. وعلى الرغم من أن دوشامب وبيكابيا، كما رأينا من قبلُ، استخدما لغة الازدواجية للسخرية من النزعة التكنولوجية للإنسان الحديث، فقد استدعى الدادائيون تحديدًا مبادئ فلسفية ما قبل سقراطية أو غير غربية يحتفظ فيها الروحاني والمادي بتوازن عظيم، وكان هذا جزءًا من نقد أكبر للنفس الحديثة.
في برلين، بدا أن راءول هاوسمَن أيضًا كان يُطالع لاوتزه حوالي عام ١٩١٨، ولكنه علاوةً على ذلك قد كان منجذبًا إلى فكر البيولوجي الدارويني الألماني إرنست هيكل الذي اعتبر مبدأً وحيدًا، وهو «قانون المواد»، موحِّدًا للروح والمادة؛ وكل ذلك يدعم إيمان المؤرخ ريتشارد شيبارد بأنَّ لا عقلانية الدادائيين وتحطيمَهم التقاليد بطريقة مناوئة للفن كانَا مرتبطين أساسًا ببحث فلسفي عميق. كان أحدُ أعمدة الدادائية، وخِصِّيصَى في زيوريخ، يُعنَى بالتفاعل بين نماذجِ الطبيعة باعتبارها فوضويةً، ونماذجِها باعتبارها نمطيةً في جوهرها، ولو أن ذلك يمتدُّ إلى البرلينيين غير الشيوعيين أمثال هاوسمَن. وكان العمود الآخَر — المُمَثَّل في دوشامب وبيكابيا في نيويورك وباريس، أو جورج جروتس وفالتر سيرنر في برلين — وجوديًّا جوهريًّا بقدر أكبر ونزَّاعًا تجاه العدمية؛ يناظر ذلك بالتأكيد الحكمةَ التقليدية التي بموجبها تكون الدادائية في زيوريخ أكثر «استدلاليةً» في جوهرها من دادائية نيويورك أو دادائية باريس.
ومن المهم التأكيد على أن الخيمياء بالنسبة إلى السرياليين كانت تعبق بنظرة عالمية خاصة تنتمي للعصور الوسطى المتأخرة، وكانت لها ارتباطات قليلة بالجانب الغامض والغريب الذي تتسم به في الخيال الشعبي. وبصفة عامة، كان لدى السرياليين اهتمامٌ محدود بالأشياء الفائقة للطبيعة، وخاصة بقدر ما كانت ترتبط بتقاليع القرن التاسع عشر مثل الروحانية. بذل بريتون جهودًا مضنيةً لبيان أن حالات الغشوة التي غشيت السرياليين خلال مرحلة «غموض الحركة» لم تكن لها علاقةٌ بالتواصل مع الموتى. وقد أكَّدَ والتر بنيامين أبرزُ نُقَّاد السريالية أن ما لفت انتباه السرياليين كان «التنوير الدنس» الذي يمكن الحصول عليه من الوجود المادي بدلًا من أي رجوعٍ والْتجاءٍ للدِّين أو «الماوراء»، أو إلى العقاقير أيضًا، وينبغي أن نضع نصب أعيننا أن الاهتمامات السريالية كثيرًا ما كان يتوجَّب أن تُوافِق الماركسيةَ.
