مرارةُ التعوُّد
تعوَّدنا نعم يا أبي تعودنا غيابك كما يعتاد الإنسان على كل شيءٍ مؤلمٍ أو مبهجٍ في حياته فيفقد أثرَه في الوجع أو الفرح، مضت بنا الحياة ولم تَعُد تؤلمنا تعليقاتُ الناس السخيفة ولا ذمُّهم فيك لهجرك إيانا، ولكن لأصدقك القول، كانت تؤلمنا ولكننا تعوَّدنا حتى أن نخفي آلامنا عن كل العيون. حلَّ أخي محلَّك، فكان الأب والأخ والصديق، وحاول بقدْر استطاعته تعويضنا، وصارت أمِّي أقلَّ حزنًا وأكثرَ بهجةً عمَّا قبلُ، أما أنا وأختي فكنا ككل أختين نتشاحن ونتصافى ونعيش الحياة ببهجتها ونقتنص منها لحظات المرح؛ لنتزود بها قبل أن تداهمنا لحظاتُ الحزن مرةً أخرى. هل تعلم ماذا فعل بنا الاعتياد؟ جعل أي حزنٍ أو مشكلةٍ ينكسر على صخرة برودنا ولا مبالاتنا، بل ونتغلب عليها بالسخرية، صرنا نُحوِّل كل مشاكلنا وأحزاننا لموضوعٍ مثيرٍ للسخرية ونظل نضحك أنا وإخوتي ولا نحمل للدنيا همًّا، فماذا ستفعل بنا أكثرَ من انتزاعك منَّا، وسلب راحتنا واستقرارنا؟ لا شيء.
تعوَّدنا الغياب ومضينا في طريقنا، فاختار أخي طريقَ التجارة مثلك من خلال دراسته في كلية التجارة، واخترته أنت ليعمل معك في شركة المقاولات كموظف مثله مثل غيره حتى يعتمد على نفسه، فرفض وفضَّل العمل في بنكٍ ليستقل بنفسه بعيدًا عنك. واختارت أختي دراسة التاريخ لتعمل كمرشدةٍ سياحيةٍ، حيث كانت تحلم بالسفر دائمًا والتحليق بعيدًا عن حياتنا لتخلق حياتها الخاصة بها بلا قيودٍ ولا تحكُّماتٍ من أمي وأخي.
أما أنا فاخترت أن أكون متميزةً في سلوكي وفي تعليمي من أجل أمي حتى لا تسمع الكلمة المعتادة «المطلَّقة تفشل في تربية أبنائها بمفردها بلا رجلٍ»، أردت أن تفتخر بي أمي وألا يعيِّرها أحد بتربيتنا، وفي أعماقي كانت هناك رغبتان تتصارعان؛ الأولى أن تفخر بي أنت أيضًا، والثانية أن تشعر بالندم على هجرك لي وأنك لم تكن معي وأنا أُحقِّق نجاحي.
حتى زوجتك اعتدنا عليها ولم نَعُد نكرهها كما كنَّا من قبل، اعتدنا وجودها في حياتنا كأمرٍ واقعٍ لم يَعُد يزعجنا، خاصةً بعد أن أنجبت إخوتنا الصغار، كما أنك لم تَعُد تأتي لزيارتنا وصار علينا أن نلتقي بك في بيتها، وأن نحكي كلَّ ما يخصُّنا في حضورها، فكنا نحكي الضروري فقط، ونحجب عنك باقي تفاصيل حياتنا التي لم تَعُد تهمُّك في شيءٍ، ولم تَعُد تريد سماعها. اعتدنا عليها واعتدنا على الصغار الذين أحببناهم بالفطرة لأنهم دمنا وشركاؤنا فيك، لأنهم لا ناقة لهم ولا جمل في كل الأحداث، لأنهم مثلنا مفعول بهم، أحببنا الصغار وخاصة الطفلة الوسطى بين الولدين لأن حقَّها كان مهضومًا بين الكبير الذي تفضِّله لأنه يشبهك وبين الصغير الذي تُغدق عليه أمُّه بتدليلها، فكانت تلك الطفلة تشبهنا، فهي تائهةٌ مثلنا لا تدري لمن تنتمي ومن يبالي بها، فكنتُ أُشفق عليها بل وأحبها لأنها جميلةٌ وبريئةٌ جدًّا، حتى هي اعتادت على الإهمال والتجاهل، ألم أقُل لك يا أبي إن كل الأحزان تخفُّ وطأتها مع التعوُّد؛ فهو قادرٌ على التغلب على الآلام والأفراح وحتى المشاعر، فكل شيء بالتعوُّد يفقد أثرَه.
