وتتوالى الأحزان
في الصباح وجدت على هاتفي رسالةً من نادر مختصرةً وجافةً: «لما تصحي كلميني.» فقمت وتوضأت وصلَّيت وتناولت إفطاري، ثم اتَّصلت به فقال: عايز أتكلم معاكي لوحدنا، ينفع نتقابل فين؟
– ليه إيه السبب؟
– مش هينفع في التليفون.
– وأنا ما أقدرش أقابلك غير في المستشفى، أنا مُطلَّقة، وكل تحركاتي محسوبة عليَّ من الناس.
– خلاص تمام، هاستناكي في المستشفى.
تعجَّبت لطلبه، فلم يرغب في مقابلتي بعيدًا عن البيت والعمل؟ هل يظنني امرأةً سهلةً؟ هل سيحاول استغلال احتياجي العاطفي؟ أيرغب في علاقة معي؟ لا أعتقد، فنادر مختلف، ولماذا هو مختلف! أليس برجل كباقي الرجال وأنا مُطلقة؛ أي مطمع لكل رجل؟ لا بد أنه طامعٌ في علاقة معي، لن أذهب، لا بل سأذهب لألقِّنه درسًا لن ينساه وأقطع علاقتي به.
ذهبت للمستشفى وأنا متحفزةٌ له، وعندما دخلت المكتب فوجئت بوجود دكتور إيهاب — مَن كان يتابع حالتي مع نادر — الذي رحَّب بي، وعندها دخل نادر ومعه الأشعة وقال: أهلًا مدام نهلة.
– خير يا دكتور نادر، كنت عايزني ليه؟
فقال إيهاب: بصراحة الأشعة بتاعتك بيِّنت إن عندك مشكلة.
– مشكلة إيه؟
فقال نادر بهدوء: كتلة ضاغطة على المخ، ومش عارفين دي إيه، تجمُّع دموي مكان الوقعة، ولا …
– ولا إيه؟ مش فاهمة!
فقال إيهاب بحذرٍ: ولَّا ورم، بس ماتتخضيش، مش كل ورم حاجة وحشة، ممكن يكون ورم حميد.
فقال نادر: وعشان نعرف هو إيه ونعالجه صح محتاجين نفتح ونستأصله.
تخيلت كل شيءٍ لكني لم أتخيل أبدًا أن يطلبني نادر من أجل هذا السبب. ورم! أي أني أواجه الموت، على بُعد عدة خطواتٍ طالت أو قصرت؛ فهو مرضٌ شرسٌ يلتهم مرضاه بضراوةٍ. أفقت من شرودي على صوت نادر يقول: متخافيش، وأهم حاجة هنعرض كل الأشعة والتحاليل على دكتور كبير متخصص، وهو يوجِّهنا نعمل إيه.
– أنا اللي كنت باسعى ورا الموت، ولما اقتنعت إن الحياة حلوة ولازم نعيشها ألاقي الموت هو اللي بيسعى ورايا، الدنيا دي غريبة.
– أهم حاجة لازم تعرفيها إن اللي معنوياتهم عالية هم اللي بيقاوموا ويصمدوا، واحنا لسه مش متأكدين إحنا بنواجه إيه.
– أنا مش خايفة من الموت، لو دا قدري إيه المطلوب منِّي؟
فقال إيهاب: الأول هتعرَّفي أهلك بهدوء، وبعد كده ناخد خطواتنا مع الدكاترة المتخصصين.
فنظرت لنادر وقلت: ممكن أطلب منك خدمة؟
– طبعًا.
– أنا ممكن أقول لسليم وهيفهم ويصدقني، لكن ماما مش هتصدق غيرك.
فابتسم لأول مرة وقال: أنا موافق، بس تعزموني على فنجان قهوة.
– متشكرة جدًّا يا دكتور نادر، وشكرًا يا دكتور إيهاب على تعبك معايا.
فقال إيهاب: لا شكر على واجب، وما تخافيش إن شاء الله خير.