وعلى الرغم من ذلك، فإننا نعلم أن بريتون كان مفتونًا في فترة مبكرة بفكر الكاتب الفرنسي بالقرن التاسع عشر إليفاس ليفي المتعلق بالسحر، ولو أن ليفي نفسه كان ماديًّا ومُكرِّسًا للمصالحة بين الروح والمادة. ويرجع بنا ذلك إلى الفهم السريالي للخيمياء؛ فمن ناحية، كانت الجماعة منجذبةً إلى الغرابة المحضة للنقوش المستغلقة القديمة المشيرة مجازيًّا إلى المضمون الروحاني للعمليات المادية للخيمياء، وتَدين الصور الإيضاحية لماكس إرنست، التي أوردها في «روايات الكولاج» التي أنتجها في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات؛ بالكثير لتلك السوابق. ومن ناحية أخرى، تنبَّأ السرياليون بالطريقة المعقَّدة التي سيفسِّر بها العالِمُ النفساني كارل يونج الخيمياءَ في كتابه الصادر عام ١٩٤٤ «علم النفس والخيمياء». هنا ذهب يونج إلى أنه بينما شددت المسيحية على الخلاص من الخطيئة؛ مما يوحي ضمنًا بالشك في الجسد، استخدم المستغلقون المجاز الخيميائي كشكل من التعليق على المسيحية، فأكَّدوا على المصالحة ما بين المادة والروح عبر الجمع والتأليف بين المبادئ الذكورية والأنثوية في الرمز الخنثوي؛ والواضح أن كل ذلك يناظر الهجوم الكلي للسرياليين على المذهب الكاثوليكي، وليس من العجب أن فكرة الخنثى وَجَدت لها صدًى كبيرًا في فنِّهم وكتاباتهم. ولكن، ينبغي أن نستدعي مقالة جورج باتاي السالف مناقشتها في القسم السابق حيث يخلق المزجُ ما بين الأضداد بشاعةً لا مُصالَحَةً؛ كان هذا الوجه الآخر للميتافيزيقا السريالية.
لو أن الخيمياء استدعت نظرة عالمية فلسفية بديلة، فإن ثمة فرعًا مهمًّا من الفن السريالي تعامَلَ مع تقويض الفئات التي تمَّ بها تنظيم المعرفة نفسها في عالم ما بعد التنوير. في هذا الصدد، كان السرياليون خِصِّيصَى مهتمِّين بتقليد القرنين السادس عشر والسابع عشر المعروف باسم «خزائن الفضول»؛ في إطار حدودها، قدَّمَت هذه الخزائن أنماطًا بديلة لترتيب وتصنيف الأشياء، سواء المصنوعة أم الطبيعية، للأنماط المعمول بها في المتاحف التي ستحلُّ محلَّها في نهاية المطاف. كانت الأسبقية والأولوية لمبادئ التناظر أو التداعي الغريب الأطوار للمعاني على مبادئ الأجناس والنوع. بحث السرياليون الأنظمةَ التصنيفية البديلة في العديد من السياقات؛ فمجموعاتهم الفنية الشخصية نزعت إلى أن تُرتَّب بحيث تكون اللوحات — كلوحات دالي أو دي شيريكو مثلًا — على المستوى نفسه للأغراض الطبيعية الغريبة أو المصنوعات اليدوية «البدائية». ومن المُنطَلَق نفسه، أنتج دالي «غرضًا سرياليًّا» عام ١٩٣٦ قوامه طبق من الأغراض، بما في ذلك حذاء والعديد من المعجنات المزخرفة، وزخارف صغيرة لزوج يُمارِسان الجنس، تمَّ تجميعها بجهود مضنية استنادًا إلى منطق فتيشي شخصي، وكرَّسَ جوزيف كورنيل — وهو الإضافة الأمريكية المتأخرة نوعًا ما لحركة السريالية — مشوارَه كله لإنتاج صناديق مفتوحة، لا تتجاوز أبعادُها عادةً ١٨ × ١٢ بوصة مربعة، وقد استدعت الأنابيبُ الصلصالية، والجرارُ الصيدلانية، وخرائطُ النجوم التي تحويها تلك الصناديقُ عالَمًا مصغَّرًا من حلم اليقظة.