وأنت يا أبي اعتدت أن ترانا في أول كل شهرٍ عندما نحضر إليك لنأخذ مصروفاتنا الشهرية، فاعتدت غيابنا، واعتدت تجاهل كلِّ شيءٍ عنَّا، ولم تَعُد تبالي سوى بنجاحنا الدراسي فقط وكأنك تدفع المال مقابل النجاح، واعتدت على برود مشاعرك تجاهنا وبرود مشاعرنا أيضًا، اعتدت على الغياب فلم تَعُد تسأل عن أحوالنا، ولم تَعُد تبالي مَن حضر ومَن غاب، اعتدت أيضًا أننا مجرَّد عبءٍ عليك تحمله فقط بلا مشاعر وبلا اهتمام حقيقي، كنا فقط حاضرين في كل المناسبات العائلية لتثبت للجميع أنك لا تقصِّر في حقنا.
كان التعوُّد في البداية بالنسبة لي صعبًا جدًّا ومؤلمًا، لكن مع تَكرار المواقف تعودت، لكني أيضًا تعودت كتمان مشاعري ومخاوفي، بل وأحلامي، كنتُ أحتفظ بكل ذلك لنفسي ولا أشارك به أحدًا. أنا أيضًا اعتدت أن صحبةَ الكتب أفضلُ من صحبة البشر، لكن ليس معنى هذا أني لم يكن لي صديقات، بل كان لي من الجيران ومن الأقارب، وكذلك من سنوات الدراسة، وكن كلهن يحسدنني على غيابك، وأني ليس لي مَن يتحكَّم في خروجي أو ملابسي أو أصدقائي مثلهن، بل ويحسدنني على المال الذي تغدقنا به، فكانت إجابتي دائمًا: «خذوا المال والحرية وأعيدوا لي أبي أو أعطوني والد إحداكن.» في البداية كانت تغضبني تلك المزحات، لكني اعتدت عليها أيضًا، بل كنت أُضيف ساخرةً لصديقاتي: «سأتزوَّج والدك وأصبح زوجةَ أبٍ وأُعذِّبك.» فكنا نضحك جميعًا. كما كانت صديقاتي يحسدنني على جمالي وتميُّزي عنهن بالعيون الزرقاء، لكني اعتدت على ذلك الجمال الذي أُطالعه كلَّ يومٍ في المرآة ولم أجده فاتنًا كما كانوا يقولون، لكن مَن حولي كانوا يرون تميُّزي في جمالي وثراؤك فقط، فقررت أن أجعل تميُّزي في نجاحي لا في شكلي، فجمال الشكل يفقد أثره بالتعود — ككل شيءٍ — لكن النجاح يدفع للمزيد من النجاح.
قرَّرت أن أتغاضى عن كل رغبات المراهقة الجامحة في أن ألْفِت انتباه الشباب وأن أكون محبوبةً — رغم أني كنت أتوق لذلك، لكن في الوقت المناسب — وأن أهتمَّ بدراستي لأحقق نجاحًا لم يحقِّقه أحدٌ، فكنت أكرِّس وقتي للدراسة والقراءة، فالعلم والاطلاع هما من يخلقان الإنسان الناجح ويدعمان ذلك النجاح، وكل هذا يحتاج لإرادة قويةٍ. في رحلتي نحو النجاح اعتدت على تعليقات زميلاتي وقريباتي بأني مُعقَّدةٌ أحيانًا ومغرورةٌ أحيانًا، كما اعتدت على تعليقات الكثيرين بأنِّي جادةٌ جدًّا في نمط حياتي، وحادةٌ جدًّا في التعامل مع الجنس الآخر. حقًّا كنت مُعقدةً إلى حدٍّ ما، لا أستطيع إنكار ذلك، فكان إحساسي بأني مهجورةٌ يتغلَّب عليَّ كثيرًا، لكني لم أكن يومًا مغرورةً إنما كنت منغلقةً على ذاتي لا أبوح بمكنون نفسي سوى لوريقاتي، فهي الوحيدة التي أثق أنها لن تُفشي أسراري أو تسخر منِّي، ولن تستطيع هجري كما فعلتَ أنت، وكما فعلت صديقةُ الطفولة التي كنت أشاركها آمالي وأحلامي وأحزاني، وكنت أظنُّها نصفي الآخر حتى أفقْتُ على واقعٍ مريرٍ، أنها كانت تستغلني وتدَّعي حبِّي والإنصات لي والاهتمام بي؛ لتنفذ إلى عالَمنا وتستمتع بثرائنا فتقترض ملابسي وأدوات الزينة والحُلي الذهبية التي كنت أملكها لتبدو في وضعٍ اجتماعيٍّ مخالفٍ لحقيقةِ وضعها، وظهرت حقيقتها أمامي