الباب الأول
في الأصدقاء
مطلبٌ «في معاملة الناس»
ابْذُلْ لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك
١ رِفْدك
٢ ومَحْضَرك، وللعامَّة بِشْرَك وتحنُّنَك، ولعدوِّك عَدْلك
وإنصافك.
واضنن بدِينك وعِرْضِك على كل أحد.
مطلبٌ «في تحذير المرء من انتحاله رأي غيره»
إنْ سمعت من صاحبك كلامًا أو رأيتَ منه رأيًا يعجبك، فلا تنتحِلْه تَزَيُّنًا به
عند الناس، واكتفِ من التزيُّن بأن تجتني الصَّواب إذا سمعته، وتنسُبَه إلى
صاحبه.
واعلم أنَّ انتحالك ذلك مسخطةٌ لصاحبك، وأنَّ فيه مع ذلك عارًا وسُخْفًا.
فإن بلغ بك ذلك أنْ تُشير برأي الرجل وتتكلمَ بكلامه وهو يسمع؛ جَمَعْتَ مع الظلم
قِلَّةَ الحياء، وهذا من سُوء الأدب الفاشي في الناس.
ومن تمام حُسن الخُلُق والأدب في هذا الباب، أنْ تَسْخُو نفسُك لأخيك بما انتحلَ
من كلامك ورأيك، وتنسُبَ إليه رأيه وكلامه، وتُزيِّنَه مع ذلك ما استطعت.
ولا يكوننَّ من خُلُقِك أنْ تبتدئ حديثًا ثم تقطعه وتقول: سوف، كأنك رَوَّأتَ
٣ فيه بعد ابتدائك إياه، وليكن تروِّيك فيه قبل التفوُّه به، فإن احتجان
٤ الحديث بعد افتتاحه سُخْف وغمٌّ.
مطلبٌ «في الحضِّ على تخير المواضع لرأيك»
اخزُنْ عقلك وكلامك إلَّا عند إصابة الموضع؛ فإنه ليس في كلِّ حين يحسُنُ كلُّ
صواب، وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع، فإن أخطأك ذلك أدخلتَ المِحنة
٥ على عقلك وقولك حتى تأتي في موضعه، وإنْ أتيت به في غير موضعه، أتَيْتَ
به وهو لا بَهاء ولا طُلاوة له.
وليعرفِ العلماء حين تُجالسهم أنَّك على أنْ تسمعَ أحرص منك على أنْ تقول.
مطلبٌ «في تجنب الهزل ولو كان مزاحًا ما لم تكبت به عدوًّا»
إن آثرتَ أنْ تُفاخر أحدًا ممن تستأنِس إليه في لَهْو الحديث، فاجعلْ غاية ذلك
الجِدَّ، ولا تعتدْ أنْ تتكلم فيه بما كان هزلًا، فإذا بلغه أو قارَبَه
فدَعْه.
ولا تخلطنَّ بالجدِّ هزلًا، ولا بالهزل جدًّا؛ فإنك إنْ خلطت بالجد هزلًا
هجَّنته، وإنْ خلطت بالهزل جدًّا كدرته.
غير أني قد علِمْتُ مَوْطنًا واحدًا إنْ
قدرت أنْ تستقبل فيه الجِدَّ بالهزل، أصبتَ الرأي وظهرتَ على الأقران؛ وذلك أنْ يتورَّدَك
٦ متورِّدٌ بالسفه والغضب وسُوء اللفظ، فتجيبه إجابة الهازل المداعب،
بُرحْبٍ من الذَّرْع، وطلاقةٍ من الوجه، وثباتٍ من المنطق.
مطلبٌ «في أن لا خوف عليك من أخي الثقة أنْ يخالط العدو»
إنْ رأيت صاحبك مع عدوِّك فلا يُغضبنَّك ذلك؛ فإنما هو أحد رجلين: إنْ كان رجلًا
من إخوان الثقة فأنفعُ مَواطِنه لك أقربُها من عدوِّك؛ لشَرٍّ يكفه عنك أو لعورة
يسترها منك، أو غائبة يطَّلع عليها لك، فأمَّا صديقك فما أغناك أنْ يحضره ذو
ثقتك.
وإنْ كان رجلًا من غير خاصَّة إخوانك، فبأي حقٍّ تقطعه عن الناس وتُكَلِّفه ألَّا
يُصاحب ولا يُجالس إلَّا مَن تهوى؟
تحفَّظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطِبْ نفسًا عن كثير ممَّا يعرِض
لك فيه صوابُ القول والرأي، مداراةً لأَنْ يظُنَّ أصحابك أنَّك إنما تُريد التطاول
عليهم.
مطلبٌ «في التحفظ من الصديق المقبل بوده»
إذا أقبل إليك مُقبلٌ بِوُدِّهِ فَسَرَّك ألَّا يُدبر عنك، فلا تُنعِم الإقبال
عليه والتفتُّح له؛ فإن الإنسان طُبع على ضرائب لُؤم، فمن شأنه أنْ يرحل عمَّن
لَصِق به، ويلصق بمن رحل عنه إلَّا من حفِظ بالأدب نفسَه وكابر طبعَه.
فتحفظ من هذا فيك وفي غيرك.
مطلبٌ «في أنَّ الدَّعِيَّ لا محالة مفضوح»
لا تُكثِرنَّ ادِّعاء العلم في كل ما يعرِض بينك وبين أصحابك، فإنَّك من ذلك بين
فضيحتين: إمَّا أنْ ينازعوك فيما ادَّعيتَ؛ فيُهْجَم منك على الجهالة والصَّلَف.
٧
وإمَّا ألَّا ينازعوك ويُخَلُّوا في يديك ما ادَّعيت من الأمور، فينكشفَ منك
التصنُّع والمَعْجَزَةُ.
واستحِ الحياءَ كلَّه من أنْ تخبر صاحبك أنَّك عالم وأنه جاهل؛ مصرِّحًا أو
مُعَرِّضًا.
وإنْ استطلت على الأكْفَاء فلا تثقنَّ منهم بالصفاء.
وإنْ آنست من نفسك فضلًا فتحرَّج أنْ تذكره أو تُبْديه، واعلم أنَّ ظهوره منك
بذلك الوجه يقرِّر لك في قلوب الناس من العيبِ أكثرَ مما يقرِّر لك من
الفضل.
واعلم أنَّك إنْ صبرت ولم تَعْجَلْ ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند
الناس.
ولا يَخفَيَنَّ عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده، وقِلَّةَ وقاره في ذلك بابٌ
من أبواب البخل واللؤم.
وأنَّ من خير الأعوان على ذلك السخاءَ والتكرُّمَ.
وإنْ أردت أنْ تَلبَسَ ثوب الوقار والجمال، وتتحلَّى بحلية المودَّة عند العامة،
وتسلك الجَدَدَ
٨ الذي لا خَبار
٩ فيه ولا عثَار، فكن عالمًا كجاهل وناطقًا كعييٍّ.
فأمَّا العلم فيزينك ويرشدك، وأمَّا قلة ادعائه فينفي عنك الحسدَ، وأمَّا المنطق
«إذا احتجت إليه» فيبلغك حاجتك، وأمَّا الصمت فيكسبك المحبة والوقار.