تتسق الدعابةُ السوداء المعنِيَّة هنا والتلاعبُ المتعمَّد بالأفكار التحليلية النفسية بالكامل مع السريالية السائدة، لكن الخلط الشاذ لسفانكماير للبيانات الطبيعية يرتبط بشكل أساسي وبدقة شديدة بهويَّته كفنان محصور بالتقليد السريالي التشيكي. كانت مدينة براج موطنًا لأكبر خزائن فضول على الإطلاق في أواخر القرن السادس عشر، وتُنسَب إلى الإمبراطور رودولف الثاني، وتلتفت أعمال سفانكماير بشكل ساخر إلى أعاجيب هذه المجموعة. ينمُّ ذلك بدوره عن شيءٍ خاصٍّ بالطريقة التي تنشأ بها منظومة معرفية بديلة حتمًا من جذور «محلية» بدلًا من الجذور «العالمية»، وتُعَلِّق أيضًا بشكل غير مباشر على الفرضيات المسبقة للفكرة المتمركزة في باريس عن السريالية، وهي الفكرة التي يتردد صداها في الخطاب السريالي عن الكولونيالية التي عملت، خلال الثلاثينيات والأربعينيات، على تلطيف النزعات المناصرة للفرنسيين.
على الرغم من إبداعات أنشطة الهدم السريالية للتصنيف، يجوز التأكيد على أنهم ما برحوا يتحركون وفق قواعد التقاليد الفكرية الغربية؛ وفي مقابل ذلك، كانت هناك انتكاسة رجعية إلى «البدائي»، في كلٍّ من الدادائية والسريالية، يُمكن النظر إليها باعتبارها مقاومة للفرضيات الغربية المسبقة عن الطبيعة البشرية بشكل مباشر بدرجة أكبر. ويعود بنا ذلك مجددًا إلى التيار اللاإنساني في فكر باتاي؛ وتحديدًا اهتمامه بمعارضة كلِّ ما لا يندمج بشكل جذري مع العادات المثالية للفكر الغربي، ولكنْ سنؤجِّل هذه المناقشة حتى الفصل التالي. ما يتجلَّى لنا مما ورد أعلاه هو معرفة إلى أي حدٍّ وظَّفَ الدادائيون والسرياليون النماذجَ الصوفية والمستغلقة للفكر من أجل الطعن في الازدواجية الغربية من الداخل؛ إن ما سَعَوْا إليه، كما أكَّد السرياليون دومًا، كان التحرُّرَ، لكن باتاي بلا شكٍّ كان من الممكن أن يذهب على سبيل المقاومة إلى أن هذا التحرر خدم الروح أو العقل. ماذا عن تصوُّر الجسد؟
الجسدي والشهواني
في رسالته إلى أهل رومية (الإصحاح ٧، الآيات ٢١–٢٤) قال القديس بولس: «فإني أُسِرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموسًا آخَر في أعضائي … يَسبِيني إلى ناموس الخطِيَّة الكائن في أعضائي.» إن هذا النوع من التشويه الديني للجسد جلب معه «انتكاسةً عنيفة إلى المكبوت» في الفن الدادائي والسريالي؛ على سبيل المثال: في مارس ١٩٢٠، وتحديدًا في الأيام الأولى لدادائية باريس، نشر فرانسيس بيكابيا صورةً طبق الأصل من طرطشة حبر، وأسماها «العذراء المقدَّسة»، في دوريته «٣٩١». وبعيدًا عن كون هذا العمل مثالًا على عملية المصادفة التي كانت «تجريدية» أيضًا، شأنها شأن أعمال الكولاج السابقة لآرب في زيوريخ؛ كان لرتوش الحبر الدادائية مضامين تجديفية. بحسب المذهب الكاثوليكي، لم تَعِشِ العذراء المقدسة تجربةَ «المُتْعَة التناسلية»؛ إذْ أنجبَتِ المسيح وظلَّتْ فعليًّا «بِكْرًا». وما أوحتْ به طرطشةُ الحبر التي قدَّمها بيكابيا أكثرَ من أي شيء آخَر، كان النتيجةَ الفعلية البشعة لعملية فضِّ البكارة البشرية.
