استطراد حول الغنوصية
في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام ١٩٤٥م كان فلاحان مصريان يحفران في الأرض، حول صخرة كبيرة تقع عند جبل صخري يدعى جبل الطارف، قرب بلدة نجع حمادي بصعيد مصر، عندما اصطدم معول محمد علي السمان بعقبة صلبة أزاح من حولها التراب، فظهرت له جرة فخارية كبيرة مختومةُ الفوهة تقادم عليها الزمن، وعندما هم بفتحها تداعت في مخيلته قصص العفاريت القديمة المحبوسة في مثل هذه الأوعية المريبة، فتردد وأحجم، ولكن قصصًا أخرى عن كنوز ظهرت من تحت التراب في منطقة وادي الملوك القريبة، جعلت طمعه في الذهب يغلب خوفه من العفاريت، ففتح الجرة ليجد فيها ثلاثة عشر مجلدًا من ورق البردي، تناثرت بعض صفحاتها السائبة في الهواء ومعها أحلامها في الثراء السريع، ولكنه بحسه الفطري أدرك أن مثل هذه الأشياء القديمة المدفونة في التراب غالبًا ما يكون لها ثمن ما، فحملها على جمله وعاد إلى بيته في الأقصر.
كان محمد علي ملاحقًا بتهمة ارتكابه لجريمة ثأر، ولخوفه من اقتحام رجال الأمن بيته والعثور على الكنز، قام بتوزيع محتوياته على عدة أمكنة، واستودع بعضها لدى رجل دين مسيحي هو القمص باسيليوس عبد المسيح، ليحفظها أمانةً عنده، وبينما كان محمد علي وأخوه محتجزين رهن التحقيق في جريمة الثأر، زار أستاذ تاريخ يعمل في مدرسة محلية القمص باسيليوس، ورأى عنده واحدًا من المجلدات، فشك في أهميته الأثرية، وأقنع القمص بإعارته إياه وأرسله إلى صديق له في القاهرة للتأكد من قيمته، وهنا ابتدأت عملية بيع المجلدات في سوق الآثار السوداء في مصر وتهريب بعضها إلى الخارج، ولكن الإشاعات عن تداول مخطوطات قديمة في السوق ما لبثت أن وصلت أسماع السلطات المصرية التي بادرت إلى البحث عنها ومطاردة المتعاملين فيها، حتى استطاعت أخيرًا مصادرة أو شراء معظمها، وإيداعها في المتحف القبطي بالقاهرة، ولم يبقَ منها سوى المجلد الثالث عشر الذي تم تهريبه إلى الولايات المتحدة وجرى تداوله هناك.
لم يكن إنجيل توما سوى واحد من اثنين وخمسين نصًّا احتوت عليها مجلدات نجع حمادي الثلاثة عشر، وكان إلى جانبه في المجلد نفسه إنجيل فيليب الذي يعزو إلى يسوع أقوالًا وأعمالًا غير معروفة في الأناجيل الرسمية، على ما نراه في المقطع التالي: «وكانت مريم المجدلية برفقة المخلص دومًا، ولكنه كان يحبها أكثر من بقية التلاميذ، وغالبًا ما اعتاد تقبيلها، وهذا ما أثار حفيظة التلاميذ فقالوا له: لماذا تحبها أكثر منَّا؟ فأجابهم: لماذا لا أحبكم مثلما أحبها؟» كما احتوى المجلد على خمسة نصوص أخرى، بعضها يبحث في مفاهيم التكوين الغنوصية مثل «كتاب يوحنا السري» و«طبيعة الأراكنة»، وبعضها يبحث في أصل الروح الإنسانية وغربتها في العالم المادي، ومصيرها، مثل نص «تفسيرات بخصوص الروح».
وهكذا فقد تبين لكويسبل وغيره من أوائل الباحثين الذين سُمح لهم بالاطلاع على وثائق نجع حمادي، أن الكنز الذي اكتشفه الفلاح الصعيدي محمد علي السمان، كان عبارة عن مكتبة احتوت على ترجمات قبطية جرى إعدادها قبل ما ينوف عن ألف وخمسمائة سنة، عن نصوص يونانية أقدم منها تعود إلى مطلع العصور المسيحية، تشتمل على أناجيل وأدبيات غنوصية أخرى، فإلى جانب إنجيل توما وإنجيل فيليب، هنالك إنجيل الحقيقة، وإنجيل المصريين، وهنالك نماذج من الأدب الرؤيوي مثل رؤيا بولس، ورؤيا بطرس، ورؤيا آدم، ورؤيا يعقوب، وهنالك نبذات عن أعمال الرسل، مثل أعمال بطرس وأعمال بطرس والرسل الاثني عشر، وهنالك أساطير في التكوين مثل كتاب يوحنا السري، وطبيعة الأراكنة، وحول أصل العالم، وهنالك رسائل ومقالات في مسائل دينية شتى، وباختصار، فإننا أمام «عهد جديد» موسع لم نكن نعرف عنه إلا القليل.
أما بخصوص تاريخ هذه الوثائق القبطية، فهنالك اتفاق بين الباحثين على أنها تعود إلى الفترة ما بين ٣٥٠ و٤٠٠ ميلادية، ولكن الخلاف نشأ بينهم بخصوص تاريخ كتابة النصوص اليونانية الأصلية، علمًا أن الغالبية منهم ترى أن معظمها قد دوِّن خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وهي الفترة التي شهدت ميلاد الطوائف الغنوصية الرئيسية، ونشاط المعلمين الغنوصيين الكبار، وفيما يتعلق بإنجيل توما بشكل خاص، فإن كويسبل والذين عملوا معه على تحقيق وترجمة ونشر أول نص كامل له، يرون أنه دوِّن باليونانية نحو عام ١٤٠ ميلادية، ولكن هنالك من الباحثين من يرى أن النص الذي تم جمعه في ذلك التاريخ هو تحرير لعمل أقدم منه، ربما يرجع إلى فترة تدوين الأناجيل الأربعة، أي إلى الفترة ما بين ٥٠ و١١٠م.
