مقدمة المُحقق
بسم الله الرحمن الرحيم نَستَفتح القول، وبحمده نَستمنِحه الحَوْل والطَّوْل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
اسم الكتاب
وسموها «بالدُّرَّة اليتيمة» مرَّة، ثم «بالأدب الكبير» أخرى، ولها من كلتا السِّمَتين أوفرُ نصيب، فليس لاختلافهم إذن فائدةٌ؛ يُعدُّ الإعراض عنها ضربًا من البُخل على القارئ بتحقيق الاسم، أو نوعًا من التقصير في تمحيص العُنوان.
بل إنَّ أقلَّ ما يُفيده هذا الاختلاف إنما هو تَقْوية حُجَّة القائلين بأن التسمية لم تكن من قِبَل «عبد الله» نفسه، وإنما هي مِن عَمَل مَن جاء بعده، وهو الذي نختاره ونطمئن إليه.
معاني الكتاب
وأمَّا ما جاء بهذا السِّفْر من الخواطر، وإنْ لم تختص بفئة دون فئة، ولم تُقْصَر على إقليم دون إقليم، فإنا نراها منقولةً كلها عن الفُرْس كما ذهب إليه «الباقِلَّاني» في كتابه «الإعجاز»، وإلَّا فلِلنَّقْل فيها صِبغة واضحة وأثرٌ جلي.
وسواء أصحَّ نقلُها عن قومه، أم كانت مما دلته عليه بصيرته، وأوحته إليه قريحته، فإنها للناس مصدرُ خير كبير وفضل كثير.
العناية بطبع الكتاب
ولئن عرفنا لهذا السِّفر فضله وأدركنا خطره، فقد عرفه غيرنا من قبل، فعُنِي بطبعه ونشره؛ رغبةً في الآداب وحرصًا على آثار الأولين من نوابغ الأدباء وأفذاذ الحكماء.
غير أنَّ الذي نُشر من هذا المطبوع بين الناس لم يمنعنا أنْ نُلقي هذا الدَّلْو بين الدِّلاء، فقد رأيناه بين قليلِ الثمن — ولكنَّه رديء الطبع — لا يُغني الطالبَ غَناءً ولا يَنال من نفسه رِضاء.
وبين جيد الطبع محكم الوضع — ولكنه كثير الثمن — قد حاز رضًى من نظارة المعارف، ونال قَبولًا من جُمهور القارئين.
وكتابٌ هذه خصائصه خليقٌ بما ظفر به من حبٍّ، حريٌّ بما حظي لديه من ثقة، محتاجٌ إلى أنْ تعم الفائدة منه ويكثر الانتفاع به بين الأغنياء والمُتْربين.
فضل زكي باشا على الكتاب
ولا سيِّما أنه يدٌ لذلك البحَّاثة النشيط «الأستاذ أحمد زكي باشا، كاتب أسرار مجلس النظَّار».
ذلك الذي عُني بتجويد طبعه، وإصلاح لفظه، وشرح غريبه، وتحرير معانيه، وهو فوق هذا كله لم يخلُ من كثير الخطأ والتصحيف، ومن جمِّ السهو والتحريف، متجاوزًا عنايةً ما كان أشدَّهَا! وحرصًا ما كان أيقظه!
تقدير عمل الباشا في الكتاب
وإنا لنظلِمُ «سعادة الباشا» إذا لم يَنل منَّا اعترافًا له بالنَّصَّب في سبيل البحث، وبالعَناء والمشقات وراء التحقيق.
فلقد عرفناه يجوب القِفار، ويقطع البحار، ويسهر الليل ويكِد النهار؛ سعيًا وراء أمانيه التي لم تكن — والحمدُ لله — إلَّا عِلميَّة في محض إخلاص.
وحَسْبُه ما أتى به من مكاتب الشرق والغرب، وشَرَعَت نظارة المعارف في طبعه منذ حين.
ذلك حقٌّ لا مرية فيه، كما أنه لا مَسحة للمراءاة عليه، وكيف؟ ولم أعلم من ذوي المعرفة والدِّراية، ولا من أهل الخبرة والبصيرة من أوتي صبره على البحث، وجَلَدَه في التنقيب، ولا من قرَّب للعلم هذه القرابين من الوقت والنفس والمال.
لهذا البحَّاثة المحقق شديدُ الرغبة في التغيير والتبديل وفي المحو والإثبات، قلَّ أنْ يُجاريه فيها غيره ممن نَهَج هذي الطريق في خدمة العلم وآلِه؛ حتى لقد يَخْرُج الكتاب من بين يديه كتابين، والفنُّ فنين، ولا لومَ عليه في ذلك ولا تَثْريب، فإن للبَحث نَزْعةً لا تتَّفق والاختصار في سبيل، ولا تلتئم مع الاقتصاد في طريق.