هذا المثال اللافت لإعادة إحياء الجوانب المحرَّمة للتجربة الجسدية، يدلِّل على موطن قَلق أكبر في الدادائية والسريالية من رفض المعايير الأخلاقية التقليدية. ولكن، هل كان كل ذلك يرقى ببساطة إلى هجوم أوديبي على الثقافة الأبوية، أم كان هناك دور جديد مُتَخَيَّل للجسد؟
في الدادائية، من المذهل أن نجد أن الجسد نادرًا ما يُنظَر إليه في سياق حسي. من المعترف به أن الرقص لعب دورًا بارزًا بوضوح في بعض العروض الأدائية بمعرض الدادائية الخاص بجماعة زيوريخ؛ فلقد ابتكر رائدُ الرقص المَجَري المولد رودولف فون لابان — الذي أسَّسَ رقصاته، متحدِّيًا المبادئ الكلاسيكية، على الحركات العضوية للجسد ومبادئ التوتر والاسترخاء — عددًا من الإسهامات في الأمسيات الدادائية، بمَعِيَّة راقصته النجمة ماري ويجمان المتخصِّصة، بحسب تعليق أحد النقاد، في «التشويه الأنيق». كتب هوجو بال مؤسس الدادائية، الذي كان مناصِرًا متحمِّسًا للأشكال الجديدة للرقص، عن رقصة تجريدية بعنوان «أنشودة السمكة الطائرة وأحصنة البحر»، أدَّتْها بمعرض الدادائية عام ١٩١٧ صوفي تاوبر زوجةُ هانز آرب: «كانت رقصةً حافلةً بالشرارات والأشواك والأضواء المبهرة … تفكَّكت ملامحُ جسدها وكل إيماءة منها إلى مائة حركة دقيقة وزاوية وحاسمة.» وعلى الرغم من ذلك، فهذه الرقصات المبتكرة التي تنمُّ عن محاولةٍ للتخلص من مجموعة العادات المُقَيِّدَة للتعبير، والتي كانت منسجمة — بحسب أيديولوجية لابان — مع تجارب أسلوب الحياة البديل الذي ينطوي على العُرْي والتغذِّي بالنباتات الصرفة؛ لم تُحَفِّزها مخاوفُ الدادائية بالمعنى الحرفي الدقيق؛ فهي تتنافر بعض الشيء مع الجوانب الأكثر حِدَّةً والأشد فوضويةً لأداء الدادائية، بما في ذلك «الرقصات الزنجية» التي أدَّاها رجالُ الدادائية.
أنتج السرياليون، شأنهم شأن الدادائيين، صورًا لأجساد جريحة أو مصابة، فعارضوا بذلك محاولات الحكومة الفرنسية لاستعادة الثقة الوطنية بعد الحرب، بتذكيرات عنيدة بالعنف الذي انطبع على أجساد الرجال خلال الصراع. أمست الشخصيات المدعومة بعكازات فكرةً متكررة في أعمال دالي، لا سيما رسومه التي أنتجها خلال عامَيْ ١٩٣٣ و١٩٣٤ لرواية «أناشيد مالدورور» للكاتب لوتريامون، وهو واحد من أهم الأعمال الإرشادية للسريالية، وفيه نجد الراوي مالدورور نفسه مُمَثَّلًا كمحاكاة ساخرة لذكورة مخصية ومشوَّهة. ولكنْ، عندما تعلَّق الأمر بتمثيل الجسد الأنثوي، احتَفَى السرياليون به صراحةً بما يتسق مع دوافعهم المغايِرة للجنس؛ ومن ثَمَّ، فإن الجسد السريالي — ولو أنه متشظٍّ كثيرًا — مُكرَّس للمُتْعة أغلب الظن أو للألم المُمتِع أكثرَ من تكريسه للصدمات. كتب بريتون أن: «القدرة الكلية للرغبة ظلَّتْ، منذ بداياتها، الفعلَ الإيماني الوحيد للسريالية.» واتساقًا مع النزعات العلمية الزائفة للحركة، تم إجراء سلسلة من ١٢ «بحثًا عن الجنسانية» فيما بين عامَيْ ١٩٢٨ و١٩٣٢، سُئِلَ فيها أعضاءُ الجماعة، بأسلوب صريح بشكل مدهش، عن ممارساتهم وتفضيلاتهم الجنسية:
أبرزت تلك الجلسات — التي لم يُنشَر منها سوى جلتسين في دورية «الثورة السريالية» — التحيزاتِ الذكوريةَ والمعارضة للمِثْلية بعُمْقٍ للحركة، وقد هدَّد بريتون بمغادرة الغرفة عندما جنح النقاش في واحدة من تلك الجلسات إلى قبول المثلية الجنسية، ودنا من الفكرة أكثر من اللازم. وفي موقف آخَر، خاطَرَ لويس أراجون الذي بدا أنه أكثر انفتاحًا، خاصةً فيما يتعلَّق بالمثلية الجنسية، بأن قال إن النقاش المعنيَّ «قُوِّضَ جزئيًّا» بفعل «هيمنة وجهة النظر الذكورية».
يُعتبَر الماركيز دي ساد الذي أثنَى عليه بريتون في البيان الثاني للسريالية لكونه «سرياليًّا في ساديته»؛ رمزًا محوريًّا لتقييم التوجهات السريالية نحو الجنسانية. فالأرستقراطي والإباحي الفرنسي السيئ السمعة، الذي اشتهر في القرن الثامن عشر، لفت انتباهَ السرياليين لأول مرة من خلال جيوم أبولينير، وتلقَّى ثناءً من الجماعة إذ أضفى قيمةً أخلاقية على حقِّ الرجل في الإشباع الشهواني. اعتُقِل ساد وزُجَّ به في السجن أغلبَ حياته بسبب ممارساته «المنحرفة»، وعلى رأسها السَّدومية. وعلى الرغم من أن المعرفة المتعمِّقة بالموقف الفلسفي لساد لم تنشأ حتى منتصف الثلاثينيات، كنتيجة لتحقيقات الشاعر والمؤرخ موريس هين المنتسب إلى السريالية، فمِن المُمكِن استيعاب قراءة السرياليين له بالنظر إلى صورة مان راي الفوتوغرافية الصادرة عام ١٩٣٣ تحت عنوان «تذكار لدوناتا ألفونس فرانسوا دي ساد».
وضع مان راي صليبًا معكوسًا فوق الصورة الفوتوغرافية بحيث يتوافق مع الشق الفاصل بين الردفين، لكن من الواضح أن للصليب أيضًا مضامين قضيبية/اختراقية ترتبط بممارسة ساد لِلِّواط. في «أبحاث عن الجنسانية» الخاصة بالسرياليين، أعلنوا أنهم أنصارٌ للسدومية (المغايرة للجنس)؛ حيث اعتبروا تلك الممارسة، في سياق إشباع الرغبة بلا مقابل، فعلًا يستهزئ رمزيًّا بفكرة أن الجنس — تحديدًا بحسب فهم الكنيسة له — «واجب» تناسلي. ومن المهم آنذاك أن فرنسا خلال تلك الفترة كانت مهووسةً بمعدل الإنجاب المتدنِّي لديها، وحقيقة أن الإنجاب كان يُعتبَر في حقيقة الأمر واجبًا وطنيًّا؛ ومن الواضح إذن أن صورة مان راي تجمع ما بين معتقدات مناوِئة للتناسل والدين والقومية في قالب واحد. وأيًّا كانت الأسئلة التي يجوز أن نطرحها حيال الطبيعة الجبرية والعنيفة للأنشطة التي روَّج لها ساد، ومن المهم التشديد على أن السرياليين عمومًا تصوروا الجنس بمفردات مشتركة، فقد استوعبوا ساد أساسًا على اعتبار أنه يناصر حقوقَ الجسد في مقابل حقوق الكنيسة والدولة.
