في آداب السلطان وفيه مطالب
مطلبٌ «في أنَّ صاحب الإمارة لا ينبغي له أنْ يعني إلَّا بأعمالها»
وإنما الرأي له والحق عليه أنْ يأخذ لعمله من جميع شُغْله، فيأخذ له من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه قدْرَ ما يكونُ به إصلاح جسمه، وتقويةٌ له على إتمام عمله.
وإمَّا رجلًا كارهًا له مُكرَهًا عليه، فالكاره عاملٌ في سُخرةٍ؛ إمَّا للملوك إنْ كانوا هم سلَّطوه، وإمَّا لله تعالى إنْ كان ليس فوقه غيرُه.
وقد علمتَ أنه مَن فرَّط في سخْرَة الملوك أهلكوه، فلا تجعل للهلاك على نفسك سلطانًا ولا سبيلًا.
مطلبٌ «فيمن ينبغي للوالي أنْ ينال رضاه»
لِتكنْ حاجتك في الولاية إلى ثلاثِ خصال: رضى ربك، ورضى سلطان — إنْ كان فوقك — ورضى صالح مَن تَلِي عليه.
ولا عليك أنْ تلهو عن المال والذِّكْر، فسيأتيك منهما ما يحسنُ ويطيب ويُكتفى به.
مطلبٌ «فيمن يجب أنْ يكونوا بطانة وأصفياء»
مطلبٌ «في أنَّ رضى الناس غاية لا تُدرك»
إنك إنْ تلتمس رضى جميع الناس تلتمسْ ما لا يُدرك.
وكيف يتَّفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجتك إلى رضى مَن رِضاه الجَور، وإلى موافقة مَن موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقل؛ فإنك متى تُصِب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه.
مطلبٌ «فيما ينبغي للسلطان نحو أصفيائه وسائر رعيته»
لِتعرفْ رعيتُك أبوابك التي لا يُنال ما عندك من الخير إلَّا بها، والأبوابَ التي لا يخافُك خائف إلَّا من قِبَلها.
احرص الحرص كلَّه على أنْ تكون خابرًا أمورَ عُمَّالك، فإنَّ المُسيء يَفْرَق من خُبْرتك قبل أنْ يُصيبه وَقْعُك به وعقوبتك، وإنَّ المحسن يستبشر بعلمك قبل أنْ يأتيه معروفك.
لِيعرف الناس — فيما يعرفون من أخلاقك — أنك لا تُعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإنَّ ذلك هو أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
مطلبٌ «في الحثِّ على احتمال نصح النصيح وعَذْله»
مطلبٌ «في أنَّ السلطان لا ينبغي له أنْ يعني بغير الخطير من الرجال والأعمال»
لا تتركُنَّ مباشرة جسيم أمرك فيعودَ شأنك صغيرًا، ولا تُلزمن نفسك مباشرة الصغير، فيصيرَ الكبيرُ ضائعًا.
واعلم أنَّ مالك لا يُغني الناسَ كلهم فاخصص به أهل الحق، وأنَّ كرامتك لا تُطيق العامَّةَ كلها فتَوَخَّ بها أهل الفضل، وأنَّ قلبك لا يتسع لكل شيء ففرِّغه للمهم، وأنَّ ليلك ونهارك لا يستوْعبان حاجاتك وإنْ دأبتَ فيهما، وأنْ ليس لك إلى إدامة الدأب فيهما سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه منهما، فأحسنْ قسمتهما بين عملك ودَعَتِك.
واعلم أنَّ ما شَغَلْتَ من رأيك بغير المهم أزرَى بك في المهم، وما صرفت من مالك في الباطل فقدتهُ حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك عند الحاجة منك إليه.
مطلبٌ «في تحذير السلطان من الإفراط في الغضب والتسرع في الرضى»
مطلبٌ «في أنواع المُلك»
اعلم أنَّ المُلك ثلاثةٌ: مُلك دِينٍ، ومُلك حزمٍ، ومُلك هوًى.
فأمَّا مُلك الدَّين فإنه إذا أقام للرعية دينهم، وكان دينهم هو الذي يُعطيهم الذي لهم ويُلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم.
وأمَّا مُلك الحزم فإنه يقوم به الأمر ولا يَسلَم من الطعن والتسخُّط، ولن يضرَّ طعنُ الضعيف مع حزم القويِّ.
وأمَّا مُلك الهوى فَلَعِبُ ساعةٍ ودَمارُ دهرٍ.
