المداخلات اليهودية في العهد الجديد وموقف يسوع من اليهود واليهودية
سوف نتحدث في هذا الفصل عن أهم المداخلات اليهودية في العهد الجديد، ونظهر مدى غرابتها وشذوذها عن السياق العام للنص، معتمدين في ذلك على أسفار العهد الجديد نفسه، وعلى أقوال يسوع ومواقفه العملية التي أظهر من خلالها تجاوزه للموروث الوثني واليهودي على حد سواء، وعبر عن نقد حاد لليهود واليهودية وشريعة إله التوراة.
(١) مكان الميلاد
تطرح قصة الميلاد في إنجيل متَّى أخطر المداخلات اليهودية في العهد الجديد، وهي التي رسخت فكرة الأصل اليهودي ليسوع، وتركت أثرًا لا يمحى على مجرى تاريخ المسيحية، وعلى تشكل اللاهوت المسيحي، فلقد ولد يسوع عند متَّى في مدينة بيت لحم اليهودية الواقعة قرب أورشليم من أسرة يهودية، ولكي يبرر مؤلف الإنجيل نشوء يسوع في الجليل وقضائه كل حياته هناك، فقد دبَّج قصة مذبحة مواليد بيت لحم، وفرار العائلة المقدسة بيسوع إلى مصر، ثم عودتها إلى فلسطين بعد وفاة الملك هيرود الكبير، واستقرارها في مدينة في الجليل تدعى الناصرة. أما قصة الميلاد عند لوقا، فعلى الرغم من اختلافها في معظم التفاصيل عن قصة متَّى، إلا أنها حافظت بدورها على بيت لحم اليهودية باعتبارها المكان الذي ولد فيه يسوع، ولكن لوقا يعترف بالأصل الجليلي لأسرة يسوع، ويجعل يوسف النجار وامرأته مريم الحبلى بيسوع يقصدان بيت لحم بمناسبة الإحصاء العام للسكان، الذي جرى بأمر الإمبراطور أوغسطوس عندما كان كيرينيوس واليًا على سورية، فقد كان يوسف من بيت داود وعشيرته، وعليه أن يكتتب وزوجته في بيت لحم مدينة داود، وهناك وضعت مريم مولودها، ثم عادت الأسرة إلى الجليل، إلى مدينتهم الناصرة.
وبما أننا نعرف الآن من سجلات التاريخ الروماني أن الإحصاء الذي يشير إليه لوقا قد تم في سنة ٦ ميلادية، فإن ميلاد يسوع عند لوقا يأتي متأخرًا عشر سنوات على الأقل عنه عند متَّى، الذي جعله في عهد هيرود الكيبر المُتوفَّى سنة ٤ق.م. فهل وقع لوقا في خطأ تاريخي، أم أنه قصد فعلًا تأخير ميلاد يسوع هذا العدد من السنوات؟ إن عدم ذكر لوقا لهيرود الكبير في قصة الميلاد، يرجح أن لوقا كان يعرف التاريخ الحقيقي للإحصاء، وأنه قد تعمد فعلًا وضع ميلاد يسوع في هذا التاريخ المتأخر.
ونحن إذا نحينا هذه المداخلة جانبًا، لما وجدنا فيما تبقى من سيرة يسوع أي رابط يربطه ببيت لحم ومقاطعة اليهودية، فهو مواطن جليلي، ولد وترعرع وعاش كل حياته في الجليل، وأبواه جليليان، وكذلك كل أنسبائه ومن تبعه من التلاميذ، وفي الجليل بشَّر برسالته، وكان له مقرٌّ دائم فيها يعود إليه من رحلاته التبشيرية، وهو لم يذهب إلى أورشليم إلا مرةً واحدة وفق الأناجيل الإزائية، أو ثلاث مرات وفق إنجيل يوحنا، حيث صلبه اليهود. إن نصوص العهد الجديد ملأى بالإشارات إلى جليلية يسوع، ولقبه «الناصري» يشير إلى أصله من ناصرة الجليل، التي يدعوها إنجيل مرقس وطن يسوع: «وانصرف من هناك وجاء إلى وطنه يتبعه تلاميذه» (مرقس ٦: ١–٦)، وعندما لم يلقَ من أهل الناصرة أُذنًا صاغية في أول الأمر قال يسوع: «لا يُزدرى نبي إلا في وطنه وذوي قرابته وبيته» (مرقس ٦: ٤). وعندما كان اليهود يتجادلون في أمر يسوع على ما نقرأ في إنجيل يوحنا، قال بعضهم: «هذا هو النبي حقًّا، وقال غيرهم هذا هو المسيح، وقال آخرون: أمن الجليل يأتي المسيح؟» (يوحنا ٧: ٤٠–٤٢).
وعندما انبرى نيقوديمس للدفاع عنه، وهو منهم، قال له اليهود: «أوَأنت أيضًا من الجليل؟ ابحث (في الكتب) تجد أنه لا يُبعث من الجليل نبي» (يوحنا ٧: ٥٠–٥٢)، وعندما دخل أورشليم في الزيارة التي أدت إلى صلبه، تعرفت عليه الجموع باعتباره النبي الآتي من الجليل: «ولما دخل أورشليم ضجت المدينة كلها وسألت: من هذا؟ فأجابت الجموع: هذا النبي يسوع من ناصرة الجليل» (متَّى ٢١: ١٠-١١)، وعندما تبع بطرس يسوع عقب القبض عليه وإدخاله دار رئيس الكهنة، تعرفت على بطرس جاريةٌ هناك وقالت: هذا الرجل كان مع يسوع الناصري، وعندما أنكر بطرس صلته بيسوع فضحته لهجته الجليلية، فقالوا له: «أنت أيضًا منهم لأنك جليلي» (متَّى ٢٦: ٦٩–٧٣)، والذين تبعوا يسوع إلى أورشليم وشهدوا صلبه كانوا جليليين: «وكان هناك كثير من النسوة ينظرن عن بعد، وهن اللواتي تبعن يسوع من الجليل ليخدمنه، فيهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متَّى ٢٧: ٥٥-٥٦)، وبعد القيامة قال للمرأتين اللتين تراءى لهما: «لا تخافا اذهبا وقولا لإخوتي (التلاميذ) يمضوا إلى الجليل، فهناك يرونني» (متَّى ٢٨: ٩-١٠)، «وأما التلاميذ الأحد عشر فذهبوا إلى الجليل إلى الجبل الذي جعله يسوع لهم موعدًا، فلما رأوه سجدوا له» (متَّى ٢٨: ١٦-١٧).
وقد عرف محررو كتاب التوراة بيت لحم الجليل، وأورد سفر يشوع ٩: ١٥ أنها كانت في نصيب سبط زبولون الذي حدد له يشوع أراضيه في منطقة الجليل، وقد دُعيت في الكتاب ببيت لحم أفراته نسبة إلى منطقة أفراته التي تقع فيها، والاسم أفراته يعني الأرض المخصبة المثمرة، وإليها تشير النبوءة الواردة في سفر ميخا، بخصوص المواطن الذي يظهر فيها المخلص: «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة على أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم» (ميخا ٥: ٢)، وقد اقتبس متَّى هذه النبوءة بعد تحريفها وتحويل «بيت لحم أفراته» إلى «بيت لحم يهوذا» فقال: «فقد أوحي إلى النبي فكتب: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغيرة في ولايات يهوذا، فمنك يخرج والٍ يرعى شعبي إسرائيل» (متَّى ١: ٥-٦).
