الفصل الأول
كان يا ما كان، في يوم من الأيام، وكان يومًا جميلًا جدًّا، كانت هناك بقرةٌ قادمةٌ عبر الطريق، وقابلَت هذه البقرة القادمة عبر الطريق صبيًّا صغيرًا لطيفًا جدًّا اسمه الطفل «تاكو».
قصَّ عليه أبوه هذه القصة، وكان ينظر إليه من وراء نظارته، كان له وجهٌ كثيفُ الشعر.
أما هو فكان الطفل «تاكو»، وسارت البقرة عبر الطريق إلى حيث تسكن «بيتي بيرن»، التي تبيع حلوى السكر بالليمون.
كان يُردد هذه الأغنية دائمًا؛ فقد كانت أغنيته المفضَّلة، يغنيها هكذا:
عندما تبلُّ فراشَك تشعر بالدفء أول الأمر، ثم يأخذ في البرودة، وتضع أمه المشمع الذي كانت له رائحةٌ غريبة.
رائحة أمه أفضل من رائحة أبيه، وكانت تعزف له لحن البحَّارة لكي يرقص عليه:
وقالت أمه: «آه … سوف يعتذر ستيفن.»
وقالت دانتي: آه … ستأتي النسور وتنزع عينَيه إن لم يفعل.
تنزع عينَيه.
يعتذر.
يعتذر.
تنزع عينيه.
يعتذر.
تنزع عينَيه.
تنزع عينَيه.
يعتذر.
•••
كانت الملاعب الفسيحة تموج بالأولاد، وكلُّهم يصيح، ويحثُّهم المشرفون بصيحاتهم القوية. وكان هواء المساء غائمًا وباردًا، وبعد كلِّ هجمةٍ أو ضربةٍ يُصوِّبها اللاعبون تطير الكرة الجلدية كطائرٍ ثقيلٍ يمرق خلال النور المعتم. ولَزِم هو منطقةَ فريقِه بعيدًا عن بصر المشرف، بعيدًا عن متناول الأقدام الخشنة، متظاهرًا بالجري بين حينٍ وآخر. شعر بجسده صغيرًا واهنًا بين هذا الجمع من اللاعبين، وبعينَيه ضعيفتَين دامعتَين. لم يكن «رودي كيكهام» هكذا، ويقول الجميع إنه قد يصبح رئيسًا للصف الثالث.
كان «رودي كيكهام» زميلًا لطيفًا، أما «ناستي روش» فرائحته كريهة، و«رودي كيكهام» له غطاء للساق بين أدواته ووجبة خاصة في المطعم، أما «ناستي روش» فيداه كبيرتان، وكان يسمِّي الحلوى التي يقدمونها لهم يوم الجمعة الجرو المغطَّى بالملاءة. وقد سأله ذات يوم: ما اسمك؟
فأجاب ستيفن: ستيفن ديدالوس.
فقال ناستي روش عند ذلك: أي نوع من الأسماء هذا؟
ولمَّا لم يستطع ستيفن الإجابة، سأله ناستي روش: وماذا يعمل والدك؟
وأجاب ستيفن: إنه من السادة.
فسأله ناستي روش: أهو من القضاة؟
أخذ يتنقل من مكان إلى آخر على امتداد منطقة فريقه، ويجري قليلًا من حين لآخر. كانت يداه زرقاوين من البرد فأبقاهما في الجيوب الداخلية لصِدارِه الرمادي ذي الحزام، الذي يلتفُّ حول جيبه، والحزام يُستعمل أيضًا في الضرب. قال أحد الزملاء يومًا لكانتويل: «بإمكاني أن أضربك ضربةً قاضية في ثانية واحدة.»
وأجاب كانتويل: اذهب وقاتِل مَن هو ندٌّ لك، فلتضرب سيسل تندر، أُحبُّ أن أراك تفعل ذلك، بإمكانه أن يرفسك في مؤخرتك.
لم يكن هذا تعبيرًا مهذبًا، لقد قالت له أمُّه ألَّا يتحدثَ مع الأولاد الوقحاء في المدرسة. يا لَلأم اللطيفة! لقد رفعت نقابها عن شفتها إلى أنفها لكي تُقبِّله حين كانت تُودِّعه في أول يومٍ أمام ردهة المدرسة. وكان أنفها وعيناها حمراء، ولكنه تظاهر أنه لم يلحَظ أنها على وشك البكاء، إنها أمٌّ جدُّ لطيفة، ولكنها لا تكون كذلك حين تبكي. وأعطاه أبوه قطعتين من ذات الشلنات الخمسة مصروفًا لجيبه. وقال له أبوه أن يكتب إلى المنزل إذا ما احتاج إلى شيء، كما نصح بألَّا يشيَ بأحدٍ من زملائه مهما كانت الأحوال، ثم صافح المدير والده ووالدته على باب المدرسة والنسمات تعبث بردائه. وتحرَّكَت السيارة بأبيه وأمه، اللذَين أخذَا يهتفان ويلوِّحان له بأيديهما:
– وداعًا يا ستيفن، وداعًا.
– وداعًا يا ستيفن، وداعًا.
واحتوَته دوامة لعبة الرجبي، وانحنى لينظر من خلال السيقان؛ فقد أجفل من العيون البارقة والأحذية الملطخة بالطين. كان التلاميذ يتصارعون وتتصاعد منهم الأنات، بينما أرجلهم تعرك وتركل وتدق، ثم راغ حذاء «جاك لوتون» الأصفر بالكرة وتقدَّم بها، وجرَت خلفه كلُّ الأحذية والسيقان الأخرى، وجرى هو وراءهم فترةً قصيرة ثم توقَّف: كان من العبث مواصلة الجري، وسرعان ما سيعودون إلى المنزل في الإجازة، وحين يذهبون لحجرة الدراسة بعد العشاء سوف يغيِّر الرقم الذي كتبه داخل قمطره من ٧٧ إلى ٧٦.
وفكَّر أنه من الأفضل أن يكون في حجرة الدراسة على أن يكون هنا في البرد. كانت السماء معتمة وباردة، ولكن كانت تلمع بعض الأضواء في إدارة المدرسة. وتساءل متعجبًا: تُرى من أيِّ النوافذ ألقى «هاملتون روان» قبَّعتَه على سور الحديقة، وهل كانت هناك أحواض للزهور تحت النوافذ في ذلك الوقت؟ عندما استدعوه ذات يوم إلى مبنى إدارة المدرسة، أراه كبيرُ الخدم الخدوش التي خلَّفها رصاص الجنود في خشب الباب، كما أعطاه قطعةً من الخبز الذي كانت تأكله الطائفة الجزويتية.
إن منظر الأضواء في إدارة المدرسة يبعث في النفس الراحة والدفء، ويبدو كأنما الأمر شيء في الكتب، قد يبدو دير «ليستر» هكذا، كما أن هناك جُملًا لطيفةً في كتاب الدكتور كورنويل للتهجي تبدو كالشعر، ولكنها لم تكن سوى جُمَل لتعليم التهجي:
كم يكون جميلًا أن يستلقيَ على بساط المدفأة أمام النار، ويتكئَ برأسه بين يديه ويفكر في هذه العبارات. وارتجف كما لو أن ماءً باردًا موحلًا قد مسَّ جسده. كم كان «ولز» دنيئًا لأنه دفعه بكتفه إلى حفرة دورة المياه؛ لأنه لم يقبل أن يبادل علبة سعوطه الصغيرة بثمرة «أبو فروة» البسيطة، التي يملكها ولز ويسميها قاهرة الأربعين. كم كانت المياه باردة موحلة! لقد رأى أحد الزملاء مرة فأرًا يقفز في تلك الردهة، وتصور أمَّه جالسة أمام النار مع «دانتي»، تنتظران «بريجيد» لتُحضر لهما الشاي، وقد وضعَت قدمَيها على سياج المدفأة، ونعلاها في غاية الدفء. كان لهما رائحةٌ جميلةٌ دافئة، ودانتي تعرف كثيرًا من الأشياء، فقد علَّمته أين تقع قناة موزمبيق وما أطول نهر في أمريكا، واسم أعلى جبل في القمر. أما الأب «أرنال» فهو أكثر علمًا من دانتي لأنه قَسٌّ، ولكنَّ أباه والعمَّ «تشارلس» كانَا يقولان إن دانتي امرأة ماهرة وقارئة ممتازة، وأحدثَت دانتي ذات مرة ضجةً كبيرةً بعد الغداء، ووضعت يدها على فمها. كان ذلك نتيجة عسر الهضم.
ونادى صوتٌ من بعيد في الملعب: «اجمع.»
فرددت أصوات أخرى من الصف النهائي والصف الثالث: «اجمع، اجمع!»
