الأفراح تدقُّ بابنا
عُدت للبيت فوجدت سليم يجلس مع أمي وسلوى يتحدثون، فقالت أمي: اتأخرتي ليه؟
فلم تمهلني سلوى حتى قالت بلهفتها المعتادة: سمعتي مفاجأة الموسم؟ فاكرة الواد الطيار الغلس اللي كان هيخبطني بعربيته من شهر لما كنَّا سوا وبهدلته؟ روحت أعمل اختبار عشان أشتغل مضيفة لقيته في وشِّي، وطبعًا سقَّطني في الامتحان عشان ينتقم منِّي، قوم إيه ألاقيه كلَّم سليم عشان عايز يتقدم لي، شوفتي بجاحة أكتر من كده؟
ضحكت وقلت: دا وقع في شرِّ أعماله.
– قصدك إيه؟ دا أنا قمر، هو يطول! بس فعلًا هاطلَّع البلا على جتته عشان يحرَّم يغلِّس عليَّ.
ضحكنا كلنا وقلت لماما: ماما، أنا واقعة من الجوع عايزة أكل.
فقامت أمي لتحضير الطعام وقالت سلوى: أنا هانزل أشتري فستان كان عاجبني في المحل اللي على الناصية.
فقلت: واضح إن الطيار الغلس مش عاجبك.
– لا يا بطة، دا مش عشانه، دا عشان الفستان نزل سعره في الأوكازيون، سلام.
قلت لسليم بصوتٍ منخفضٍ: أكمل جالي الشغل.
– ليه؟
– حكيت له بصوتٍ منخفضٍ كلَّ ما حدث، فقال غاضبًا: الواطي يسيب أخته في حتة مقطوعة ويمشي؟ الواد دا مش هيسترجل غير لما أضربه علقة موت، ما عندوش دم دا؟ ما بيغيرش على لحمه ودمه؟
– أنا مش باقولك عشان تتخانق معاه، أنا باقولك عشان موضوع الورث.
– سيبيني أفكَّر بهدوء وأنا هاعرف أتصرف.
– وهتعمل إيه في عريس المجنونة دي؟
– شكلها هترفضه.
– أقولك سر؟ أنا حاسة إنه عاجبها.
– دي مجنونةٌ، حد عارف هي عايزة إيه؟ ولا حتى هي عارفة هي عايزة إيه.
– ربنا يهديها ويسعدها، بس اسأل عنه أنت كويس وشوفه محترم ولا لأ.
– طبعًا.
– هتقول لبابا؟
– لأ لما أشوفه وأتأكد إنه حد كويس، وبعدين مش يمكن يمشي زي اللي قبله لما يعرف ظروفنا.
دخلت أمي أثناء ذلك فقالت بهدوء: اللي مش عاجباه ظروفنا يخبط رأسه في الحيط ومايلزمناش، ناس متخلِّفة.
سكتنا وتناولت طعامي حتى عادت سلوى بصخبها، وعندما دخلنا غرفتنا حكيت لها ما فعله بي أكمل، فظلت تُكيِّل له الشتائم، فقلت لها: هو مابيعتبرناش أخواته أصلًا، عشان كده مش بيخاف علينا.
– عبيط ومش عارف يعني إيه أخوات يحبوه ويخافوا عليه، بس انتي هبلة برضه إنك نزلتي، لو أنا كنت شتمته وبهدلته وكلمت أبويا وأخليه يوصلني للبيت غصب عنه.
– صعبت عليَّ نفسي أوي إن اللي المفروض يحميني هو اللي يفرط فيَّ، وزميلي الغريب هو اللي يخاف عليَّ.
– وإيه حكاية الشهامة المفاجأة دي؟
– أبدًا، واحد من زمايلي شافني ماشية في حتة مقطوعة فعرض يوصلني مش أكتر.
– ما هي بتبدأ بالشهامة، خلي بالك يا بطة.
جاء طارق عريس سلوى في اليوم التالي فتزينتْ وجلستْ هادئةً وتتحدث بصوتٍ منخفضٍ مع أمه وأخته حتى ظنتا أنه اختار ملاكًا، فكانتا في قمة السعادة، وكنَّا جميعًا نكتم ضحكاتنا حتى استأذن طارق ليجلس معها بمفردهما فقال له سليم: تعالى نقعد أنا وإنت لوحدنا الأول وبعد كده اقعد معاها.
خرج معه طارق وجلسا في الصالة، فحكى له سليم عن ظروفنا وقال له: يا ترى ظروفنا هتناسبك؟
– أه عادي، أنا والدي توفي وأنا عمري ٦ سنين وأمي اللي ربتني أنا وأختي ولا كان معانا لا خال ولا عم ولا أي حد، يعني ظروفنا متشابهة.
– كده هاندهلك سلوى تتكلم معاها.
دخل سليم للصالون ونادى لسلوى لتجلس مع طارق فقالت بهمس: أنت إيه اللي جابك؟
– أيوه كده، أنا كنت خايف لا تكوني سخنة ولا عيَّانة وانتي عاملة عاقلة؟
– قصدك إني مجنونة؟
– وهو جابني على ملا وشي غير الجنان دا؟
احمرَّت وجنتا سلوى، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها وقالت: أنا ليَّ شروط.
– وماله.