أما لماذا دفنت هذه النصوص في الصحراء وتُركت هناك هذه المدة الطويلة، فإن تاريخ الحركة المسيحية وما تميزت به بداياتها من صراع بين الفرق والطوائف المختلفة، هو الذي يجيب على هذا السؤال، ففي الفترة المبكرة من نشوء المسيحية، كانت نصوص نجع حمادي وغيرها من النصوص التي اعتبرت بعد ذلك غير رسمية، متداولة بحرية وعلى نطاق واسع بين المسيحيين، ولكن منذ أواسط القرن الثاني الميلادي ابتدأت كنيسة روما، التي شعرت بقوتها وسطوتها، حملة واسعة النطاق ضد الطوائف المسيحية الغنوصية، واعتبرتها هرطقات يجب مكافحتها بكل الوسائل، وتفرغ عدد من آباء الكنيسة الأوائل لدحض الفكر الغنوصي وإظهار زيفه وبطلانه.
فهناك الآن كنيسة واحدة فقط قويمة الإيمان (أرثوذكسية)، وهي في الوقت نفسه عالمية مسكونية (كاثوليكية)، أما ما تبقى من الشيع والفرق والاتجاهات الفكرية داخل المسيحية، فانحرافات عن الإيمان الصحيح ينبغي تقويمها وإعادة خرافها الضالة إلى الحظيرة الكاثوليكية، وعندما تحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية في مطلع القرن الرابع الميلادي، وصارت المسيحية القويمة دينًا للدولة، تحول رجال الكنيسة من ضحايا لاضطهاد السلطات الرسمية إلى مشرفين ومحرضين على اضطهاد خصومهم، فجرى منع تداول كل الأدبيات المسيحية غير الرسمية، وصار اقتناء الكتب الغنوصية جريمة يعاقب عليها القانون، وشنت السلطات الكنسية حملات تفتيش واسعة على هذه الكتب وأحرقتها، ولكن راهبًا غنوصيًّا مقيمًا في دير القديس باخوميوس القريب من منطقة الاكتشاف، قد أنقذ ما يمكن إنقاذه من المخطوطات الغنوصية، فخبأها في جرة ودفنها عند جبل الطارف.
ومن ناحية ثانية فإن النصوص الغنوصية تتحدث عن «الوهم» و«الاستنارة» لا عن «الخطيئة» و«التوبة» كما هو حال النصوص الرسمية، ويسوع قد جاء إلى العالم كمعلم عرفان وكمرشد على طريق الاستنارة، ولم يأتِ ليفتدي العالم من الخطيئة الأصلية.
ومن ناحية ثالثة، يؤمن القويمون بأن يسوع هو رب، وابن لله بطريقة فريدة لن تتكرر؛ ولذا فإنه يبقى متميزًا عن بقية البشر، أما الغنوصيون فيعتقدون بأن كل عارف قادر على التحول إلى «مسيح»، بعد أن يقطع شوطًا على طريق العرفان، فقد قال يسوع لتوما عندما ناداه يا معلم: «لست معلمك؛ لأنك شربت وسكرت من النبع الفوار الذي سكبته» (الفقرة ١٣)، وهكذا يبدو لنا مسيح الغنوصية أقرب إلى بوذا الديانات الشرق أقصوية منه إلى يسوع الناصري، الذي صلب ليحقق الرابطة المفقودة بين الله والناس.
(١) مصادر معلوماتنا عن الغنوصية
حتى وقت متأخر من العصور الحديثة كانت مصادر معلوماتنا عن الغنوصية وأهلها، تقتصر على ما أورده عنها آباء الكنيسة الأوائل من خصوم الغنوصية، والمدافعين عن الإيمان المسيحي القويم في وجه الهراطقة، وهذا ما قاد إلى رسم صورة مهتزة للغنوصية، بعد تمحيصها وإظهار مثالبها من قبل خصومها، فقد اتُّهم الغنوصيون بتشويه العقيدة المسيحية والارتداد إلى مواقع وثنية، كما اتُّهموا بالخداع والتزوير والسحر، وجرت متابعة أصولها إلى الشيطان نفسه، الذي يعمل جاهدًا على تقويض الكنيسة، وقد قاد هذا النشاط المحموم في النهاية إلى اختفاء الجماعات الغنوصية، وإلى تدمير ميراثها الفكري، ومع ذلك فقد حفظ لنا هؤلاء المدافعون عن الإيمان القويم نبذة عن العقائد الغنوصية ومقتبسات لا بأس بها من نصوصهم الأصلية، التي ثبت لنا اليوم صحتها ودقة مقتبسيها وأمانتهم في نقلها لنا، على الرغم من أنهم ما أوردوها إلا لغرض نقدها ودحضها وإظهار زيفها.
بعد نحو خمسين عامًا كتب مفكرٌ مسيحي آخر هو الأسقف هيبوليتوس في روما مؤلفًا موسوعيًّا شبيهًا تحت عنوان «دحض كل الهرطقات»، يتكون من عدة مجلدات، وتتوزع موضوعاته على قسمين: في القسم الأول عالج المؤلف ضلالات الإغريق والفلاسفة والمجوس والمنجمين وأهل عبادات الأسرار، أما في القسم الثاني فقد قدَّم توصيفًا لمعتقدات وممارسات ثلاث وثلاثين بدعة غنوصية، خلف هذا التقسيم تكمن رؤية هيبوليتوس الخاصة إلى الغنوصية باعتبارها نتاجًا فكريًّا يونانيًّا ووثنيًّا، لا نتاجًا مسيحيًّا، وهو يؤكد بشكل خاص على أن الغنوصيين قد اعتمدوا الفلسفة اليونانية وشوهوها لكي تخدم أغراضهم.
وصل الجدل بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية ذروته خلال الفترة الممتدة بين عام ١٥٠ وعام ٢٥٠م، وإلى هذه الفترة ترجع أعمال مؤلفين آخرين في الرد على الغنوصية وإظهار زيفها، وهم تورتوليان وكليمانت الإسكندري وأوريجين، وضع تورتوليان وهو أول الآباء اللاتين، مؤلفه في إقامة الحجة على الهراطقة نحو عام ٢٠٠م، ولكن كتابه هذا لا يعطي الكثير من المعلومات الموثقة عن الغنوصية بقدر ما يركز الاهتمام على المعتقد القويم ويظهر تفوقه. فالمعتقد القويم يستند إلى تعاليم يسوع المسيح وتعاليم الرسل وهي أقدم من تعاليم الغنوصية، وهذا القدم وحده كفيل برد الفكر الغنوصي إلى الهرطقة اللاحقة باعتباره تحريفًا وتزييفًا للتعاليم الأصلية، وهو يرى، مثل هيبوليتوس، أن المعتقدات الغنوصية تقوم على الفلسفة الوثنية بالدرجة الأولى، ولكنها بالنتيجة فكر توفيقي هابط وعدمي حافزه الشيطان.
