إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
إن الحياة الآخِرة للدادائية والسريالية موضوع مستقل بذاته، ولا يمكننا إلا أن نعرج عليه بشكل منهجي موجز هنا؛ فقد تأثَّرَ الفن والأدب والأفكار عمومًا، وكذا الإعلانات والأفلام والتلفزيون، بالحركتين لدرجة أن المرء قد ينتهي به الأمر إلى كتابة تاريخٍ لثقافة ما بعد عام ١٩٤٥.
فيما يتعلَّق بالفن، يمكن القول إن الدادائية كان لها الأثر الأوسع بعد الحرب، وهي الحقيقة التي تنطوي على مفارقة بالنظر إلى ميول الدادائية المناوئة للفن. بالنسبة إلى كثير من الفنانين الأوروبيين والأمريكان المعاصرين لفترة الخمسينيات والستينيات، مَثَّلَت تفضيلاتُ الدادائية والأعمالُ الفنية الجاهزة لدوشامب تحديًا جذريًّا لماهية الفن المحتملة؛ ومن المفارقة أن الأمر انتهى بهم عادة إلى توسعة نطاق حدود الفن نتيجةً لذلك. وثمة نزعة أمريكية مُهِمَّة اشتهرت في الخمسينيات، شارَكَ فيها الفنانان جاسبر جونز وروبرت روشنبرج والموسيقي التجريبي جون كيج، أُطلق عليها بصورة عابرة «الدادائية الجديدة»، ويُزعم أن الأعمال التي تمَّ إنتاجها آنذاك كانت تتسم بالقليل من حِدَّةِ مناوَأةِ البرجوازية المميزة للدادائية. ويتسم عمل روشنبرج التركيبي «سرير» عام ١٩٥٥ — الذي يتكوَّن من سرير مرفوع، وسادتُه وغطاؤه ملطَّخان ويقطران طلاءً — بسِمَة صدامية؛ نظرًا للطريقة التي ينكر بها الفنانُ الوظيفةَ الطبيعية لمُكَوِّن عمله، لكن منتجات الدادائية الجديدة سرعان ما أمسَتْ أيقونات لأفق فني جديد. وتتمثَّل هذه العملية في عمل جونز «البرونز المطلي» عام ١٩٦٠، الذي يتكوَّن من قالبين مستخلصين من عُلب جعة مثبَّتة على قاعدة تمثال؛ وهذا أساسًا قَلْبٌ لفكرة العمل الفني الجاهز رجوعًا إلى أصول الفن، ولم تكن تَخفَى مضامينه على دوشامب الهَرِم الذي عَلَّقَ محبَطًا في الستينيات بأنه ألْقَى بأعماله الفنية الجاهزة في وجه العامة في خطوة مرادها التحدِّي، ليكتشف فجأةً إعجابَ الناس بها لما تتمتَّع به من سمات جمالية.
إذا أمكن النظر جزئيًّا إلى أعمال جونز وروشنبرج باعتبارها تقديرات استقرائية دقيقة من فكرة الأعمال الفنية الجاهزة، فقد كانت تنويعاتٌ أخرى على لمحة دوشامب شائعةً في الخمسينيات والستينيات؛ تراوحت تلك التنويعات ما بين أمثلة على «الواقعية الجديدة» في فرنسا، وأبرز ممارسيها إيف كلاين ودانيال شبوري وأرمان، والتنويعات الأمريكية للفن الشعبي، لا سيما أعمال آندي وارهول التي استُغلت فيها شعاراتُ منتجاتٍ مثل كوكاكولا بأقل قدْرٍ من التعديل، فمثَّلَت بذلك موضوعًا «لعمل فني جاهز». وبحلول أواخر الستينيات والسبعينيات، تحوَّلَتْ شروطُ استقبال دوشامب لمصلحة منهجه المفاهيمي تجاه الفن والذي بموجبه، استنادًا إلى الدفاع الزائف عن «النافورة» الوارد في دورية «الأعمى»، «لا أهميةَ لمعرفة ما إذا كان السيد مات قد صنع النافورة بيديه أم لا. فقد اختارها.» كان الإنتاج الفعلي للأغراض الفنية آنذاك محلَّ شك واسع النطاق، ووثَّقَتِ النصوص أو الصور الفوتوغرافية نطاقًا واسعًا من المقترحات المفاهيمية لفنانين أمثال دوجلاس هوبلر وروبرت باري. ولكن، من المهم أن ندرك — في هذه الحالة وفي حالات أخرى كثيرة — أن الإرث الدوشامبي نادرًا ما تجاوَزَ مسألةَ «التعيين»؛ ويُراد بذلك اعتبار أي شيء شكلًا من أشكال الفن إذا أقرَّ الفنان ذلك. ونَمَتْ مجموعة متنوعة من الاهتمامات الفكرية والفلسفية لدى الفن المفاهيمي، تجاوزت دوشامب بكثير. في الوقت نفسه، أمست الدادائية عمومًا سابقة مهمة لنزعاتٍ مثل «حركة الفلوكسوس» (التي بلغت ذروتها في الفترة بين عامَيْ ١٩٦٢ و١٩٦٥)، وجوانبَ عدةٍ من الفن الأدائي. ويمكن التأكيد أيضًا على أن البنيةَ الكاملة لطليعية الستينيات، بروحها الدولية وتعويلها على نشر منشورات عابرة رخيصة الإنتاج، مَدينةٌ بالفضل لنموذج الدادائية.