مطلبٌ «في التحذير مما لم يُبْنَ على حزم من أعمال السلطان»
فما كان من الأمور بُنِي على غير أركانٍ وثيقة ولا دعائمَ مُحكمة، أوشكَ أنْ يتداعى ويتصدَّع.
لا تكوننَّ نَزْر الكلام والسلام، ولا تبلُغنَّ بهما إفراط الهشاشة والبشاشة، فإنَّ إحداهما من الكِبْر والأخرى من السُّخْفِ.
مطلبٌ «في حضِّ السلطان على التوثق من رأي الأعوان قبل الإقدام»
مطلبٌ «في تحذير السلطان من أمَّات الرذائل: الغضب والكذب والبخل وكثرة الحلف»
ليس للمَلِك أنْ يغضب؛ لأن القُدرة من وراء حاجته.
وليس له أنْ يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد.
وليس له أنْ يبخل؛ لأنه أقل الناس عذرًا في تخوُّف الفقر.
مطلبٌ «في أن لا عيب على المَلِك أنْ يلهو إذا وثق من تدبير ملكه»
مطلبٌ «في أنَّ أحق الناس باتهام نظره بعين الريبة السلطان»
وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل؛ الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمرًا نافذًا غيرَ مردود.
لِيعلم الوالي أنَّ الناس يَصِفُون الوُلاة بسُوءِ العهد ونسيان الوُد، فلْيكابِر نقض قولهم، ولْيُبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يُوصفون بها.
مطلبٌ «في حض السلطان على الإمعان في تفقد أمر رعيته»
حقُّ الوالي أنْ يتفقَّد لطيف أمور رعيته، فضلًا عن جسيمها، فإن لِلَّطيف موضعًا يَنْتفِع به، وللجسيم موضعًا لا يَستغني عنه.
مطلبٌ «فيما ينبغي للوالي أنْ يتخلَّى عنه»
لا ينبغي للوالي أنْ يحسُدَ الولاة إلَّا على حسن التدبير.
ولا يحسُدنَّ الوالي مَن دونه، فإنه أقلُّ في ذلك عذرًا من السُّوقة التي إنما تحسُدُ مَن فوقها، وكُلٌّ لا عُذْر له.
لا يلومنَّ الوالي على الزَّلَّة مَن ليس بمُتَّهَم عنده في الحرص على رضاه إلَّا لَوْمَ أدَب وتقويم، ولا يعدِلنَّ بالمجتهد في رضاه البصير بما يأتي أحدًا.
فإنهما إذا اجتمعا في الوزير والصاحب نام الوالي واستراح، وجُلِبت إليه حاجاته، وإنْ هدأ عنها، وعُمِل له فيما يُهمُّه وإنْ غَفَلَ.
لا يُضيِّعَنَّ الوالي التثبُّت عندما يقول، وعندما يُعطي، وعندما يَعْمل.
فإنَّ الرجوعَ عن الصمت أحسنُ من الرجوع عن الكلام، وإنَّ العطيَّة بعد المنع أجملُ من المنع بعد الإعطاء، وإنَّ الإقدام على العمل بعد التأنِّي فيه أحسنُ من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه.
وكل الناس محتاجٌ إلى التثبت.
وأحوجهم إليه ملوكُهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافعٌ، وليس عليهم مستحِثٌّ.
مطلبٌ «فِي حَثِّ السلطان على الأخذ بالدين والبر والمروءة»
مطلبٌ «فيما يحتاج إليه الوالي من الآراء»
ورأي التزيين أحضرهما حلاوةً وأكثرهم أعوانًا.
مع أنَّ القوَّة من الزينة، والزينة من القوة، ولكنَّ الأمر يُنْسَب إلى مُعْظَمِه وأصله.
رأى صاحب السعادة أحمد زكي باشا في تحقيق نسخته، أنَّ الأولى استبدال لفظ العيب بلفظ العجب ليستقيم المعنى، ولكنه رجع آخر الكتاب فارتضى العجب واستقام له المعنى.
وفي «أجناد الشأم» بذكر قول أحمد بن يحيى بن جابر: اختلفوا في الأجناد؛ فقيل سمَّى المسلمون فِلَسْطين جندًا؛ لأنه يجمع كورًا، والتجند التجمع، ثم قال أيضًا: … ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى حمص حتى كان يزيد بن معاوية، فجعل قنسرين وأنطاكية ومنبج جندًا يرأسه. وقد كان ياقوت جعل قنسرين أحد أجناد الشأم الخمسة.
