عذاب الفَقْد
لا أحبُّ أن أتذكَّر تلك المرحلة؛ فقد كانت قاسيةً على قلبي جدًّا وبعثرت روحي لأشلاء، وما زلتُ حتى اللحظة أحاول لملمتَها ولم أُفلح. كنتُ في زيارةٍ لبيت خالي أنا وأمِّي وإخوتي بمفردنا كعادتنا، وكنتَ أنت في البيت وحدك كعادتك بحجَّة عملك، ووصلَنا ذلك الخطابُ اللعين — فقد كانت الخطابات هي الوسيلة الوحيدة للتواصل في تلك الفترة — ذلك الخطاب الذي أثار اضطرابًا عظيمًا بين الجميع، كان خطابًا منك موجَّهًا لأمي فأحزنها كثيرًا وأخفى الجميع فحواه عنِّي، لكني شعرت من همساتهم ومن دموع أمِّي أن به خطْبًا عظيمًا، لكني لم أتخيَّل يومًا أنه سيزلزل كلَّ كياننا ويهدم سعادتنا ويحوِّلنا لأشخاصٍ لم نكن نتخيلهم. كان ذلك الخطاب نقطةَ تحوِّل خطيرة في حياتنا جميعًا الذي عرفت فحواه من ابنة خالي وصديقتي التي قالت لي: «والدك تزوَّج بأُخرى وطلَّق والدتك.» لم أستوعب كلماتها في البداية، ولم أفهم ماذا تعني، لكني كنتُ مذهولةً وأشعر أنه خطْبٌ عظيمٌ لأن أمي لم تكفَّ عن البكاء وخالي، لم يكفَّ عن الوعيد، وأخي وأختي الأكبر مني ضائعان، فانتظرت حتى هدأ الجميع وتسلَّلت إلى جوار أمِّي في سريرها التي ضمَّتني وهي تبكي فقلت لها: «أنا أعرف كلَّ شيء وأعرف أنه تركنا وذهب لغيرنا لكنني لن أسكت، سأخاصمه ولن أُكلِّمَه أبدًا.» قلتها من خلال دموعي وأنا غير مستوعبةٍ لما حدث وغير مصدقةٍ أنك بإمكانك أن تتركني وتتخلَّى عنِّي من أجل أخرى.
نعم يا أبي حينها لم تكن قضيتي هي قضية أمي وأخوتي، بل كانت قضيتي أنا، هل هُنت عليك؟ هل تستطيع حقًّا أن تتركني بسهولةٍ؟ هل ستقدر على بُعدك عنِّي؟ ألن نمرح سويًّا مرةً أخرى؟ ألن نخرج معًا وتكون لنا أسرارنا؟ ألن أكون مُدللتك وحبيبتك؟ أسئلةٌ كادت أن تُطيح برأسي الصغير الذي لم يكن قادرًا على استيعاب ما حدث ولا يعرف لمَ هجرتني، هل فعلت شيئًا يغضبك؟ سأعتذر لك عشرات المرَّات وأعِدك ألا أفعل إلا ما يُرضيك، ولن أُرهقك بطلباتي ولا شكوتي من إخوتي وشدة أمي، لا أحتاج لأعياد ميلادٍ ولا فساتين ولا حتى دُمًى، ولكني فقط أحتاجك معي، أرجوك إن كنتُ أخطأت أنا أو أمي وإخوتي فسامحنا فلن نغضبك مرةً أخرى، فقط لا تهجرنا وعُد إلينا، فأنا لا أتخيَّل حياتي بدونك، فأنت محورها وأساسها، أنت لست أبي فقط، بل أنت حبيبي ومِلكي أنا وحدي، نعم قد أسمح لأمي وإخوتي بمشاركتي في حبِّك واهتمامك لكنني لن أسمح لتلك الغريبة بأن تُشاركني فيك، بل إنها ستأخذك منِّي تمامًا، أرجوك يا أبي قُل لي إن هذا كابوس، وسأفيق منه لأجدك بجواري تمسك بكفِّي الصغيرة بين يديك وتقول: «لا تخافي، فأنا بجوارك.»