وتجمَّع اللاعبون حُمرَ الوجوه وقد علاهم الوحل، وانضم إليهم سعيدًا بالذهاب إلى الداخل. وحمل «رودي كيكهام» الكرةَ من شريطها الجلدي، وطلب منه أحدُ زملائه أن يلعبوا بها دورًا أخيرًا، ولكنه مضى في سيره دون أن يردَّ عليه، وقال «سيمون مونان» لرودي كيكهام ألَّا يفعل ذلك؛ لأن المشرف يراهم، فتحوَّل الزميل إلى سيمون مونان وقال له: إننا جميعًا نعلم لماذا تقول ذلك. إنك رضيع المشرف «ماكجليد».
وشعر بالبرودة ثم بالسخونة عندما تذكَّر ذلك، وتمثَّل منظر دورة المياه الأبيض. كان هناك صنبوران تُديرهما فيتدفق الماء: باردًا وساخنًا. وشعر بالبرودة ثم بالسخونة، وكان بإمكانه أن يرى الأسماء المنقوشة على الصنابير، كان هذا شيئًا عجيبًا جدًّا.
كذلك سرى هواء الردهة بالبرد إلى جسده، كان عجيبًا رطبًا، ولكن سرعان ما سيُوقدون مصابيح الغاز، ويصدر عن استعمالها طنينٌ خفيف كالأغنية الخفيفة لا يتغير أبدًا، وتستطيع سماعه حينما يتوقف التلاميذ عن الكلام في حجرة الألعاب. كانت تلك حصة الرياضيات، وكتَب المدرس — الأب أرنال — معادلةً صعبة على السبورة وقال: «والآن، مَن سيفوز يا تُرى؟ هيَّا يا يورك، هيَّا يا لانكستر.»
وبذل ستيفن كلَّ جهده، ولكن الرقم كان صعبًا، وشعر بالارتباك، وأخذت الشارة الحريرية الصغيرة ذات الوردة البيضاء المثبتة بالدبوس على صدرِ سُتْرتِه تهتز. لم يكن ماهرًا في الرياضيات، ولكنه بذل كلَّ جهده حتى لا يخسر فريق يورك، وبدا وجهُ الأب أرنال شديد السمرة، ولكنه لم يكن غاضبًا بل كان يضحك، وطرقع «جاك لوتون» أصابعه، ونظر الأب أرنال إلى كراسته، وقال: «صح، برافو يا لانكستر، الوردة الحمراء تفوز، هيَّا الآن، تقدَّم يا يورك!»
ونظر جاك لوتون من فوق كتفه، وظهرت الشارة الحريرية الصغيرة وعليها الوردة الحمراء الزاهية؛ لأنه كان يرتدي سترة بحارة زرقاء. وشعر ستيفن بوجهه يحمرُّ مثلها عندما جالَت بخاطره المراهنات التي عُقدت حول مَن منهما سيفوز بالصف الأول في الرياضيات: هو أم جاك لوتون؟ كان جاك لوتون يفوز ببطاقة الأولوية عدة أسابيع، وأسابيع أخرى يفوز هو بها. واهتزَّت شارتُه الحريرية البيضاء وتماوجَت، بينما هو يعمل في حل المسألة التالية، وصوت الأب أرنال يخترق سمعَه.
ثم انطفأَت جذوةُ حماسه، وشعر بوجهه شديد البرودة، وخطر له أنَّ وجْهَه لا بد وأن يكون شاحبًا؛ لأنه كان باردًا. لم يكن باستطاعته حلُّ المسألة، ولكن هذا لا يهم. الورود البيضاء والورود الحمراء: لونان جميلان، وبطاقات الفوز للمرتبة الأولى والثانية والثالثة ذات ألوان جميلة أيضًا: حمراء وبيضاء وصفراء، والزهور الحمراء والصفراء جميلة. ربما كانت الوردة البرية لها مثل هذه الألوان. وتذكَّر الأغنية التي تدور حول الوردة البرية التي تُزهر في المكان الصغير الأخضر، ليست هناك زهور خضراء، غير أنها قد تكون موجودة في مكانٍ ما من العالم.
ودق الجرس، واصطفَّ التلاميذ خارج الحجرات وعلى طول الردهة نحو المطعم. وجلس ينظر إلى قطعتَي الزبد في طبقه، ولكنه لم يستطع أن يأكل الخبز الرطب. وكان مفرش المائدة رطبًا رخوًا، ولكنه شرب الشاي الساخن الخفيف الذي صبَّه في قدحه صبيُّ الفرَّاش الأرعن ذو المريلة البيضاء حول وسطه. وتساءل عمَّا إذا كانت مريلة الخادم رطبة. وكان «ناستي روش» و«سورين» يشربان الكاكاو الذي أرسله لهما أهلهما في عُلَب صفيحية؛ فقد قالا إنهما لا يستطيعان شرب الشاي لأنه مثل ماء الخنازير، وكانا يقولان إن والدَيهما من القضاة.
كان الأولاد جميعهم يبدون في عينَيه شديدي الغرابة، لهم آباء وأمهات وملابس وأصوات مختلفة. واشتاق إلى أن يكون في المنزل ويُريح رأسه على حِجر أمه، ولكن ليس هذا ممكنًا؛ لذلك فقد تطلَّع إلى انتهاء اللعب والمذاكرة والصلاة حتى يدلف إلى فراشه.
وشَرِب قدحًا آخر من الشاي، فقال «فلمنج»: «ماذا بك؟ أتشعر بألمٍ أم ماذا؟»
فقال ستيفن: «لا أدري.»
فقال فلمنج: «ليست معدتك على ما يرام؛ لأن وجهك يبدو شاحبًا، سيذهب ذلك سريعًا.»
وقال ستيفن: «آه … أجل.»
ولكن عِلَّته لم تكن هناك، بل خطر له أن العلة تكمن في فؤاده، إذا كان من الممكن أن يمرض المرء في هذا الموضع. كان جميلًا من «فلمنج» أن يسأله عن حاله، وشعر برغبة في البكاء. وارتكز بمرفقَيه على المائدة، وأخذ يسدُّ طاقاتِ أُذُنَيه ويفتحهما براحتَيه. وكان في كل مرةٍ يرفع يدَيه عنهما يسمع ضجةَ المطعم، التي تُشبه زئيرَ القطار عند الليل، أما عندما يسدهما فكان الزئير يختنق كالقطار حين يَعْبر نفقًا. كان القطار يزأر على هذا النحو في تلك الليلة عندما كان في مدينة «دوكي»، ولكنَّ زئيره توقَّف عندما دخل النفق، وأغمض عينَيه، وظل القطار يجري في خياله، يزأر ويتوقف ويزأر ويتوقف. كان جميلًا أن نسمعه يزأر ويتوقف، ثم ينطلق زئيرُه مرةً أخرى بعد خروجه من النفق ثم يتوقف.
وأخذ تلاميذُ الصفِّ الأعلى يهبطون على البساط الذي في وسط المطعم. كان منهم «بادي راث» و«جيمي ماجي»، والإسباني الذي سمحوا له بتدخين السيجار، والبرتغالي الصغير الذي يرتدي قبعةً صوفية، وتلاهم أفرادُ الصف الثالث. وكان لكل شخصٍ طريقةٌ مختلفة للمشي.
وجلس في ركنٍ من حجرة الألعاب يتظاهر بمشاهدة مباراة في الدومينو، وقد تمكَّن مرةً أو مرتين في لحظة خاطفة من سماع الأغنية الخفيفة التي تَصْدر عن المصباح الغازي. ووقف العريف أمام الباب ومعه بعض الأولاد، بينما «سيمون مونان» يعقد أطرافَ أردانِه المطلقة، وكان يُحدِّثهم عن «تولابج».
ثم ابتعد العريف عن الباب، واقترب «ولز» من ستيفن وقال له: «قل لي يا ديدالوس، هل تُقبِّل والدتَك قبل ذهابك للنوم؟»
وأجاب ستيفن: «أجل.»
فتحوَّل «ولز» إلى التلاميذ، وقال: «أوه … ها هو زميل يقول إنه يُقبِّل والدته كلَّ ليلة قبل أن يذهب للفراش.»
وتوقَّف التلاميذ الآخرون عن لَهْوهم والتفتوا إليهما وهم يضحكون. وتضرَّج وجهُ ستيفن خجلًا من وَقْع أعينهم، وقال: «إني لا أفعل ذلك.»
فقال ولز: «أوه … ها هو زميلٌ يقول إنه لا يُقبِّل والدتَه قبل أن يذهب للفراش.»