(٢) نسب يسوع
بالإضافة إلى سلسلة نسب يسوع التي أوردها متَّى ولوقا كلٌّ على طريقته الخاصة، وأرجع بها نسب يسوع إلى الملك داود، ممَّا درسناه بالتفصيل في الفصل الأول، فإن الأناجيل الإزائية تتابع هذه الفكرة من خلال دعوة يسوع بابن داود، وباللقب الآخر المتصل به وهو لقب ملك اليهود، ولكننا إذا تابعنا المواضع التي ورد فيها هذان اللقبان، لوجدنا أن يسوع لم يستخدم أيًّا منهما في الإشارة إلى نفسه، وعندما قبل لقب «ملك» أثناء المحاكمة التي عقدها له بيلاطس الروماني، فقد قبله بمعنى محدد دقيق، يحول النظر عن أي مفهوم زمني للملك، يهوديًّا كان أم غير يهودي، فعندما سأله بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع: ليست مملكتي من هذا العالم، ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجال لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن مملكتي ليست من ها هنا» (يوحنا ١٨: ٣٤–٣٦)، وعندما حاولت الجموع، قبل ذلك، أن تنادي به ملكًا هرب منهم وتوارى عن الأنظار: «فلما رأى الناس الآية التي أتى بها يسوع، قالوا: حقًّا هذا هو النبي الآتي إلى العالم. وشعر يسوع أنهم يهمون باختطافه ليقيموه ملكًا، فابتعد عنهم وعاد وحده إلى الجبل» (يوحنا ٦: ١٤-١٥). وبالمقابل فإن لقب ابن داود أو ملك اليهود قد استُعمل من قبل الآخرين في الإشارة إلى يسوع، فقد ناداه شحاذ أعمى بينما هو خارج من أريحا: «رحماك يا ابن داود» (متَّى ٩: ٢٧). وعندما دخل أورشليم هتف له جمعٌ كبيرٌ من الناس: «حيوا ابن داود، تبارك الآتي باسم الرب» (متَّى ٢١: ٩)، «تبارك الآتي باسم الرب تباركت المملكة الآتية مملكة أبينا داود» (مرقس ١١: ١٠)، على أن يسوع قد حسم هذه المسألة بشكل قاطع، وفي ثلاث روايات متشابهة في الأناجيل الإزائية عندما قال: «كيف يقول الكتبة إن المسيح هو ابن داود؟ وداود نفسه قال بوحي من الروح: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك تحت قدميك؟ فداود نفسه يدعوه ربًّا، فكيف يكون ابنه؟» (متَّى ٢٢: ٤١)، و(مرقس ١٢: ٣٥–٢٧)، و(لوقا ٢٠: ٤١).
(٣) يسوع والشريعة
لدينا في إنجيل متَّى مقطعٌ شهير بقدر ما هو إشكالي، يضع على لسان يسوع قوله: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (الشريعة) أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل … الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ من الناموس حتى يكون الكل، فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا وعلم الناس أن يفعلوا مثله، عُدَّ صغيرًا في ملكوت السموات، وأما الذي يعمل بها ويُعلمها فذاك يُعدُّ كبيرًا في ملكوت السموات» (متَّى ٥: ١٧–١٩).
فهل كان يسوع نبيًّا يهوديًّا أخذ على عاتقه ترسيخ شريعة العهد القديم، أم كان صاحب رسالة جديدة تبطل الشريعة اليهودية الضيقة، وتؤسس لعهد جديد بين الله والبشرية، يتجاوز العهد القديم بين يهوه وشعبه الخاص؟ في الحقيقة، إن كل أقواع يسوع وأعماله، سواء في الأناجيل الإزائية أم في إنجيل يوحنا، تدل على تجاوزه لشريعة موسى، شريعة الحرف، وتأسيسه لشريعة الروح، قال يسوع في إنجيل يوحنا: «لم يعطكم موسى خبز السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق؛ لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم حياة … أنا خبز الحياة، آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا، هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت، أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء» (٦٣٧: ٥١)، وبذلك يستبدل يسوع شريعة موسى العتيقة التي وهبت الموت بشخصه الحي الذي يهب الحياة الأبدية، وهو لا يتجاوز موسى فقط، بل يتجاوز كل الآباء وصولًا إلى الأب الأول إبراهيم: «ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي، ورآه ففرح، قال له اليهود: أرأيت إبراهيم وما بلغت الخمسين بعد؟ فقال يسوع: الحق أقول لكم، كنت قبل أن يكون إبراهيم» (يوحنا ٨: ٥٦-٥٧)، وبهذا القول يتجاوز يسوع التاريخ اليهودي بأكمله، والذي يبتدئ بإبراهيم، ويجعل نفسه مؤسسًا لحركة روحية جديدة، وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متَّى: «إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة من الناموس»، نجده بعد ذلك يقول: «الأرض والسماء تزولان، وكلامي لا يزول» (متَّى ٢٤: ٣٥).
في مطلع حياة يسوع التبشيرية أعلن يسوع موقفه الواضح من شريعة العهد القديم، عندما مر وتلاميذه بين الزروع في يوم السبت، فأخذ التلاميذ يقطفون السنابل ويأكلون منها، فقال له الفريسيون: انظر، لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ فقال لهم: «… إن السبت جُعل للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت» (مرقس ٢: ٢٣–٢٨)، وبذلك أخل يسوع ببند من أهم بنود الشريعة كان منتهكه يستحق الموت، على ما ورد في سفر الخروج ٣١: ١٤: «وكلم الرب موسى قائلًا … فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم، من دنسه يُقتل قتلًا، إن كل من صنع عملًا فيه تُقطع تلك النفس من بين شعبها». ودخل يسوع أيضًا في يوم سبت أحد مجامعهم وكان فيه رجل يده مشلولة، وكان الفريسيون والكتبة يراقبونه ليروا هل يشفيه في السبت، فعلم أفكارهم فقال للرجل: قم فقف في حلقة المجمع، فقام ووقف فيها، قال يسوع لهم: أسألكم، أعمل الصالحات يحل في يوم السبت أم عمل السيئات؟ أتخليص نفس أم إهلاكها؟ ثم أجال طرفه فيهم جميعًا وقال له: امدد يدك، فمدها فعادت صحيحة (لوقا ٦: ٦–١١). وفي حادثة شفاء أخرى يوم السبت أخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه يعمل في يوم السبت، وسمح لمريضه أن يعمل عندما قال له: قم فاحمل فراشك وامشِ، فقال يسوع لليهود جملة تحمل كل معاني السخرية من مفهومهم عن الراحة المطلقة في يوم السبت: «إن أبي ما يزال يعمل وأنا أيضًا أعمل». أي إن الله لا يتوقف عن رعاية خلقه يوم السبت، ويسوع ينسج على منواله (يوحنا ٥: ١٦-١٧).