وإذا رأيت رجلًا يحدِّث حديثًا قد علمته أو يُخبر خبرًا قد سمعته، فلا تشاركه فيه
ولا تتعقبه عليه، حِرصًا على أنْ يَعلم الناس أنك قد علمته، فإنَّ في ذلك خِفةً
وشُحًّا وسوء أدب وسُخْفًا.
ولْيعرف إخوانُك والعامة أنك «إنْ استطعت» إلى أنْ تفعل ما لا تقول، أقربُ منك
إلى أنْ تقول ما لا تفعل.
فإن فضلَ القول على الفعل عارٌ وهُجنةٌ، وفضل الفعل على القول زينةٌ.
وأنت حقيقٌ فيما وعدتَ من نفسك، أو أخبرت به صاحبك أنْ تحتجن بعض ما في نفسك؛
إعدادًا لفضل الفعل على القول، وتحرُّزًا بذلك عن تقصير فعل إن قصَّر، وقلما يكون
إلَّا مقصِّرًا.
مطلبٌ «في أنَّ واجب المرء نحو عدوه العدل ونحو صديقه الرضاء»
احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتُك فيما بينك وبين عدوِّك العدل، وفيما بينك
وبين صديقك الرضاء.
وذلك أنَّ العدوَّ خَصْمٌ تَصْرَعه بالحجة، وتغلِبه بالحكام، وأنَّ الصديق ليس
بينك وبينه قاض، فإنما حَكَمُه رضاه.
مطلبٌ «في التثبُّت من الصديق قبل الإقدام عليه»
اجعل غاية تشبُّثك في مؤاخاة مَن تؤاخي، ومواصلة من تواصل توطينَ نفسك على أنه لا
سبيل لك إلى قطيعة أخيك، وإنْ ظهر لك منه ما تكره، فإنه ليس كالمملوك تُعتِقه متى
شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنَّه عِرضُك ومروءتك، فإنما مُروءة الرجل
إخوانه وأخدانه، فإن عَثَر الناس على أنك قطعتَ رجلًا من إخوانك، «وإنْ كنت
مُعذرًا» نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والمَلال فيه، وإنْ أنت مع ذلك
تصبَّرت على مُقارَّته على غير الرضَى، عاد ذلك إلى العيب والنقيصة.
فالاتئادَ الاتئاد! والتثبُّتَ التثبُّت!
وإذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائك، فإن كان من إخوان الدين، فليكن فقيهًا غير
مُراء ولا حريصٍ، وإنْ كان من إخوان الدنيا، فليكن حرًّا ليس بجاهل ولا كذاب ولا
شِرِّير ولا مشنوع.
١٠
فإن الجاهلَ أهلٌ أنْ يهربَ منه أبواه، وإنَّ الكذَّاب لا يكون أخًا صادقًا؛ لأن
الكذب الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذِب قلبه، «وإنما سمي الصديق من الصدق،
وقد يُتَّهم صِدق القلب وإن صدق اللسان، فكيف إذا ظهر الكذب على اللسان؟» وإن
الشرِّير يَكسِبُك العدوَّ، ولا حاجة لك في صداقة تجلب العداوة، وإنَّ المشنوع شانعٌ
١١ صاحبه.
واعلم أنَّ انقباضك عن الناس يكسبك العداوة، وأنَّ انبساطك
١٢ إليهم يكسبك صديق السوء، وسوءُ الأصدقاء أضرُّ من بغض الأعداء، فإنك
إنْ واصلتَ صديق السوء أعْيَتْك جرائره،
١٣ وإن قطعته شانَك اسم القطيعة، وألزمك ذلك من يرفع عيبَك ولا ينشرُ
عُذرَك، فإن المعايب تَنْمي والمعاذيرَ لا تنمي.
مطلبٌ «فيما ينبغي للعاقل أنْ يسلكه إزاء العامة والخاصة»
الْبَسْ للناس لباسين ليس للعاقل بُدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءة إلَّا بهما:
لباسَ انقباض واحتجاز من الناس، تلبسه للعامة فلا يلقَوْنَك إلَّا متحفِّظًا
متشددًا متحرِّزًا مستعدًّا.
ولباسَ انبساط واستئناس، تلبسه للخاصة الثقات من أصدقائك؛ فتلقاهم بذات صدرك
وتُفضي إليهم بمصون حديثك، وتضع عنك مئونة الحَذَر والتحفُّظ فيما بينك
وبينهم.
وأهل هذه الطبقة — الذين هم أهلها — قليلٌ
من قليل حقًّا؛ لأن ذا الرأي لا يُدخل أحدًا من نفسه هذا المَدْخَل إلَّا بعد
الاختبار والتكشُّف، والثقة بصدق النصيحة ووفاء العهد.
مطلبٌ «فيما ينبغي للعاقل أنْ يغلبه على لسانه»
اعلم أنَّ لسانك أداةٌ مُصْلَتَةٌ، يتغالب عليه عقلك وغضبك وهواك وجهلك، فكلُّ
غالب عليه مستمع به وصارفه في محبته، فإذا غلب عليه عقلك فهو لك، وإنْ غلب عليه
شيءٌ من أشباه ما سمَّيتُ لك فهو لعدوك.
فإن استطعت أنْ تحتفظ به وتصونه فلا يكون إلَّا لك، ولا يستولي عليه أو يشاركك
فيه عدوُّك فافعل.
مطلبٌ «في الحض على مواساة الصديق عند النوائب»
إذا نابتْ أخاك إحدَى النوائب من زوال نعمة أو نزول بليَّة، فاعلم أنك قد ابتُليت
معه؛ إمَّا بالمؤاساة فتشاركه في البليَّة، وإمَّا بالخذلان فتحتمل العار.
فالتمس المَخرج عند أشباه ذلك، وآثر مُرُوءَتك على ما سواها.
فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسُك مشاركة أخيك فيها فأجمل،
١٤ فلعل الإجمال يَسَعُك؛ لقلَّة الإجمال في الناس.
مطلبٌ «ينبغي لصديق السلطان ألَّا يدل عليه بقدمه»
إذا أصاب أخوك فضلَ منزلة أو سلطان، فلا تُرِيَنَّه أنَّ سلطانه قد زادك له
وُدًّا، ولا يعرفنَّ منك عليه بماضي إخائك تدلُّلًا، وأَرِه أنَّ سلطانه زادك له
توقيرًا وإجلالًا من غير أنْ يقدِر أنْ يزيده وُدًّا ولا نُصحًا، وأنك ترى حقًّا
للسلطان التوقيرَ والإجلال، فكُن في المداراة له والرفق به كالمؤتنف لما قبله، ولا
تقدِّر الأمور فيما بينك وبينه على شيء مما كنت تعرِف من أخلاقه، فإنَّ الأخلاقَ مستحيلة
١٥ مع السلطان، وربما رأينا الرجل المُدِلَّ على السلطان بقِدَمِه قد
أضرَّ به قِدَمُه.
مطلبٌ «فيمن يجوز أنْ تعتذر إليه أو تحدثه»
لا تعتذرنَّ إلَّا إلى مَن يحب أنْ يجد لك عذرًا، ولا تستعينَّ إلَّا بمن يُحب
أنْ يُظفِرَك
١٦ بحاجتك، ولا تُحدِّثنَّ إلَّا من يرى حديثك مَغْنَمًا، ما لم يغلِبْك
اضطرارٌ.