وعندما جلس في الفصل فتحَ غطاءَ قمطره وغيَّر الرقم المثبت في الداخل من ٧٧ إلى ٧٦. كانت إجازة عيد الميلاد بعيدةً جدًّا، ولكنها لا بد أن تأتيَ يومًا ما لأن الأرض تدور على الدوام. كانت هناك صورةٌ للكرة الأرضية في أول صفحة من كتاب الجغرافيا، كرةٌ ضخمةٌ تُحيط بها السحب. كان لدى «فلمنج» علبةٌ لأقلام الألوان. وفي ذات ليلة في حصة الهوايات قام بتلوين الأرض باللون الأخضر والسحب باللون الأرجواني. كان هذان اللونان يُماثلان لونَي الفرشاتَين في رفِّ حاجيات دانتي. الفرشاة ذات الظهر المخملي الأخضر ﻟ «بارنل»، والفرشاة ذات الظهر المخملي الأرجواني ﻟ «ميشيل دافيت». ولكنه لم يطلب من «فلمنج» أن يلوِّنَهما بهذين اللونين، بل فعل فلمنج ذلك من تلقاء نفسه. وفتح كتاب الجغرافيا لكي يستذكرَ الدرس، ولكنه لم يستطع استذكارَ أسماء الأماكن في أمريكا. كانت كلُّها أماكنَ مختلفةً لها أسماء مختلفة، وكلها في بلاد مختلفة، والبلاد في قارات والقارات في العالم والعالم في الكون.
ورجع إلى الصفحة الأولى البيضاء من كتاب الجغرافيا، وقرأ ما كان قد كتبه عن اسمه والمكان الذي يوجد فيه:
ستيفن ديدالوس.
قسم الرياضيات.
مدرسة كلونجوز وود.
مدينة سالينز.
مقاطعة كلدار.
أيرلندا.
أوروبا.
العالم.
الكون.
وكان هو الذي قام بكتابة هذا. وذات ليلة كتَبَ «فلمنج» هذه المقطوعة على الصفحة المقابلة ليمزح معه:
وقرأ سطور المقطوعة من الخلف للأمام، ولكنها لم تنتظم شعرًا عند ذلك. وأعاد قراءة الصفحة الأولى من أسفل إلى أعلى حتى وصل إلى اسمه. هكذا هو.
وأنهكه تفكيرُه بمثل هذه الطريقة، فشعر بثقل في رأسه. وقلب الورقة الأمامية البيضاء ثم نظر إلى الأرض الكروية الخضراء في وسط السحب الأرجوانية. وتساءل أيهما أكثر صوابًا: مناصرة الفريق الأخضر أم الفريق الأرجواني؛ فقد نزعَت دانتي ذات مرة الظهر المخملي الأخضر لفرشاة بارنل بالمقص، وقالت له إن بارنل رجلٌ سيِّئٌ. وتساءل عمَّا إذا كانوا يناقشون تلك المسألة الآن بالمنزل، هذا ما يسمونه بالسياسة. وهناك فريقان: دانتي في جانب، ووالده ومستر كاسي في الجانب الآخر. أما أمُّه والعم تشارلس فلم ينحازَا إلى أيٍّ من الجانبين، وفي كل يوم تكتب الصحف عن المسألة.
وآلمَهُ ألَّا يعرفَ ما تَعْني السياسة وأنه لا يدري أين ينتهي الكون. وشعر بضآلته وضعفه. متى يُصبح مثلَ رفاقه في الشعر والخطابة؟ إن لهم أصواتًا جهوريةً وأحذية ثقيلة ويدرسون حساب المثلثات. هذه الأمنية بعيدةُ المنال، فيجب أولًا أن تأتيَ الإجازة ثم الفصل الثاني فالإجازة مرة ثانية، ففصلٌ آخر، فالإجازة مرة أخرى. إن الأمر يُشبه قطارًا يدخل ويخرج من الأنفاق، ويُشبه بدون ضجة الأولاد وهم يأكلون في المطعم، عندما يسدُّ المرء طاقاتِ أُذُنَيه ويفتحهما. الفصل، الإجازة، النفق، خارجًا، الضجة، يقف.
لَكَم يبدو ذلك بعيدًا: من الأفضل الذهاب للفراش للنوم. لم يبقَ إلا الصلاة في الكنيسة ثم النوم. وارتجف ثم تثاءب. سيُصبح كلُّ شيء جميلًا في الفراش بعد أن يغمر الدفءُ الأغطية. تكون الأغطية شديدة البرودة في البداية عند النوم. وارتعد عندما مرَّت بخاطره درجةُ برودتها في البداية، غير أنها تأخذ في الدفء ويستطيع النوم. من الممتع أن يكون المرءُ مُتعبًا. وتثاءب ثانيةً. صلاة المساء ثم إلى الفراش. وارتجف وأحسَّ برغبة في التثاؤب ثانيةً. سيصبح كلُّ شيء ممتعًا بعد لحظاتٍ قليلة. ويشعر بالدفء الوهاج يزحف إليه من الأغطية الباردة الراجفة، ويأخذ في الدفء شيئًا فشيئًا حتى يشعرَ بكل جسده دافئًا، ويكتنفه الدفءُ في كل مكان. ومع ذلك فقد ارتجف قليلًا وما زالت به رغبةٌ إلى التثاؤب.
وكانت الكنيسة مفعمةً برائحة الليل الباردة، غير أنها رائحةٌ مقدسة. لم تكن مثلَ رائحة الفلاحين المسنين الذين يجثون في آخر الكنيسة عند قداس يوم الأحد: رائحة الهواء مختلطة برائحة المطر والحشائش والملابس القطنية. غير أنهم كانوا فلاحين شديدي الورع. كانوا يزفرون أنفاسهم خلفه، في عنقه، ويتنهدون في صلاتهم. وقد قال له زميلٌ ذات مرة إنهم يعيشون في الأكواخ المنتشرة في «كلين». وعندما كانت العربة قادمة بهم من «سالينز»، شاهد امرأةً تقف عند بابِ كوخٍ مفتوح وتحمل طفلًا بين يدَيها. كم يكون جميلًا أن ينام المرء في هذا الكوخ ليلةً واحدة وأمامه النيران مستعرة في وقود الحشائش ذي الدخان، ويكتنفه ظلامٌ تُضيئه النيران، ويشم رائحة الفلاحين، في الظلام الدافئ، والهواء والمطر، والحشائش والملابس القطنية، ولكن … أوه … إن الظلمة تكتنف الطريق الذي يقع بين الأشجار، وسوف يضل الطريق في الظلمة. وشعر بالخوف حين جال بفكره ذلك الأمر.
وسمع عريف الكنيسة يُردِّد الصلاة الأخيرة. وردَّد هو الصلاة أيضًا لتحميَه من الظلمة هناك بين الأشجار:
وارتجفَت أصابعه وهو يخلع ملابسه في غرفة النوم. وناشد أصابعَه الإسراع. كان عليه أن يخلع ملابسه ويتلو صلاته، ويذهب للفراش قبل أن يُطفئوا ضوءَ المصباح حتى لا يذهبَ إلى جهنم عندما يموت. وجذب جوربَيه إلى أعلى وارتدى ملابس النوم بسرعة وركع إلى جانب فراشه وهو يرتجف، وردَّد صلاته في عجلة وهو يخشى أن يُطفئوا النور. وشعر بكتفَيه يرتجفان وهو يُتمتم:
ثم بارَكَ نفسَه وصَعِد إلى الفراش بسرعة، وجذب طرف ملابسه حتى قدمَيه وكوَّم نفسه تحت الأغطية البيضاء الباردة وهو يرتجف ويرتعد. ولكنه لن يذهب إلى الجحيم عندما يموت، وسوف يكفُّ جسدُه عن الارتجاف. نظرة خاطفة من فوق الغطاء، وشاهد الستائر الصفراء التي تحيط بفراشه وتحجب عنه كلَّ ما يحيط به، وخَفَت النور في هدوء.
