قال عبد الله بن المقفع في فضل الأقدمين
إنَّا وجدنا الناسَ قبلنا كانوا أعظمَ أجسامًا، وأوفرَ١ مع أجسامهم أحلامًا،٢ وأشدَّ قوةً، وأحسنَ بقوَّتهم للأمور إتقانًا، وأطولَ أعمارًا، وأفضلَ بأعمارهم
للأشياء اختبارًا.٣
فكان صاحبُ الدِّين منهم أبلغَ٤ في أمر الدِّين علمًا وعملًا من صاحب الدِّين منَّا، وكان صاحب الدنيا على مثل
ذلك من البلاغة والفضل.
ووجدْناهم لم يرضوا بما فازُوا به من الفضل الذي قُسِم لأنفسهم حتى أشركونا معهم
فيما
أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكُتب الباقية، وضربوا الأمثال الشافية،
وكفَوْنَا به مئونة٥ التجارب والفِطَن.
وبَلَغَ من اهتمامهم بذلك أنَّ الرجل منهم كان يُفتح له الباب من العلم، أو الكلمةُ
من
الصواب — وهو في البلد غير المأهول٦ — فيكتبه على الصخور مبادرةً للأجل، وكراهيةً منه أنْ يَسْقُط٧ ذلك عمَّن بعده.
فكان صَنِيعهم في ذلك صنيعَ الوالد الشفيق على ولده، الرحيم البرِّ بهم، الذي يجمع
لهم
الأموال والعُقَد،٨ إرادةَ ألَّا تكون عليهم مئونة في الطلب، وخشيةَ عجزهم إنْ هم طلبوا.
فمُنتهى علم عالِمنا في هذا الزمان أنْ يأخذ من عِلمهم، وغاية إحسانِ مُحسننا أنْ يقتديَ بسِيرتهم.
وأحسنُ ما يصيب من الحديث محدِّثنا أنْ ينظر في كتبهم، فيكون كأنه إياهم يحاور،٩ ومنهم يستمع، وآثارَهم يتَّبع، وعلى أفعالهم يحتذي، وبهم يقتدي.
غير أنَّ الذي نجد في كتبهم هو المنتخَل١٠ من آرائهم، والمُنتقى من أحاديثهم.
ولم نجدهم غادروا١١ شيئًا يجدُ واصفٌ بليغ في صفة له غايةً١٢ لم يسبقوه إليها؛ لا في تعظيم لله — عزَّ وجلَّ — وترغيبٍ فيما عنده، ولا في
تصغيرٍ للدنيا وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم قِسَمِها،١٣ وتجزئة أجزائها وتوضيح سُبُلِها وتبيين مآخذها، ولا في وجهٍ من وجوه الأدب
وضُروب الأخلاق.١٤
فلم يبقَ في جليل الأمر ولا صغيره لقائل بعدهم مقال.
وقد بقيتْ أشياء من لطائف الأمور فيها مواضعُ لصغار١٥ الفِطَن، مُشْتقةٌ من جسامِ حِكَم الأوَّلين وقولهم؛ فمن ذلك بعضُ ما أنا كاتبٌ
في كتابي هذا من أبواب الأدب التي قد١٦ يَحتاج إليها الناس.
مطلبٌ «في الحث على تعرف أصل العلم وفصله»
يا طالب العلم!
إنْ كنتَ نوعَ العلْم تريد١٧ فاعرف الأصول والفصول؛ فإن كثيرًا من الناس يطلُبُون الفُصُول مع إضاعة
الأصول، فلا يكون دَرَكهم١٨ دَرَكًا، ومَن أحرز الأُصول١٩ اكتفى بها عن الفصول، وإنْ أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل.
فأصلُ الأمر في الدين أنْ تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر وتؤدِّي الفريضة،
فالزم ذلك لزوم مَن لا غنًى له٢٠ عنه طرفةَ عين، ومَن يعلمُ أنه إن حُرِمَه هلك، ثم إنْ قدرتَ على أنْ
تُجاوزَ ذلك إلى التفقُّه في الدين والعبادة فهو أفضلُ وأكمل.