وإذا اعتذر إليك معتذرٌ، فتلقَّه بوجهٍ مُشْرق وبِشْرٍ ولسان طَلْقٍ
١٧ إلَّا أنْ يكون ممن قطيعته غنيمة.
إذا غَرَست من المعروف غَرسًا، وأنفقت عليه نفقةً فلا تَضِنَّنَّ في تربية ما
غرست واستنمائه، فتذهب النفقة الأولى ضَياعًا.
١٨
مطلبٌ «في الحرص على اتحاد الإخوان وتعهد المعروف»
اعلم أنَّ إخوان الصدق هم خير مكاسب
١٩ الدنيا، هم زينةٌ في الرخاء، وعُدَّةٌ في الشدة، ومعونةٌ على خير
المعاش والمعاد، فلا تُفرطنَّ في اكتسابهم وابتغاء الوُصُلات
٢٠ والأسباب إليهم.
واعلم أنك واجدٌ رغبتك من الإخاء عند أقوام قد حالتْ بينك وبينهم بعض الأُبَّهة،
٢١ التي قد تعتري بعض أهل المروءات فتحجز عنهم كثيرًا ممن يرغب في
أمثالهم، فإذا رأيت أحدًا من أولئك قد عَثَر به الدهر، وعَرفتَ نفسك أنه ليس عليك
في دُنوِّك منه، وابتغائك مودَّته وتواضعك له؛ مذلَّةٌ، فاغتنم ذلك منه واعمل
فيه.
مطلبٌ «في أنَّ إحياء المعروف بنسيانه والتصغير له»
إذا كانت لك عند أحد صنيعةٌ
٢٢ أو كان لك عليه طَوْلٌ،
٢٣ فالتمس إحياء ذلك بإماتته، وتعظيمه بالتصغير له، ولا تقتصرنَّ في قلة المنِّ
٢٤ به على أنْ تقول: لا أذكُرُهُ ولا أصغي بسمعي إلى مَن يذكره، فإن هذا
قد يستحي منه بعض من لا يوصف بعقل ولا كَرَم، ولكن احذر أنْ يكون في مجالستك
إيَّاه، وما تُكلِّمه به أو تستعينه عليه أو تُجاريه فيه؛ شيءٌ من الاستطالة فإن
الاستطالة تهدم الصنيعة وتُكدِّر المعروف.
مطلبٌ «في علاج انفعالات النفس والاحتراس منها»
احترس من سَوْرة الغضب، وسَوْرة الحمية، وسَوْرة الحقد، وسَوْرة الجهل،
٢٥ وأعدِدْ لكلِّ شيء من ذلك عُدَّةً تجاهده بها من الحلم، والتفكُّر، والرويَّة،
٢٦ وذِكر العاقبة، وطلب الفضيلة.
واعلم أنَّك لا تُصيبُ الغلبة إلَّا بالاجتهاد والفضل، وأنَّ قلة الإعداد لمدافعة
الطبائع المتطلعة هو الاستسلام لها، فإنه ليس أحدٌ من الناس إلَّا وفيه من كل
طبيعةٍ سوء غريزة، وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء.
فأمَّا أنْ يَسْلم أحدٌ من أنْ تكون فيه تلك الغرائز فليس في ذلك مطمعٌ، إلَّا
أنَّ الرجل القويَّ إذا كابرها بالقمع
٢٧ لها كلما تطلَّعتْ لم يلبث أنْ يُميتها حتى كأنها ليست فيه، وهي في ذلك
كامنة كُمون النار في العود، فإذا وَجَدت قادحًا
٢٨ من علة، أو غفلةً استورت
٢٩ كما تستوري النار عند القدح، ثم لا يبدأ ضرُّها إلَّا بصاحبها، كما لا
تبدأ النار إلَّا بعُودها الذي كانت فيه.
مطلبٌ «في الصبر على من يلازمك وبيان أنواعه ومعناه»
ذَلِّلْ نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء؛ فإن ذلك مما لا
يكاد يُخْطِئُك.
واعلم أنَّ الصبر صبران: صبرٌ المرء على ما يكرَهُ، وصبره عما يُحِبُّ.
والصبر على المكروه أكبرهما
٣٠ وأشبههما أنْ يكون صاحبه مُضطَرًّا.
واعلم أنَّ اللئام أصبر أجسادًا، وأنَّ الكرام هم أصبر نفوسًا.
وليس الصبر الممدوح بأن يكون جِلْدُ الرجل وَقَاحًا
٣١ على الضرب، أو رِجلُه قويَّة على المشي، أو يدُه قويةً على العمل؛
فإنما هذا من صفات الحَمير.
ولكنَّ الصبر الممدوح أنْ يكون للنفس غَلُوبًا، وللأمور محتملًا، وفي الضَّرَّاء
متجمَّلًا،
٣٢ ولنفسه عند الرأي والحِفاظ
٣٣ مرتبطًا،
٣٤ وللحزم مُؤْثِرًا، وللهوى تاركًا، وللمشقة التي يرجو حسن عاقبتها
مستخفًّا، ولنفسه على مجاهدة الأهواء والشهوات مُوَطِّنًا
٣٥ ولبصيرته بعزمه مُنفِّذًا.
٣٦
مطلبٌ «في ترغيب النفس في العلم وبيان الأنفع منه»
حبِّبْ إلى نفسك العلْمَ حتى تلزمه وتألفه، ويكون هو لهْوَك ولذَّتك وسلوتك وتعلُّلَك
٣٧ وشهوتك.
واعلم أنَّ العلم علمان: علمٌ للمنافع، وعلمٌ لتذكية
٣٨ العقول.
وأفشى العِلْمين وأجداهما
٣٩ أنْ يَنْشطَ له صاحبه من غير أنْ يُحَضَّ عليه علمُ المنافع، والعلمُ
الذي هو ذكاء العقول وصِقالها وجلاؤُها، فضيلة منزلةٍ عند أهل الفضيلة
والألباب.
مطلبٌ «في أقسام السخاء وتحبيب النفس إليه»
واعلم أنه سخاءان: سَخاوةُ نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته
٤١ عما في أيدي الناس.
وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما وأقربهما من أنْ تدخل فيه المفاخرة، وتركه
ما في أيدي الناس أمحضُ في التكرُّم وأبرأ من الدَّنَس وأنزه.
فإن هو جمعهما فَبَذَلَ وعفَّ فقد استكمل الجود والكرم.
مطلبٌ «في ذم الحسد وذكر ما يُنجي منه»
ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألَّا تكون حسودًا.
فإن الحسد
٤٢ خُلُقٌ لئيمٌ، ومن لؤمه أنه موكَّل
٤٣ بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكْفاء والمعارف والخُلَطاء
والإخوان.
فليكن ما تعامل
٤٤ به الحسد أنْ تعلم أنَّ خير ما تكونُ حين تكون مع من هو خير منك، وأنَّ
غُنْمًا حسنًا لك أنْ يكون عشيرك وخليطك أفضلَ منك في العلم فتقتبس من علمه، وأفضل
منك في القوَّة فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال فتُفيدَ
٤٥ من ماله، وأفضل منك في الجاه فتُصيبَ حاجتك بجاهه، وأفضلَ منك في
الدِّين فتزدادَ صلاحًا بصلاحه.