يقف اللاهوتيان الإسكندرانيان كليمنت وأوريجين على الطرف النقيض من تورتوليان في موقفه من الغنوصية؛ لأنهما ينطلقان من النظرة الجدية إلى العقائد الغنوصية، ويحاولان إيجاد الروابط بينها وبين العقيدة القويمة، الأمر الذي جعلهما يقفان على حافة الهرطقة، عاش كليمنت الإسكندري بين عام ١٤٠ أو ١٥٠م، وعام ٢١١ أو ٢١٥م، وكان أكثر آباء الكنيسة ثقافة واطلاعًا، وقد ميز في مؤلفاته بين الغنوصية الوثنية الزائفة والهرطوقية وبين الغنوصية المسيحية التي تسعى إلى معرفة الله والكمال الأخلاقي، وهو في استخدامه الوعي لمفهوم الغنوص المسيحي باعتباره معرفة الحقيقة يعمل على ردم الهوة بين الموقف القويم الذي يستند إلى «الإيمان» والموقف الغنوصي الذي ينطلق من «العرفان» بدلًا من البقاء، مثل سابقيه، في الحلقة المفرغة لدحض الغنوصية وإظهار زيفها، أما أوريجين فيقف من ناحيته موقفًا مشابهًا لكليمنت، فهو على الرغم من معارضته للغنوصية بشكل عام، إلا أنه يطرح أفكارًا تقربه منها إلى حدٍّ بعيد، مثل تفضيله للعرفان على الإيمان الساذج، وقوله بمبدأ الوجود المسبق للروح وسقوطها في المادة ثم عودتها إلى الله، وفي واحد من مؤلفاته التي ضاع معظمها، يعمل على تفسير إنجيل يوحنا ويعرض تأويلاته الغنوصية له، وهو في استخدامه منهج معارضيه في البحث عن المعاني الباطنية للنص المقدس، إنما يسعى إلى صياغة تفسيرات ترضي الكنيسة من جهة، وتكشف عن الأساس «القويم» الذي تقوم عليه الهرطقة الغنوصية من جهة أخرى.
في العقود الأولى من القرن الرابع الميلادي ظهر أول مؤلَّف في تاريخ الكنيسة، أعده أوزيب القيصاري، الذي جمع فيه مادة غنية مقتبسة من مؤلفات سابقيه من نقاد الغنوصية، لا من الأعمال الغنوصية الأصلية، ومع ذلك فإن هذا الكتاب يتمتع بأهمية خاصة لأنه حفظ لنا مقتبسات من مؤلفات فُقدت أو فُقد بعض أجزائها فيما بعد، ومن هنا تأتي أهميته بالنسبة إلى دارسي الغنوصية اللاحقين.
في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي نشط إبيفانوس السلاميسي أسقف قبرص، وهو من أصل فلسطيني، لقد أعاد أبيفانوس حركة الجدل مع الهراطقة إلى ذروتها مرة أخرى، من أعماله المشهورة كتاب «صندوق النطاسي» الذي ظهر نحو عام ٣٧٤م، وتقوم فكرته الرئيسية على أن الغنوصيين وغيرهم من الهراطقة هم سلالة من الزواحف والأفاعى السامة تنفث السم الزعاف في نقاء الإيمان القويم، وأن كتابه يقدم الترياق لكل من أصابته لدغات هؤلاء الهراطقة ليعيدهم إلى الحياة المسيحية مرةً أخرى، ولقد عدَّد في كتابه هذا نحو ثمانين حركة هرطوقية، عشرون منها ما قبل مسيحية، والستون الباقية هرطقات مسيحية، وغنوصية في معظمها، كان أبيفانوس متعصبًا بشكل أعمى، ومفتقدًا إلى المنهجية العلمية التي ميزت أعمال سابقيه، ونظرًا لولعه بالجمع أكثر من التحليل، فقد عني بإيراد أسماء جماعات هرطوقية كثيرة، ولم يلقِ الضوء إلا على بعضها نظرًا لقصور معلوماته بخصوصها، الأمر الذي دفعه غالبًا إلى ابتكار المعلومات غير الموثقة واللجوء إلى مصادر مشكوك بأمرها.
حتى وقت متقدم من العصور الحديثة لم يتوفر بين أيدي الباحثين في الغنوصية، غير تلك المقتبسات التي أوردها آباء الكنيسة في معرض جدلهم مع الغنوصيين ودحضهم لمعتقداتهم، ولكن كل هذه المقتبسات إذا جمعت معًا لا تملأ اليوم أكثر من خمسين صفحة مطبوعة، على الرغم من آلاف الصفحات التي أنتجها الفكر الغنوصي في فترة نشاطه بين القرن الثاني والقرن الثالث الميلاديين، غير أن نصوصًا غنوصية أصلية بدأت تظهر تباعًا وضمن ظروف متنوعة.
كانت «المجموعة الهرمزية» أولى النصوص الغنوصية التي ظهرت في العصر الحديث، وعلى الرغم من أن هذه الكتابات لا تنتمي إلى المسيحية الغنوصية، إلا أنها تعد اليوم نوعًا من الغنوصية المبكرة التي شكلت أحد الروافد الرئيسية للفكر الغنوصي المسيحي، كتبت هذه النصوص الثمانية عشر في مطلع العصر المسيحي باللغة اليونانية في الإسكندرية، وهي تُنسب إلى شخصية ميثولوجية هي هرمز المثلث العظمة، وهو شكل إغريقي توفيقي لإله الحكمة المصري القديم تحوت، وعلى الرغم من أنها اعتبرت في البداية من إنتاج حكيم مصري هيلينستي، إلا أنها تمثل في الواقع اتجاهًا دينيًّا سرانيًّا خاصًّا ساهم في صياغته عدد من المؤلفين. يظهر في أهم هذه النصوص، وهو بعنوان بيوماندريس، عدد من الأفكار المؤسسة للغنوصية، وأهمها النظرة الثنوية إلى الحياة، حيث يمثل الجسد كل ما هو مظلم ومادي وفانٍ، ويمثل العقل كل ما هو نوراني وحقيقي وخالد، وهو الذي يقود في النهاية إلى الخلاص، ويجسد سعي الروح إلى الانعتاق من سجن المادة عن طريق العرفان، ودعوتها إلى العوالم النورانية، إلى الله الذي تدعوه هذه النصوص بالأب الكلي، أو أبو الكل، ترجمت المجموعة الهرمزية إلى اللاتينية عام ١٤٦٣م، ومارست تأثيرًا واضحًا على فكر عصر النهضة في إيطاليا، ثم ظهرت تباعًا في لغات أوروبية متعددة وصولًا إلى القرن العشرين.