وأصلُ الأمر في صلاح الجسد ألَّا تحملَ عليه من المآكل والمشارب والباه إلَّا خُفافًا،٢١ ثم إنْ قدرتَ على أنْ تعلم جميعَ منافعِ الجسد ومضارِّهِ والانتفاعَ بذلك
كلِّه فهو أفضل.
وأصلُ الأمر في البأس والشجاعة ألَّا تُحدِّث نفسَك بالإدبار وأصحابُك مقبلون على
عدوِّهم، ثم إنْ قدرتَ على أنْ تكون أوَّل حامل وآخرَ منصرف من غير تضييع للحذر٢٢ فهو أفضل.
وأصلُ الأمرِ في الجُودِ ألَّا تضنَّ بالحقوق على أهلها، ثم إنْ قدرتَ أنْ تزيدَ
ذا
الحقِّ على حقِّه، وتَطَوَّل٢٣ على من لا حقَّ لهُ فافعلْ، فهو أفضلُ.
وأصلُ الأمرِ في الكلامِ أنْ تَسْلَم من السَّقَطِ٢٤ بالتحفُّظِ، ثم إنْ قدَرْتَ على بارع الصواب فهو أفضل.
وأصلُ الأمر في المعيشة ألَّا تَنِيَ٢٥ عن طلب الحلال، وأنْ تُحسن التقدير لما تُفيد وما تُنفق، ولا يغرَّنكَ من
ذلك سعةٌ تكونُ فيها، فإنَّ أعظم الناس في الدنيا خطرًا٢٦ أحوجُهُم إلى التقدير، والملوكُ أحوجُ إليهِ من السُّوقةِ؛٢٧ لأن السُّوقة قد تعيشُ بغيرِ مالٍ، والملوك لا قِوَام٢٨ لهم إلَّا بالمالِ، ثم إنْ قَدَرْتَ على الرفق واللُّطْفِ في الطلب والعلم
بوجوه المطالب فهو أفضلُ.
وأنا واعظُكَ في أشياءَ من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة، التي لو حَنَّكَتْكَ
سِنٌّ كنتَ خليقًا أنْ تعلمها، وإنْ لم تُخْبَر عنها، ولكنَّني قد أحببتُ أنْ أُقدِّم
إليك فيها قولًا لترُوض٢٩ نفسك على محاسنها، قبل أنْ تجري على عادة مساويها، فإن الإنسان قد تَبْتَدر
إليه في شبيبته المساوئ، وقد يغلب عليه ما بَدَر إليه منها للعادة، فإنَّ لِترك العادة
مئونة شديدة ورياضةً صعبة.
١
أكثر.
٢
الأحلام: جمع حِلم بالكسر وهو العقل، ويروى: أجسادهم بدل أجسامهم.
٣
يريد أنَّ طول أعمارهم وكثر ممارستهم، جعل اختبارهم للأشياء ووقوفهم على الحقائق
أفضل من اختبارنا وأقرب منه إلى الصواب.
٤
أي أكثر تمسكًا بالعلم وأشد حرصًا على العمل.
٥
المئونة بالضم والفتح: المشقة والعناء، والتجارب بكسر الراء: جمع تجربة بكسرها
أيضًا، وهي اختبار الشيء مرة بعد أخرى.
٦
أي الذي ليس فه أهل يسكنونه.
٧
يقول: كان المتقدمون إذا ما عنتْ لأحدهم خاطرة أو سنحت لهم شاردة، بادروا
بتدوينها على الصخور؛ خشاةَ أنْ يوافيهم الأجل فتسقط عمن بعدهم وتضيع على سواهم،
ويروى: كراهية لأن يسقط.
٨
العقد: جمع عقدة، وهي العقار ونحوه، وفسرها الأستاذ الشنقيطي بأنها النفائس من
الأموال، ولو كان ذلك مرادًا للكاتب لغضَّ من مكانتها ذِكر الأموال قبلها.