ليته كان كابوسًا وسينتهي، لكنه كان واقعًا وسيستمر للأبد أقررته أنت عندما جئت لزيارتنا بعد عودتنا من السفر، وجلست بيننا لتخبرنا أنك لن تبتعد عنَّا، بل ستزورنا مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًّا، وأن لا شيء سيتغيَّر في حياتنا، بل سنعيش كما كنا وأنك لن تتخلَّى عنا مهما حدث، وأنك تُكنُّ لأمي كل التقدير ولكنكما اختلفتما ولا مجال لاستئناف الحياة بينكما، فكان لا بد من انفصالكما. سكت أخي وأختي وبكيت أنا فضممتني إليك وقلت: «لا تخافي لن أتركك.» وقلت لأخي الغارق في مشاكل مراهقته إنه صار رجلًا وسيحلُّ في البيت محلك، وعليه أن يتحمَّل مسئوليتنا، وطلبت منَّا طاعته. كان قلبي يصدِّق كل كلمةٍ تقولها ويتمنَّى أن تكون حقيقةً لكن عقلي الصغير ظل يردِّدها حتى كادت أن تخنقني «لقد هجرك للأبد»، كنتُ أردِّد لنفسي لأطمئنها أنك لن تقدر على فُراقي ولا بُعدي عنك، لكنك قدرت.
مرَّت الأيام التالية كأسوأ ما يكون حيث غضب أخوالي لما فعلتَه بأمي، وقرَّروا أن يجلسوا معك لتحصل أمي على كل حقوقها، فكان كل ما يهمهم حقوقها المالية، وأن يعاقبوك على فعلتِك حتى إن أحدهم قال: «فليأخذ أولاده معه، ونأخذ أختنا معنا.» ورغم ضعف أمِّي وانكسارها الشديد إلا أنها قالت بقوةٍ وبحسمٍ: «بل سأبقى مع أولادي في بيتي ولن أتركهم، لكن عليه أن يتعهَّد بأن يُنفق عليهم ولا يتخلَّى عن مسئولياته.»
جئت لتحضر تلك الجلسة العاصفة، وكنت أظنُّك ستعتذر عمَّا حدث وتعود إلينا، لكنك عُدت لتحقِّق لأمي وأخوالي كلَّ مطالبهم، فأعطيت أمي حقوقها كاملةً وتعهَّدت بالإنفاق علينا وعليها لآخر لحظةٍ في حياتك، وأنك لن تتخلى عن مسئولياتنا أبدًا. انتهت الجلسة العاصفة وانصرف كل فردٍ لحياته، وبقينا نحن نلملم شتات أنفسنا التي تحطَّمت على صخرة الرغبات، ولم يبالِ أحدٌ بالشرخ الذي حدث في نفوسنا.
في أول أسبوعين نفَّذت وعدَك والتزمت بزيارتنا، ولكن بعد ذلك تباعدت زيارتك حتى صارت مرةً كل أسبوعٍ ثم مرة كل عشرة أيامٍ، ثم صارت حسب هواك، وفي كل مرةٍ كانت أمِّي تدخل حجرتها وتغلقها عليها كأنها ترفض أن تراك أو حتى تسمع صوتك، ورغم عشقي لك إلا أني كنت متعاطفةً معها بشدةٍ حيث كانت تدَّعي التَّماسك أمامنا وتقول لنا إن الحياة لا بد أن تمضي بحلوها ومرِّها، لكنها كانت تبوح لوسادتها فقط بدموعها. أنت أيضًا تغيَّرت أكثر فأكثر، فلم تَعُد تأتي لزيارتنا إلا نادرًا إنما كنتَ تطلب منَّا أن نأتي لزيارتك في بيتك الجديد، وكنتَ تصرُّ على أن نلتقيَ بزوجتك ونحبَّها، حقًّا لم نستطِع أن نحبَّ مَن سلبتنا أبانا لكننا كنا نعاملها باحترامٍ خاصَّة بعدما أنجبت منه إخوة لنا.
تغيَّرتَ أكثرَ وأكثرَ يا أبي عندما أنجبتَ أطفالًا وصار لك أبناءٌ غيرنا، فكأن مشاعرك تجاهنا قد جفَّت، بل وتجمَّدت، فصرنا بالنسبة لك مجرد مسئوليةٍ وأعباء مادية تؤدِّيها على أكمل وجهٍ.
تغيَّرنا جميعًا يا أبي بعد ذلك، وكنت أنت أول مَن تغيَّر، فلم أعُدْ نهلة مُدللتك وحبيبتك وكاتمة أسرارك، إنما صرتُ أحدَ القيود المطوِّقة لرقبتك، لم تَعُد لديك تلك اللهفة ولم أعُدْ أرى تلك الابتسامة الحنون، إنما تبدَّلت بنظرةٍ باهتةٍ فاقدة لكلِّ المشاعر التي كانت بيننا، لم تَعُد تسعد برؤيتي ولا تتلهَّف على ضمِّي وتقبيلي كما كنتَ دائمًا، إنما صرتَ تكتفي بالسلام باليد، حتى يداك فقدتا دفئهما، ولم أعُد أشعر بهما كما كنتُ من قبل.