وقد ثار يسوع على مفاهيم الطهارة الشرعية التي تركز على طهارة الظاهر، وتنسى الطهارة الحقيقية التي هي طهارة الباطن، فقد اجتمع لديه بعض الفريسيين والكتبة الآتين من أورشليم، فرأوا بعض تلاميذه يأكلون قبل غسل أيديهم، فسأله الفريسيون والكتبة: لماذا لا يجري تلاميذك على سنة الشيوخ، بل يتناولون الطعام بأيدٍ نجسة؟ فقال لهم: … ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان، ألا تدركون أن ما يدخل الفم ينزل إلى الجوف ثم يخرج في الخلاء، وأما الذي يخرج من الفم فإنه ينبعث من القلب، وهو الذي ينجس الإنسان، فمن القلب تنبعث مقاصد السوء والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والنميمة، تلك هي التي تنجس الإنسان، أما الأكل بأيدٍ غير مغسولة فلا ينجس الإنسان (متَّى ١٥: ١–٢٠، ومرقس ٧: ١–٢٣)، وبهذا ينسف يسوع جميع بنود الشريعة التوراتية المتعلقة بالأطعمة الطاهرة والأطعمة غير الطاهرة، وما يحل أكله وما لا يحل، وعلى حد قول إنجيل مرقس، فإن يسوع في رده على الفريسيين قد ألغى شريعة الطعام: «وفي قوله ذلك، جعل الأطعمة كلها طاهرة» (مرقس ٧: ١٩).
وفي رواية لوقا للحادثة نفسها، نجد غضب يسوع وقد استعر على الفريسيين فخاطبهم قائلًا: «ألا أيها الفريسيون، تطهرون ظاهر الكوب والصحفة، وباطنكم ممتلئ نهبًا وفسقًا. أيها الجهال، أليس الذي صنع الظاهر قد صنع الباطن أيضًا؟ فتصدقوا بما لديكم يكن كل شيء طاهرًا … الويل لكم أيها الفريسيون، تحبون صدور المجالس في المجامع وتلقي التحيات في الساحات، الويل لكم، أنتم أشبه بالقبول المجهولة، يسير عليها الناس وهم لا يعلمون، فقال له أحد علماء الشريعة (الناموسيين): يا معلم بقولك هذا تشتمنا نحن أيضًا. فقال يسوع: الويل لكم أنتم أيضًا يا علماء الشريعة، تحملون الناس أحمالًا باهظة، وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم» (لوقا ١١: ٣٧–٤٦)؛ لذلك فقد أراح يسوع الناس من أحمال الشريعة التي لا يطيقها الإنسان، وقال لهم: «تعالوا إليَّ جميعًا أيها المرهقون والمثقلون فإني أريحكم، احملوا نيري وتتلمذوا لي، أنا الوديع المتواضع القلب، تجدوا الراحة في نفوسكم؛ لأن نيري لطيفٌ وحملي خفيف» (متَّى: ١١: ٢٨–٣٠)، اعتمادًا على قول يسوع هذا، تحدث بولس الرسول أكثر من مرة عن الحرية التي فتح بابها يسوع، «فاثبتوا إذًا في الحرية التي حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضًا بنير العبودية، ها أنا بولس أقول لكم إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا … لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة» (غلاطية ٥: ١–٦).
وقد شبه يسوع شريعة القلب والمحبة بالخمرة الجديدة التي لا تقبل الاحتواء في زُقاق قديمة (جمع زُق وهو وعاء جلدي لحفظ الخمر) هي قوالب شريعة الحرف. فقد سأله بعض الناس: «لماذا يصوم تلاميذ يوحنا (المعمدان) وتلاميذ الفريسيين، ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا، ولكن سيأتي زمن يرتفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون، ما من أحد يرقع ثوبًا قديمًا برقعة من نسيج جديد، مخافة أن تنتزع الرقعة الجديدة شيئًا من الثوب القديم، فيتسع الخرق، وما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زُقاق قديمة لئلا تشق الخمر الزُّقاق، فتتلف الخمر والزُّقاق معًا، ولكن للخمرة الجديدة زُقاق جديدة» (مرقس ٢: ١٨–٢٢).
وهو يلغي طقوس الذبائح والمحارق اليهودية التي كانت تقام بشكل رئيسي في هيكل أورشليم، فالرحمة عنده تحل محل الذبيحة: «قال الفريسيون لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخاطئين؟ فسمع يسوع كلامهم فقال: ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب، بل المرضى. فهل عرفتم معنى هذه الآية: إنما أريد الرحمة لا الذبيحة، ما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين» (متَّى ٩: ١١–١٣). وشريعة المحبة تتفوق عنده على شريعة الطقوس والذبائح، فقد سأله واحد من الفريسيين ليحرجه: يا معلم، ما هي أكبر وصية في الشريعة؟ فقال له: أحبب الله ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك، تلك هي الوصية الكبرى والأولى، والثانية مثلها، أحبب قريبك حبك لنفسك، بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة والأنبياء» (متَّى ٢٢: ٣٤–٤٠)، ويضيف مرقس في روايته لهذه الحادثة قول السائل: «لقد أصبت يا معلم إذ قلت إنه الله الأحد وليس من دونه آخر، وأن يحبه الإنسان بجميع قلبه وجميع ذهنه وقدرته، وأن يحب قريبه حبه لنفسه أفضل من كل محرقة وذبيحة، فلما رأى يسوع أنه أجاب بفطنة قال له: لست بعيدًا عن ملكوت الله» (مرقس ١٢: ٣٢–٣٣)، وفي قول شهير آخر يحل يسوع الأخلاق محل الشريعة جملة وتفصيلًا: «افعلوا للناس ما أردتم أن يفعله الناس لكم، هذه هي خلاصة الشريعة وكلام الأنبياء» (متَّى ٧: ١٢).
لقد تجاوز يسوع موسى والأنبياء وتخطى الشريعة والطقوس، ولم يعد للهيكل مبرر وجود، ففي جداله حول حرمة السبت مع الفريسيين قال لهم: «أوَما قرأتم في الشريعة أن الكهنة يستبيحون حرمة السبت في الهيكل ولا حرج عليهم؟ فأقول لكم: ها هنا أعظم من الهيكل (يشير إلى نفسه) ولو فهمتم معنى هذه الآية: إنما أريد الرحمة لا الذبيحة، لما حكمتم على من لا حرج عليه، فابن الإنسان (يعني نفسه) سيد السبت» (متَّى ١٢: ٥–٨)، «ولما خرج من الهيكل قال له أحد تلاميذه: يا معلم انظر يا لها من حجارة، ويا لها من أبنية! فقال له يسوع: أترى هذه الأبنية العظيمة؟ لن يبقى فيها حجر على حجر، بل يُنقض كله» (مرقس ١٣: ١-٢)، وفي موعظة الجبل الشهيرة في إنجيل متَّى يناقض يسوع شريعة موسى في عدد من أهم فقراتها، مستخدمًا صيغة: «سمعتم أنه قيل للأولين … كذا، أما أنا فأقول … كذا» وبذلك يضع يسوع سلطة أقواله فوق سلطة بنود الشريعة القديمة، قال يسوع: «سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتل فإن من يقتل يستوجب القضاء، أما أنا فأقول لكم من غضب على أخيه باطلًا يستوجب القضاء، ومن قال لأخيه يا أحمق استوجب حكم المجالس …» «سمعتم أنه قيل: لا تزنِ، أما أنا فأقول لكم: من نظر إلى امرأة فاشتهاها زنى بها قلبه …» «سمعتم أنه قيل للأولين: لا تخنث، بل أوفِ للرب إيمانك، أما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء فهي عرش الله، ولا بالأرض فهي موطئ قدميه …» «سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن، أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، من لطمك على خدك الأيمن فأدِرْ له الآخر …» «سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك، أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وادعوا لمضطهديكم، فتكونوا بني أبيكم الذي في السموات؛ لأنه يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل غيثه على الأبرار والفجار» (متَّى ٥: ٢١–٤٥).