مطلبٌ «في التحذير من أن تكاشف عدوك أو حاسدك بدخيلة نفسك»
ليكن مما تنظر فيه من أمر عدوِّك وحاسدك، أن تعلم أنه لا ينفعُك أنْ تخبر عدوَّك
وحاسدَك أنَّك له عدوٌّ، فتُنْذِرَه بنفسك، وتُؤذِنه بحربك قبل الإعداد والفرصة،
فتحمله على التسلُّح لك، وتُوقِد ناره عليك.
واعلم أنَّه أعظمُ لخطرك
٤٦ أنْ يرى عدوُّك أنك لا تتخذه عدوًّا، فإن ذلك غِرَّةٌ
٤٧ له وسبيلٌ لك إلى القدرة عليه، فإن أنت قدرت واستطعت اغتفار العداوة عن
أن تكافئ بها فهنالك استكملت عظيمَ الخَطَر.
مطلبٌ «في مكافأة العدو وبيان الحيلة في تفريق الناس عنه»
إنْ كنت مُكافئًا بالعداوة والضرر، فإيَّاك أنْ تكافئ عداوة السرِّ بعداوة
العلانية، وعداوة الخاصَّة بعداوة العامة، فإن ذلك هو الظلم.
واعلم مع ذلك أنَّه ليس كل العداوة والضرر يُكافأ بمثله: كالخيانة لا تُكافأ
بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة.
ومن الحيلة في أمرك مع عدوِّك أنْ تصادق أصدقاءه وتؤاخي إخوانه، فتدخل بينه
وبينهم في سبيل الشقاق والتلاحي
٤٨ والتجافي؛ حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعة والعداوة له، فإنهَّ ليس رجلٌ
ذو طَرْق
٤٩ يمتنع من مؤَاخاتك إذا التمست ذلك منه، وإنْ كان إخوان عدوِّك غير ذوي
طَرْق فلا عدوَّ لك.
مطلبٌ «في الحضِّ على الوصول إلى مثالب العدو وكتمها عنه»
لا تَدَعْ — مع السكوت عن شتم عدوك — إحصاء
٥٠ مثالبه ومعايبه ومعايره
٥١ واتِّباع عوراته؛ حتى لا يشذُّ عنك من ذلك صغير ولا كبير، من غير أن
تشيع ذلك عليه فيتَّقيك به، ويستعدَّ له، ولا تذكره في غير موضعه، فتكون كمستعرض
الهواءَ بنَبْلِه
٥٢ قبل إمكان الرمي.
ولا تتخذنَّ اللعن والشتم على عدوِّك سلاحًا؛ فإنه لا يجرح في نفسٍ، ولا منزلةٍ،
ولا مال، ولا دِينٍ.
مطلبٌ «في الحضِّ على كتمان دهائك عن الناس»
إنْ أردت أنْ تكون داهيًا
٥٣ فلا تُحبَّنَّ أنْ تسمَّى داهيًا؛ فإنه مَن عُرِفَ بالدهاء خاتل
٥٤ علانيةً، وحذِرَه الناس
٥٥ حتى يمتنع منه الضعيف ويتعرَّض له القويُّ.
وإنَّ من إرْب
٥٦ الأريب دفنُ
٥٧ إرْبه ما استطاع حتَّى يُعْرف بالمسامحة في الخليقة والاستقامة في
الطريقة.
ومن إرْبه ألَّا يوارب
٥٨ العاقل المستقيم الطريقة، والذي يطلع على غامض إربه فيَمْقُته
عليه.
وإنْ أَردتَ السلامة فأَشْعِر قلبك الهيبة
٥٩ للأمور، من غير أنْ تَظهرَ منك الهيبة، فتُفطنهم بنفسك، وتجرِّئَهم
عليك، وتدعو إليك منهم كلَّ الذي تهاب.
فاشْعَبْ
٦٠ لمداراة ذلك من كتمان الهيبة وإظهار الجُرأة
٦١ والتهاون طائفة
٦٢ من رأيك.
وإنْ ابتُليتَ بمحاربة عدوك فحالفْ
٦٣ هذه الطريقة التي وصفتُ لك من استشعار الهيبة وإظهار الجُرأة والتهاون،
وعليك بالحذر والجِدِّ في أمرك، والجُرأة في قلب؛ حتى تملأ قلبَك جَراءةً ويستفرِغَ
عملك الحذر.
مطلبٌ «في أحوال الأعداء وبيان السبيل التي تصل بك إلى قهرهم والغلبة
عليهم»
اعلم أنَّ من عدوِّك من يعمل في هلاكك، ومنهم من يعمل في مصالحتك، ومنهم من يعمل
في البعد منك.
فاعرفهم على منازلهم.
ومن أقوى القوَّة لك على عدوِّك، وأعزِّ أنصارك في الغلبة له؛ أنْ تُحصيَ على
نفسكَ العيوبَ والعوراتِ، كما تحصيها على عدوِّك، وتنظر عند كل عيب تراه أو تسمعه
لأحدٍ من الناس: هل قارفت
٦٤ ذلك العيبَ أو ما شاكله؟ أو سلِمْت منه.
فإن كنت قارفتَ شيئًا منه جعلته مما تُحْصِي على نفسك، حتى إذا أحصيتَ ذلك كلَّه
فكاثِر
٦٥ عدوَّك بإصلاح نفسك وعثراتك،
٦٦ وتحصين عوراتك وإحراز مقاتلك.
وخُذْ نفسك بذلك مُمْسيًا ومُصْبِحًا.
فإذا آنست منها
٦٧ دفعًا له وتهاونًا به،
٦٨ فاعدُدْ نفسك عاجزًا ضائعًا خائبًا، مُعْوِرًا
٦٩ لعدوِّك، مُمْكِنًا
٧٠ له من رمْيك.
مطلبٌ «في دواء ما يُستعصَى عليك إصلاحه من أدواء نفسك»
وإنْ حصل من عيوبك وعوراتك ما لا تقدِر على إصلاحه من ذنبٍ مضى لك، أو أمرٍ
يعيبُك عند الناس، ولا تراه أنت عيبًا، فاحفظ ذلك، واجعله نُصْبَ عينيك
٧١ ولا تقل: وما عسى يقول فيَّ القائل! فاعلم أنَّ عدوَّك مُريدُك بذلك،
فلا تغفل عن التَّهيُّؤ له بحيلتك فيه سرًّا وعلانيةً، وعن الإعداد لقوَّتك وحُجتك
من نسبك ومثالب آبائك أو عيب إخوانك وأخدانك.
فأمَّا الباطل فلا تَرُوعَنَّ به قلبَك ولا تستَعِدَّنَّ له ولا تشتغلنَّ بشيءٍ
من أمره، فإنه لا يَهُولك ما لم يقع، وما إنْ وقع اضمحل.
مطلبٌ «في أنَّ ما في نفسك تظهر آثاره عليك إذا فوجئت به»
واعلم أنه قلَّما بُدِهَ
٧٢ أحد بشيء يعرفه من نفسه — وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس — فيُعَيِّرُه
٧٣ به مُعَيِّرٌ عند السلطان أو غيره، إلا كاد يشهَد به عليه وجهُه وعينُه
ولسانُه للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتُوره عند تلك
البديهة.