(٢) الخطوط العامة للعقيدة الغنوصية
في الحديث عن «العقيدة الغنوصية» يجب على القارئ ألَّا يتوقع العثور على ما يشبه قانون الإيمان المسيحي كما صاغته الكنيسة القويمة، ولا على دوغما ثابتة ونهائية. ذلك أن تعدد المدارس الغنوصية، وتوكيد المعلمين الغنوصيين على حرية الإبداع والتعبير، وعدم فرض القيود على التأملات اللاهوتية طالما بقيت ضمن الإطار العام للرؤية الغنوصية للعالم، قد قاد إلى خلق اتجاهات فكرية غنوصية لم تنتظم أبدًا ضمن كنيسة واحدة ذات هيكلية مراتبية، وعقيدة منمطة يعد الإخلال بواحدة من بنودها هرطقة وخروجًا عن الإيمان القويم، ومع ذلك فإن هذه الاتجاهات الفكرية لم تتصارع ولم تستبعد بعضها بعضًا، ولم يعد أي منها نفسه بمثابة القيم الوحيد على الإيمان الغنوصي، بل تعاونت وأغنت بعضها بعضًا، ووجدت في التنوع إغناءً للفكر لا تشتيتًا له.
ولهذا؛ فإن المسيحية الغنوصية لم تنتج نصًّا مقدسًا أو مجموعة نصوصية مقدسة، على طريقة المسيحية القويمة، وإنما نظرت إلى نصوصها باعتبارها تنويعات على خلفية الحقيقة الكُلانية الخافية، التي لا يمكن إدراكها إلا من تعبيرات رمزية، تعين المريد في تجربته الروحية الخاصة التي تقوده نحو الانعتاق، وهذه التعبيرات الرمزية لم تجد ضيرًا في الاستعارة من التقاليد الدينية والفلسفية السابقة عليها، واستخدامها بطريقة تسبغ عليها قيمة جديدة وتعطيها بُعدًا روحيًّا مختلفًا.
إن الإطلالة الأولى على النصوص الغنوصية من شأنها توليد القنوط في نفس الباحث من إمكانية التوصل إلى صياغة مطردة ومنسجمة للفكر الغنوصي، ولكن البحث المتعمق فيها ما يلبث حتى يكتشف عددًا من النواظم المشتركة والأفكار الرئيسية المتكررة التي من شأنها جمع شتات التصورات الغنوصية في بنية واحدة، بصرف النظر عن تعدد المدارس والتباين الظاهري لأفكار كبار المعلمين الغنوصيين، مما سوف نبسطه فيما يلي:
هذه المعرفة هي الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع؛ لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه، فالروح الإنسانية هي قبس من روح الله، وشرارة من نور الأعالي وقعت في ظلمة المادة، ونسيت أصلها ومصدرها، والإنسان في هذه الحياة أشبه بالجاهل أو الغافل أو النائم أو السكران. ولكن في أعماق ذاته هنالك دومًا دعوة إلى الصحو عليه أن ينصت لها، ويشرع في رحلة المعرفة التي تحوله من نفس حيوانية أسيرة لرغبات وشهوات الجسد، إلى نفس عارفة أدركت روابطها الإلهية وتهيأت للانعتاق الذي يعود بها إلى ديارها، وعلى الرغم من أن هذه الدعوة إلى الصحو موجودة بشكل خافت لدى النفوس الغافلة، فإنها سُمعت مثل دوي الرعد من فم المخلص الذي هبط من نور الأعالي وتجسَّد في يسوع الناصري.
إن مثل هذه التصورات تضع الغنوصية في زمرة العقائد الدينية الثنوية، وهي التي تقول بوجود مبدأين، أو أصلين متناقضين، وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ، وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن ويسير بالعالم وبالإنسانية نحو نهاية التاريخ عبر ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة، قبل أن يعدو مبدأ الشر على مبدأ الخير، والمرحلة الثانية هي مرحلة الامتزاج عندما عدا مبدأ الشر على مبدأ الخير، فدخل في نسيج الخليقة فأفسدها، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائيًّا على مبدأ الشر؛ ليعود العالم طيبًا ونقيًّا وكاملًا كما كان في البدايات، هذا النوع من الثنوية أدعوه بالثنوية الكونية؛ لأن التعارض بين المبدأين يطال الكون بأسره، وهنالك نوع معتدل من الثنوية أدعوه بالثنوية الأخلاقية، لأن صراع الخير والشر لا ينسحب على الكون بأسره، بل يقتصر على المجتمعات الإنسانية، والشيطان فيها لا سلطة له إلا على النفس الإنسانية، التي يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله، ونجد النموذج الأوضح عن هذه الثنوية الأخلاقية في المسيحية القويمة وفي الإسلام، أما النموذج الأوضح عن الثنوية الكونية فنجده في العقيدة الزرادشتية، التي صاغها زرادشت المولود نحو عام ٩٠٠ق.م. على ما يرجحه معظم الباحثين اليوم.