كانت تبعات الدادائية على جماليات فترة ما بعد الحرب مباشَرةً أكثرَ حسمًا من تبعات السريالية. باعتراف الجميع، كان الجانب التجريدي-البدائي أو «العفوي» للفن السريالي — كما في الأعمال الفنية لماسون أو ميرو — مهمًّا بشكل عميق لبعض التعبيريين التجريديين في أمريكا في الفترة ما بين منتصف الأربعينيات وأواخرها، لا سيما أرشيل جوركي وجاكسون بولوك. ولكن، بعد هذه المرحلة المحورية، من الصعب أن نستشفَّ أفضالًا للسريالية على الفن التقليدي للخمسينيات والستينيات والسبعينيات. وهناك استثناءات كبيرة داخل الفن الشعبي، كالتجاورات المضلِّلة للصور المتشظِّية لجيمس روزنكيست، و«التماثيل اللينة» لكلايس أولدنبرج التي تخضع فيها أشكال مألوفة مثل مفاتيح الإضاءة أو أطقم الطبول إلى تحوُّلات مقوسة بشكل جنسي من الجامد إلى اللين. ولكن إرث الحركة عادةً ما استمرَّ في أعمال الحالِمين الغريبي الأطوار، لا في أعمال المبتكِرين البارِزين. في الوقت نفسه، استقر رأي بعض الأفراد البارزين، أمثال المَثَّال الفرنسي المولد لويس بورجوا، على بناء أجسام منفصلة من أعمال تستكشف أفكارًا مثل الجنسانية بدلًا من المشكلات الجمالية المرادفة للحداثة المتأخرة. وبينما بليت الركائز الرسمية للفن الحداثي خلال الثمانينيات والتسعينيات، استقلَّتِ السرياليةُ بنفسها باعتبارها رائدةً لوعي ما بعد الحداثة. في عام ١٩٨٦، تجرأ المؤرخ الفني هال فوستر إذ قال: «إن قسمًا كبيرًا من النقد والفن المعاصر، وقسمًا كبيرًا من النظرية والممارسة المتعلقة بحاضرنا ما بعد الحداثي، يُعَدُّ بشكل جزئي في جوهره نظريةً وممارسةً ﻟ «السريالية».» وهو التعليق المرتبط بإحساسه بالعودة إلى لحظات سابقة من الطليعية في الفن أواخر القرن العشرين، استنادًا إلى نموذج فرويد ﻟ «عودة المكبوت».