– عايزة أفضل أشتغل، وياريت لو تشغلني مضيفة معاك.
– طيب أنا عندي اقتراح، أنا طبعًا معظم الوقت مسافر فما ينفعش أنا وانتي نكون مش موجودين، مين هيربي العيال؟ أنا هاسيبك تشتغلي لحد ما نخلف وتقعدي تربيهم، ولما يكبروا شوية ارجعي شغلك، لكن مضيفة انسي، كدة العيال هيتربوا في ملجأ.
– بس أنا كان نفسي أسافر وأشوف الدنيا.
– بس كده! أوعدك هاخليكي تسافري وتتفسحي وتلفِّي العالم.
– إشطا.
– يعني اتفقنا.
– اتفقنا يا برنس.
– يا بنتي إنتي مرشدة سياحية ولا سواق توكتوك؟
– تصدق بافكر أجرب مهنة سوَّاق توكتوك دي، هاعمل مغامرات إنما إيه!
دخلت لأقدِّم لهما العصير وقلت مبتسمة: أعتقد كفاية تعارف كده.
فقالت سلوى: ليه بقى؟
فقلت لها بهمس: عشان الجوازة تكمل.
فضحك طارق فقلت: عشان سليم عايز يتكلم معاكم.
دخلا للصالون وقال سليم: إحنا اتشرفنا بمعرفتكم يا طارق، إديني مهلة لآخر الأسبوع وردِّي هيوصلك.
– أنا مسافر ومش هارجع غير يوم السبت.
– مافيش مشكلة، لما ترجع اتصل بيَّ.
– طيب نستأذن إحنا.
فسلمنا عليهم وسمعته يقول لسلوى.
– أجيب لك إيه من إيطاليا؟
– أيس كريم طبعًا.
– أنا قلت دي مجنونة رسمي.
وافق سليم على طارق وحدَّد له موعدًا لمقابلة أبي في مكتبه وذهب معه سليم، فرحَّب أبي به وأعلن موافقته وتم تحديد الجمعة القادمة لإعلان الخِطبة، وأصرَّت سلوى على أن تُقام الخِطبة في أحد المراكب العائمة، وحاولنا أن نعترض بأن من سيأتي متأخرًا لن يحضر الخطوبة، فقالت: اللي يتأخر يتفلق، أنا عايزة أتبسط بطريقتي.
وافقها طارق وشدَّد على الجميع بضرورة الحضور في الموعد المحدد، وأُقيم الحفل ولم تحضر يا أبي، وقلنا للجميع إنك تعرضت لوعكةٍ صحيَّةٍ؛ لذا لم تحضر أنت ولا إخوتي، كم شعرت بالألم من أجل سلوى، فكل فتاةٍ تحلم بأن يكون أبوها معها يشاركها فرحتها ويكون سندها أمام الجميع، لكنك كالعادة تخلَّيت عنَّا وظلت فرحتنا منقوصةً. لم تُظهِر سلوى ألمها لأحد، لكنِّي كنت أشعر به، إنما غطَّته بصخبها وضحكاتها، وأكثر ما عوضنا وقوف أخوالي وأبنائهم وبناتهم معنا، ورقصت سلوى وطارق وسليم وكل الأصدقاء والأقارب، بينما بقيت مع أمِّي نرحِّب بالضيوف من أهلنا وأهل طارق. مرت الليلة بسلامٍ وتمنيت أن يكون طارق تعويضًا من الله لسلوى، تلك الصاخبة التي تُداري آلامها بجنونها وضحكها.
في اليوم التالي وأثناء ركوبي أتوبيس الشركة فوجئت بعصام يركب معنا، فقال لي مبتسمًا: ماجيتيش الرحلة ليه؟
– كانت خطوبة أختي إمبارح.
– مبروك عقبالك.
– أمال زوبة فين؟
– زوبة مين؟
– عربيتك.
– عيَّانة.
– ألف سلامة.
وعندها نادته بعض الزميلات ليجلس معهن، فذهب وعمَّ الضحك والصخب في الأتوبيس، لا أدري لمَ شعرت بالضيق، فأنا لا أهتم به وأعرف أن هذا سلوكه الدائم فلمَ أشعر بالضيق؟ هل ظننت أنه سيتغير من أجلي؟ ولمَ يتغيَّر من أجلي وليس بيننا شيء؟! أفيقي من أحلامك وعيشي الواقع.
وضعت سماعات الموبايل في أُذني واستمعت لفيروز بينما كنت أُكمل قراءة إحدى الروايات، وعندما وصلنا قال عصام مشيرًا للرواية: بتقري إيه؟
– رواية.
فأخذها من يدي وقال متعجبًا: واو! ورومانسية كمان؟!
– وفيها إيه؟
– شكلك مايدِّيش رومانسي خالص، أنا قلت بتقري كتاب في علم النفس أو التنمية البشرية، بصراحة كل يوم بتدهشيني.
ابتسمت ولم أُجِبه، إنما تركته ومشيت وأنا أخشى على قلبي من تأثيره الطاغي؛ فقد أدركت لمَ يسمونه الدنجوان، ليس لوسامته ولا لكلامه المعسول، إنما لقدرته الفائقة على التسلل للنفس دون أن يشعر به أحد، وأن يشغل القلوب بابتسامته الساحرة.