فاحذر هذه وتصنَّع لها، وخُذْ أُهبتك لبغَتَاتها
٧٤ وتقدَّم في أخذ العتاد لنفيها.
مطلبٌ «في ذمِّ الغرام بالنساء والتحذير منه»
اعلمْ أنَّ مِن أوقع
٧٥ الأمور في الدِّين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها
٧٦ للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالةِ والوقارِ؛ الغرامُ
٧٧ بالنساء.
ومن البلاء على المُغْرَم بهنَّ أنَّه لا ينفك يأجمُ
٧٨ ما عنده، وتطمحُ
٧٩ عيناه إلى ما ليس عنده منهنَّ.
وإنما النساء أشباهٌ.
وما يَتَزَيَّنُ في العيون والقلوب من فضْل مجهولاتهنَّ على معروفاتهنَّ باطلٌ
وخُدْعةٌ، بل كثير مما يَرْغَبُ عنه الراغب مما عنده أفضلُ مما تتوق إِليه نفسه
منهنَّ.
وإنما المرتغِبُ
٨٠ عما في رَحله منهنَّ إلى ما في رِحال الناس كالمرتغِبِ عن طعام بيته
إلى ما في بيوت الناس، بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال
الناس من الأطعمة أشدُّ تفاضلًا وتفاوتًا مما في رحالهم من النساء.
٨١
ومن العَجَب أنَّ الرجل الذي لا بأس بلُبِّهِ ورأيه يرى المرأة من بعيد
متلفِّفَةً في ثيابها، فيصوِّرُ لها في قلبه الحسنَ والجمالَ حتى تَعْلَقَ بها
نفسُه من غير رُؤية ولا خَبَرِ مُخبِرٍ، ثم لعله يهجم منها على أقبح القُبح وأذَمِّ
الدَّمامة، فلا يعظه
٨٢ ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشعوفًا
٨٣ بما لم يذُق، حتى لو لم يبقَ في الأرض غيرُ امرأةٍ واحدةٍ لظنَّ أنَّ
لها شأنًا غير شأن ما ذاق.
وهذا هو الحُمقُ والشقاءُ والسفهُ.
ومن لم يَحْمِ نفسه ويُطَلِّقها ويُحَلِّئها
٨٤ عن الطعام والشراب والنساء في بعض ساعاتِ شهوته وقُدرته، كان أيسر ما
يصيبه من وبال ذلك انقطاعُ تلك اللذَّات عنه بخمود نار شهوته وضُعْف حوامل
٨٥ جسده، وقلَّ من تجدُه إلا مخادِعًا لنفسه في أمر جسده عند الطعام
والشراب والحِمْية
٨٦ والدواء، وفي أمر مُرُوءته عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دِينه عند
الرِّيبة والشبهة والطمع.
مطلبٌ «فيما يدعو إلى تعظيمك وتوقيرك ودوام مجدك وشرفك»
إنِ استطعتَ أن تضع نفسك دون غايتك في كلِّ مجلس ومُقام ومقالٍ ورأيٍ وفعلٍ
فافعل؛ فإنَّ رفعَ الناس إيَّاك فوق المنزلة التي تحُط إليها نفسَك، وتقريبَهم
إيَّاك إلى المجلس الذي تباعدْتَ منه، وتعظيمَهم من أمرك ما لم تعظِّم، وتزيينَهم
من كلامك ورأيك وفعلك ما لم تُزيِّنْ هو الجمال.
٨٧
لا يُعْجِبَنَّك العالِمُ ما لم يكن عالمًا بمواضع ما يَعلم، ولا العاملُ إذا
جَهِل موضع ما يعمل.
وإن غُلبتَ على الكلام وقتًا فلا تُغلَبَنَّ على السكوت؛ فإنَّه لعله يكون
أشدَّهما لك زينةً، وأجلبهما إليك للمودة، وأبقاهما للمهابة، وأنفاهما
للحَسد.
مطلبٌ «في ذمِّ المِراء والتحذير منه»
احذر المِرَاء
٨٨ وأغْرِبْهُ،
٨٩ ولا يمنعنَّك حَذَر المِرَاء من حُسْنِ المناظرة والمجادلة.
واعلم أنَّ المماري هو الذي يريد أن يتعلَّم من صاحبه، ولا يرجو أن يتعلم منه
صاحبه، فإن زعم زاعمٌ أنَّه مُجادلٌ في الباطل عن الحقِّ، فإن المُجَادِلَ، وإن كان
ثابت الحُجَّة ظاهر البيِّنة حاضر الذهن، فإنَّه يخاصم إلى غير قاضٍ، وإنما قاضيه
الذي لا يعدِلُ بالخصومة إلا إليه عدلُ صاحبه وعقلُه، فإن آنس أو رجا عند صاحبه
عَدْلًا يقضي به على نفسه فقد أصاب وجه أمره، وإن تكلم على غير ذلك كان
مماريًا.
وإنِ استطعت ألَّا تُخبرَ أخاك عن ذات
٩٠ نفسك بشيء إلا وأنت محتجنٌ
٩١ عنهَ بعض ذلك التماسًا لفضل الفعل على القول، واستعدادًا لتقصير فعل —
إن قصَّر — فافعل.
واعلم أنَّ فضل الفعل على القول زِينةً، وفضلَ القول على الفعل هُجْنَةٌ،
٩٢ وأن إحكام هذه الخَلَّة من غرائب الخلال.
مطلبٌ «في أن لا راحة من كثرة الأعمال إلَّا بالفراغ منها»
إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمِس الرَّوْح
٩٣ في مدافعتها
٩٤ بالرَّوغان منها؛ فإنه لا راحةَ لك إلَّا في إصدارها،
٩٥ وإنَّ الصبر عليها هو الذي يخفِّفها عنك، والضَّجَرَ هو الذي يراكمها
عليك.
فتعهَّدْ من ذلك في نفسك خَصلة قد رأيتُها تعتري بعض أصحاب الأعمال؛ وذلك أنَّ
الرجل يكون في أمر من أمره، فَيرِدُ عليه شغلٌ آخرُ، أو يأتيه شاغلٌ من الناس يكره
إتيانه، فيكدِّرُ ذلك بنفسه تكديرًا يُفسدُ ما كان فيه وما ورد عليه، حتى لا
يُحكِمَ واحدًا منهما، فإذا ورد عليك مِثْلُ ذلك فليكن معك رأيك وعقلك اللذان بهما
تختار الأمور، ثُمَّ اخترْ أَوْلَى الأمرين بشغلك، فاشتغل به حتى تفرُغ منه، ولا
يعظُمَنَّ عليك فَوْتُ ما فات وتأخيرُ ما تأخَّر إذا أعملتَ الرأي مُعْمَلَهُ،
وجعلتَ شغلك في حقه، واجعلْ لنفسك في كل شغلٍ غايةً ترجو القوة والتمام
عليها.
مطلبٌ «في ذمِّ تجاوز الحد»
اعلم أنك إنْ جاوزت الغاية في العبادة صِرْتَ إلى التقصير، وإن جاوزتها في حَمْل
العلم لحقت بالجهَّال، وإن جاوزتها في تكلُّف رضى الناس والخفَّة معهم في حاجاتهم
كنت المُحسَّر المُضيَّع.