ويبدو أن ملاحظة فوستر ثبتت صحتها بفعل صعود نجم فنانين أمريكيين أمثال روبرت جوبر أو ماثيو بارني — في فترة أكثر حداثةً — ممَّن بَدَا واضحًا أنهم يسترجعون الغلو الباروكي للأيقنة السريالية؛ حيث استخدموا صورَها المجازية الوضيعة أو الجسمانية الفتيشية للتعبير عن مخاوف معاصرة بشأن موضوعات كالإيدز، في حالة جوبر، أو لإحياء أسطورةٍ ما، كما في حال بارني. يتكوَّن عملُ جوبر المسمَّى «من دون عنوان» عام ١٩٩١، من قالب شمعي للنصف السفلي من جسم رجل يرتدي سروالًا تحتيًّا وجوربًا وحذاءً خفيفًا، وعندما عُرض هذا العمل في المعارض، وُضِع ووجهه لأسفل على الأرض، وبطنه ملاصق للجدار تمامًا بحيث يبدو الشكل وكأنه يختفي عبر الجدار. وما يُثير الاضطراب بقدر أكبر أن ثمة سلسلة من فتحات الصرف مُقحَمة في رِدْفَيْ ورِجْلَيْ ذاك الشكل؛ وبذلك يستخدم جوبر أدوات سريالية للتصريح ببيان مجازي مُعقَّد يتعلق بالجنسانية الذكورية والمرض والأخلاق، تردَّد صداه، إبان الفترة التي صنع فيها هذا العمل الفني، بقوة في القلق الشائع من فيروس الإيدز. في الوقت نفسه، قَدَّمَ التقليد السريالي لفنانة أمريكية أخرى تُدعَى سيندي شيرمان، وسيلةً مباشرةً بقدر أكبر لشنِّ هجومٍ على التحصين الأخلاقي للحكومة الأمريكية في مواجهة أعمالٍ كتلك التي قدَّمها جوبر. وإذ استندت إلى «دُمى» هانز بيلمر، أنتجت شيرمان سلسلةً من الصور الفوتوغرافية عام ١٩٩٢، التي تمَّ فيها ترتيبُ دُمًى طبية واضحة التفاصيل وأعضاؤها الجنسية معروضة بشكل بارز. وبالنظر إلى أن الحكومة الأمريكية آنذاك كانت تحاول تقويضَ استخدامِ الصور الجنسية الصريحة، كانت بادرةُ شيرمان مستفِزَّةً.
وفي بريطانيا، أصبحت القضايا المتعلقة بالسريالية شائعةَ الوجود في الفن المعاصر، ولو أن أساسها المنطقي التوجيهي أقلُّ جلاءً ووضوحًا؛ فافتنانُ السريالية بالأنظمة التصنيفية يمكن العثور عليه مثلًا في أعمال سوزان هيلر، التي أنتجت عملًا في منتصف السبعينيات تحت عنوان «مُهدًى إلى الفنانين المجهولين»، جمعَتْ فيه أكثرَ من ٢٠٠ بطاقة بريدية ذات خلفيات ساحلية نُقِشت عليها عبارة «بحر هائج»، وفيها تلاطمت الأمواج على الساحل البريطاني. صار هذا العمل أشبه بمسح أنثروبولوجي زائف للتمثيلات الشعبية لعِرْق منعزل في جزيرة. وتميل كورنيليا باركر، التي رُشِّحت لنيل جائزة تيرنر الرفيعة عام ١٩٩٧، بقدر أكبر إلى الافتنان السريالي بتقليد «خزائن الفضول»؛ ولذا نجد أن عملها «شقوق في أسطوانة كانت تنتمي لهتلر» عام ١٩٩٦، يدعو المُشاهِد إلى الحملقة في صورة فوتوغرافية مُقَرَّبَة لسطح أسطوانة تعمل منذ فترة طويلة، وكأن بعض بقايا الدوافع السوداء لصاحبها يجوز إدراكها في شقوقها. يُحيِي فنانون آخَرون اهتمامَ السرياليين بالتجاور المتنافر؛ فيتألف عمل الفنان الاسكتلندي دوجلاس جوردون «بين الظلمة والنور» (تيمُّنًا بويليام بليك) عام ١٩٩٧ من فيلمَيْن، وهما «أنشودة بيرناديت» و«طارد الأرواح»، يُعرَضان في الوقت نفسه على جانبَيْ شاشة شفافة، بحيث يُقام حوار بين الفيلمين اللذين يناقشان الخير والشر على الترتيب. ويجوز القول بأن هذه الأعمال تتحالف مع الجانب الشعري «الأكثر رقةً» للسريالية، ومع ذلك فقد أنتج بعض الفنانين المرتبطين دوليًّا بقوةٍ بظاهرة الفنانين البريطانيين الشباب المزعومة؛ أعمالًا تضارع في حِدَّتها الصارمة أعمال فنانين أمريكيين أمثال جوبر. وتُعتبَر سارة لوكاس السالف مناقشة أعمالها في بداية هذا الكتاب حالةً تُثبت ذلك.