ويُعَدُّ الفنان الألماني هانز بيلمر أكثر من غيره من الفنانين مثالًا نموذجيًّا لاهتمام السرياليين بالجنسانية المتحرِّرة الهدَّامة. لفت بيلمر انتباه الجماعة عندما نُشِرت مجموعةٌ مدهشة من الصور الفوتوغرافية عام ١٩٣٤ المرتبطة بمانيكانه الأُولَى «الدمية» في المجلة الفنية الفاخرة «المينوتور»، فقد كانت أعمال بيلمر مبنيَّةً بكل وضوح على الخيالات المتمركزة حول الفتيات المراهقات أو الفتيات في مقتبل المراهقة، ولمَّا كان متأثِّرًا بشدة بالإنتاج الفني الذي رآه في برلين عام ١٩٣٢ لأوبرا جاك أوفنباخ «حكايات هوفمان»، التي يلعب فيها إنسانٌ آلي دورًا محوريًّا؛ أقام بيلمر مانيكانَيْن عامَيْ ١٩٣٣ و١٩٣٥ على الترتيب. الأولى التي بلغ طولها أربع أقدام ونصف لم تَعُدِ موجودةً بعدُ، لكن الصور العديدة التي الْتُقِطت لها تكشف عن تقاطعٍ ما بين دمية طفل مُساء استعمالها وشكل من أشكال الألعاب الجنسية التي يستخدمها الراشدون. ذراعاها مفقودان، وجذعها الجبسي نصف مكشوف، ورِجْل «طبيعية» من رِجْلَيْها مصنوعة من الجبس، بينما الثانية ببساطة عبارة عن قطعة من دِسَار تنتهي بقَدَم عرجاء خشبية. في أعقاب بعض اللوحات الفنية التي رسمها جورجيو دي شيريكو، حَوَّلَ السرياليون المانيكان إلى شيء أقرب ما يكون إلى العبادة؛ عبادة تمتدُّ بقدر ما إلى الإنسان الآلي، وترتبط بشكلٍ عارضٍ بعلاقات مُثيرة بافتنان الدادائيين بالأشكال الميكانيكية المتحولة. لكن عمل بيلمر يدخل عالَمًا نفسانيًّا أكثر اضطرابًا بكثير؛ فقد تنصَّلَتْ دميته الثانية من أي «هوية» فردية؛ حيث تألَّفَتْ من العديد من الأجزاء المفصلية الكروية — وكثير منها مكرر عدة مرات — التي جمعها بيلمر معًا لمشاهد فوتوغرافية. وتنمُّ واحدة من تلك الصور الفوتوغرافية المُثيرة للاضطراب بشدة عن مخلوق عَصِيٍّ على التفسير يَقِف قبالتنا، في بيئة غابيَّة، والقسم الأعلى من جسده يتألف من زوجين آخَرين من الأرجل؛ وفي الخلفية، ثمة رَجُل يتسلَّل وراء شجرة، متفاديًا نظرتنا المتفحصة.
ومن غير المدهش أن أعمال بيلمر ولَّدَت الكثير من ردود الأفعال النقدية المختلفة، بدايةً من الذين يَرَوْن أعمالَه كارِهةً للنساء بلا رجعة، وانتهاءً بهؤلاء الذين فسَّروها — بالنظر إلى حقيقة أن الدمى كانت تُنتَج في برلين، تحديدًا إبَّان الفترة التي بدأ فيها النازيون يَعتَلون السلطةَ في ألمانيا — كردود أفعال منحرفة تجاه أفكار «المعيارية» الجسدية والجنسية التي روَّجَتْ لها الأيديولوجية النازية.