تقول التعاليم الأصلية لزرادشت إنه في البدء لم يكن سوى الله الذي يدعوه «أهورا مزدا»، وجود أزلي سرمدي، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها عما عداها، ثم إن هذه الألوهة اختارت الخروج من كمونها والظهور فيما سواها، فصدر عنها روحان توأمان هما «سبينتا مانيو» و«أنجرا مانيو»، وقد وهبهما الله منذ البداية أهم خصيصة تميز استقلالهما عن مصدرهما، هي خصيصة الحرية. ومنذ البداية أيضًا استخدم هذان الروحان حريتهما، فاختار الأول الخير، ومنه جاء اسم سبينتا مانيو، أي الروح المقدس، واختار الثاني الشر، ومنه جاء اسم أنجرا مانيو أي الروح الخبيث، بعد هذا الخيار الأخلاقي للتوأمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع، لقد كان الله قادرًا على محق الشر في مهده، ولكنه قرر عدم التناقض مع نفسه، والسير بخطته التي تقوم على الحرية إلى آخرها، فعمد بمشاركة الروح المقدس سبينتا مانيو إلى إظهار ستة كائنات قدسية إلى الوجود تدعى بالأميشا سبينتا أي المقدسون الخالدون، ليستعين بها على مقاومة الروح الخبيث أنجرا مانيو، فشكلت مع سبينتا مانيو بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام وتعكس مجده، ثم شرع بعد ذلك، وبمعونة هؤلاء المقدسين الخالدين بخلق العالم، وصار الأميشا سبينتا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين العالم، ثم إن هؤلاء قد أظهروا إلى الوجود عددًا من الكائنات القدسية الطيبة المدعوة بالأهورا، وراح الجميع يكافحون الشر، كلٌّ في مجاله.
تقوم العقيدة الثنوية الزرادشتية بشكل أساسي على فكرة توكيد العالم وتمجيد الحياة الإنسانية، فالعالم من خلق الله، وهو طيب وحسن من حيث الأصل كما أراد له خالقه أن يكون، وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان فعندما خلق الله الزوجين الأولين قال لهما: «أنتم الإنسان، وأنتم سلف البشرية، خلقتما كاملين، فحافظا على الفكر الحسن والكلمة الحسنة والعمل الحسن، ولا تخضعا للشيطان.» من هنا، فإن فساد العالم ليس خصيصة أصلية فيه، وإنما هو أمر طارئ من صنع الشيطان، وخلاص الإنسان لن يتأتى من خلال إدارة ظهره للعالم والهروب منه، وإنما من خلال الانغماس فيه حتى النهاية بوعي كامل لمسئولياته الأخلاقية، وانخراط كامل في عون القوى الإلهية الخيرة على قهر قوى الشر، وهنا يكمن الفارق الأساسي بين الثنوية الزرادشتية والثنوية الغنوصية، ففي مقابل توكيد الزرادشتية على العالم، فإن الغنوصية تنفي العالم؛ لأنه ليس من صنع الله الكامل وإنما من صنع الإله الديميرج الجاهل والناقص، الذي صنع من المادة الظلامية عالمًا كله فساد وخداع وموت وآلام، ومن هذه المادة الظلامية نفسها صنع جسد الإنسان، إن الإله الزرادشتي، على علوه وتنزيهه، منغمس في شئون العالم والإنسان، شأنه في ذلك شأن نقيضه أنجرا مانيو، وهو الذي يوجه حركة التاريخ نحو النهاية السعيدة المنشودة، أما الإله الغنوصي فمتعالٍ على كل ما يجري في العالم المادي، ولكنه مع ذلك حريص على خلاص الإنسان من سجن المادة؛ لأن البشرية هي العنصر الوحيد في هذا العالم الذي ينطوي على قبس من نور الأعالي ينبغي تحريره وعودته إلى أصله السماوي، ومسئولية هذا التحرير تقع بالدرجة الأولى على عاتق الإنسان نفسه. الله ينادي الإنسان، وما على الإنسان إلا أن يتلمس هذه الدعوة في أعماق نفسه، ويصحو على حقيقة شرطه، ذلك أن الإنسان ليس خاضعًا بكليته إلى إله هذا العالم، وإنما بجسده فقط الذي صُنع من مادة العالم، أما في جزئه الأنبل والأسمى، وهو الروح، فحر وقادر على تخطي شرطه الأرضي من خلال فعالية العرفان.
هذه الثنوية التي تقسم الوجود إلى مجال نوراني علوي ومجال ظلامي سفلي لا صلة بينهما، ولا حتى صراع على الرغم من تناقضهما، تجعل من الإنسان كائنًا موزعًا بشكل تراجيدي بين عالم ناقص لا يمكن إصلاحه يشكل موطنه المؤقت والعارض، وعالم كامل يشكل موطنه الأصلي الحقيقي، كما تجعل من الغنوصية مذهبًا تشاؤميًّا تتجلى ثنويته بشكل رئيسي في الإنسان الذي تجتمع عنده قوى النور وقوى الظلام، وتسيطر عليه الشهوات والرغبات التي تبقيه في حجب الجهل والنوم والغفلة، وتجعل من قلبه مقرًّا للقوى الشيطانية التي تدفعه إلى المطابقة بينه وبين جسده الظلامي، وتباعد بينه وبين بذرة النور المزروعة في داخله، وبما أن العالم محكوم عليه باللعنة ولا سبيل إلى إصلاحه، فإن الوسيلة الوحيدة للخلاص منه ومن دورة تناسخ الأرواح، هي الهروب من العالم ورفضه، وكبح جماح شهوات ورغبات الجسد الذي يشكل قبرًا للروح في الحياة، إن رحلة الخلاص تبتدئ عندما ينصت الفرد إلى النداء الأصلي الذي يرن في أعماقه، وإلى نداء المسيح المخلص الذي هبط من العالم النوراني ليرشد إلى طريق العرفان.
ويبدو أن هذه الألوهة المؤنثة، ذات الصلة بظهور العالم المادي، والمدعوة صوفيا (أي الحكمة)، قد نفذت إلى الأدبيات الغنوصية عن طريق سفر الحكمة، وسفر الأمثال في العهد القديم، نقرأ في سفر الحكمة ٩: ٩: «إن معك الحكمة العليمة بأعمالك، والتي كانت حاضرة إذ صنعت العالم، وهي عارفة ما المرضي في عينك، والمستقيم في وصاياك.» ونقرأ في سفر الأمثال ٨ عن الحكمة بلسانها: «الرب حازني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض؛ إذ لم يكن غمرٌ أُبدئت؛ إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه، من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أُبدئت، إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة، لما ثبت السموات كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر، لما أثبت السحب من فوق، لما تشددت ينابيع الغمر، لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه، لما رسم أسس الأرض، كنت عنده صانعًا، وكنت كل يوم فرحة دائمًا قدامه.»
«هذه تعاليم المخلص، ووحيه بخصوص الأسرار والمسائل الخفية وراء حجاب الصمت، وكل ما نقله إلى تلميذه يوحنا.