إذا نظرنا إلى العمل الفوتوغرافي للوكاس المسمَّى «ترجَّل عن فَرَسك واحتسِ لبنك» عام ١٩٩٤، من حيث علاقته بواحدة من نقاطه المرجعية العامة، ألَا وهي لوحة «الاغتصاب» (١٩٣٤) للفنان السريالي رينيه ماجريت؛ فسيمكننا أن نرى أن عملها يمثِّل رؤيةً أنثوية بشكل عنيف لصورة ماجريت الكارهة للنساء بشكل استبطاني. تستحثُّ لوكاس السرياليةَ التي اضمحلت عبر استيعاب السوق لها. وقد استعاضت عن علامات الذكورة الرجولية برموز طفولية (قوارير حليب وكعك مساعد على الهضم)، وبذلك فهي تختلق الْتقاءً بين نطاق ثقافي «رفيع» سبق أن انتمت إليه السريالية، ونطاق دارج لثقافة الشارع، حيث تتنازع باستمرار قضايا الهوِيَّة الذكورية والأنثوية.
بالنسبة إلى سارة لوكاس، تُعتبَر الأدوات السريالية ببساطة جزءًا من انتشار الثقافة الجماهيرية، وعلى الرغم من أنها تشارك السرياليين اهتمامَهم بالجنسانية، نجد أن السريالية يُشار إليها كمرجع في سياق تكثيف ثقافة السلعة خلال القرن الماضي، وذلك إلى حدٍّ كبير عبر الإعلانات، بالقدر نفسه الذي يُشار به إلى أي شيء آخَر. وحقيقة الأمر أن هذا التوجه الساخر أو التنقيحي أساسًا يكمن وراء الكثير من الأعمال التي عكفتُ على مناقشتها؛ ففنانون كُثُر قد تعامَلوا مع السريالية كنقطة انطلاق لاستكشافاتهم لسياسات الهوِيَّة، ولكنَّ قليلًا هم الذين يدعمون السريالية قلبًا وقالبًا. وبالنسبة إلى كثيرين، أمست السرياليةُ متماهيةً بسهولة جدًّا مع صور على ملصقات لفنانين أمثال دالي وماجريت، وانتشارها الشعبي طمس قيمتَها الكامنة تقريبًا.
وضع زميل لنا نظريةً عن أحياء الحالة المزاجية، وبحسبها يتمُّ تحديد كل حي من أحياء المدينة بحيث يستثير شعورًا أساسيًّا محددًا يُعرِّض له المرءُ نفسَه عن عمد.
بحلول منتصف الستينيات، تشارك العديد من التشكيلات الثقافية المضادة المضمونَ اليوتوبي لفكر المواقفية. ومن عدة طرق، يمكن النظر إلى تلك الظاهرة باعتبارها اللحظة الأخيرة العظيمة للدافع السريالي؛ ولذلك يجوز أن نعتبر صفحات المجلة البريطانية السرية «أوز» الصادرة في الستينيات، بمزجها الهذياني بين سياسات اليسار الجديد والسياسات اللاسلطوية، وثقافة متعاطي العقاقير المسبِّبة للهلوسة والإثارة الجنسية؛ الومضاتِ الأخيرةَ المتداعية للأيديولوجية السريالية. وفي ظل حركة المواقفية والثقافات المضادة للستينيات، من الملائم أن نستدعي فكرةَ الطليعية التي استُغِلت لتعريف الطبيعة التاريخية للدادائية والسريالية آنفًا في هذا الكتاب. إلى حدٍّ معين، تداخلَتِ الاهتمامات السياسية لجماعات الثقافات المضادة في هذه الفترة، مع حركات فنية مثل حركة الفلوكسوس. وإذ وضع المؤرخون الثقافيون ذلك نصب أعينهم، فقد استغلوا مؤقتًا فكرةَ «الطليعية الجديدة» لتوصيف هذه العودة العابرة لمحاولات المزج بين الفن والحياة.
يترتب على ذلك أنه إذا كنَّا بصدد البحث عن إرث معاصر ذي مغزًى للسريالية، وكذلك للدادائية، فستقتضي الحاجة أن نجد مكافِئات حالية للمنهج الفني-السياسي للطليعية التاريخية أو الطليعية الجديدة. ومع ذلك، فقد لاحظ الكثير من المُعلِّقين على ثقافة ما بعد السبعينيات أن الموقف الطليعي لا يبدو قابلًا للتطبيق بعدُ، خاصة أنه من الصعب أن نتخيَّل مجموعة وحيدة تتبنَّى الموقفَ نفسه الذي تبنَّتْه الدادائية والسريالية في فترة من الفترات من محيط العمليات الاجتماعية. فقد تم استيعاب الراديكالية الفنية في بِنَى الثقافة الرأسمالية الأخيرة، وقليل من الفنانين الطموحين حاليًّا يرضَوْن بانتظار إقامة معارض كبرى حتى نهاية حياتهم، كما هو الحال بالنسبة إلى دوشامب أو هارتفيلد على سبيل المثال. لقد نشأت الجماعات الثقافية المضادة على اختلاف ألوانها في أعقاب أواخر الستينيات، لكنها ارتبطت بقضايا محددة مثل البيئة أو حقوق المرأة، وبذلك تفادت الروح الشمولية للأيديولوجية السريالية. إن التنافر المحض لثقافتنا المُعولمة الحالية يعني أن فكرة التحدُّث «نيابةً عن البشرية» — وهو الأمر الذي كثيرًا ما افترض السرياليون أنهم يفعلونه — تبدو على أي حال عبثيةً.