انصرفت والأفكار تصارعني وتزيد من وطأة الصداع وعُدت للبيت، واتصلت بي مسئولة التوظيف في الشركة التي قبلتني للعمل بها، فاعتذرت لها عن العمل لظروفٍ صحيةٍ، وقلت لنفسي أنا لا أعلم ماذا تدَّخر لي الأقدار. نمت قليلًا وبعد الظهر اتصلت بسليم وحكيت له كل ما حدث فطمأنني، عرفت بعد ذلك أنه اتصل بنادر ليتأكد من كل ما قلته، وهو مفزوع من فكرة فقدي، فطمأنه نادر وطلب منه أن يأتي لمقابلة والدتي في وجوده؛ ليشرح لها حالتي حتى نبدأ رحلة العلاج.
جاء نادر وجلس مع والدتي وقال لها إن هناك تجمُّعًا دمويًّا في رأسي بسبب وقوعي، وإنه يجب إزالته حتى لا يتحول لورم، فوافقت والدتي على الفور وقالت له: اللي تشوفوه صح اعملوه، المهم بنتي تعيش سليمة.
بدأنا الإجراءات والتحضير للعملية وأنا لا أشعر بالخوف، بل بالطمأنينة لأنِّي على يقين بأن الله لن يفعل لي سوى ما فيه الخير لنا جميعًا، كما أني لست راغبةً في الحياة بقوةٍ، بل أعيشها لأنها مفروضةٌ عليَّ. دخلت المستشفى ومرَّ عليَّ الطبيب الكبير الذي سيُجري لي العملية وقال مازحًا: ماتخافيش، إيدي خفيفة مش هتحسِّي بيها.
– مش خايفة، بس أهم حاجة تسيبولي عقلي سليم وحتة واحدة.
فضحك، وبعد أن تابع كل التحاليل واطمأنَّ على مؤشراتي الحيوية انصرف، وفي الصباح جاء نادر وقال مبتسمًا: جاهزة؟
– لما أشوف سليم هابقى جاهزة.
عندها دخل سليم واحتضنني وقال: متخافيش أنا معاكي ومش هاسيبك.
– وده اللي مطمِّني.
ثم قال لنادر: حافظ على دمي اللي عندها، ولو احتجت تاني أنا موجود.
– ماما فين؟
– مارضيتش أجيبها ولا قلت لها على الميعاد، هي وسلوى فاكرين العملية بكرة، وماما عمَّالة تدعي لك.
فقال نادر: كفاية عواطف، وسيبنا نشوف شغلنا.
دخلت غرفة العمليات وقال لي طبيب التخدير: عِدي لحد ١٠.
– لا، أنا هاقرأ قرآن، ولما تلاقيني لخبطت اعرف أني اتخدَّرت.
ذهبت في عالمٍ آخر، ورأيت أبي يبتسم لي ويضمُّني بشوقٍ وأنا سعيدةٌ بين أحضانه، ثم رأيت من بعيدٍ طفلًا صغيرًا يبتسم لي ويمدُّ لي يده، لكن أبي قال لي: دا مش وقتك، ارجعي لأمك يا حبيبتي.
انتهى الحلم، وأفقت على أصواتٍ من بعيدٍ وخيالات تتحرك أمامي وصوت يُنادي اسمي أعرفه جيدًا ولكنِّي لا أتذكَّر صوت مَن هذا، حتى أفقت تمامًا، فوجدت نادر وسليم بجواري، وابتسم لي نادر وقال: حمد الله على سلامتك.
– الله يسلمك.
فقال سليم: إنتي كويسة؟
– أه يا حبيبي ماتخافش، بس دماغي تقيلة.
فقال نادر: امشي انت النهاردة، وأنا نباطشي معاها وهاطمنك عليها.
خلال عدة أيام تحسَّنت حالتي كثيرًا، وسمحوا لي بالخروج بعد أن تلقينا جميعًا ومعنا نادر توبيخًا من والدتي. على إخفاء موعد العملية عنها، فقلت لها وأنا أُقبِّل يدها: كلنا كنا خايفين عليكي من التوتر وانتي ضغطك عالي، ماتزعليش حقِّك عليَّ.
– مش زعلانة يا حبيبتي، الحمد لله إنك قمتي بالسلامة.
حان موعد خروجي وجاء دكتور إيهاب للاطمئنان عليَّ وقال: هناخد الأدوية بانتظام، وأي شكوى تكلميني أنا أو نادر على طول، وممنوع أي مجهود أو انفعال.
– حاضر يا دكتور وشكرًا على تعبكم، بس هاعرف نتيجة العينة امتى؟
– أول ماتظهر هنكلمك.