فأي شيء، بعد هذا، بقي من شريعة العهد القديم، التي وضعت المداخلة اليهودية على لسان يسوع قوله فيها: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل؟
(٤) عالمية رسالة يسوع
في مداخلة يهودية أخرى لمتَّى يضع على لسان يسوع قوله إن رسالته محصورة ببني إسرائيل، ثم يصف الكنعانيين بالكلاب الذين لا يستحقون بركته الشافية، «ثم خرج يسوع من هناك وذهب إلى نواحي صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك البلاد تصيح: رحماك سيدي يا ابن داود، إن ابنتي يتخبطها الشيطان تخبطًا شديدًا، فلم يجبها بكلمة، فدنا منه تلاميذه يتوسلون إليه فقالوا: أجب طلبها واصرفها، فإنها تتبعنا بصياحها. فأجاب: لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، ولكنها وصلت إليه فسجدت له وقالت: أغثني سيدي. فأجابها: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى إلى جراء الكلاب. فقالت: رحماك يا سيدي، حتى الكلاب تأكل من الفتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها. فأجابها يسوع: ما أعظم إيمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين. فشفيت ابنتها من ساعتها» (متَّى ١٥: ٢١–٢٨). وفي مداخلة ثالثة لمتَّى، نجد يسوع يرسل تلاميذه للتبشير بين الخراف الضالة من بيت إسرائيل، ويحذرهم من الاقتراب من الوثنيين والسامريين: «ودعا تلاميذه الاثني عشر، فأولاهم سلطانًا يطردون به الأرواح النجسة ويشفون الناس من كل مرض وعلة … وقال لهم: لا تسلكوا طريقًا إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينةً للسامريين، بل اذهبوا نحو الخراف الضالة من بيت إسرائيل» (متَّى ١٠: ١–٦) (راجع أيضًا مرقس ٧: ٢٤–٣٠).
فإلى أي حد تتوافق هذه الأقوال والمواقف الشوفينية المنسوبة إلى يسوع مع بقية أقواله ومواقفه في الأناجيل الأربعة، والتي أعلن يسوع من خلالها عن عالمية رسالته وشمولها للإنسانية جمعاء؟
في الحقيقة، إن الأناجيل تمتلئ بالإشارات إلى الجموع الوثنية العديدة التي كانت تتبع يسوع وتستمع إلى رسالته، من ذلك ما ورد في إنجيل مرقس: «فانصرف يسوع إلى البحر يصحبه تلاميذه، وتبعه جمعٌ كبيرٌ من الجليل و… وعبر الأردن ونواحي صور وصيدا» (٣: ٧-٨)، أي إن من وصفهم يسوع بالكلاب من سكان صيدا وفق مداخلة متَّى، كانوا في عداد من تبعه، وكذلك سكان عبر الأردن، حيث توزعت معظم المدن العشر اليونانية الوثنية، فقد طلب يسوع من ممسوس شفاه أن يذهب إلى هذه المدن الوثنية ويبشِّر بين أهلها: «وبينما هو يركب السفينة سأله الذي كان ممسوسًا أن يصحبه، فلم يأذن له، بل قال له: اذهب إلى بيتك وحدث ذويك بما آتاك الرب من رحمته، فمضى وأخذ ينادي في المدن العشر بما آتاه يسوع» (٥: ١٧-١٨). وفي إنجيل لوقا نجد يسوع يشفي أناسًا كثيرين من ساحل صور وصيدا: «ثم نزل بهم فوقف في مكان منبسط، وهناك جماعة كبيرة من تلاميذه، وحشد كبير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، فقد جاءوا ليسمعوه ويبرءُوا من أمراضهم، وكان الجمع كله يحاول أن يلمسه، فقد كانت تخرج منه قوة تُبرئهم جميعًا» (لوقا ٦: ١٧–١٩).
وعندما جاء يسوع إلى أورشليم للمرة الأولى ودخل الهيكل أعلنه بيتًا لإله جميع الأمم لا لإله اليهود: «ثم وصلوا إلى أورشليم فدخل الهيكل وأخذ يطرد الذين يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام، وأخذ يعلمهم فيقول: ألم يكتب بيتي لجميع الأمم بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مرقس ١١: ١٥–١٧).
وفي مقابل توجيه يسوع لتلاميذه بألا يسلكوا طريقًا إلى الوثنيين، ولا يدخلوا بيتًا للسامريين، ممَّا ورد في مداخلة متَّى اليهودية، نجد أن متَّى نفسه قد أنهى إنجيله بما يناقض ذلك، عندما قال يسوع لتلاميذه وهو يودعهم: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر» (متَّى ٢٨: ١٩-٢٠)، وورد عند متَّى في موضع آخر: «الحق أقول لكم، حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضًا بما فعلته هذه المرأة تذكارًا لها» (متَّى ٢٦: ١٣). ويكرر مرقس القول نفسه في الإصحاح ١٤: ٩. وورد عند مرقس أيضًا: «وينبغي أن يكرز أولًا بالإنجيل في جميع الأمم» (مرقس ١٣: ١٠)، وورد عند متَّى: «هو ذا فتاي الذي اخترته حبيبي الذي عنه رضيت، سأفيض روحي عليه فيبشر الأمم بالحق … وعلى اسمه تتوكل الأمم» (متَّى ١٢: ١٨–٢١).
ويسوع نفسه قد مر بالسامرة وبشَّر فيها، مناقضًا بذلك ما نسب إليه متَّى، وقصة وقوفه عند بئر يعقوب قرب مدينة سامرية تدعى سيخارة، وحواره مع امرأة سامرية، هي من القصص المشهورة في العهد الجديد، وقد انتهت بإيمان المرأة وإيمان عدد كبير من السامريين: «فآمن به عدد كبير من سامريي تلك المدينة، بدافع من كلام المرأة … فلما جاءه السامريون سألوه أن يقيم بينهم، فأقام يومين، فآمن عند سماع كلامه عدد يفوق بكثرته عدد الأولين، وقالوا للمرأة: لا نؤمن تبعًا لكلامك؛ بل لأننا سمعناه نحن وعلمنا أنه مخلص العالم» (يوحنا ٤: ٣٩–٤٢).