عندما رفض أحدُ جيراننا حبَّها مُصرِّحًا لها أنه يُحبني أنا ويريدها أن تُقرِّب بيننا، فحكت له عنِّي وعن أسرتي أكاذيبَ لتجعله يكرهني؛ ولتشوِّه صورتي في نظره، ولم أعلم بذلك شيئًا إلا عندما حكت إحدى الجارات لأمِّي عن الأكاذيب التي تروِّجها صديقتي عنِّي وعن أسرتنا، فلم أصدِّق وواجهتها، فقالت بمنتهى الغلِّ: «أنتِ تملكين كل شيء، المال والجمال والمستوى الاجتماعي، والكل يراكِ جديرةً بالحب والاحترام، لكن لا أحد يراني، ولا أحد يهتمُّ بي، لماذا؟ لماذا تحظين بكل شيءٍ ولا أحظى بشيءٍ؟ لماذا يحبُّك الجميع رغم أنك لا تتحدَّثين مع أحدٍ، بينما يرفضونني أنا الاجتماعية اللبقة الأكثر ذكاءً منك؟ أنا مَن أستحق كل شيءٍ وأنت لا تستحقين شيئًا؛ لذا هجرك أبوك لأنك لا تستحقين الحب.» كانت كلماتها الضربةَ القاضية التي أتت على قلبي ومزَّقته إربًا بعد أن قضيت سنواتٍ ألملمه، فلفظتها من حياتي للأبد، ولم أقبل اعتذاراتها المتتالية ولا وساطة مَن وسَّطتهم بيننا، وبنيت حول قلبي ألف جدارٍ وأغلقت عليه بألف مفتاحٍ لأحميه من الألم.
لقد اعتدتُ كلَّ شيءٍ في حياتي يا أبي، لكني لم أستطِع التعوُّد لا على الغدر ولا على الهجر أبدًا، فكلاهما كان يقتلني ألف مرة ويمزِّق نياط قلبي. لكني اعتدت الوحدة بسهولةٍ، بل فرضتها على قلبي بسهولةٍ، فكان لي العديد من الزميلات، لكني لم أسمح لأي شخصٍ أن يحتلَّ مساحةً خاصة في قلبي حتى لا يتمكَّن من جرحه بسهولةٍ، فجراح الغرباء تلتئم بسهولةٍ، لكن جراح الأحبة لا تلتئم أبدًا لأنهم يعلمون كيف يقتلوننا بدمٍ باردٍ.
اعتدت أيضًا أن أتحمَّل سخافات الناس بلا مبالاة؛ فكثيرٌ من الناس قد يجرحك بكلامه بدون قصدٍ أو متعمِّدًا، وهو لا يعلم ما تفعله الكلمات في القلوب وأظل أفكِّر كثيرًا هل أبادله جرحًا بجرحٍ وألمًا بألمٍ؟ في البداية كنت أفعل ذلك لكني لم أكن أشعر بالارتياح؛ لذا قرَّرت أن أسلك الطريقَ الأصعب وهو كظم الغيظ ومقابلة سخافات الناس بابتسامةٍ باهتةٍ أو بتجاهل، وخاصة تلك الملاحظات التي تتعلق بك وبتركك لنا وبعدك عنَّا، حتى ألَمُ تلك الملاحظات اعتدت عليه، لكني كنت دائمًا أتساءل ماذا يفيد الناس من تدخلهم في حياة الآخرين؟ وهل يستمتعون بإيذائهم؟
كما سبق أن قلت لك يا أبي إني اعتدت الوحدة، لكن هل تعلم أني لم أكن أبدًا وحيدة، فقد علمتني الوحدة وآلام الحياة أن أكون في معيَّة الله فاقتربت منه كثيرًا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن ساعدتني أمي على ذلك بالقول والفعل، فقد استطاعت التغلب على آلامها باللجوء لله، وأكملت مشوارها الثقيل وحدها وهي مستعينةٌ به وحده، تعلمت من أمي أن ألجأ في كل أحوالي لله وحده. لم تكن وحدتي سوى لجوء إليه أو تعبُّد وتأمل في ملكوته، فكنت أعشق وحدتي لأني أبوح له وحده بما في قلبي وأطلب منه وحده العون والهداية، فأحببت وحدتي كثيرًا.
حتى في قربي من الله لم أسْلم من تدخُّل الناس بل وسخريتهم، فأطلقوا عليَّ لقب «ست الشيخة»، فلم أغضب من اللقب بل أحببته واعتدت عليه، وكنت أدعو الله دائمًا أن يثبتني ويهديني.
ألم أقُل لك إن للتعود تأثيرَ السحر على كل الأشياء، وله القدرة على أن يُفقدها قيمتها؟!