فيستخلص من هذا كله أنَّ حاشية المحقق أحمد زكي باشا قد دخلها السهو، وأنَّ الكورة لا توازي الجند في الشأم كما يقول.
وهنا استدرك صاحب السعادة أحمد زكي باشا على هذا الأمير آخر الكتاب وجاء بتحقيق مستفيض، ولكن لنا عليه ملاحظات ستَرِد بعد أنْ نذكره لك قال: «وإنما احتاج ابن المقفع لاستعمال جملة: «والعيب لهم.» لاستخدام لام التقوية التي تأتي بعد المشتقات لضعفها عن العمل بنفسها، ولو قال: «وعيبهم أو وعيبهم إياهم» لكان الكلام صحيحًا، ولكنه راعى المشاكلة مع الجار والمجرور قبله في قوله: «والاجتراء عليهم.» فاستعمل والعيب لهم، وهذا من حسن الديباجة وجمال الملاءمة التي يميل إليها بلغاء الكتاب.» ا.ﻫ. قول المحقق.
وأمَّا ملاحظاتنا؛ فأُولاها: اعتباره هذا المركب جملة، وهو قول ابن المقفع: «والعيب لهم»، وهو بعيد عن تقسيم الجمل التي يعرفها النحوي والبياني والمنطقي. وثانيهما: تعريفه لام التقوية بأنها التي تأتي بعد المشتقات؛ فإن هذا التعبير مما يدلُّ على أنه رأى في لفظ العيب اشتقاقًا، وكذلك يرى الكوفيون: أنَّ المصدر مشتق، ولكن ماذا يرى المحقق في قول الله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ هل يعتقد أنَّ الفعل مشتق أيضًا؟! وهل يعتقد أنَّ اللام جاءت «بعد» مشتق؟!
ثالثها: أنه جعل قول ابن المقفع غير صحيح، ثم لم يلبث أنْ جعله من حسن الديباجة وجمال الملاءمة التي يميل إليها بلغاء الكتَّاب! ولستُ أدري كيف تكون اللام للتقوية ومن باب المشاكلة، ثم يكون غير صحيح؟! ولعله يريد أنَّ هذا التركيب مما يمنعه الاستعمال المسموع وتجيزه القواعد الموضوعة، فإن كان ذلك يريد فعبارته تحتاج بعدُ إلى بيان أشفى وأوضح.
والحقيقة أنَّ لام التقوية هي المزيدة لتقوية عاملٍ ضعف عن العمل، وذلك إذا تأخر كقوله تعالى: هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ، أو كان العامل فرعًا في العمل، كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وصيغة المبالغة؛ نحو: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى، وأمَّا ذلك التعريف الذي جاء به فلم يرض عنه كوفي ولا بصري.
ألا ترى أنَّ المحقق نفسه وسائر اللغويين يتفقون على: «أنجحت الحاجة، وأنجحها الله.» مع أنَّ اختلاف الإسناد جعل في الفعلين اختلافًا معنويًّا ولفظيًّا لا شك فيه؛ أمَّا المعنوي فإن إنجاح الحاجة: تيسرها، وإنجاح الله إياها: تيسيره لها، وأمَّا اللفظي فظاهرٌ وهو أنَّ أول الفعلين لازم مطاوع لثانيهما المتعدي.
فتبيَّن الآن أنَّ الخفيفة تؤدي ما تؤديه الثقيلة، وقد تقوم مقامها ولا وجه إذن للأولوية التي ذكرها المحقق في نسخته، على أنَّ ابن المقفع راعى في ذلك كله الأسلوب وانبساط النفس الذي يجري مع الخفيفة، ويسلس في هذا التركيب.
وأمَّا نحن فقد رجحنا أنها: فلا تنفك داعية، وتحريف «نافعة» عن «داعية» سهل وقريب، والمعنى على ذلك بيِّنٌ لا شُبهة فيه، يريد: إنْ لم تكن على ثقة من دخيلة أعوانك فلا تزل فيهم داعية تبرر رأيك، وتدعم حجتك، وتقوي عقيدتك حتى تحملهم على أنْ يكونوا موضعًا لثقتك.
وربما قيل في هذا التحريف: «فلا تنفعك نافعة.» وهذه الجملة مع قربها وإمكان موافقتها لا يزال فيها شيء من خفاء.