أنا أيضًا تغيَّرت كثيرًا؛ فقد عرفت الحزن ومرارة الفقد في سنٍّ صغيرة ومزَّقت قلبي الصغير الآلام، كنتُ أتألم في بُعدك وغيابك عنِّي، كنتُ أفتقد حبَّك واهتمامك وتدليلك لي، كنتُ أشعر أنك يوم هجرتني نزعت السعادة من حياتي وتركتَ لي فقط الأحزان، سلبت روحي من جسدي وتركتني جسدًا يدَّعي أنه يحيا حتى إنني في الثامنة من عمري كنتُ أدعو الله أن أموت، فأنا لم أعُد أحبُّ تلك الحياة، وظلت تلك دعوتي، ويبدو أن الله استجاب لي أخيرًا. تغيَّرتُ يا أبي وصرتُ أتحكَّم في لهفتي ومشاعري؛ فلم أعُد أجري تجاهك لأحتضنك وأقبِّلك لأنك ستقابلني بصدٍّ وجفاءٍ وتقول لي: «لقد كبرتي على ذلك.» ومَن قال إن الفتاة تكبر على حبِّها واحتياجها لأبيها؟ مَن قال لك يا أبي إن المشاعر لها عمر؟ هل كانت تلك حجَّتك لتبرِّر جفاف مشاعرك تجاهي؟ أم إنك لم تَعُد تحبني؟ تعلمتُ من يومها ألَّا أتسوَّل الحب وألا أبوح بمشاعري لأحدٍ، تعلمتُ أن كتمان الحب والحزن صيانةٌ لكرامة المرء. تغيرتُ يا أبي لكني يومًا لم أستطِع التغلُّب على ذلك الحنين الذي طالما أرَّقني وآلمني، ولم أجِد يومًا إجابة على سؤالي لمَ هجرتني؟
أمي أيضًا تغيَّرت؛ فقد تغلَّبت على أحزانها وقرَّرت أن تتأقلم مع وضعها الجديد كمطلَّقة عليها أن تقوم بتربية ثلاثة أطفال بمفردها، حقًّا أنك لم تقصِّر ماديًّا في طلباتنا واحتياجاتنا، بل كنتَ تجعلنا نعيش في مستوًى ماديٍّ أعلى مِن كلِّ مَن حولنا، لكن حِمل أمي كان ثقيلًا جدًّا؛ فهي تحمل عبء شابٍّ في سن المراهقة وفتاةٍ على أعتاب المراهقة وطفلةٍ صغيرة، فكان عليها أن تكون أمًّا وأبًا في آنٍ واحدٍ، كان عليها أن تواجه كلام الناس وسوء ظنونهم بمفردها. لقد واجهت — كما فهمت عندما كبرت — طمع الطامعين في جمالها وشبابها حيث كانت في بداية الأربعينيات من عمرها، وصدمها تخلِّي بعض الجارات والصديقات عنها خوفًا على أزواجهن منها؛ لأن المطلَّقة في نظر المجتمع امرأة تبحث عن تعويض في رجلٍ آخر.
أكثر ما أعجبني في أمي أنها صارت أقوى ولم تبالِ بكلام الناس وقرَّرت أن تعيش الباقي من عمرها كما يحلو لها ما دامت لا تُغضب الله؛ فكنا نخرج معها للسينما أحيانًا ونسافر المصيف ونذهب لزيارة أقاربها، في حين انقطع عنَّا بعض أقاربك وكأن قرابتنا تنتهي بغيابك، لم تهتمَّ أمي بأحدٍ، بل كان كل اهتمامها بسعادتنا وسعادتها فقط. تغيَّرت أمي، فبعد أن كانت تدور في فلكك لعدة سنوات تحرَّرت من جاذبيتك التي استنزفت أجمل سنوات عمرها لتتركها بحجة أنها كبرت ولم تَعُد تلبِّي مطالبك، تحرَّرت منك وعاشت حياتها لا تدور في فلك أحدٍ إنما صار لها فلكها الخاص بها.
تغلَّبت أمي على أحزانها وصرتَ بالنسبة لها مجرَّد ذكرى حبٍّ مؤلمةٍ لا تريد أن تتوقَّف عندها، وعرض عليها الكثيرون الزواج، لكنها لم توافق لأنها رفضت أن تكون زوجةً ثانيةً وتُذيق امرأةً لا ذنبَ لها مرارة ما ذاقته هي، وكانت تبرِّر رفضها ضاحكةً وتقول: «مَن تلك البلهاء التي تأتيها الحرية على طبقٍ من فضةٍ وتفرِّط فيها بسهولةٍ وتعود لتقيِّد نفسها بسلاسل رجلٍ آخر؟ حريتي لن أفرِّط فيها.»