إذا كانت الطليعية ظاهرةً طواها النسيان، فقد يرجع ذلك أيضًا إلى أن القامات الثقافية الجديرة بالثقة، أمثال تريستان تزارا أو أندريه بريتون، لم تَظهَر على مشهد الأحداث ببساطة. إن عدد المفكرين الفرنسيين الكبار الذين أقروا بالأهمية التكوينية الحاسمة للسريالية بالنسبة إليهم ليس بالقليل، وتتضمن قائمة هؤلاء: رولان بارت، وميشيل فوكو، وجاك لاكان، وجوليا كريستيفا، وجاك دريدا. ولكن، هؤلاء الرموز ارتاحوا لمكانة الطائفة الأكاديمية أكثر من ارتياحهم للزعامة الثقافية؛ فقد بدت فكرةُ الزعامة بحدِّ ذاتها استعلائيةً ومختلَّةَ التوازن بالنسبة إلى عصرنا.
وبخلاف هذا التخمين الخاص ﺑ «بقاء» الدادائية والسريالية، يجدر بنا أن نسأل أخيرًا بقدر أكبر من الصراحة: هل كانت الحركتان تستحقان الإحياء حقًّا؟ هل قبولُ سارة لوكاس لفكرة أن السريالية الآن مجرد جزء من ثقافة السلعة؛ يُعتبَر إقرارًا بأن الحركة، في نهاية المطاف، كانت طريقًا تاريخيًّا مسدودًا؟
للتركيز على هذه القضية، تجدر العودة إلى نقد السريالية الذي طرحه راءول فانيجيم، المنسوب إلى حركة المواقفية، السالف مناقشته في نهاية الفصل الأخير. كان لدى فانيجيم عدد من الآراء القيِّمَة التي أوردها في كتابه «تاريخٌ فُرُوسِيٌّ للسريالية»؛ فقد ذهب، على سبيل المثال، إلى أن السريالية البريتونية (نسبةً إلى بريتون) كثيرًا ما أخفقت في تحرير الإنسان على المستوى الأخلاقي. ويمكن أن يُنظَر لحرية حركة الرغبة وما إلى ذلك من مفاهيم على اعتبار أنها «محفِّزات لتجديد النظام القديم» فحسب. وفي المقابل، يدعم فانيجيم تفكير سرياليين أكثر تطرُّفًا مثل موريس هاينه الباحث في أعمال ساد، الذي قَابَلَ في واحد من نصوصه بين مُتَع التعذيب المريبة من ناحية، وما يصفه فانيجيم ﺑ «نفي التجسيد البطيء» من ناحية أخرى؛ بتعبير آخَر: أنْ يمسي الإنسان أداةً ينتفِع بها إنسانٌ آخَر، أفضل من أن يكون أداةً تنتفع بها الدولة. إن إحساس فانيجيم بأن السريالية كانت جوهريًّا إنسانيةَ الطابع و«رومانسيةً» أكثر مما ينبغي، أدَّى به إلى أن يطرح الفكرة الكاشفة التي مفادها أن كراهية السريالية الجوهرية للصناعة الحديثة ومناوأتها للمذهب الانتفاعي (وهو الموقف الذي قلَّما، بالمصادفة البحتة، تبنَّتْه الدادائية على الرغم من أنه كان ساخرًا بشدة من الآلة)؛ تعنيان أن السريالية كانت عاجزة عن الربط ما بين التكنولوجيا الحديثة ورؤيتها. وكنتيجة لذلك، بحسب تصريح فانيجيم، «فقد استوعبت آليات الخداع والافتنان السائدة تلك الرؤية.» من الصعب أن ندرك تحديدًا ما الذي أراد فانيجيم أن يفعله السرياليون، بخلاف تبنِّي فكرة الاستنساخ الشامل على النحو الذي أيَّده والتر بنيامين، لكنه يطرح فكرة وجيهة مفادها أن فهم السريالية للحداثة كان غير كافٍ لها كي تقاوم عملية التسليع. كان هذا النقد يتسق مع موقف فانيجيم كتابع لحركة المواقفية، في مقابل ما أسماه ديبور «مجتمع الاستعراض»؛ وهو عالَم تجمَّدَ فيه رأس المال وأمسى مركزَ إحساسٍ مُطَوِّقًا.