وفي قصة السامري الصالح التي رواها يسوع في إنجيل لوقا خير رد على الشوفينية اليهودية، فقد سأله ناموسي عمَّن هو القريب الذي يتوجب على المرء أن يحبه من بعد حبه لله، قال له يسوع: «كان بعضهم نازلًا من أورشليم إلى أريحا، فوقع في أيدي اللصوص، فعروه ثم انهالوا عليه بالضرب ومضوا وقد تركوه بين حي وميت، فاتفق أن أحد الكهنة كان نازلًا فمر من ذلك الطريق، فرآه فمال عنه ومضى، وكذلك جاز لاوي (= من خدم الهيكل) في ذلك المكان، فرآه فمال عنه ومضى، ثم مر به سامري مسافر، فرآه فأشفق عليه، فمال إليه فضمد جراحه وصب عليه زيتًا وخمرًا، ثم حمله على مطيته وجاء به إلى فندق واعتنى بأمره … فمن كان في رأيك من هؤلاء الرجال الثلاثة قريب الذي وقع بأيدي اللصوص؟ فقال: الذي عامله بالرحمة، فقال له يسوع: اذهب فاعمل أنت أيضًا مثل ذلك» (لوقا ١٠: ٢٥–٣٧).
وفي أكثر من قول له، يصرح يسوع بأن ملكوت الله سيصير إلى غير اليهود من الوثنيين، بسبب عنادهم وقساوة قلوبهم وعزوفهم عن كلمة الله: «إن العشارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله» (متَّى ٢١: ٣١). «أهل نينوى سيقومون يوم الدين مع هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بإنذار النبي يونان، وها هنا أعظم من يونان (يشير إلى نفسه). ملكة الجنوب ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه؛ لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان» (متَّى ١٢: ٤١-٤٢).
وسيأتي الناس من جهات الأرض الأربع ليدخلوا في ملكوت الله أفواجًا، وأما اليهود فيجدون أنفسهم في الخارج مطرودين: «ترون في ملكوت الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء، وترون أنفسكم في الخارج مطرودين، وسوف يأتي الناس من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب، فيجلسون على المائدة في ملكوت الله، فيصير من الآخرين أولون، ومن الأولين آخرون» (لوقا ١٣: ٢٨–٣٠).
ويضرب يسوع مثلًا عن تفضيل الله للوثنيين الذين آمنوا، على اليهود الذين قست قلوبهم عن سماع كلمة الله، بروايته للقصة التالية: «فمثل ملكوت السموات كمثل رب بيت خرج والفجر ليستأجر عمالًا لكرمه، فاتفق مع العمال على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج نحو الساعة الثالثة فرأى عمالًا آخرين قيامًا في الساحة بطالين، فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضًا إلى كرمي فأعطيكم ما يحق لكم. وخرج أيضًا نحو الساعة السادسة، ثم نحو الساعة التاسعة، ثم نحو الساعة الحادية عشرة، ففعل مثل ذلك، ولما جاء المساء قال صاحب الكرم لوكيله: ادع العمال وادفع لهم الأجرة مبتدئًا بالآخرين سائرًا إلى الأولين، فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذ كلٌّ منهم دينارًا، ثم جاء الأولون فظنوا أنهم سيأخذون زيادة، فأخذوا هم أيضًا دينارًا لكلٍّ منهم، وكانوا يأخذونه متذمرين على رب البيت: هؤلاء الذين أتوا آخرًا لم يعملوا غير ساعة واحدة، فساويتهم بنا نحن الذين احتملنا عبء النهار وحره، فأجاب رب البيت واحدًا منهم وقال: يا صديقي ما ظلمتك، ألم أتفق معك على دينار؟ خذ مالك وانصرف، فهذا الذي أتى آخرًا أريد أن أعطيه مثلك، أفما يحق لي أن أتصرف في أموري كما أشاء؟ أم أنت تنظر إليَّ نظرة سوء لأني كريم؟ فهكذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين» (متَّى ٢٠: ١–١٦).
وفي الهيكل ضرب للأحبار والشيوخ والكتبة مثلًا مشابهًا: غرس رجل كرمًا فسيجه، وحفر فيه معصرة وبنى برجًا، وسلمه إلى كرَّامين وسافر، فلما حان وقت الثمر، أرسل عبدًا إلى الكرامين ليأخذ نصيبه من ثمر الكرم، فأمسكوه وضربوه، وأرجعوه فارغ اليدين، فأرسل عبدًا آخر وهذا أيضًا شجوا رأسه وشتموه، فأرسل آخر، وهذا قتلوه، ثم أرسل كثيرين غيرهم، فضربوا فريقًا وفريقًا قتلوا، وبقي عنده واحدٌ وهو ابنه الحبيب، فأرسله إليهم آخر الأمر، وقال: سيهابون ابني، فقال أولئك الكرامون بعضهم لبعض: هو ذا الوارث، هلم نقتله فيعود الميراث إلينا، فأمسكوه وقتلوه وألقوه في خارج الكرم، فماذا يفعل رب الكرم؟ قالوا له: يأتي ويهلك الكرامين ويجعل الكرم لآخرين يؤدون إليه الثمر في وقته، قال لهم يسوع: لذلك أقول لكم إن ملكوت الله سينزع عنكم ليُسلَّم إلى أمة تجعله يخرج ثمره» (متَّى ٢١: ٣٣–٤٣)، و(مرقس ١٢: ١–١٢).
وبعد أن شفى ابن قائد روماني، التفت إلى تلاميذه متعجبًا من إيمان ذلك الوثني، وقال لهم: «سوف يأتي أناس كثيرون من المشرق والمغرب، فيجالسون إبراهيم وإسحاق ويعقوب على المائدة في ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت (أي اليهود) فيلقون في الظلمة الخارجية، وهناك البكاء وصريف الأسنان» (متَّى ٨: ١١–١٣).
وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متَّى: «لم أُرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل»، فإن يسوع يقول صراحةً بأن اليهود ليسوا من خرافه: «إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي، ولكنكم لا تؤمنون لأنكم لستم من خرافي فخرافي تسمع صوتي، وأعرفها فتتبعني، وأنا أهب لها الحياة الأبدية فلا تهلك أبدًا» (يوحنا ١٠: ٢٥–٢٨).
وهو يتهم التاريخ النبوي الإسرائيلي كله بالزيف، عندما يقول بأن كل الذين جاءوا قبله كانوا لصوصًا سارقين: «من لم يدخل حظيرة الخراف من الباب، بل تسلق إليها من طريق آخر كان لصًّا سارقًا، ومن يدخل من الباب كان راعي الخراف، البواب يفتح له والخراف تصغي إلى صوته، تتبعه لأنها تعرف صوته، أما الغريب فلا تتبعه … أنا باب الخراف، جميع الذين جاءوا قبلي لصوصٌ سارقون، ولكن الخراف لم تصغِ إليهم» (يوحنا ١٠: ١–٨).
(٥) يسوع واليهود
تميزت علاقة يسوع باليهود بالعدائية والكراهية المتبادلة منذ بداية رسالته، فهو لم يترك نقيصة إلا ونسبها إليهم، وهم كانوا يتحينون الفرص لقتله والتخلص منه، ففي أول تبشير علني له بعد أن خرج من ماء العماد وهبط عليه روح الرب، قام اليهود بأول محاولة لقتله: «فلما سمع أهل المجمع هذا الكلام ثار ثائرهم جميعًا، فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة، وساقوه إلى حرف الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليلقوه عنه، ولكنه مر بينهم ومضى» (لوقا ٤: ٢٨–٣٠). وبعد ذلك تكررت محاولاتهم ولكن دون جدوى: «فأخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه يفعل ذلك يوم السبت، فقال لهم يسوع: إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضًا أعمل، فاشتد سعي اليهود لقتله» (يوحنا ٥: ١٦–١٨)، «وأخذ يسوع يسير بعد ذلك في الجليل، ولم يشأ أن يسير في اليهودية؛ لأن اليهود كانوا يريدون قتله» (يوحنا ٧: ١)، «فأتى اليهود بحجارة ليرجموه فقال لهم يسوع: أريتكم عدة أعمال صالحات من لدن الآب، فلأي عمل منها ترجمونني» (يوحنا ١٠: ٣١-٣٢)، وبعد إحيائه لِعازر عقد الفريسيون والأحبار مجلسًا، وعزموا منذ ذلك اليوم على قتله، فصار لا يظهر بين اليهود، واعتزل في الناحية المتاخمة للبرية في مدينة تدعى أفرام، فأقام فيها مع تلاميذه (يوحنا ١١: ٤٦–٥٤).