وابتعدَت خطوات العريف. إلى أن يذهب؟ إلى أسفل السلَّم عبر الردهة أم إلى غرفته في نهاية المبنى؟ وحدَّق في الظلام. أحقًّا ما يُقال عن الكلب الأسود الذي يتجول هناك في الليل وله عينان في حجم مصابيح العربة؟ لقد قيل إنه شبحٌ قاتل. وغمرَت جسدَه رعدةُ خوف دامت فترةً طويلة. وتمثَّل صالة مدخل إدارة المدرسة المظلم. وكان هناك خدمٌ مسنون يرتدون ملابس عتيقة في غرفة المكواة في أعلى السلَّم. كان ذلك منذ عهدٍ بعيد، وكان الخدم المسنون يلزمون الهدوء. ومع أن النار كانت موقدةً هناك فإن الصالة كانت ما تزال مظلمة. وارتقى شخصٌ السلَّمَ قادمًا من الصالة، وكان يرتدي عباءةَ المارشالية البيضاء، ووجهُه شاحبٌ غريبٌ ويداه مشدودتان إلى جنبه. ونظر بعينَيه الغريبتَين إلى الخدم المسنين، وتطلعوا هم إليه وعرفوا فيه وجهَ سيدهم وعباءته، وأدركوا أنه لَقِي حتفَه. ولكن لم يكن هناك غير الظلام حيث شخصوا بأبصارهم، ليس إلا الهواء الساكن المظلم، لقد لَقِي سيدُهم حتْفَه في ميدان القتال في «براج» هناك بعيدًا وراء البحر. كان واقفًا في الميدان ويداه مشدودتان إلى جنبه، ووجهُه شاحبٌ غريب، ويرتدي عباءةَ المارشالية البيضاء.
آ… يا لَلبرودة والغرابة التي يبعثها مجردُ التفكير في هذا الأمر! الظلام كلُّه باردٌ غريب، مليءٌ بوجوه شاحبة غريبة، وعيونٍ كبيرة مثل مصابيح العربات. كانوا أشباحَ قتلة وشخوصَ مارشالات لَقُوا حتفهم في ميادين القتال بعيدًا وراء البحر. تُرى ماذا يبغون البوح به حتى لتبدو وجوهُهم غريبة هكذا؟
العودة إلى المنزل لقضاء العطلة! كم سيكون ذلك جميلًا، كما قال له أحد الزملاء ذات مرة. الصعود إلى العربات في الصباح المبكر المطير، حينما تقف بانتظارهم أمام باب المدرسة، وتسير العربات على الأرض المغطاة بالحصباء، ويهتف التلاميذ لمدير المدرسة:
مرحى! … مرحى! … مرحى!
وتمرُّ العربة على الكنيسة، ويرفع الجميع قبعاتِهم احترامًا، وتسير بهم على الطريق الزراعي، ويشير السائقون بسِياطهم نحو مدينة «بودنس تاون»، ويصيح التلاميذ هاتفين، ويمرون في طريقهم على منزل مزرعة «جولي فارمر»، وينطلق هتافٌ وراء هتاف يتلوه هتاف، ويسيرون على طريق «كلين» يهتفون ويسمعون الهتافات، والفلاحات يقفنَ على الأبواب، أما الرجال فينتشرون هنا وهناك: وكانت هناك هذه الرائحة الزكية في هذا الجو الممطر، رائحة «كلين»: المطر والجو الممطر والحشائش المحترقة والملابس القطنية.
وكان القطار ممتلئًا بالتلاميذ، قطارٌ طويلٌ جدًّا من الشيكولاتة، وواجهتُه مصنوعة من الكريمة. وكان الحراس يتجولون هنا وهناك، يفتحون الأبواب ويُغلقونها، مرتدين ملابس زرقاء داكنة وفضية، ولهم صفارات من الفضة، وتصدر عن مفاتيحهم موسيقى خاطفة: كليك، كليك، كليك.
كل الناس هنا، مرحبًا بعودتك يا ستيفن! ضجة الترحاب، وتُقبِّله أمُّه، أيليق هذا أم لا؟ وأصبح أبوه الآن مارشالًا، رتبة أعلى من رتبة القاضي. مرحبًا بعودتك يا ستيفن.
ضوضاء …
وضجَّت أصواتُ حلقات الستائر الحديدية وهي ترتفع على قصبتها، وصوت رشاش الماء في الأحواض، وأصوات القيام وارتداء الملابس والاغتسال في غرفة النوم بالمدرسة، أصواتٌ وتصفيقٌ بالأيدي حين كان العريف يمرُّ هنا وهناك، آمرًا الأولاد أن يُسرعوا. وكشف شعاع الشمس الباهت عن الستائر الصفراء وقد رُفعت، وعن الأسِرَّة المهوشة. وكان فراشُه دافئًا جدًّا، ووجهه وجسده على درجة عالية من الحرارة.
ونهض وجلس على طرف فراش، كان متعبًا. وحاول أن يرتديَ جوربَيه، وشعر بملمسهما خشنًا مفزعًا، وشعاع الشمس غامضًا باردًا.
وقال فلمنج: أتشعر بتوعُّك؟
ولم يستطع تبيُّنَ الأمر. وقال فلمنج: «عُد إلى فراشك، سوف أُخبر «ماك جلاد» أنك لست على ما يرام.»
– إنه مريض.
– مَن؟
– فلتُخبر «ماك جلاد».
– عُدْ إلى فراشك.
– أهو مريض؟
وأمسك أحد الرفاق بذراعيه، بينما أنزل هو الجورب الذي كان عالقًا بقدمه، وعاد إلى الصعود لفراشه الدافئ.
وقبع بين الأغطية مسرورًا من توهُّجها الفاتر، وسَمِع التلاميذ يتكلمون عنه أثناء ارتدائهم ملابسهم للذهاب إلى القداس. كانوا يُرددون أن «ولز» كان دنيئًا؛ لأنه دفعه بكتفه إلى حفرة دورة المياه.
ثم صمتوا، لقد ذهبوا. وارتفع صوتٌ من جانب فراشه قائلًا: لا تَشِ بنا يا ديدالوس، إنك لن تفعل ذلك طبعًا؟
وكان «ولز» هو الذي يتكلم. ونظر إليه وأدرك أنه خائف.
– لم أكن أقصد ذلك، إنك لن تشيَ بي بالطبع؟
لقد قال له والده إنه مهما فعل فلا يجب أبدًا أن يَشِي بزميل له، فهزَّ رأسه وأجاب عليه بالنفي. وشعر بالسرور.
وقال «ولز»: بشرفي لم أقصد ذلك، لقد كنت أمزح معك، إني آسف.
واختفى الوجه والصوت. لقد اعتذر لأنه خائف. أخاف أن يكون بي مرض ما. «كانكر» مرضٌ يُصيب النباتات، أما الكانسر فيصيب الحيوانات، أو هو شيء آخر. كان هذا منذ وقت طويل في الملاعب على ضوء المساء، حين كان يزحف من مكان إلى آخر على امتداد منطقة فريقه، كطائرٍ يطير على ارتفاعٍ منخفضٍ خلال النور المعتم. وأُضيئت «ليستر آبي». هناك مات «وولزي» وقام الرهبان بدفنه بأيديهم.
لم يكن «ولز» هو الذي يكلِّمه هذه المرة بل المشرف. إنه لا يتمارض. كلَّا، كلَّا، إنه مريضٌ حقًّا ولا يتمارض. وشعر بيدِ العريف تمسُّ جبهته، وشعر بها دافئةً رطبة تحت يد العريف الباردة الرطبة. كان ذلك الشعور نفسه الذي ينتاب الفأر بالقذارة والرطوبة. لكل فأر عينان يرى بهما، وشعرُه رخوٌ مُغطًّى بالطين، وقدماه متناهيتان في الصغر، مهيأة للقفز، وعيناه في لون التراب ليرى بهما. إنها تعرف كيف تقفز، ولكن عقول الفئران لا يمكنها معرفة حساب المثلثات، وعندما تموت ترقد على ظهورها، وعندئذٍ يجفُّ شعرها وتُصبح مجرد أشياء ميتة.
وعاد إليه العريف، وكان هو الذي يقول إن عليه أن ينهض، وأن الأب القس قال إن عليه أن ينهض ويرتدي ملابسه ويذهب للمستشفى. وقال العريف بينما كان يرتدي ملابسه على قدر ما أمكنه من السرعة:
– يجب على صغيرنا الذهاب بسرعة إلى الأخ ميشيل؛ لأن صغيرنا مصابٌ بتعب في المعدة.
كان لطيفًا منه أن يقول ذلك، وكافيًا لبعث الضحك فيه، غير أنه لم يستطع الضحك لأن خدَّيه وشفتَيه كانت ترتجف، فكان على المشرف والأمر كذلك أن يضحك بمفرده. وصاح المشرف: «بالخطوة السريعة، شمال، يمين.»
وهبطَا السلم معًا، ومرَّا في طريقهما عبر الردهة بالحمام. وعندما مرَّا ببابه خطرَت بباله الردغة الدافئة المغطاة بالحشائش، والهواء الدافئ الرطب، وأصوات القفز إلى الماء، ورائحة المناشف التي تُشبه الدواء، كلُّ هذا يخالطه رهبةٌ غامضة.