٩٦
واعلم أنَّ بعض العطيَّة لُؤْمٌ، وبعض السلاطة
٩٧ غمٌّ، وبعض البيان عِيٌّ، وبعض العلم جهلٌ. فإن استطعتَ ألَّا يكون
عطاؤك جورًا، ولا بيانك هَذَرًا،
٩٨ ولا علمك وبالًا فافعل.
مطلبٌ «في الحرص على حفظ ما يروعك ويعجب غيرك»
اعلم أَنَّه ستمُرُّ عليك أحاديث تُعجِبك؛ إمَّا مليحةٌ وإمَّا رائعة.
فإذا أعجبتك كنت خليقًا أنْ تحفظها، فإن الحفظ موكَّلٌ بما مَلُحَ ورَاعَ،
وستحرصُ على أنْ تَعْجَبَ منها الأقوام، فإن الحرص على ذلك التعجُّب من شأن الناس،
وليس كل مُعْجِب لك مُعجِبًا لغيرك.
فإذا نشرتَ ذلك المرَّة والمرَّتين فلم تَرَه وَقَعَ من السامعين موقعَه منك
فانزجر عن العودة، فإنَّ العَجَب من غير عجيب سُخْفٌ
٩٩ شديدٌ.
وقد رأينا من الناس مَن تعلَّق بالشيء ولا يقلع عنه وعن الحديث به، ولا يمنعه
قِلَّة قبول أصحابه له من أنْ يعود إليه ثم يعود.
ثمَّ انظر الأخبار الرَّائعة فتحفَّظ
١٠٠ منها؛ فإن الإنسان من شأنه الحِرص على الإخبار، ولا سيما
١٠١ ما يَرتاع الناس له، فأكثرُ الناسِ مَن يُحدِّث بما سمع، ولا يبالي ممن
سمع، وذلك مَفْسَدة للصدق ومَزْرَاة بالمروءة.
فإن استطعتَ ألَّا تخبر بشيءٍ إلَّا وأنت به مصدِّقٌ (لا يكون تصديقك إلَّا
ببرهان) فافعل، ولا تقل كما يقول السفهاء: أُخْبِرُ بما سمعتُ.
فإن الكذب أكثرُ ما أنت سامِعٌ، وإنَّ السُّفهاء أكثر من هو قائلٌ، وإنَّك إنْ
صِرتَ للأحاديث واعيًا وحاملًا، كان ما تَعِي وتحملُ عن العامَّة أكثرَ مما يَخترعُ
المخترعُ بأضعافٍ.
مطلبٌ «في العفو عن الناس وعدم مجاراة السفيه»
انظر من صاحبتَ من الناس؛ من ذي فضلٍ عليك بسلطانٍ أو منزلةٍ، أو مَن دُون ذلك من
الأَكْفاءِ والخُلَطاء والإخوان، فوَطِّنْ نَفْسَك في صُحبته على أنْ تقبل منه
العفوَ، وتسخُو نفسُك عما اعتاص
١٠٢ عليك ممَّا قِبَلَه، غيرَ معاتبٍ ولا مُستبطئٍ ولا مُستزيدٍ، فإنَّ
المعاتبة مَقطَعةٌ للوُدِّ، وإنَّ الاستزادة من الجشع،
١٠٣ وإنَّ الرضا بالعفو والمسامحة في الخُلُق مُقَرِّبٌ لك كلَّ ما تَتُوق
إليه نفسُك مع بقاء العِرض والمودَّة والمُرُوءة.
واعلم أنَّك ستُبْلَى من أقوامٍ بسَفَهٍ، وأنَّ سَفهَ السفيه سَيُطْلِعُ له منك
حقدًا، فإن عارضته أو كافأتَه بالسَّفَه، فكأنَّك قد رَضِيتَ ما أتى به، فأحببتَ
أنْ تحتذيَ على مثاله، فإنْ كان ذلك عندك مذمومًا، فحقِق ذمَّك إيَّاه بترك
معارضته، فأمَّا أنْ تذمَّه وتمتثلَه،
١٠٤ فليس ذلك لك سَدادٌ.
١٠٥
مطلبٌ «لا تصاحب أحدًا من الناس إلَّا بالمروءة وإنْ كان ذا دالة عليك»
لا تصاحبنَّ أحدًا «وإنْ استأنستَ به أخًا ذا قرابة أو أخًا ذا مودَّة»، ولا
والدًا ولا ولدًا إلَّا بمروءة، فإن كثيرًا من أهل المروءة قد يحملهم الاسترسال
والتبذُّل على أنْ يصحبوا كثيرًا من الخلطاء بالإدلال والتهاون والتبذُّل.
ومن فَقَدَ من صاحبه صُحبة المروءة ووقارَها وجلالَها، أحدثَ ذلك له في قلبه
رِقَّة شأن وسُخف منزلة.
ولا تلتمس غَلَبةَ صاحبك والظَّفَرَ عليه عند كلِّ كلمةٍ ورأيٍ، ولا تجترئَنَّ
على تقريعه بظَفَرك إذا استبان، وحُجَّتك عليه إذا وضحت.
فإن أقوامًا قد يحملهم حُبُّ الغلبة وسفَهُ الرأي في ذلك، على أنْ يتعقَّبوا
١٠٦ الكلمة بعدما تُنسى، فيلتمسوا فيها الحُجَّة، ثم يستطيلوا
١٠٧ بها على الأصحاب، وذلك ضَعْفٌ في العقل، ولُؤْم في الأخلاق.
مطلبٌ «في التحذير من أنْ تخدع بإكرام من يكرمك لجاه أو منزلة»
لا يُعجبنَّك إكرام مَن يكرمك لمنزلةٍ أو لسلطانٍ؛ فإن السلطان أوشكُ
١٠٨ أمور الدنيا زوالًا، ولا يعجبنَّك إكرام مَن يكرمك للمال؛ فإنه هو الذي
يتلو السلطان في سرعة الزوال، ولا يُعجبنَّك إكرامهم إيَّاك للنسب؛ فإن الأنساب
أقلُّ مناقب الخير غَناءً
١٠٩ عن أهلها في الدِّين والدنيا.
ولكنْ إذا أُكْرِمْتَ على دِين أو مُروءةٍ فذلك فليعجبك! فإنَّ المروءة لا تزايلك
١١٠ في الدنيا، وإنَّ الدين لا يزايلك في الآخرة.
مطلبٌ «في ذمِّ الجبن والحرص»
اعلم أنَّ الجبن مقتلةٌ، وأنَّ الحرص مَحْرَمَةٌ.
فانظر فيما رأيتَ أو سمعت: أمَنْ قُتِل في القتال مُقبِلًا أكثرُ؟ أم من قُتِل
مُدبِرًا؟ وانظر أمَن يطلب إليك بالإجمال والتكرُّم أحقُّ أنْ تسخُوَ نفسك له
بطلبته؟ أم مَن يطلب إليك بالشَّرَه
١١١ والزيغ؟
١١٢
واعلم أنَّه ليس كلُّ مَن كان لك فيه هوًى، فذَكرَهُ ذاكرٌ بسوءٍ وذكرتَه أنت
بخير ينفعه ذلك، بل عسى أنْ يضرَّه.