وفي المقابل كان يسوع يمطرهم بكلماته القاسية المباشرة، فقد قال للفريسيين وهم النخبة المتعلمة من اليهود: «يا أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تقولوا كلامًا طيبًا وأنتم خبثاء؟ فمن فيض القلب ينطلق اللسان» (متَّى ١٢: ٣٤)، وفي موضع آخر وصفهم بأنهم عميان يقودون عميانًا، أي بقية اليهود: «فدنا منه تلاميذه وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين استاءوا عندما سمعوا هذا الكلام؟ فأجابهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع، دعوهم وشأنهم إنهم عميان يقودون عميانًا» (متَّى ١٥: ١٢-١٣)، وفي تعبيرٍ مليء بالتورية ذات المغزى قال لتلاميذه عندما نسوا أن يتزودوا بالخبز: «احذروا خمير الفريسيين والصدوقيين» (متَّى ١٦: ٥-٦).
وكان يسوع يخاطب اليهود من موقع مفارق وكأنه ليس واحدًا منهم فيقول لهم: بماذا أوصاكم موسى؟ ولا يقول بماذا أوصانا موسى؟ و: ألم يُكتب في شريعتكم؟ وليس: ألم يكتب في شريعتنا: «فأجابهم يسوع: ألم يكتب في شريعتكم … إلخ» (يوحنا ١٠: ٣٤)، وأيضًا: «وما كان هذا إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم، وهي: أبغضوني بلا سبب» (يوحنا ١٥: ٢٥)، وأيضًا: «وكُتب في شريعتكم: شهادة شاهدين صحيحة، أنا أشهد لنفسي وأبي الذي أرسلني يشهد لي» (يوحنا ٨: ١٧-١٨)، «ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي» (يوحنا ٨: ٥٦)، «فأجابهم: بماذا أوصاكم موسى … من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية» (مرقس ١٠: ٣–٥)، «ألم يعطكم موسى الشريعة، وما من أحد منكم يعمل بأحكام الشريعة؟» (يوحنا ٧: ١٩)، إن الرأي القائل بأن يسوع لم يكن يهوديًّا، ليجد سندًا قويًّا له في هذه الصيغة التي توجه بها يسوع إلى اليهود.
واليهود هم قتلة الأنبياء والمرسلين، وعليهم يقع كل دم زكي سُفك على الأرض: «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءُون: تبنون قبور الأنبياء وتزينون ضرائح الصديقين، وتقولون: لو عشنا زمن آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء، فأنتم تشهدون على أنفسكم بأنكم قتلة الأنبياء، فاملئُوا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تهربوا من عقاب جهنم؟ ها أنا ذا (يقول الرب) أُرسل إليكم من أجل ذلك أنبياء وحكماء وكتبة، ففريقًا تقتلون وتصلبون، وفريقًا في مجامعكم تجلدون، ومن مدينة إلى مدينة تطاردون، حتى يقع عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح، الحق أقول لكم: هذا كله سيقع على هذا الجبل، أورشليم، أورشليم، يا قاتلة الأنبياء والمرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أبناءك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا، إن بيتكم سيترك لكم خرابًا، أقول لكم: لا ترونني بعد اليوم حتى تقولوا: تبارك الآتي باسم الرب» (٢٣: ٢٩–٣٩).
وقد تنبأ يسوع بأنه سوف يُسلم إلى اليهود أبناء قتلة الأنبياء فيحكمون عليه بالموت ويتركون التنفيذ للرومان: «وأوشك يسوع أن يصعد إلى أورشليم، فانفرد بالاثني عشر، وقال لهم: إنا صاعدون إلى أورشليم، وسيُسلم ابن الإنسان إلى الأحبار والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الوثنيين ليسخروا منه ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم» (متَّى ٢٠: ١٧–١٩)، وقد أثبت اليهود بعد ذلك صدق ما قاله فيهم يسوع فهم ورثة قتلة الأنبياء، فعندما حاول الوالي الروماني عبثًا إقناع اليهود ببراءة يسوع، غسل يديه أمام الجميع وقال: «إني بريء من دم هذا البار، أنتم وشأنكم فيه، فأجاب الشعب بأجمعه: دمه علينا وعلى أولادنا» (متَّى ٢٧: ٢٤–٢٩)، وعندما رُفع يسوع على الصليب راح اليهود يشتمونه وأحبارهم يهزءُون منه: «وكان المارة يشتمونه ويهزون رءوسهم ويقولون: يا أيها الذي ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام، إن كنت ابن الله فخلص نفسك وانزل عن الصليب، وكان الأحبار يسخرون مثلهم، فيقولون مع الكتبة والشيوخ: خلص غيره ولا يقدر أن يخلص نفسه» (متَّى ٢٧: ٣٩–٤٢).
وقد لخص يسوع موقفه من اليهود في جملة واحدة، عندما قال للمرأة السامرية إن الخلاص لا يتم إلا بالتخلص من اليهود: «يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما فنحن فنسجد لما نعلم؛ لأن الخلاص هو من اليهود، ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يوحنا ٤: ٢١–٢٣).
وهم لا يعرفون إله يسوع، بل يعبدون إلهًا آخر، قال يسوع لليهود: «أنتم لا تعرفونني ولا تعرفون أبي» (يوحنا ٨: ١٩)، «على أني ما جئت من نفسي، بل هو حق الذي أرسلني أنتم لا تعرفونه، وأما أنا فأعرفه؛ لأني من لدنه أتيت وهو الذي أرسلني» (يوحنا ٧: ٢٨-٢٩)، «أنتم من الدرك الأسفل، وأنا من الملأ الأعلى، أنتم من العالم، وأنا لست من العالم» (يوحنا ٨: ٢٣)، واليهود أبناء إبليس وإليه يتعبدون: «أنتم تعملون أعمال أبيكم … لو كان الله أباكم لأحببتموني؛ لأني من الله خرجت وأتيت، إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم، كان منذ البدء مهلكًا للناس لم يثبت على حق … من كان من الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لست من الله» (يوحنا ٨: ٤١–٤٧)، واليهود في عبادتهم لإلههم يهوه يكرهون الله الحق: «وهم مع ذلك يبغضونني ويبغضون أبي، وما ذلك إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم: أبغضوني بلا سبب» (يوحنا ١٥: ٢٤-٢٥).