وكان الأخ ميشيل واقفًا على باب المستشفى، وكانت تنبعث خارج الغرفة المظلمة على اليمين، رائحةٌ كالتي تفوح من الأدوية مصدرُها الزجاجات المصفوفة على الرفوف. وتحدَّث المشرف مع الأخ ميشيل، وردَّ الأخ ميشيل عليه مناديًا إياه بالسيد. وكان شعرُه ذا لون أحمر وخطَّه الشَّيب، وذا نظرة غريبة. وكان غريبًا أن ينادوه دائمًا بالأخ، وغريبًا أيضًا أنك لا تستطيع أن تُناديَه بالسيد؛ لأنه قَسٌّ وله نظرة مختلفة للأمور. ألم يكن على درجة كافية من التقوى؟ إذن لماذا لا يكون كالآخرين؟
وكان هناك فراشان في الغرفة، يرقد أحد التلاميذ على أحدهما، وصاح هذا عندما دخلَا: «هالو، أهذا أنت يا ديدالوس الصغير! ماذا هناك؟» فقال الأخ ميشيل: هناك ما هناك.
كان التلميذ الآخر طالبًا في الصف الثالث بقسم القواعد. وبينما كان ستيفن يخلع ملابسه، طلب هذا من الأخ ميشيل أن يُحضر له بعضَ الساندويتش بالزبد! وقال: «أوه … أرجو منك ذلك.»
فقال الأخ ميشيل: «عليك اللعنة! سوف تتسلم تصريح الخروج من هنا حينما يحضر الطبيب في الصباح.»
فقال التلميذ: «هل سأخرج؟ ولكني لم أُشفَ بعد.»
وكرر الأخ ميشيل: «قلت لك ستتسلم أوراق خروجك من هنا.»
وانحنى يحرِّك النار، وكان ظهره طويلًا مثل ظهر جواد العربة الطويل. وهزَّ محرك النار برزانة، وأشار برأسِه تجاه تلميذ الصف الثالث بقسم القواعد، ثم خرج الأخ ميشيل من الحجرة. وبعد برهةٍ أدار تلميذ الصف الثالث بقسم القواعد وجهَه ناحية الجدار وغطَّ في النوم.
أمي العزيزة
إني مريض، وأريد العودة إلى المنزل. أرجوك أن تحضري وتذهبي بي إلى المنزل، إني في المستشفى.
لَكَم هما بعيدان! انتشرَت في الخارج أشعةُ الشمس الباردة، وتساءل عمَّا إذا كان سيموت، فمن الممكن أن يموت الإنسان في يوم مشمس كأيِّ يومٍ آخر، كما أنه قد يموت قبل أن تحضر أمُّه، وفي هذه الحالة سيُقام له قداس الموتى في كنيسة المدرسة، تمامًا مثلما أخبره زملاؤه عمَّا حدث حين مات «ليتل»، وسيشهد جميعُ التلاميذ هذا القداس، مرتدين السواد، ويُخيم الحزن على وجوههم. وسيكون «ولز» هناك أيضًا، ولكن لن يعتنيَ أحدٌ من التلاميذ بمجرد النظر إليه. وسيكون المدير موجودًا كذلك، مُتَّشحًا بعباءةٍ سوداء موشاةٍ بالذهب. كما ستُوضع شموعٌ صفراء طويلةٌ على المذبح وحول مكان النعش، ثم يحملون النعش خارج الكنيسة في بطء ويقومون بدفنه في فناء مقبرة الطائفة الصغيرة على اليمين، بعيدًا عن الطريق الرئيسي الممتلئ بأشجار الزيزفون، وعندئذٍ سيشعر «ولز» بالندم على ما فعله معه، وسيدق جرس الكنيسة في بطء.
وخُيِّل إليه أنه يسمع أجراس الكنيسة، وردَّد لنفسه مرارًا الأغنية التي علَّمَته إياها «بريجيد»:
كم كان ذلك جميلًا وباعثًا على الحزن، ويا لَجمال تلك الفقرة التي تقول «أودعوني مقبرة فناء الكنيسة القديمة.» وشعر برعدة تتخلَّل جسدَه. يا لَلأسى ويا لَلجمال! وشعر برغبة في البكاء الصامت لم يكن مبعثها شفقته على نفسه، بل من تأثير الكلمات الجميلة الحزينة التي تُشبه الموسيقى. الجرس! الجرس! وداعًا! وداعًا!
ووهن شعاع الشمس البارد، وكان الأخ ميشيل يقف إلى جانب فراشه، وفي يده طبقٌ من شُربة اللحم. وشعر بالسرور؛ لأن فمه كان دافئًا وجافًّا، وكان باستطاعته أن يسمع زملاءه يمرحون في الملعب، ويمر اليوم الدراسي كما لو كان حاضرًا.
وتأهَّب الأخ ميشيل للخروج من الغرفة، وطلب منه تلميذ الصف الثالث بقسم القواعد أن يعود ثانيةً ليُخبره بالأنباء من الصحف، وقال لستيفن إن اسمه «أثاي»، وإن والده يمتلك عددًا من الجياد للسباق رشيقةً وثَّابة، وإن والده يمنح الأخ ميشيل بقشيشًا طيبًا كلما أراد؛ لأن الأخ ميشيل دمثُ الأخلاق، ويُخبره دائمًا بالأنباء من الصحف التي تَصِل المدرسة كل يوم، وبها كافة الأخبار المتنوعة: الحوادث «غرق السفن، الرياضة، السياسة».
قال له: السياسة هي حديث الصحف هذه الأيام، هل تتحدث أسرتك في هذا الموضوع أيضًا؟
فقال ستيفن: «أجل.»
قال: وأسرتي كذلك.
وفكَّر لحظةً ثم أضاف: «إن اسمك عجيب، ديدالوس، واسمي عجيبٌ كذلك، أثاي. إن اسمي على اسم مدينة، أما اسمك فيُشبه الأسماء اللاتينية».
ثم سأله: «أماهرٌ أنت في حل الألغاز؟»
فأجاب ستيفن: لستُ على درجة كبيرة من المهارة في ذلك.
فقال الآخر: «هل تستطيع حل ذلك اللغز: لماذا تُشبه مقاطعة «كلدار» ساقَ الرجل؟»
وفكر ستيفن في الجواب، ثم قال: لا أعرف.
فقال: آه … لقد فهمت.
قال: «إنه لغزٌ قديمٌ.» ثم أردف بعد برهة: «اسمع.»
فسأله ستيفن: ماذا؟
قال: أتعلم أنه بالإمكان إلقاء هذا اللغز بطريقة أخرى؟
قال ستيفن: حقًّا؟
قال: نفس هذا اللغز، أتعرف الطريقة الأخرى التي يُقال بها اللغز؟
قال ستيفن: كلَّا.
قال: ألَا يمكنك أن تخمِّن؟
وكان يرمق ستيفن أثناء كلامه من وراء أغطية الفراش، ثم رقد على الوسادة، وقال: «هناك طريقةٌ أخرى ولكني لن أقولها لك.»
وشخَصَ ببصره إلى النافذة، ورأى ضوء النهار يَخْفت. لا بد وأن الضوء الرمادي يتخلل الملاعب الآن من وراء السحب. لم تكن هناك أيُّ ضجة تصدر عن الملاعب، لا بد وأن الفصل منهمكٌ الآن في حلِّ المسائل، أو ربما كان الأب أرنال يقرأ من الكتاب.
عجيبٌ أنهم لم يعطوه أيَّ دواء، أو ربما يُحضره له الأخ ميشيل عندما يعود. يُقال إنهم يعطون المريض الذي يدخل المستشفى مادةً ذات رائحة كريهة ليشربها، ولكنه يشعر الآن بتحسنٍ عن ذي قبل. من الجميل أن تتحسن صحة المرء بالتدريج، وعند ذلك يسمحون له بالقراءة. في المكتبة كتابٌ عن هولندا وبه أسماءٌ أجنبيةٌ جميلة، وصِوَر مدن وسفن غريبة المنظر تبعث البهجة في النفس.
يا لَشحوب الضوء عند النافذة! غير أن ذلك جميل. وظلال النيران ترتفع وتنخفض على الحائط وتتخذ هيئة الأمواج، لقد وضع أحدهم بعض الفحم فيها، وكان يسمع بعض الأصوات، إنهم يتحدثون، إنها ضجة الأمواج، أو حديث الأمواج فيما بينها حين ترتفع وتنخفض.
وشاهد الأمواج المتلاطمة، أمواجًا طويلةً مظلمة وتنخفض، مظلمةً، تحت ستار الليل المظلم. وتلألأَ ضوءٌ خافت عند رصيف الميناء حيث ترسو السفن. ورأى جمهرةً من الناس تتجمع عند حافة الماء، ليشاهدوا السفينة التي تدخل ميناءهم. ووقف رجل طويل على ظهر السفينة يُحدِّق ببصره إلى الأرض الممتدة المظلمة، واستطاع أن يرى وجهه على ضوء رصيف الميناء، وجه الأخ ميشيل الحزين، ورآه يرفع يده إلى الناس وسَمِعه يقول في صوت مرتفع حزين، عبر المياه: «لقد مات، رأيناه طريحًا على خوان النعش.»