على أنَّ أيسر ما نستنبطه من هذه الأعمال إنما هو خَصْلة من أجمل الخصال في عظماء الرجال؛ تلك أنَّ نفسَه طلَّاعة إلى الغاية، نزَّاعة إلى الكمال، «وإنْ كان الكمال لله وحده لا يشاطره إياه نِدٌّ، ولا ينازعه فيه شريك».
كل هذا ليس بمنكَرٍ على أحد، ولا مأخوذ به إنسان، مادمنا نلجأ بعد ذلك إلى حِرْزٍ حريز من صواب الرأي ورُكْنٍ شديدٍ من صحيح القول.
وإنما الذي إيَّاه نعيب وله نسْتَزْري ألَّا يضْمَن الرجلُ ثقته بنفسه، أو أنْ يلوح له من عمله ما يُزَعْزع هذه الثقة — إنْ كانت — ثم لا يسعى لها سعيها، فيتلمَّسها في المظانِّ، ويفتقدها في آثار الناس.
نذكر الآن بعضَ ما ورد في جدول الخطأ والصواب مثلًا لذلك؛ فقد جاء بصفحة ١٨ ضبطٌ لِلَفْظ «حَرَصوا» بكسر الراء، ثم وردت بالجَدْول في مَصافِّ الخطأ، قال: والصواب فتحُها، وهذا حسَنٌ كلَّ الحسن؛ لأن كسرَ الراء لغة أو لُغَيَّة، والفتح — لا شكَّ — أفصح، فنحن نوافقه على هذا ونشايعه فيه، ونشكره إياه؛ لأنه دأب في سبيل الكمال، كما أنه عَهْدٌ عليه وميثاق منه، برغبته عن الفصيح إلى الأفصح، ورجوعه عن الصالح إلى الأصلح.
وإنما الذي لا نَرْضاه «لسعادة الباشا» ولا نُقرُّه عليه ما جاء بصفحة ٧٥، فقد ضبط فيها لفظ «يكسِبُه» ثلاثيًّا في هذه الجملة: «وإنَّ الشريرَ يَكسِبُكَ الأعداءَ.» ثم ورد في الجدول مُخَطأ، فأمَّا أننا لا نرضاه له ولا نُقِره عليه؛ فلأن التعديل فيه معكوس مخلوط، والتحرير مختل معتل، ولو وُفِّق «سعادة الباشا» لارتضى ما أقرَّته المصادفة، ولاكتفى بما خدمَتْه به محاسنُ الموافقة.
ذلك أنَّ «كَسَب» الثلاثي يجتاز إلى مفعولين بنفسه، غيرَ محتاج في تعديته إلى حرف ولا صيغة، فنقول: «كَسَبنا الله الخير.» و«كَسَبنا الاجتهاد حسنَ الصواب.»
وعلى هذا اتفق جُمهورُ اللغويين حتى قالوا — أو كادوا — بلسان الإجماع: ليس في اللغة فعل مهموز من «كسب» اللهم إلَّا ابن الأعرابي الذي أجاز الرباعيَّ مع شدة إنكار اللغويين له وزِرايتهم عليه، وأنشد: «فأكسبني مالًا وأكسبته حمدًا.» وإن وافقه «ابن يعقوب» وذكره في صورة تُشعر بضعفه.
إذن فالثلاثي هو الذي تعرفه اللغة، وما داخل الشك لُغَويًّا فيه، بخلاف الرُّباعي الذي أجمعوا على إنكاره — كما قدمنا — وإليه يُشير «أحمد بن يحيى» بقوله: كلُّهم يقول كَسَب إلَّا «ابن الأعرابي» فيقول أكسب.
عتبنا على الباشا في احتكار الكتاب
بقي أمامنا الآن شيء عَرَض في مقدمة كتابه، ولسنا نريد أنْ نمرَّ به مرَّ الكرام — كما يقول الكاتبون — فليست هذه بمنزلة الأستاذ، وإنما هو من أول الذين يجب أنْ يُغني جمهور الناس بكل ما نطق به لسانُه أو جرى به قلمه، ويُحاسبوه عليه حسابًا ولو يسيرًا.
تجلَّى «الأدب الصغير» منذ عام في ثوب قَشِيب بديع النظام، فحيَّاه أُمراء الفصاحة واستبشر به أهل الرأي وأرباب الحصافة، ونال عند الفريقين مكانته الجدير بها من التجلَّة والإكرام، نال من الرواج ما جعل بعض البُله المتطفلين يقلده بلا خجل، وفاته «أنَّ التكحل غير الكَحَل».