فأي شيء بعد هذا يبقى من الأقوال المنسوبة إلى يسوع بأنه لم يُرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، وأنه ما جاء لينقض وإنما ليكمل؟
(٦) بولس الرسول
بولس الرسول هو أشهر شخصية في أسفار العهد الجديد بعد يسوع، فمعظم مادة سفر أعمال الرسل يتحدث عن نشاطه التبشيري، كما أن رسائله الأربع عشرة كانت متداولة بين المسيحيين، كتابةً، قبل تدوين الأناجيل الأربعة، وُلد نحو عام ١٠م في مدينة طرسوس بمنطقة كيليكيا بجنوب آسيا الصغرى، من أسرة يهودية تحمل المواطنية الرومانية، وبعد مسيرة تبشيرية حافلة تنقل خلالها بين دمشق وأنطاكية وآسيا الصغرى واليونان وروما، استشهد نحو عام ٦٧م خلال حملة الاضطهاد الشاملة ضد المسيحيين، التي جرت خلال عهد الإمبراطور نيرون، لم يرَ يسوع شخصيًّا، ولكنه واجهه في رؤيا عقلية عرضت له على طريق دمشق، حوَّلته إلى المسيحية وإلى أهم مبشر بيسوع. قصر نشاطه على التبشير بين الوثنيين، وهو المسئول عن تشكيل «كنيسة الأمم» التي ورثتها كنيسة روما كقائدة للحركة المسيحية القويمة والمسكونية، كان اليهودي الوحيد بين بقية الرسل الجليليين، ومع ذلك فقد كان أكثرهم فهمًا لتعاليم يسوع ومراميها الكونية، وعلى رسائله الأربع عشرة قامت المسيحية التي نعرفها اليوم، فماذا قال بولس في اليهود والشريعة وعالمية رسالة يسوع، وما هي مواقفه من العهد القديم وصلته بالعهد الجديد؟
في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة يحدث بوليس قطيعة تامة غير قابلة للوصل بين العهد القديم والعهد الجديد: «إذا كان أحد في المسيح، فإنه خلق جديد قد زال كل شيء قديم، وها هو ذا كل شيء جديد» (٢ كورنثة ٥: ١٧)، والعهد الجديد هو عهد الروح لا عهد الحرف (أي الشريعة): «تلك ثقتنا بالمسيح لدى الله … فهو الذي مكننا من خدمة العهد الجديد، عهد الروح لا عهد الحرف؛ لأن الحرف يميت والروح يحيي» (١ كورنثة ٢: ٤–٦)، وموت يسوع على الصليب قد حرر من آمن به من أهل الشريعة: «نحن نعلم أن الإنسان لا يُبر لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأن له الإيمان بيسوع المسيح … بالشريعة مت عن الشريعة لأحيا في الله … وإذا كانت لي حياة بشرية، فإنها في الإيمان بابن الله الذي أحبني وضحى بنفسه من أجلي … ولو كان بالشريعة بر الإنسان، لكان موت المسيح عبثًا» (الرسالة إلى أهل غلاطية ٢: ١٦–٢١).
وشريعة الروح الجديدة قد حررت من شريعة الحرف القديمة: «فليس بعد الآن من هلاك للذين هم في يسوع المسيح؛ لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حررتني من شريعة الموت والخطيئة، فالذي تستطيعه الشريعة، والجسد قد أوهنها، حققه الله بإرسال ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطئ كفارة للخطيئة، فحكم على الخطيئة بالجسد ليتم ما تقتضيه منا الشريعة، نحن الذين لا يسلكون سبيل الجسد بل سبيل الروح» (الرسالة إلى أهالي روما ٨: ١-٢)، وأيضًا: «لم تتلقوا روحًا يستعبدكم ويردكم إلى الخوف، بل روحًا يجعلكم أبناء، وبه ننادي أبتاه … فإذا كنا أبناء الله فنحن الورثة، ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث» (الرسالة إلى أهالي روما ٨: ١٥–١٧).
«أما الآن وقد متنا عما كان يعتقلنا فقد حُللنا من الشريعة، وأصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم» (الرسالة إلى أهالي روما ٧: ٦-٧)، والمسيحيون الذين يصرون على المحافظة على أحكام شريعة العهد القديم، قد انقطعوا في الواقع عن المسيح ورفضوا الحرية التي قدمها لهم: «إن المسيح قد حررنا لنكون أحرارًا فاثتبوا إذًا ولا تعودوا إلى نير العبودية، فها أنا ذا بولس أقول لكم: إذا اختتنتم فلن يفيدكم المسيح شيئًا وأشهد مرة أخرى لكل مختتن بأنه ملزم أن يعمل بالشريعة جمعاء، لقد انقطعتم عن المسيح يا أيها الذين يلتمسون البر من الشريعة» (الرسالة إلى أهالي غلاطية ٥: ١–٤).
وسيرًا على سنة يسوع فقد حلل بولس كل الأطعمة، فلا يوجد بعد اليوم ما هو محرم على الأكل وما هو محلل: «وأما الأكل من ذبائح الأوثان، فنحن نعلم أن الوثن ليس بشيء في العالم، وأن لا إله إلا الله الأحد … ولكن المعرفة ليست لجميع الناس، فبعضهم جرت لهم العادة في الأوثان أن يأكلوا الذبائح كأنها حقًّا ذبائح للأوثان، فيتدنس ضميرهم لضعفه، ما من طعام يقربنا إلى الله، فإن لم نأكل لا نخسر شيئًا، وإن أكلنا لا نربح شيئًا» (الرسالة الأولى إلى أهالي كورنثة ٨: ١–٨)، وأيضًا: «كل شيء حلال، ولكن ليس كل شيء بنافع … كلوا من اللحم كل ما يباع في الأسواق، ولا تسألوا عن شيء تورعًا؛ لأن الأرض وما عليها للرب» (١ كورنثة ١٠: ٢٣–٢٥)، وأيضًا: «فكل ما خلق الله حسن، فما من طعام نجس إذا تناوله الإنسان وهو حامد؛ لأن كلام الله والصلاة يقدسانه» (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس ٤: ٣-٤).
وقد تحدث بولس عن اليهود بسخرية وتهكم واستخدم في وصفهم تعابير مقذعة: «هنالك جماعات كثيرة وقد كلمتكم عليها مرارًا وسأكلمكم عنها اليوم باكيًا، تسير سيرة أعداء الصليب، عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم (إشارة إلى تحريمات الشريعة بخصوص الأطعمة)، ومجدهم عورتهم (إشارة تهكمية إلى الختان)، همهم أمور الأرض، أما نحن فموطننا في السموات ومنها ننتظر مجيء المخلص يسوع المسيح، الذي يبدل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد» (الرسالة إلى أهالي فيليبي ٣: ١٨–٢١)، وأيضًا: «احذروا الكلاب (يعني اليهود الذين أرادوا فرض عاداتهم على المسيحيين)، احذروا عمال السوء، احذروا ذوي الجب (أهل الختان)، فإنما نحن ذوو الختان لأن عبادتنا بروح الله، وفخرنا فخر بالمسيح يسوع» (الرسالة إلى أهالي فيليبي ٣: ١–٣)، وهو يسخر من كل نواهي الشريعة اليهودية التي لا تني عن تكرار أوامر مثل: لا تأخذ، لا تمس، لا تذق … إلخ: «فأما وقد متم مع المسيح متخلين عن أركان العالم، فما بالكم لو كنتم عائشين في العالم تخضعون لمثل هذه النواهي، لا تأخذن، لا تذق، لا تمس، وتلك الأشياء كلها تئول بالاستعمال إلى الزوال» (الرسالة إلى أهالي كولوسي ٢: ٢٠-٢١).