وارتفع عويل الحزن من قلوب الناس: «بارنل! بارنل! لقد مات.»
وارتمَوا على رُكَبِهم ينوحون ويعولون. وشاهد «دانتي» في رداءٍ على القطيفة الأرجوانية، وحول كتفَيها عباءة من القطيفة الخضراء، تسير في كبرياءٍ وصمتٍ أمام الناس الذي جثَوا إلى جوار حافة الماء.
•••
توهَّجَت النار وارتفعَت في المدفأة، ونُصبت مائدة عيد الميلاد تحت الثريات المزدانة بأغصان اللبلاب. لقد عادوا إلى المنزل متأخرين بعض الوقت، ولم يكن الطعام قد أُعدَّ بعد، ولكن أمه قالت سيكون جاهزًا بعد لحظة.
وكانوا جالسين في انتظار فتح الباب ودخول الخدم حاملين الأطباق الكبيرة، وعليها أغطيتها المعدنية الثقيلة.
الجميع ينتظرون: العم «تشارلس» الذي جلس بعيدًا في ظل النافذة، «دانتي» ومستر «كاسي» اللذان جلسا على المقاعد المريحة على جانبَي المدفأة، وستيفن جالسٌ على مقعد بينهما وقد مدَّ قدميه على سياج المدفأة الساخن. ونظر المستر ديدالوس في مرآة رف المدفأة. وعقص طرفي شاربه، ثم وقف مديرًا ظهره للنار المستعرة، وقد رفع ذيل معطفه بيده، وبين حينٍ وآخر كان يرفع يده من على ذيل معطفه ليعقص طرفًا من شاربه، وكان كاسي يميل برأسه إلى ناحية واحدة، ويربت بأصابعه على لُغد رقبته مبتسمًا. وابتسم ستيفن كذلك، فقد أدرك الآن أن مستر كاسي ليس له كيس من الفضة في حلقه. وابتسم عندما جال في خاطره كيف خدعه الرنين الفضي الذي يصدر دائمًا عن مستر كاسي. وعندما حاول أن يفتح يد مستر كاسي ليرى ما إذا كان قد خبَّأ الكيس الفضي هناك، وجد أن أصابعه متقلصة لا تنبسط. وقد أخبره مستر كاسي أن أصابعه الثلاثة قد تجمَّدت حين كان يُقدِّم هديةً إلى الملكة فكتوريا في عيد ميلادها. وربَّت مستر كاسي على لُغد رقبته وابتسم لستيفن بعينين يرين عليهما النوم، وقال له مستر ديدالوس: أجل، حسن، بالضبط، لقد تنزهنا نزهةً جميلة، أليس كذلك يا جون؟ أجل … إني أتساءل عمَّا إذا كنَّا سنتناول العشاء هذه الليلة على الإطلاق! حسن … لقد استنشقنا عبير «الأوزون» في نزهتنا اليوم عند الميناء، أجل بحق الإله.
والتفت إلى «دانتي» وقال لها: ألَا تخرجين للنزهة أبدًا يا مسز ريوردان؟
وعبست دانتي وقالت باقتضاب: كلَّا.
وأنزل مستر ديدالوس ذيل معطفه وسار إلى مائدة الطعام، وأخرج دُنًّا فخاريًّا كبيرًا من الويسكي من الصوان، وملأ الإبريق ببطءٍ، وهو ينحني بين فترة وأخرى ليرى مقدار ما صبَّه فيه. وبعد أن أعاد الدُّنَّ إلى مكانه بالصوان، أفرغ بعض الويسكي في قدحَين، وأضاف إليها قليلًا من الماء وعاد بهما نحو المدفأة، وقال: قليلٌ من الشراب ليفتح شهيتك يا جون.
فتناول مستر كاسي القدح وجرعه، ثم وضعه بجانبه على رف المدفأة، ثم قال: حسن، لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير في صديقنا «كريستوفر» الذي يصنع …
ثم انفجر في نوبةٍ من الضحك والسعال، ثم أضاف: … الذي يصنع هذا النوع من الشمبانيا لأولئك الرجال.
وضحك مستر ديدالوس بصوت مرتفع وقال: أهو كريستي؟ إن الخبث الذي يشعُّ من أحد تآليل رأسه الأصلع يفوق خبث مجموعة كاملة من الثعالب.
ومال برأسه، وأغمض عينَيه وأخذ يلعق شفتيه بنهمٍ، ثم بدأ يتكلم بصوتٍ بدَت فيه نبرة صاحب النزل: إن فمه يبدو رقيقًا حين يتحدث إليك، ألَا تعلم ذلك، وزنمتَا رقبتِه دائمًا رطبتان ومغطتان بالعرق، فليباركه الله.
وكان مستر كاسي ما زال يحاول التغلب على نوبة الضحك والسعال. وضحك ستيفن لأنه تبين أن صوت أبيه ووجهه يبدوان كصوت صاحب النُّزُل وهيئته.
وارتدى مستر ديدالوس نظارتَه وقال في هدوء وحنان عندما وقعت عليه عيناه: علامَ تضحك أيها الجرو الصغير؟
ودخل الخدم ووضعوا الأطباق على المائدة، وتَبِعَتهم مسز ديدالوس ورتبت أماكن الجلوس، ثم قالت: هيَّا إلى أماكنكم.
وتوجَّه مستر ديدالوس إلى طرف المائدة، ثم قال: الآن، اجلسي هناك يا مسز ريوردان! اجلس يا عزيزي جون.
ونظر حواليه إلى حيث جلس العم تشارلس وقال له: هنا طيرٌ مطبوخٌ في انتظارك.
وعندما اتخذ الجميع أماكنهم، وضع يده على الغطاء، ثم قال بسرعةٍ وهو يسحبها: هيَّا يا ستيفن.
فوقف ستيفن في مكانه ليتلو الصلاة قبل تناول الطعام:
وبارك الجميع أنفسهم، وصعَّد مستر ديدالوس زفرة تُعبِّر عن سروره، وهو يرفع الغطاء الثقيل عن الطبق، وقد رصعت القطرات الملألئة حوافه. ونظر ستيفن إلى الديك السمين الذي يتصدر مائدة المطبخ، وقد فُصل جناحاه وقُطعت أجزاؤه. كان يعلم أن والده قد اشتراه بجنيه من سوق «دي أوليير»، وأن البائع قد وخزه حتى عظمة الصدر، ليُظهر مدى جودته، وتذكَّر صوت البائع حين قال: خذ هذا الديك يا سيدي، إنه من أجود الأنواع، بحق.
لماذا يُسمِّي مستر «بارت» المدرس في كلونجوز العصا التي يضرب بها التلاميذ بالديك الرومي؟ ولكن كلونجوز بعيدة عن هنا، وتفوح رائحة الديك ولحم الخنزير والكرفس الدافئة من الأطباق والصحاف، وتستعر النار متوهجة عالية في المدفأة، ويُشيع اللبلاب الأخضر والقطيم الأحمر السعادة في النفس. وعندما ينتهون من العشاء، يأتي البودنج الكبير الضخم وقد رُصِّع باللوز المقشر وأغصان الفطيم، وحوله بعض النيران الزرقاء، وعلى القمة راية صغيرة خضراء.
كان هذا أول حفل عيد ميلاد يحضره. وطاف بخاطره إخوته وأخواته الذين ينتظرون في غرفة الأطفال، حيث كان ينتظر هو مرارًا، حتى يأتيَ البودنج، وأشاعت فيه الياقة الواطئة العريضة وسترة كلية «إيتون» شعورًا بالغرابة والزهو. وحينما صحبَته أمُّه هذا الصباح إلى الردهة، وقد ارتدى ثياب القداس، بكى والده لأن أباه جال بخاطره بدوره آنذاك، وقد قال العم تشارلس هذا أيضًا.
وكشف مستر ديدالوس الغطاء عن الطبق، وبدأ يأكل في شهية، ثم قال: يا لكريستي العجوز المسكين، لقد جرَّ عليه الخداع والتدليس كثيرًا من الاضطرابات.
فقالت مسز ديدالوس: إنك لم تناول مسز ريوردان بعض الحساء يا سيمون.
فأمسك مستر ديدالوس بطبق الشوربة، وصاح: أحقًّا؟ أرجو عفوك يا مسز ريوردان.