فلقد حدث في أحد الأيام (بعد صلب المخلِّص) أن يوحنا أخا يعقوب، وهما ابنا زبدي، صعد إلى الهيكل، فاقترب منه فريسي اسمه أريمانيوس، وقال له: أين هو معلمك الذي سرت وراءه؟ فقال يوحنا: لقد عاد إلى المكان الذي جاء منه، فقال الفريسي: لقد خدعكم هذا الناصري، وملأ آذانكم بالأكاذيب، وقسَّى قلوبكم، وحرفكم عن سنة آبائكم، عندما سمعت، أنا يوحنا، هذه الأقوال، توليت عن الهيكل ومضيت إلى الجبل، فانتجعت مكانًا قفرًا، وقد انتابتني كآبةٌ عميقةٌ، قلت في نفسي: كيف تم اختيار المخلِّص، ولماذا أرسله أبوه إلى العالم، ومن أبوه الذي أرسله وما طبيعة المكان الذي سنئول إليه؟ لقد قال لنا بأن ذلك المكان هو نسخة عن فلك الصمدية، دون أن يطلعنا على المزيد بخصوصه.
وبينما أنا على هذه الحال أتأمل في هذه المسائل، اهتزت الأرض وانشقت السماء، وشع نورٌ ليس من هذا العالم أضاء كل شيء، فخفت وسقطت على الأرض، ثم تراءى لي في النور طفل واقف أمامي، وفيما أنا ناظر إليه تحول شكله إلى رجل عجوز، ثم تبدى لي في هيئة خادم، لم يكن أمامي عدة أشكال، وإنما شكل واحد بهيئات مختلفة تشف في النور من خلال بعضها بعضًا، ثم سمعت صوتًا صادرًا عنه يقول: يوحنا، لماذا تشك ولماذا تخاف؟ أليس الذي تراه أمامك معروفًا لك؟ لا تكن قليل الإيمان، فأنا معك دائمًا، أنا الأب وأنا الأم وأنا الابن، أنا الموجود السرمدي، جئت لأكشف لك حقيقة ما هو كائن، وما كان، والذي سيكون، فتعرف ما هو ظاهر للأعين، وما هو خافٍ عنها، وأُطلعك على سر الإنسان الكامل، فارفع وجهك واسمع وتعلم ما أقوله لك اليوم لكي تنقله لأترابك من سلالة الإنسان الكامل القادرين على الفهم، وعندما سألت أن أتعلم، قال لي:
الروح كمال قائم بذاته، لا يحكم فوقه أحد، إنه الله الحقيقي أبو الجميع، الروح القدس الخفي الذي يهيمن على الكل، الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره، الذي لا تدركه الأبصار، الروح ليس إلهًا أو كائنًا له صفات وخصائص محددة، بل هو أكثر من مجرد إله، هو البداية التي لم تسبقها بداية، ولم يكن لأحد وجود قبله ليحتاج إليه، الروح لا يحتاج الحياة لأنه سرمدي، ولا يطلب شيئًا سواه لعدم وجود نقص فيه يتطلب التكميل، إنه وراء الكمال، إنه النور، بلا حدود ولا أبعاد، لعدم وجود شيء قبله يحدده ويقيس أبعاده، خفي لأن أحدًا لم يرَه، قيوم وموجود أبدًا، بلا أوصاف لأن أحدًا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم، ليس واسعًا وليس ضيقًا، ليس كبيرًا وليس صغيرًا، ليس ماديًّا وليس معنويًّا، ليس كمًّا وليس كيفًا، ليس كيانًا وليس بغير كيان، ليس زمنيًّا لأنه وراء الزمان، ليس موجودًا لأنه وراء الوجود، قائمٌ في نفسه ولنفسه.»
ثم إن باربيللو، الفكرة الأولى، نظرت إلى أعماق النور العظيم، فحملت وأنجبت شرارة نور هي المولود البكر والابن الوحيد للنور الأعظم، المسيح المعمد بطيبة الروح الخفي الأعظم، فجعل سيدًا لاثني عشر فلك قوة تتالت في الظهور، وصولًا إلى الفك الأخير المدعو «صوفيا»، التي أقامت عند الأطراف البعيدة لعالم الأنوار الأعلى، ولقد ألحت على صوفيا رغبةٌ عارمة في أن تعطي الميلاد لكائن يشبهها، ولكن رغبتها تلك لم تحظَ بموافقة شريكها ولا بمباركة الروح الأعلى، ومع ذلك فإن رغبتها استعرت حتى شعت نحو الخارج، وأعطت الميلاد لكائن جهيض أشبه بالمسخ؛ لأنه وُلد من دون موافقة الأب وتعاونه، فكان له شكل خليط من أسد وأفعى وعينان جمرتان من نار، فلما رأته صوفيا ذعرت وأبعدته عنها، ودعت اسمه «يلدابوث» وهذه الكلمة آرامية وتعني «منجب الجند»، هي تعادل لقب يهوه المتكرر في العهد القديم، وهو «رب الجنود» (راجع على سبيل المثال صموئيل الأول ٤: ٤، وصموئيل الثاني ٦: ٢). والجند هنا هم جند السماء، أي الكواكب، ولا صلة لهم بجند الجيوش العسكرية، ولكي لا يراه أحدٌ من أهل الملأ الأعلى، صنعت صوفيا ليلدابوث عرشًا وأخفته عن الأعين داخل سحابة من نور، فكان أول الأراكنة.
لقد ورث يلدابوث عن أمه قوة عظيمة، كما دخل في تكوينه بعض من نور الأعالي أيضًا، ولكنه شعر بالقوة التي ورثها ولم يشعر بما فيه من نور، فخرج من المكان الذي أودعته فيه صوفيا، وصنع لنفسه فلكًا ناريًّا أقام فيه، فكان هذا الفلك أعلى طبقات العالم المادي الكثيف الذي سيظهر فيما بعد عن ظلمات جهل الأركون الأعظم. ثم إن يلدابوث دعا اثني عشر فلك قوة مادية إلى الظهور، سبعة أراكنة لحكم السموات وهي الكواكب السيارة، وخمسة أراكنة لحكم أعماق الجحيم، وأعطاها من قوته، ولكنه لم يعطهم مما فيه من نور لأنه جاهل به، ثم جعل لكل أركون طبقة من قوى الظلام لخدمته، تحتها طبقة أخرى، وتابع تنظيم هذه المراتبية «الملائكية» حتى بلغ أفرادها ثلاثمائة وستين قوة.