وبولس يعكس معنى قصة زوجة إبراهيم الحرة سارة، وزوجته الأخرى هاجر الجارية، فاليهود هم العبيد أولاد الجارية، أما المسيحيون فهم الأحرار الذين ولدوا روحيًّا من الحرة: «هاتين المرأتين تمثلان العهدين، إحداهما هاجر، طور سيناء تلد للعبودية، وتعني أورشليم هذا الدهر، فإنما هي وبنوها في العبودية، أما أورشليم العليا (السماوية) فحرة وهي أمنا» (الرسالة إلى أهالي غلاطية ٤: ٢٤–٢٦).
والشريعة اليهودية بما تفرضه من أحمال تفوق طاقة أحد عليها إنما تقود في النهاية إلى المعصية: «فما الشريعة إلا سبيل إلى معرفة الخطيئة، أما الآن فقد ظهر بر الله بمعزل عن الشريعة، تشهد له الشريعة والأنبياء، هو بر الله، وطريقه الإيمان بيسوع المسيح» (الرسالة إلى أهالي روما ٣: ٢٠–٢٣). وأيضًا: «فالوعد الذي تلقاه إبراهيم بأن يرث العالم لا يعود إلى الشريعة، بل إلى بر الإيمان، فلو كان الورثة أهل الشريعة لأبطل الإيمان ونقض العهد؛ لأن الشريعة تورث الغضب، وحيث لا تكون شريعة لا تكون معصية» (الرسالة إلى أهالي روما ٤: ١٣-١٤)، كما أن الشريعة تورث اللعنة، وذلك لتقصير أهل الشريعة عن الوفاء بمتطلباتها: «إن دعاة العمل بأحكام الشريعة لُعنوا جميعًا، فقد ورد في الكتاب: ملعون مَن لم يثابر على العمل بجميع ما كُتب في سفر الشريعة … فالمسيح قد افتدانا من لعنة الشريعة» (الرسالة إلى أهالي غلاطية ٣: ١٠–١٣).
لقد أخضع إله العهد القديم الخليقة للباطل كرهًا عنها، ولكنها لم تقطع الرجاء في انتظار انتسابها لله، الأب السماوي، الذي كشف لنا يسوع عن ملء رحمته: «وأرى أن آلام هذه الدنيا لا تساوي المجد الذي سيتجلى فينا، فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر تجلي أبناء الله، فقد أُخضعت للباطل بسلطان الذي أخضعها (أي الديميرج إله العهد القديم)، لا طوعًا منها، ومع ذلك لم تقطع الرجاء» (الرسالة إلى أهالي روما ٨: ١٩–٢١). لقد أغلق كتاب العهد القديم كل بوابات الرجاء، حتى ظهور المسيح: «لو أُعطيت شريعة بوسعها أن تحيي لصح أن البر يُحصل عليه بالشريعة، ولكن الكتاب أغلق على كل شيء وجعله في حكم الخطيئة، ليوهب الوعد للمؤمنين لإيمانهم بيسوع المسيح» (الرسالة إلى أهالي غلاطية ٣: ٢١-٢٢).
واليهود الذين تحولوا إلى المسيحية وبولس واحد منهم، كانوا أشبه بالقاصرين الواقعين تحت وصاية أركان هذا العالم، ولكن يسوع افتداهم وأدخلهم سن الرشد، وهنا يستخدم بولس تعبير «أركان» أو «أراكنة» باللغة اليونانية، وتعني «حكام»، وبالمفهوم الغنوصي هم حكام العالم المادي الذي يأتمرون بأمر كبير الأراكنة إله العهد القديم، وقد دعاهم بولس أيضًا بالآلهة المزيفة: «حين كنا قاصرين كنا عبيدًا لأركان العالم، فلما تم الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة، مولودًا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني، والدليل على كونكم أبناء الله، أن الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي يا أبتاه، فلست بعد الآن عبدًا بل أنت ابن، وإذا كنت ابنًا فأنت وارث بفضل الله، لما كنتم تجهلون الله، كنتم عبيدًا لآلهة ليست بآلهة حقًّا، أما الآن وقد عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى تلك الأركان الضعيفة الحقيرة، وتريدون أن تكونوا عبيدًا لها كما كنتم قبلًا، تراعون الأيام والشهور والفصول والسنين (إشارة إلى السبت وأعياد اليهود الدينية)؟ إني أخشى أن أكون قد تعبت عبثًا من أجلكم» (الرسالة إلى أهالي غلاطية ٤: ٣–١١).
خلاصة
فيما سبق من هذا الفصل جعلنا نصوص العهد الجديد نفسها ترد على المداخلات المقحمة عليه، والغريبة عن سياقه العام، فيسوع قد جاء لينقض لا ليكمل، ورسالته جديدة كل الجدة عن رسالة العهد القديم، ولا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال حركة إصلاحية يهودية، ميَّزت نفسها تدريجيًّا حتى شبت على الطوق واستقلت، لقد كانت منذ البدء حركة مستقلة كما أراد لها يسوع عندما قال: «جئت لألقي على الأرض نارًا، وكم أرجو أن تكون قد اشتعلت … أوَتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم لا، بل الخلاف» (لوقا ١٢: ٤٩–٥١)، لقد أحدث يسوع شرخًا في المجتمع اليهودي والمجتمع الوثني على السواء، انطلاقًا من قناعته بأن الجديد لا يرسخ قبل تهديمٍ كامل للقديم: «فمنذ اليوم يكون في بيت واحد خمسة، فيخالف ثلاثة منهم اثنين، واثنان ثلاثة، يخالف الأب ابنه والابن أباه، والأم بنتها والبنت أمها، والحماة كنتها والكنة حماتها» (لوقا ١٢: ٥٢-٥٣)، ولقد تخللت رسالة يسوع منذ البدء المجتمع كعاصفة تقتلع القديم لتزرع الجديد، ومنذ البدء ميَّز أتباعه أنفسهم عن محيطهم الثقافي، مشكلين النواة الأولى لواحدة من أهم الحركات الروحية في تاريخ الإنسانية، استطاعت بعد بضعة قرون أن تكسب نصف أرجاء المعمورة، ومع ذلك فقد أفلحت اليهودية في زرع شوكة في خاصرة المسيحية مع انطلاقتها الكبيرة، عندما تم في أواخر القرن الرابع الميلادي الجمع بين كتاب العهد القديم وأسفار العهد الجديد في كتاب المسيحيين المقدس.
عند هذه المرحلة من بحثنا، تبينت لنا ملامح الوجه الآخر للمسيح، والوجه الحقيقي لرسالته التي ترفض اليهودية والوثنية التقليدية، وتتجاوزهما نحو أرحب الآفاق الإنسانية، ولكن الأرض التي ألقى عليها يسوع نارًا لم تحترق تمامًا إلا مع الغنوصية المسيحية، التي أكملت نصوصها صورة الوجه الآخر للمسيح، وسوف نخصص الفصل القادم لتوسيع ما كنا قد قدمناه في الفصل الثاني بخصوص الغنوصية ونشأة المسيحية.