ومع ذلك، لا شك أن الانطباع السائد هو التقديس الأعمى القهري لجسد المرأة. وتنبع مضاعَفةُ أعدادِ أعضاءٍ كالنهود أو الأرجل، المتشابكة معًا في علاقة جبرية فاحشة في نهاية المَطَاف — وهو ما كان بيلمر يَعِيه — من المفهوم الفرويدي الكلاسيكي عن الولع الشهواني (الفتيشية). في مقالة محورية صدرت عام ١٩٢٧، استنادًا إلى كتابات سابقة، ذهب فرويد إلى أن تركيز المصاب بالوَلَع الشهواني على غرضٍ ما أو عضوٍ من أعضاء الجسد بدلًا من الجسد كله، ينبع من «لحظة» محددة في الممر التكويني عبر عقدة أوديب. هذه هي اللحظة التي ينكر فيها الطفل بلا وعي فكرةَ أن أمَّه لا تملك قضيبًا، والتي يدلِّل عليها «إخصاؤها» الظاهر؛ ولذا، فإن الوَلَع الشهواني يُعادِل القضيب الأمومي المفقود، ويُخفِّف رمزيًّا من التذكرة بالإخصاء التي تستدعيها رؤية الأعضاء الجنسية الأنثوية. وكلما تم التأكيد على موضع الولع الشهواني، عن طريق المضاعفة أو الإزاحة إلى أغراض أخرى مُثيرة للولع الشهواني، تراجَعَ الخطر وتقهقر. ومن اللافت أن عددًا من لوحات بيلمر الرقيقة التي رسمها في الأربعينيات، تَظهَر فيه فتياتٌ سارحات يستلقِين على ظهورهن بينَما تُطِلُّ قضبان منتصِبة من فروجهن. وتتعامل هذه اللوحات صراحةً مع خيالات القضيب الأمومي، وكل ذلك بالطبع يوحي بأن فن بيلمر كان — على الرغم من خصوصيته الشديدة — قائمًا على دراية واسعة.
قسم كبير من الفن السريالي الشهواني يتَّسِم بصفة فتيشية أساسًا، ومثالٌ نموذجي على ذلك التركيزُ على جذْع المرأة وشعرها وعنقها في لوحة ماجريت «الاغتصاب». ولكن على الرغم من أنه نتج عن ذلك انتهاكُ الجسد أو نزْعُ الصفة البشرية منه، كما يوحي ماجريت في عنوان لوحته، فلا شك أننا لا محالةَ نطرح بعضَ الأسئلة الأخلاقية المهمة. وإذا كان هذا القسم، وهذا الفصل عمومًا، قد بيَّنَ لنا كيف استحدثَت الدادائية والسريالية أيقنةً جديدةً للجَسَد لمُعادَلة الفكر الازدواجي، فإنه لا يمكننا أن نُنكِر أن هذه العملية كانت مستنِدةً إلى وجهة نظر ذكورية. ولقد زعمت المُعَلِّقات بطريقةٍ لها ما يبرِّرها، أن أجساد النساء، ومن ثَمَّ الأنثوية، كثيرًا ما تُحْتَقَر بفعل التجسيد والفتيشية اللذين يلحقان بالجسد الأنثوي تلبيةً لأغراض «التحرر» النفساني الجنسي، والسرياليةُ تحديدًا ليس لديها الكثير لتقدِّمه فيما يتعلَّق بمعادلة وجهة النظر الأنثوية. تبدو الدادائية ببساطة، من منطلق كونها أقلَّ اهتمامًا بالمذهب الجنسي الشبقي، أقلَّ استحقاقًا للَّوْم بشكل مباشر، ولكننا هنا شرعنا في التفكير، لا في الجنسانية ولا في المذهب الجنسي الشبقي بصفة عامة بالأساس، وإنما في وضع الجنسَيْن؛ لقد بدأنا نفكِّر، بتعبير آخَر، في «سياسات» التمثيلات الدادائية والسريالية.