عندما نظر إله الجند إلى ما خلق من أفلاك قوة مادية، وإلى حشد الملائكة التي تأتمر بأمره، قال لهم: «أنا الرب ولا إله غيري، إله غيور.» وهو التعبير الذي استخدمه يهوه التوراتي في أكثر من موضع في العهد القديم: «لأني أنا الرب إلهك، إله غيور» (سفر الخروج ٢٠: ٥)، وأيضًا: «لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو» (سفر الخروج ٣٤: ١٤)، وأيضًا: «لأن الرب إلهك نار آكلة، إنه غيور» (سفر التثنية ٤: ٢٤). وهنا يُعقب نص منحول يوحنا على صرخة يهوه هذه بقوله إنها قد أوحت للأراكنة بوجود إله آخر؛ لأنه إذا لم يكن لإله آخر من وجود، فممن يغار إلههم إذًا؟ بعد ذلك جاءه صوت من الأعالي قائلًا: «أنت مخطئ يا سمائل (= الأعمى، أو إله العميان)؛ لأن إنسانًا كاملًا ومستنيرًا قد وجد قبلك، ولسوف يأتي ويحل في جسد، فيحطم مملكتك كما تُحطَم الجرة الفخارية، ويحيل كل نقص إلى كمال.» ولم يعرف يلدابوث مصدر الصوت فظنه صادرًا عن أمه صوفيا، التي لم يعتقد بوجود أحد فوقه غيرها. في هذه الأثناء كانت صوفيا تروح جيئة وذهابًا عند الأطراف السفلية للعالم الروحاني الأعلى، بعد أن شعرت بخطيئتها وذنبها (إشارة إلى نص سفر التكوين ١: ٢، حيث نقرأ: وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف فوق وجه المياه). راحت صوفيا تصلي للأب النوراني الأعلى، وتُعرب عن ندمها وتوبتها، فاستجاب لها ولكنه لم يسمح لها بالعودة إلى فلكها، بل وضعها في مكان وسيط بين عالم الروح وعالم المادة، إلى أن تصحح نقصها وتستعيد كمالها.
ثم إن يلدابوث شرع بصنع السموات والأرض بكلمته الخالقة وبالقوة التي ورثها عن أمه، وبعد اكتمال عملية الخلق أطل الأب النوراني الأعلى في صورة الإنسان الكامل، فانعكس خياله على صفحة الماء، لما رأى الأركون الأعظم الصورة الإلهية مطبوعة على الماء لم يعرف مصدرها، ولكنه أعجب بها أشد الإعجاب، فدعا الأراكنة وقال لهم: «هلم نصنع الإنسان على الصورة التي رأيناها، ليخدمنا على الأرض» (إشارة إلى ما ورد في سفر التكوين ١: ٢٦، حيث نقرأ: وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا)، وهكذا ابتدأ الأركون الأعظم ومساعدوه بصنع الكيان النفسي للإنسان، فصنعوا النفس العظمية، فالنفس اللحمية، فالنفس النخاعية، فالنفس الدموية، وشكلوا الأعضاء عضوًا عضوًا، وجمعوها إلى بعضها، حتى اكتمل الجسد على الهيئة التي تراءت لهم، فدعوا اسمه آدم، ولكن الهيئة بقيت مسجاة على الأرض بلا حراك؛ لأن آدم الذي صنعوه كان نفسًا تفتقد إلى الروح، ولكن صوفيا التي كانت راغبةً في استرجاع قوة الروح التي استمدها منها يلدابوث، تدخلت لدى الأب الأعلى ليمد يد العون إلى آدم، فأوحى الأب إلى يلدابوث، أن ينفخ في أنف آدم من روحه التي أخذها من أمه، فلما فعل انتقل النور الذي لم يكن يشعر به إلى آدم فصار نفسًا حية، وبسبب النور الذي شع في داخله لن يكون آدم خاضعًا كلية لسلطة حكام هذا العالم.
يشكل الإنسان نقطة المركز في التصورات الكونية الغنوصية، على ما يتضح من أسطورة التكوين التي أوردناها أعلاه، ومن غيرها من النصوص الغنوصية التي تدور حول الأفكار نفسها، والفكرة الرئيسية هنا هي علاقة التماثل بين الإله الأعلى وبين الجوهر الروحاني الإنساني، وأكثر من ذلك فإن الإنسان قد صُنع على صورة الله، فالله الذي لا تحده صورة أو شكل يحب إذا أراد اتخاذ صورة في الملأ الأعلى، عالم المثل، أن يتخذ صورة إنسان، فهو المنزه عن أي صورة ما، وبنفس الوقت هو الإنسان الكامل الأعلى، وبهذه الصورة أطل من البليروما السماوية (الملأ الأعلى)، فانعكست صورته على صفحة الماء، وأعطت النموذج الذي صنع منه الأراكنة الإنسان الأول، فالإنسان الأرضي نسخة عن الإنسان الكامل السماوي، ويحمل أيضًا في طبيعته الجوهرية قبسًا من نور الله وروحه؛ ولهذا فإنه متفوق على الديميرج الذي صنعه في كل شيء، وقادر في النهاية على التخلص من سلطته، مقتفيًا أثر يسوع الذي قال قبل أن يُسلم إلى الصلب: «لن أخاطبكم بعد الآن؛ لأن سيد هذا العالم آتٍ، وليس له يد عليَّ» (يوحنا ١٤: ٣٠)، وأيضًا: «لأن رئيس هذا العالم قد حُكم عليه» (يوحنا ١٦: ١١)، وأيضًا: «ستعانون الشدة في هذا العالم، فاصبروا لها، لقد غلبت العالم» (يوحنا ١٦: ٣٣).