فلا يستخفنَّك ذِكرُ أحدٍ من صديقك أو عدوك إلَّا في مواطن دفعٍ أو محاماة،
١١٣ فإنَّ صديقك إذا وثق بك في مواطن المحاماة، لم يحفِل
١١٤ بما تركتَ مما سوى ذلك، ولم يكن له عليك سبيلُ لائمةٍ.
وإنَّ من أحزم الرأي لك في أمر عدوِّك ألَّا تذكره إلَّا حيث تضرُّه، وألَّا
تَعدَّ يسيرَ الضرر له ضررًا.
مطلبٌ «في الاحتراس مما يعتري الأخلاق الكريمة من الآفات»
اعلم أنَّ الرجل قد يكون حليمًا، فيحمله الحِرصُ على أنْ يقول الناس جليدٌ،
والمخافة أنْ يقال مَهينٌ على أنْ يتكلَّف الجهل، وقد يكون الرجل زميتًا
١١٥ فيحمله الحرص على أنْ يقال لَسِنٌ،
١١٦ والمخافةُ من أنْ يقال عَيِيٌّ على أنْ يقول في غير موضعه فيكون هَذِرًا.
١١٧
فاعرف هذا وأشباهَه، واحترس منه كلَّه.
مطلبٌ «في مخالفة ما يكون أقرب إلى هواك»
إذا بَدَهَك
١١٨ أمران لا تدري أيُّهما أصوبُ؛ فانظر أيهما أقربُ إلى هواك فخالفْهُ،
فإنَّ أكثرَ الصواب في خلاف الهوى.
وليجتمعْ في قلبك الافتقارُ إلى الناس والاستغناءُ عنهم! وليكن افتقارُك إليهم في
لين كلمتك لهم، وحُسن بِشرك بهم! وليكن استغناؤك عنهم في نزاهة عِرْضِك وبقاء
عِزِّك.
مطلبٌ «في آداب المجالسة»
لا تُجالسنَّ امرأ بغير طريقته، فإنَّك إنْ أردتَ لِقاء الجاهل بالعلم، والجافي
١١٩ بالفقه، والعييِّ بالبيان لم تزدْ على أنْ تُضيِّعَ عِلمك، وتُؤْذي
جليسك بحَملك عليه ثِقْلَ ما لا يعرفُ، وغمِّك إياه بمثل ما يغتمُّ به الرجُل
الفصيحُ من مخاطبة الأعجمي
١٢٠ الذي لا يفقه عنه.
واعلم أنَّه ليس من علمٍ تذكرُهُ عند غير أهله إلَّا عابوه، ونصبوا
١٢١ له ونقضوه عليك، وحَرَصوا على أنْ يجعلوه جهلًا، حتى إنَّ كثيرًا من
اللهو واللعب الذي هو أخفُّ الأشياء على الناس لَيَحْضُره من لا يعرفُهُ، فيثقُلُ
عليه ويغتم به.
ولْيعلم صاحبُك أنك تُشْفق
١٢٢ عليه وعلى أصحابه، وإيَّاك إنْ عاشرك امرؤٌ أو رافقك، أنْ يَرَى منك
الولوعَ بأحدٍ من أصحابه وإخوانه وأخدانه، فإنَّ ذلك يأخُذُ من أعِنَّة القلوب
مأخذًا، وإنَّ لُطْفَك بصاحب صاحبِك أحسنُ عنده موقعًا من لطفكَ به في نفسه.
واتَّقِ الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقدُ على المُنطلِق
١٢٣ ويشكر للمُكتئِب.
اعلم أنَّك ستسمع من جُلسائك الرأيَ، والحديثَ تُنكرُهُ وتستجفيه وتستشنعه من
المتحدِّث به عن نفسه أو غيره، فلا يكوننَّ منك التكذيب، ولا التسخيف لشيء مما يأتي
به جليسك، ولا يُجرِّئنَّك على ذلك أنْ تقول: إنما حدثَ عن غيره، فإنَّ كلَّ مردودٍ
عليه سيمتعِضُ
١٢٤ من الردِّ، وإنْ كان في القوم من تكرهُ أنْ يستقرَّ في قلبه ذلك القول،
لخطأ تخاف أنْ يعقد عليه، أو مضرَّة تخشاها على أحدٍ، فإنَّك قادرٌ على أنْ تنقُضَ
ذلك في سَتر، فيكون ذلك أيسرَ للنقض وأبعد للبعضة.
ثم اعلم أنَّ البِغْضَةَ خَوفٌ، وأنَّ المودَّةَ أمنٌ، فاستكثر من المودَّة
صامتًا، فإنَّ الصمت سيدعوها إليك، وإذا ناطقتَ فناطِقْ بالحُسنى، فإنَّ المنطِقَ
الحَسَنَ يَزيدُ في ودِّ الصديق، ويستلُّ سخيمة الوغر.
١٢٥
ولتعلم أنَّ خَفْضَ الصوت، وسكونَ الريح، ومشيَ القَصْد
١٢٦ من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بأوٌ
١٢٧ ولا عُجْبٌ، أمَّا العُجْب فهو من دواعي المقتِ والشَّنَآن.
١٢٨
مطلبٌ «في بيان أنَّ المستشار ليس بضامن وجه الصواب»
اعلم أنَّ المستشار ليس بكفيل،
١٢٩ وأنَّ الرأي ليس بمضمونٍ، بل الرأيُ كلُّه غَرَرٌ؛
١٣٠ لأن أمور الدنيا ليس شيءٌ منها بثقةٍ؛ ولأنه ليس من أمرها شيءٌ يدركه
الحازم إلَّا وقد يُدركه العاجز، بل ربما أعيا الحَزَمَةَ ما أمكَنَ العَجَزَةَ؛
فإذا أشار عليك صاحبُك برأي، ثم لم تجد عاقبتَه على ما كنتَ تأمُلُ، فلا تجعلْ ذلك
عليه دَيْنًا، ولا تُلزِمْهُ لَوْمًا وعَذْلًا؛ بأنْ تقول: أنت فعلت هذا بي، وأنت
أمرتني، ولولا أنت لم أفعل، ولا جَرَمَ لا أطيعُك في شيءٍ بعدها، فإن هذا كله ضجرٌ
ولؤمٌ وخِفَّةٌ.
فإن كنتَ أنت المشيرَ، فعَمِل برأيك أو تركه، فبدا صوابُك فلا تَمْنُنْ به، ولا
تُكثرَنَّ ذِكرهُ إنْ كان فيه نجاح، ولا تَلُمْهُ عليه إنْ كان قد استبان في تركه
ضرر؛ بأن تقول: ألم أقل لك: افعل هذا. فإنَّ هذا مُجانبٌ لأدب الحكماء.
مطلبٌ «في الحرص على الاستماع»
تعلَّمْ حُسْنَ الاستماع كما تتعلمُ حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهالُ
المتكلِّم حتى ينقضي حديثُه، وقلَّةُ التلفُّتِ إلى الجواب، والإقبالُ بالوجهِ
والنظرِ إلى المتكلمِ، والوعيُ
١٣١ لما يقول.
واعلم — فيما تُكلِّمُ به صاحبك — أنَّ مما يُهجَّنُ صواب ما يأتي به، ويذهب بطعمه
١٣٢ وبهجته، ويُزْرِي
١٣٣ به في قبوله، عَجَلَتُك بذلك، وقطعُك حديثَ الرجُل قبل أنْ يُفضِي إليك
بذات نفسه.