وتغيَّر أخي سليم أيضًا يا أبي، فقد كان مجرَّد مراهق يعيش حياته ولا يحمل لها همًّا، فجئت أنت في لحظةٍ واحدةٍ فهدمت المعبد على رأسه وأمرتَه أن يكون أبًا لأخواته البنات، وأن يكون مسئولًا عنهن وهو لم يكن حتى مسئولًا عن نفسه، تخلَّيت أنت عن مسئولياتك المعنوية التي اخترتها بإرادتك وحمَّلتها فوق كتفَي أخي الهزيلتين فكان حِملًا ينوء به الأقوياء فما بالك بشابٍّ مُراهقٍ؟! في أول عامين كان يتخبَّط ولا يعرف ماذا يفعل ولا كيف يؤدِّي دوره، ثم بعد ذلك تحمَّل العبء كاملًا وما زال يحمله حتى الآن، أنضجته الهموم والمسئولية قبل أوانه، فكنتُ أرى في عينيه مَسحةَ حزنٍ، وكلماتٍ مكبوتةً في صدره لا يبوح بها لأحدٍ، لكني كنت أرى نظرةَ عطفٍ وحبٍّ لنا، وكان حقًّا يبذل كل جهده ليعوِّضنا غيابك، لكن مَن يعوِّضه هو غيابك؟ لقد تركتَه يتخبَّط في هذا العالم بمفرده.
تغيَّرت أيضًا أختي سلوى؛ فتلك الفتاة اللبقة الذكية صارت متمرِّدةً على كل شيءٍ وتفعل ما يحلو لها وهي تعرف أن أحدًا لن يعاقبها، وكانت تتعمَّد مشاكسة أمِّي كأنها تعاقبها لأنها سببُ تركِك لنا، وكانت تفعل كلَّ ما هو ممنوع ومرفوض، ربما لتجذب الانتباه أو ربما لتقول للجميع أنا لم أعُد أُبالي بكم كما لم تبالوا بي، كان تمرُّدها مزعجًا لأمي كثيرًا وتسبَّب في العديد من المشاكل والعداوة بينها وبين أخي الذي كان يرى نفسه مسئولًا عنها وعليه تقويمها، وكانت ترى أنه مثلها ولا يحقُّ له أن يمارس أية سلطاتٍ عليها، فكان البيت في فترة مراهقتها التي طالت مُشتعلًا دائمًا والكل منشغلٌ بها.
تغيَّرنا كلنا بعد هجرِك لنا، ولم نَعُد كما كنا من قبل؛ فهناك أحداثٌ تمرُّ في حياة الإنسان تكون بمثابةِ ميلادٍ جديدٍ له، وأحداثٌ تكون بمثابةِ انقلابٍ فتغيِّر كلَّ حياتنا، وأحداثٌ تكون كالزلزال تهدم كلَّ ما قبْلها ليُبنى من جديدٍ. فكان هجرُك لنا مزيجًا من كل هذا، فتغيَّرت أنت كما تغيَّرنا، تغيَّرت شخصياتنا بتغيُّر مسار حياتنا، وتغيَّرت مشاعرنا وأفكارنا، حتى ملامحنا تغيَّرت، فقد صارت أقسى، فما اكتسبناه جميعًا أن نضع قناعًا صلبًا على وجوهنا حتى لا يعرف الآخرون ما نُكابد من آلام، فلا نريد شماتة ولا شفقة من أحدٍ، وكذلك أحطنا قلوبنا بأسوارٍ وحصونٍ حتى لا يسهُل الدخول لها، فلن نسمح لأحدٍ مرةً أخرى أن يُحطِّمنا كما فعلتَ أنت بقلوبنا الخضراء التي كانت مجرَّد براعمَ تتفتَّح على الحياة، فدهستها بقدميك ومضيت في طريقك.
تغيَّرنا جميعًا يا أبي وتغيَّرتَ أنت معنا، فلم تَعُد بعد أن هجرتنا سعيدًا مبتهِجًا كما كنتَ معنا، فقدَتْ روحُك شيئًا ما، وفقدَتْ عيناك لمعتَهما، وفقدْتَ ابتسامتَك الحنون التي كانت تُبهجني، لكن يبدو يا أبي أن الفقْد قدَرُنا وعلينا أن نرضى به ونتعايش معه، وقد علمنا أن نكون أقوياء.
الفقْد يا أبي إحساس قاتلٌ للقلوب حقًّا، وخاصة فقْدَ الأب فعندما نفقده بالموت يكون قاسيًا، لكننا نظل نحلم لو كان حيًّا لفعلَ كذا وكذا من أجلنا، لكن الأشد قساوة فقْدُ الأب وهو على قيد الحياة، فهو يفعل الكثير من أجل الآخرين، لكنه لا يفعل إلا القليل من أجل أبنائه، بل ويحرمهم من الكثير.