فغطَّت دانتي طبقها بيديها، وقالت: كلا … شكرًا.
فتحوَّل مستر ديدالوس نحو العم تشارلس:
– كيف تجد الطعام يا سيدي؟
– حسنًا جدًّا يا سيمون.
– وأنت يا جون؟
– على ما يرام، التفت أنت إلى طعامك.
– وماري؟ هاك يا ستيفن هذا ليساعد شعرك على التجعد.
وصبَّ كثيرًا من الحساء في طبق ستيفن، ثم أعاد الطبق إلى مكانه على المائدة، ثم سأل العم تشارلس، إن كان الطعام لينًا في فمه، ولكن العم تشارلس لم يتمكن من الكلام؛ لأن فمه كان محشوًّا، فهزَّ رأسه بالإيجاب.
وقال مستر ديدالوس: لقد ردَّ صديقنا على القسيس ردًّا مُفحمًا، ماذا تقول؟
فقال مستر كاسي: لم أكن أظن أن هذا من خصاله المميزة.
«سوف أُعطيكم ما تستحقونه يا أبي حين تكفُّون عن تحويل بيت الله إلى سرادق انتخابات».
فقالت دانتي: يا لَه من ردٍّ مفحمٍ على أحد القسس من رجلٍ يدعو نفسه كاثوليكيًّا.
فقال مستر ديدالوس في هدوء: لا يلومنَّ إلا أنفسهم. إذا أخذوا بنصيحتي فليقصروا اهتماماتهم على شئون الدين.
فقالت دانتي: إن ما يقومون به يدخل ضمن نطاق عملهم. إن تحذير الناس من اختصاصات عملهم.
فقال مستر كاسي: إننا نتوجَّه إلى بيت الله وملْؤنا الخشوع للصلاة لخالقنا وليس للاستماع إلى خُطَب الانتخابات.
فعادَت دانتي تقول: هذا يدخل ضمن نطاق الدين، إنهم على حق، فمن واجبهم توجيه رعيتهم.
فسأل مستر ديدالوس: ويُبشِّرون بالسياسة من على المحراب، أيصحُّ هذا؟!
فقالت دانتي: بالطبع، إن الموضوع موضوع الأخلاق العامة، لا يكون القَسُّ قسًّا ما لم يُبيِّن لرعيته الصحيح من الخطأ.
فأنزلت مسز ديدالوس سكينتها وشوكتها، وقالت: بحق السماء، دعونا من المناقشات السياسية، خاصة في هذا اليوم من أيام السنة.
فقال العم تشارلس: تمامًا يا سيدتي، والآن، كفى هذا يا سيمون، لا تزيدوا حرفًا.
فقال مستر ديدالوس بسرعة: أجل، أجل.
وكشف غطاء الطبق في إقدام، وقال: والآن … مَن يريد مزيدًا من الديك الرومي؟
ولم يُجِب أحد، وقالت دانتي:
يا لَها من لغةٍ مهذبةٍ ينطق بها كاثوليكي!
فقالت مسز ديدالوس: أتوسل إليك يا مسز ريوردان أن تتركي هذا الموضوع.
فالتفتَت دانتي إليها وقالت: وهل أجلس هنا وأسمع سخريتهم من رعاة كنيستي؟
فقال مستر ديدالوس: لن يمسَّهم أحدٌ بكلمة طالما لم يتدخلوا في السياسة.
فقالت دانتي: لقد قال قسس أيرلندا وأساقفتها كلمتَهم، ولا بد أن يُطيعَهم الناس.
فقال مستر كاسي: فليتركوا السياسة وشأنها، وإلا فسيترك الناس كنائسهم ويبتعدون عنها.
فقالت دانتي وهي تلتفت نحو مسز ديدالوس: أتسمعين؟
فقالت مسز ديدالوس: فلتنهيَا هذه المسألة يا مستر كاسي وأنت يا سيمون، الآن.
وقال العم تشارلس: هذا شيءٌ مؤسف، مؤسف جدًّا.
فقال مستر ديدالوس: ماذا؟ أكان يليق بنا أن نتخلى عنه تنفيذًا لأمر الشعب الإنجليزي؟
فقالت دانتي: لم يكن جديرًا بالقيادة، وقد أصبحت خطيئتُه معروفة للجميع.
فقال مستر كاسي في برود: كلُّنا خطاة، وذوو خطايا سوداء.
فقالت مسز ريوردان: ويلٌ للرجل الذي تأتي العثرة على يديه. لَخيرٌ له أن يربط في عنقه حجر الرَّحَى ويغرق في أعماق البحر، من أن يُعثر على أحد هؤلاء الصغار المؤمنين. هذه لغة الروح القدس.
فقال مستر ديدالوس ببرود: لو سألتني لقلت لك إنها لغةٌ سقيمةٌ للغاية.
فقال العم تشارلس: سيمون، سيمون … الطفل.
فقال مستر ديدالوس: أجل، أجل … إنما كنت أعني اﻟ … لقد خطرَت ببالي لغةُ حمَّال المحطة السقيمة … حسنًا، هذا جميل، أرني طبقك يا ستيفن، يا عزيزي الصغير، فلتأكل هذا الآن، هيَّا.
وكوَّم بعضَ الطعام في طبق ستيفن، وتناول العم تشارلس ومستر كاسي قطعًا كبيرةً من الديك الرومي، وعدة ملاعق من الحساء. ولم تأكل مسز ديدالوس إلا القليل، بينما جلست دانتي ويداها على حجرها وقد احمر وجهها، وأخذ مستر ديدالوس ينبش بالشوكة في نهاية الطبق، وقال: هنا قطعة لذيذة الطعم نسميها «أنف البابا»، فإذا أراد أيٌّ من السادة أو السيدات أن …
وأمسك بقطعة من لحم الدجاج على طرف الشوكة، ولكن أحدًا لم يتكلم، فوضعها في طبقه وهو يقول: حسنًا، لن يلومني أحدٌ لأني لم أقدِّمها له، وإني أعتقد أنه يجدر بي أن آكلَها؛ لأن صحتي ليست على ما يرام هذه الأيام الأخيرة.
وغمز بعينَيه لستيفن وأخذ في الأكل مرةً أخرى، بعد أن أعاد وضْعَ غطاء الطبق.
وساد الصمت، بينما كان منهمكًا في الأكل، ثم قال: حسنًا، لقد ظل الطقس على صفائه على كل حال، كذلك وفد على المدينة كثيرٌ من الغرباء.
ولم يتكلم أحد، وعاد يقول: أظن أن مَن حضروا إلى البلدة هذه المرة أكثر ممن حضروا إليها في عيد الميلاد السابق.
وتطلَّع إلى الآخرين الذين أحنَوا وجوههم على أطباقهم. ولما لم يردَّ عليه أحدٌ قال بعد لحظة في مرارة: حسنًا، لقد نُغص عليَّ عيد الميلاد على كل حال.
فقالت دانتي: لا يمكن أن يكون هناك حظٌّ أو بركة في بيتٍ لا يحترم قسس الكنيسة.
وقال مستر كاسي في رنة احتقار: لأمراء الكنيسة!
فقالت دانتي: إنهم رسل المسيح، إنهم فخر بلادهم.
فقال مستر ديدالوس بفظاظة: وعاء الأمعاء، إن وجهه يبدو وسيمًا في أوقات الراحة. آه لو رأيت هذا الرجل وهو يلعق قطعةً من لحم الخنزير وبعض الكرنب في يومٍ من أيام الشتاء الباردة. وقلب سحنته في حركة بهيمية وأخذ يلعق شفتَيه بصوتٍ عالٍ.
– ينبغي ألَّا تتحدث بهذه الطريقة أمام ستيفن يا سيمون، إن ذلك ليس طيبًا.
فقالت دانتي: سوف يتذكر كلُّ هذا حين يكبر، سيتذكر الكلام الذي قيل في بيته ضد الله وضد الدين والقسس.
فصاح بها مستر كاسي عبر المائدة: فليذكر أيضًا الكلام الذي حطَّم به القسس وأعوان القسس قلب «بارنل»، وقادوه ككلاب الصيد إلى حتفه، فليذكر هذا أيضًا حين يكبر.
فصاح مستر ديدالوس: أولاد البغي. تضافروا عليه عندما سقط، وباعوه ومزَّقوه كالفئران في البالوعة. يا للكلاب الوضعاء! وقد حضروا ما حدث، حضروا ما حدث بحق الإله!
فصاحَت دانتي: لقد تصرفوا التصرف السليم، لقد أطاعوا الأساقفة والقسس، يحق لهم الفخر بذلك.
فقالت مسز ديدالوس: حسنًا، من البشاعة أن أقول إنه لا يمكننا التخلص من هذه المناقشات المفزعة، حتى ولو يومًا واحدًا في السنة.