لعمري! إنَّ هذا التقليد لا يسوءنا مطلقًا، فالعاجز «المزوِّر» إنما «يتسكع» في تقليد البضاعة المقبولة؛ ليكسب من وراء جريرته السحت والحرام!
على أنه مادام أهل الشهامة يتضافرون على رفع مستوى الأخلاق والارتقاء بها في سلَّم الكمال، فلا بُدَّ للفضيلة من التغلب على ذلك الصنف من الحيوان، فينقرض «إنْ شاء الله» من جثماننا الاجتماعي، تبعًا للناموس العمراني الدائم، وهو بقاء الأصلح والأنسب، فأمَّا الزبد فيذهب جفاء، وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
فأنت ترى أنَّ أولئك الذين نالهم «الباشا» بقلمه قد أحفظوه وأحرجوا صَدْرَه؛ حتى لم يستطع أنْ يكظم غيظه أو يكُفَّ غربه، أو يملكَ نفسه عن الوقوع فيما وقع فيه مما لا يحسن به، ولا يصحُّ أنْ يُنْسب إليه.
ولَعَمري لقد وقَف الباشا نفسَه بمنزلة هي إلى الخطأ أدنى منها إلى الصواب، فقد كان مقامُ خصومه خليقًا أنْ يَعْصِمَهم من لسانه «إنْ كانوا كبارًا»، أو أنْ يعصم لسانه منهم «إنْ كانوا صغارًا»، وما كان للباشا — وهو الحريص على إذاعة العلم وفضله بين الناس المَعْنيِّ بإشاعة الأدب ونفعه في الجمهور — أنْ يميل إلى احتكار كتاب نشره وجَدَّ في طبعه، وإنما الجديرُ به المرضيُّ منه أنْ يستبشر حين يرى تداوُلَ الناس له، وتهالكهم عليه.
عنايتنا بالكتاب
وها نحن أولاء قد عَمدنا إلى الكتاب، فأعدنا طبعه، وحقَّقنا لفظه، وشرحنا غريبه، ورتَّبنا معناه، وخفضنا ثمنه.
فجعلناه مقالتين كما كان يصنع قدماء الحكماء بكتبهم، وجعلنا الأولى في السلطان منقسمة إلى بابين؛ الأولُ: في آدابه والثاني: في صحبته، وجعلنا الثانية لآداب الأصدقاء شاملة، ولِما يحسن بهم من الخلال حاوية، ثم سمونا إلى معاني الكتاب فقسمناها مطالب، وجعلنا لكل مطلب عنوانًا، ووضعنا بهذه العنوانات ثبتًا (فهرسًا) يُرْجَع في البحث إليه، ويُعتمد في التنقيب عليه؛ ليكون متناوَله على التلميذ أسهل، وجَنَاه إلى الطالب أدنى.
إذ كانت هذه الطريقة لنفوس التلاميذ آلف، ولطباعهم ألصق، وإذ كانوا لا يُحبُّون كتابًا ولا يحرصون على النظر فيه إلَّا إذا ازدان بها، وتَحلَّى بجمالها.
وقد جمعنا من نسخ الكتاب المنشورة والمخطوطة ما ائتلف منها وما اختلف، فلاءمنا بين متنافرها، ووقفنا بين متمانِعها، واستخرجنا منه نسخة ما نرى إلَّا أنها أحسن مظهر للوفاق، وأجمل معرض للانسجام.
ورأينا أنَّ هذه النسخ لم تتفق في ترتيب المعاني بعضها إلى بعض، ولم نَعْرف لترتيب بعينه روايةً صحيحةً عن «ابن المقفع»؛ فآثرنا أنْ نَبْذُل من أنفسنا في ذلك جَهدًا، وأنْ نقر كل معنًى مما قبله وما بعده في نِصابه، ونضعه في المكان المقسوم له؛ حتى تأخذَ فصول الكتاب بعضها بحُجْزَة بعض، فلا يقع القارئ في سوء الانتقال.
ولسنا ندعي لأنفسنا العِصمة من الخطأ، ولا ننتحل لها البراءة من الزلل، ولا نُظهرها مظهرَ الضعيف المتردد، ولا الشاك المرتاب.
وإنما نُعلن أنا قد بذَلْنا في هذا الكتاب عملًا ما، أرحَبَ ما نكونُ صدرًا لقبول ما يوجَّه إلينا من نقد، وأطيب ما نكون نفسًا باتباع ما يُهدى إلينا من إرشاد، والله ولي التوفيق.
وإذ كان كتاب «ابن المقفع» لا يتجاوز في جميع حِكمه وقضاياه هذين النوعين، فلا جرم كان اسم «الحكمة المدنية» أوفق الأسماء له، وأدلَّها عليه.