وعلى عكس الزرادشتية وغيرها من النظم الدينية التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن الخلاص الذي تبشر به الغنوصية ليس خلاص الأجساد، بل خلاص الأرواح، إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن معًا، لا من الخطيئة والذنوب، وإذا كان هنالك من مفهوم عن «الخطيئة الأصلية» في العقيدة الغنوصية، فإنه سقوط الروح في عالم المادة، وإذا كان هنالك من مفهوم عن التوبة فإنه وعي الإنسان لشرطه الأرضي، وبحثه عن الوحدة المفقودة، مع هذا الوعي تبتدئ الروح رحلة خلاصها وانعتاقها، ويتحول الموت من بوابة إلى القبر، أو معبر إلى دورة تناسخ جديدة، إلى بوابة نحو العالم النوراني الأعلى. إن من حقق العرفان قد بُعث من الموت قبل أن يموت، وما عليه سوى ترقب الموت الذي سينزع عنه رداءه المادي ويحوله إلى روح منعتقة، وهذا هو معنى قول يسوع في إنجيل توما الغنوصي: «هذه السماء ستزول والتي فوقها ستزول، ولكن من هم أحياء لن يموتوا، ومن هم أموات لن يحيوا» (الفقرة ١١).
ومع ذلك فإن مسئولية العرفان الذي يقود إلى الخلاص، لا تقع على عاتق الإنسان وحده؛ لأن «النعمة الإلهية» حاضرة في صميم فعالية العرفان، وتتجلى هذه النعمة أولًا في «النداء الداخلي» المزروع في النفس الإنسانية منذ «السقوط»، وهو النداء الصادر عن قبس النور الراسف في أغلال المادة، والذي يحن إلى العودة إلى مصدره، مثلما يحن عود القصب الذي صُنع منه الناي إلى أصله في الشجرة، عندما يصدر تلك الأصوات الحزينة (على حد تعبير جلال الدين الرومي في المثنوي)، كما تتجلى النعمة الإلهية في الدور الذي يلعبه ابن عبد الله المخلص، الذي جاء إلى العالم لا ليحمل خطيئة العالم، وإنما لينبه البشر من غفلتهم ويفتح بصيرتهم الداخلية، فانطلاق فعالية العرفان، والحالة هذه، يعتمد على ثلاثة عناصر، أولها النداء الداخلي، وثانيها نداء المخلص، وثالثها استجابة الإنسان.
وهذه الاستجابة الأخيرة يجب أن يتبعها جهد حثيث من قبل العارف الذي يتوجب عليه إثبات نفسه من خلال الصراع ضد شهوات طبيعته الجسدية والنفسانية؛ لأن «النفس» التي هي مقر «الروح» تنتمي إلى عالم الديميرج، شأنها في ذلك شأن الجسد.
وهذا ما عبر عنه إنجيل يوحنا الرسمي، ذو الطابع الغنوصي، من خلال شخصية «البارقليط»، روح الحق، الذي يبقى مع المؤمنين وفيهم: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم. إني آتٍ إليكم. بعد قليل لن يراني العالم أيضًا، وأما أنتم فترونني … والذي يحبني يحبه أبي وأُظهر له ذاتي» (يوحنا ١٤: ١٦–٢١). وهنا يلتقي الإنجيل الرابع مع الأناجيل الغنوصية في لا تاريخانية المسيح على الرغم من ظهوره في التاريخ، فقد كان منذ البدء عند الله، وسيبقى دائمًا بين البشر وحيًا ونداءً دائمًا.
هذا الطابع اللازمني وغير التاريخاني لشخصية المسيح، هو الذي أوحى بفكرة الظهور الشبحي للمسيح في العالم، والتي تتضمن أن المسيح النوراني الأعلى قد تجلى في العالم في هيئة بشرية من غير أن يكون له قوام جسدي مادي من لحم ودم. وفي الواقع، فإن هذه الفكرة لم تكن مرفوضة تمامًا من قبل المسيحيين الأوائل خلال القرنين الأولين، وذلك استنادًا إلى الإنجيل الرابع الذي يقول في مقدمته: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله … والكلمة صار جسدًا وحل بيننا.» ولكن في سياق الجدل بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية، جرى استبعاد هذه الفكرة واستبدالها بمبدأ الطبيعتين، الذي يقول بامتلاك يسوع لطبيعة إلهية وطبيعة بشرية في آن معًا.
فإذا لم يكن المسيح قد مات في جسد مادي ثم بُعث في جسد مادي أيضًا، فإن البعث الذي يعد به العارفين ليس بعث الأجساد وإنما بعث الأرواح، وروح العارف لا تبعث من خلال قيامة عظمى للأموات في آخر الزمان، وإنما من خلال قيامة فردية يحققها الغنوصي من خلال كدحه الروحي الفردي، الذي يقود إلى انفلات روحه بعد الموت من سيطرة الأركون الأعظم وحكام هذا العالم المادي، وعلى حد تعبير بولس الرسول في مقطع من الرسالة إلى أهالي كورنثة، لا يُخفى طابعه الغنوصي الواضح، فإن جسد الإنسان: «يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد، يُزرع في ضعف ويُقام في قوة، يُزرع جسمًا حيوانيًّا ويُقام جسمًا روحانيًّا … فأقول هذا أيها الإخوة: إن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (١٥: ٤٢–٥٠).
كلمة أخيرة لا بد من قولها بخصوص الأخلاق الغنوصية.
انطلاقًا من موقفها الرافض للعالم، فإن الغنوصية ترى أن الأخلاق التي فرضها إله هذا العالم، إنما فُرضت لإبقاء العالم على حالته الراهنة، وإبقاء المجتمعات الإنسانية تحت سيطرة الأركون الأعظم، وهي في النهاية أخلاق براغماتية بالنسبة لأولئك الذين يعتنقونها، فالذي يعمل بقاعدة «لا تسرق» إنما يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه إلى السرقة، والذي يعمل بقاعدة «لا تقتل» إنما يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه للقتل، والذي يعمل بقاعدة «لا تزنِ» أو «لا تشتهِ امرأة قريبك» إنما يحمي نساءَه من الاعتداء الجنسي.
-
M. W. Marvin, The Secret Teachings of Jesus, pp. XV–XII.
-
Elaine Pagels, The Gnostic Gospels, pp. XI–XXXIX.
-
Willis Barnston, edt, The Other Bible, p. 53 ff.
-
J. M. Robinson, edt, The Nag Hamadi Library, p. 99 ff.
-
الفقرتين الأخيرتين من نص On the Origins of the world (مكتبة نجع حمادي، ص١٧٨-١٧٩).
-
الفقرات الثلاث الأخيرة من نص The Concept of our Great Power (مكتبة نجع حمادي، ص٢٨٨-٢٨٩).
-
الفقرة ٤٣ من نص Trimorphic Protennoia (مكتبة نجع حمادي، ص ٤٦٦).