لا شك أن هذا الإحساس بأن السريالية تفتقر إلى الموارد اللازمة لمقاومة هضم الرأسمالية لها؛ هو الذي يجعل المرء حَذِرًا من تأييد فكرة «استمراريتها». وحقيقة الأمر أن السريالية، في أشكالها الشعبية، يمكن فهمها على اعتبار أنها تُشَكِّل الأيديولوجية التي أعلنت معارضتها لها، وكأنها صارت معكوسة في مرآة مُشَوِّهة. في مقالة بعنوان «نظرة إلى ماضي السريالية»، اقتبس المُنَظِّر الماركسي ثيودور أدورنو الأفكارَ المتعمِّقة لزميله والتر بنيامين ليوحي بأن السريالية، إذ تستند إلى استخدام المونتاج، أعادت نشْرَ ثقافة الصورة من مرحلة سابقة للرأسمالية، وبذلك أنتجت هزة إقرار واعتراف كاشفة لراصديها. ومع ذلك، فقد أضفى عليها تعويلها على تلك المواد الزائلة قالبًا شبحيًّا عديم الحياة؛ وبلغة ماركسية، مَثَلَّت السريالية «تجسيدًا» للإنسان تحت مظلة الرأسمالية.
ولكن، هل يمكننا القول بأن الدادائية صمدت بشكل أفضل من ذلك؟ في مجازفة مني بأن أبدو مغالطًا من الناحية التاريخية، أود أن أختم بتعليق على كتاب فانيجيم «ثورة الحياة اليومية» المثير للجدل، الذي كتبه على مشارف عام ١٩٦٨، وفيه نجد أن الدادائية، لا السريالية، توفِّر نموذجَ الممارسة الثقافية المتطرفة. وإذ رأى فانيجيم عدمية الدادائية كنقطة انطلاق للثورة الاجتماعية، فقد انتقد فانيجيم بشدة السريالية؛ لأنها لم «تبدأ مجدَّدًا بالعدمية المبدئية للدادائية، دون أن تبني نفسها على دادائيةٍ مناوِئة للدادائية، ودون أن تنظر إلى الدادائية تاريخيًّا.» ويجوز بطبيعة الحال أن ننساق وننتقد فانيجيم بشدة لإخفاقه في فهم «الدادائية» تاريخيًّا. ولقد رأينا أن الدادائية لم ترْقَ ببساطة إلى العدمية؛ فقد كانت أكثر غموضًا مما راق لأتباع المواقفية، لكنَّ احتياطاتِها من الارتباك وعشْقَها للمفارقة والوقاحة — ممَّا يجعلها حتى يومنا هذا «مستغلقة» حتى على كثيرين — يُعتبَران ترياقًا لاستيعاب السريالية الهادئ نسبيًّا في المشهد.
إلى جانب بيان الملامح التاريخية والفلسفية للدادائية والسريالية، قد قارَنَ هذا الكتاب بين الحركتين ووازَنَ بينهما باستمرار. شغلت السريالية بضرورة الحال مساحةً أكبر من النقاش، وذلك لأن السريالية — علاوةً على استمرارها لفترة أطول كحركة — كانت مقدماتُها النظرية مُصاغةً صياغةً أكثر دقةً. ولكن، يبدو من الملائم أن أختتم بقَلْبٍ للصياغة التاريخية التي «تطوَّرَت» الدادائية بموجبها، وتحوَّلَتْ إلى السريالية الثورية الأكثر وعيًا بالذات، وأنْ أُمِيل الكفةَ لمصلحة اللحظة الدادائية القصيرة ولكن المُحَرِّضَة. وكما صرح فانيجيم بحيويته التي نستغربها الآن: «كانت بداية الدادائية إعادةَ اكتشاف لتجربةٍ معيشةٍ ومباهجها الممكنة، وكانت نهايتها انعكاسًا لكل المنظورات، وابتكارًا لعالم جديد.»