مطلبٌ «في أن الزهد في الدنيا لا يكون مع تعذرها عليك»
إن رأيتَ نفسك تصاغَرَت إليها الدنيا، أو دعتْكَ إلى الزهادة فيها على حال تعذُّر
من الدنيا عليك؛ فلا يغرَّنَّكَ ذلك من نفسك على تلك الحال، فإنها ليست بزهادة،
ولكنَّها ضجرٌ واستخذاء
١٣٤ وتغيُّر نفس عند ما أعجزك من الدنيا وغضب منك عليها مما الْتَوى
١٣٥ عليك منها، ولو تَمَّمْتَ على رفضها، وأمسكت عن طلبها، أوْشَكْت أن ترى
من نفسك من الضَّجَر والجزع أشد من ضجرك الأوَّل بأضعافٍ، ولكن إذا دعتك نفسُك إلى
رفض الدنيا — وهي مقبلة عليك — فأسرع إلى إجابتها.
مطلبٌ «في التحذير من الدفاع عمَّن ذُكر بنقيصة»
اعرف عوراتك، إيَّاك أن تُعَرِّض بأحدٍ فيما ضارعها،
١٣٦ وإذا ذكرتْ من أحدٍ خليقةٌ، فلا تُناضل عنه مُناضلة المُدافع عن نفسه،
المُصغِّرِ لِمَا يعيبُ الناسُ منه؛ فَتُتَّهم بمثلها، ولا تُلحَّ كُلَّ الإلحاح،
وليكُنْ ما كان منك في غير اختلاط، فإنَّ الاختلاط من محقِّقَات الرِّيَبِ.
مطلبٌ «في التحذير مما يجرح قلب الجليس من ألفاظ الذمِّ والتشهير»
إذا كنتَ في جماعةِ قومٍ أبدًا فلا تَعُمَّنَّ جيلًا من الناس أو أمَّة من الأمم
بشَتْم ولا ذَمٍّ، فإنَّك لا تدري: لعلك تتناول بعض أعراض جُلسائك مُخطِئًا، فلا
تأمَن مُكافأتَهُم، أو مُتعمِّدًا فتُنسَب إلى السَّفَه، ولا تَذُمَّنَّ مع ذلك
اسمًا من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول: إنَّ هذا لقبيحٌ من الأسماء، فإنَّك لا
تدري لعلَّ ذلك غير موافق لبعض جُلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأهلين الحُرُم، ولا
تستصغرنَّ من هذا شيئًا، فكلُّ ذلك يجرحُ في القلب، وجُرْحُ اللسان أشَدُّ من جرح
اليدِ.
ومن الأخلاق السيئة على كل حال مُغَالبةُ الرجل على كلامه والاعتراضُ فيه،
والقطعُ للحديث.
ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها — إذا حدَّث الرجلُ حديثًا تعرفه — ألا تسابقَه
إليه وتفتحه عليه وتشاركه فيه، حتى كأنَّك تُظهر للناس أنك تُريد أنْ يعلموا أنَّك
تعلمُ مِثْلَ الذي يعلم، وما عليك أنْ تهنئه بذلك وتفْرِدَهُ به.
وهذا الباب من أبواب البخل، وأبوابُهُ الغامضة كثيرةٌ.
•••
إذا كنتَ في قوم ليسوا بُلغاء ولا فُصحاء فدَعِ التطاول عليهم بالبلاغة
والفصاحة.
واعلم أنَّ بعضَ شدَّة الحذرِ عونٌ عليك في ما تحذرُ، وأنَّ بعض شدَّة الاتِّقاء
مِمَّا يدعو إليك ما تَتقي.
واعلم أنَّ الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثَالبهم
ومَساويهم ونقيصتهم، وكلُّ ذلك أبينُ عند سامعيه من وَضَح
١٣٧ الصُّبْحِ، فلا تكوننَّ من ذلك في غرور، ولا تجعلنَّ نفسك من
أهله.
اعلم أنَّ مِن تنكُّب
١٣٨ الأمور ما يُسمَّى حَذَرًا،
١٣٩ ومنه ما يُسمَّى خَوَرًا،
١٤٠ فإن استطعت أن يكون لحينك من الأمر قبل مواقعتك إياه فافعل؛ فإن هذا
الحذرُ، ولا تنغمس فيه ثم تتهيَّبهُ؛ فإن هذا هو الخَوَرُ، فإنَّ الحكيم لا يخوض
نهرًا حتى يعلم مقدار غوره.
قد رأينا من سوء المجالسة أنَّ الرجل تثقُلُ عليه النعمة يراها بصاحبه، فيكون ما
يشتفي بصاحبه — في تصغير أمره وتكدير النعمة عليه — أن يذكر الزوال والفناء
والدوَل، كأنه واعظ وقاصٌّ، فلا يخفى ذلك على من يُعنَى به ولا غيره، ولا يُنَزَّل
قولُهُ بمنزلة الموعظة والإبلاغ، ولكن بمنزلة الضَّجَر من النعمة — إذا رآها لغيره
— والاغتمامِ بها والاستراحةِ إلى غير رَوْح.
وإني مخبرك عن صاحبٍ لي، كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأسُ ما أعظمَهُ في
عيني صِغَرَ الدنيا في عينه؛ كان خارجًا من سلطان بطنه؛ فلا يتشهَّى ما لا يجد، ولا
يُكثر إذا وَجَدَ، وكان خارجًا من سلطان فَرْجِهِ؛ فلا يدعو إليه ريبة، ولا يستخفُّ
له رأيًا ولا بدنًا، وكان خارجًا من سلطان لسانه؛ فلا يقول ما لا يعلم ولا ينازع
فيما يعلم، وكان خارجًا من سلطان الجهالة؛ فلا يُقدِمُ أبدًا إلا على ثقةٍ
بمنفعةٍ.
كان أكثَرَ دهره صامتًا فإذا نطق بَذَّ الناطقين.
كان يُرَى متضاعفًا مستضْعَفًا، فإذا جاء الجِدُّ فهو الليث عاديًا.
كان لا يدخُل في دعوى، ولا يشترك في مِراء، ولا يُدْلي بحُجَّة حتى يَرى قاضيًا
عَدْلًا وشُهودًا عُدُولًا.
وكان لا يلوم أحدًا على ما قد يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره.
وكان لا يشكو وجعًا إلَّا إلى مَن يرجو عنده البُرْء.
وكان لا يستشير صاحبًا إلى من يرجو عنده النصيحة.
وكان لا يتبرَّم ولا يتسخَّط ولا يتشهَّى ولا يتشكَّى.
وكان لا ينقمُ على الوليِّ، ولا يَغْفُلُ عن العدُوِّ، ولا يخصُّ نفسَه دون
إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته.
فعليك بهذه الأخلاق إنْ أطقتَ — ولن تطيق — ولكنَّ أخذَ القليل خير من ترك
الجميع.
واعلم أنَّ خيْر طبقاتِ أهل الدنيا طبقةٌ أصِفُها لك: مَنْ لَمْ ترتفِعْ عن
الوضيعِ ولم تتَّضِع عن الرفيع.