٩
إياهم: مفعول مقدم ليحاور، ومثله آثارهم مفعول ليتبع، والمحاورة: المناقشة، ضاق
ذرع الكاتب من أهل عصره فوصفهم بألَّا نصيب لهم من الإبداع، ولا حظَّ من الابتكار،
وليس لهم إلَّا أنْ يتلمسوا طريقًا لمتقدمهم فيطلبوه، أو مثالًا لهم فيحتذوه؛
بألفاظهم يعبرون وبآرائهم يفكرون كأنهم جميعًا في مجلس يتحاورون.
سقط من بعض النسخ قوله: «وعلى أفعالهم يحتذي، وبهم يقتدي.» ولكن هذا التركيب بأسلوب ابن المقفع ألصق.
سقط من بعض النسخ قوله: «وعلى أفعالهم يحتذي، وبهم يقتدي.» ولكن هذا التركيب بأسلوب ابن المقفع ألصق.
١٠
المختار: المنتقى، جاء في حرف الجر الداخل على آرائهم خُلْفٌ في بعض النسخ، فورد
لفظ في بدل من، والذي ذكرناه أنسب.
١١
غادروا: تركوا.
١٢
ويروى: مقالًا لم يسبقوه إليه.
١٣
ويروى: أقسامها.
١٤
أصاب بعض النسخ سقط في الكلمات فورد: «ولا في وجوه الأدب …» وأمَّا الضروب فجمع
ضرب بالفتح وهو الصِّنف.
١٥
ويروى: لغوامض الفطن.
١٦
ويروى بإسقاط «قد».
١٧
نوع: مفعول لتريد، وقد سقطت جملة الشرط من بعض النسخ.
١٨
الدرك محركة: إدراك الحاجة، يريد أنهم وإنْ حصلوا على بعض ما أمَّلوا وأدركوا
أثاره من علم، لم يكن حقيقًا أنْ يُسمَّى هذا الحصول إدراكًا للحاجة ولا وصولًا
للغاية.
١٩
حازها.
٢٠
يقال: ما له عنه غنًى بالكسر ولا مغنًى ولا غُنية ولا غنيان مضمومتين، ويراد:
ما له بد، والمعنى على هذا مستقيم لا غضاضة فيه، وأمَّا الغناء بالفتح ممدودًا
فيستعمل ضد الفقر مثل المقصور أيضًا.
٢١
كذلك وردت في نسخة الشنقيطي خُفافًا بالألف بين الفاءين، وزعم صاحب السعادة
أحمد زكي باشا أنَّ المعنى معها لا يستقيم، قال: ووردت هذه الكلمة في ش:
«خفافًا»، وأظن المعنى بها لا يستقيم، ورواها خِفا بالكسر ومعناه الخفيف، ولو
كان يعتمد في تحقيقه على غير ذاكرته، لرأى صاحب القاموس يقول: والخِف بالكسر:
الخفيف، والجماعة القليلة وكغراب الخفيف؛ لاستقام المعنى ولاستبان له
اللفظ.
٢٢
الحذر بالكسر ويحرك «مع الفتح»: التحرز ومجانبة الشيء.
٢٣
أصلها تتطول حذفت إحدى التاءين تخفيفًا، ومعناه تمتن، وتروى أيضًا: تطول من
الثلاثي المأخوذ من الطول الذي هو المن أيضًا.
٢٤
السقط محركة: الخطأ.
٢٥
من قولهم وني الرجل في الأمر: فتر وضعف وكلَّ وأعيا.
٢٦
الخطر بالتحريك: الشرف وارتفاع القدر والمنزلة.
٢٧
السُّوقة بالضم: الرعية من الناس للواحد، والجمع والمذكر والمؤنث، وقد سموا
كذلك؛ لأن الملك يسوقهم ويصرفهم إلى ما شاء، وأمَّا السوقي فواحد السوقيين لأهل
السوق.
٢٨
القِوام بالكسر: نظام الأمر وعماده، وملاكه الذي يقوم به.
٢٩
من قولهم راض المُهر روضًا ورياضة: ذلَّله وجعله مسخرًا مطيعًا، والمعنى
لتكره نفسك على مزاولة محاسنها.