ورفع العم تشارلس يدَيه في وداعة وقال: هيَّا، هيَّا، ألَا يمكننا الاحتفاظ بآرائنا مهما كانت بدون إظهار الطباع السيئة والكلام السيِّئ؟ إنه لشيءٌ يؤسَف له.
وتحدَّثَت مسز ديدالوس إلى دانتي في صوت خفيض، ولكن دانتي أجابَت بصوت مرتفع: لا يمكنني السكوت، سأدافع عن كنيستي وديني، إذا ما أهانهما الكاثوليكيُّون المرتدون وبصقوا عليهما.
فأبعد مستر كاسي طبقَه إلى منتصف المائدة، وارتكز بمرفقَيه أمامه، وقال في صوت خشن لمضيفه: قُل لي، هل قصصت عليك قصة البصقة المشهورة؟
فقال مستر ديدالوس: كلَّا، إنك لم تفعل يا جون.
فقال مستر كاسي: إنها قصةٌ يجدر بالمرء أن يتعلم منها. لقد حدثت منذ وقتٍ ليس بالبعيد في مقاطعة «ويكلو»، التي كانت تقع في هذا المكان نفسه الذي نحن فيه الآن.
وقطع حديثه والتفت إلى دانتي، وقال في حنق هادئ: يحقُّ لي أن أقول لك يا سيدتي إنك إذا كنت تعنيني بما قلتِ، فأنا لست كاثوليكيًّا مرتدًّا. إنني كاثوليكي مثلما كان والدي من قبلي، وجدي من قبله ووالد جدي من قبله، عندما كنَّا نبيع أرواحنا ولا نبيع إيماننا.
فقالت دانتي: يزيدك من عارك هذا الكلام والذي تقوله الآن.
فقال مستر ديدالوس مبتسمًا: القصة يا جون، فلتمضِ في قصتك على أية حال.
فردَّدَت دانتي في سخرية: كاثوليكي حق! إن أحقر بروتستانتي لم يكن ليقول هذا الكلام الذي سمعته هذا المساء.
فأخذ مستر ديدالوس يهزُّ رأسه إلى الأمام وإلى الخلف، ويُدندن كما يفعل المغني الريفي، وقال مستر كاسي وقد احمر وجهه: يحق لي أن أُخبرَك مرةً أخرى أنني لستُ بروتستانتيًّا.
وأخذ مستر ديدالوس وهو سادرٌ في هزِّ رأسه ودندنته، يغني في نغمة صادرة من أنفه:
ثم تناول سكينَه وشوكتَه في مرح، وأخذ في تناول الطعام وهو يقول لمستر كاسي: فلنسمع القصة يا جون، فسوف تساعدنا على الهضم.
ونظر ستيفن في مودة إلى وجه مستر كاسي، الذي كان يتطلع عبر المائدة خلال ذراعَيه المتشابكتَين. كان يجب أن يجلس بقربه عند المدفأة، وينظر إلى وجهه المكفهر القاسي. ولكنَّ عينَيه السوداوَين لم تكونا أبدًا قاسيتَين، وكان صوتُه البطيء محبَّبًا للأسماع، ولكن لماذا يهاجم القسس الآن؟ لا بد وأن تكون دانتي على حق، غير أنه سمع والده يقول ذات مرة إنها راهبة ضالة، وإنها قد تركَت دير «أليجاني»، عندما حصل أخوها على بعض النقود من المتوحشين في مقابل بعضِ الحليِّ والمصوغات. وربما يكون هذا هو سبب مغالاتها في عدائها لبارنل، وهي لم تكن تحب أن تراه يلهو مع «إيلين»؛ لأنها بروتستانتية؛ ولأنها كانت في طفولتها تعرف أطفالًا تعوَّدوا اللهو مع البروتستانت الذين يسخرون من بعض ابتهالات العذراء المقدسة. كانوا يقولون وهم سادرون في سخريتهم بالمذهب الكاثوليكي، إنها البرج العاجي والبيت الذهبي. كيف يمكن أن تتسم امرأة بالبرج العاجي أو البيت الذهبي؟ ومَن يكون على حقٍّ إذن؟ وتذكَّر ذلك المساء في المستشفى في مدرسة «كلونجوز»، المياه الحالكة، والضوء عند الميناء، وعويل الأسف يصدر من الناس عند سماعهم النبأ.
يدَا «إيلين» طويلتان بيضاوان. عندما كانا يلعبان ذات مرة معًا، وضعَت يدَيها على عينيه، يدان طويلتان بيضاوان، رفيعتان باردتان ورقيقتان، هذا ما يسمونه بالعاج، شيءٌ باردٌ أبيض، وهذا ما يعنونه بالبرج العاجي.
قال مستر كاسي: القصة قصيرةٌ جدًّا وطريفةٌ أيضًا، حدثَت في أحد الأيام هناك في مدينة «أركلو»، في يومٍ قارس البرد قبل موت زعيمنا بقليل، رحمه الله.
ثم أغمض عينَيه في إرهاقٍ وتوقَّف عن الكلام، وتناول مستر ديدالوس إحدى العظام من طبقه ونزع عنها اللحم بأسنانه، ثم قال: تعني قبل أن يقتلوه.
وفتح مستر كاسي عينَيه وتنهَّد ثم واصل كلامه: حدثَت القصة ذات يوم في «أركلو»، وكنَّا هناك لحضور أحد الاجتماعات. وكان علينا بعد نهاية الاجتماع أن نشقَّ طريقنا خلال الزحام إلى المحطة. ويا لَأصوات الامتعاض وثغاء الماعز الذي كان يتصاعد من كل مكان! لقد أطلقوا علينا الشتائم بكل ما يعرفون من ألفاظ السباب. وكانت هناك سيدة عجوز، ويا لَها من عجوزٍ سكيرةٍ شمطاء بمعنى الكلمة. كانت تُلقي بكل اهتمامها إليَّ، وأخذَت تتدافع بجانبي في الوحل تصرخ وتصيح في وجهي: «يا صائد القسس، اعتمادات باريس المالية! مستر «فوكس»! «كيتي أوشي»!»
فسأل مستر ديدالوس: وماذا فعلت يا جون؟
فقال مستر كاسي: تركتها تصخب، فقد كان اليوم باردًا، ولكي أُنعشَ فؤادي، كنت أمضغ — مع عدم المؤاخذة يا سيدتي — قطعةً من التبغ في فمي؛ ولهذا لم يكن بإمكاني أن أتكلم على الإطلاق؛ لأن فمي كان مليئًا بلعاب التبغ.
– وماذا حدث بعد ذلك يا جون؟
– حسنًا، تركتُها تصخب حتى تُريحَ ما في نفسها عن «كيتي أوشي» وبقية ما تتحدث عنه، حتى أطلقَت هذه السيدة سِبابًا لن أُدنِّس حفل عيد الميلاد الليلة، ولا أُذُنَيك يا سيدتي ولا شفتيَّ بترديده ثانيةً.
وتوقَّف عن الكلام، وسأله مستر ديدالوس وهو يرفع رأسه على العظمة:
– وماذا فعلتَ يا جون؟
فقال مستر كاسي: فعلت؟ لقد رفَعَت إليَّ وجهَها العجوز القبيح وهي تقول هذا، وكان فمي مليئًا بلعاب التبغ فمِلْت نحوها وبصقتُ عليها، هكذا.
والتفتَ جانبًا، وقام بالبصق.
– بصقتُ عليها هكذا، في وسط عينَيها تمامًا.
ورفع يدَيه إلى عينَيه يغطِّيهما بهما، وأطلق صيحةَ ألمٍ حادة.
– وصرخَت السيدة بعدها: يا يسوع، يا ماري ويا يوسف! لقد أُغشيَ بصري، لقد أُغشيَ بصري وغَرِقت.
وأوقفَته نوبةُ سعال وضحك، ثم ردد: لقد أُغشيَ بصري تمامًا.
وضحك مستر ديدالوس عاليًا، واضطجع في مقعده، بينما أخذ العم تشارلس يهزُّ رأسه يمنةً ويسرةً.
وبدت دانتي في شدة الغضب، وأخذت تردد، بينما هم يضحكون:
– جميلٌ جدًّا … ها … جميلٌ جدًّا.
لم تكن تلك البصقة في عينَي المرأة بالشيء الجميل أبدًا، ولكن ما هو ذلك السِّباب الذي أطلقَته المرأة على «كيتي أوشي»، والذي رفض مستر كاسي أن يقوله؟ وتمثَّل في خاطره صورةُ مستر كاسي وهو يسير بين جماعات الناس، ويُلقي الخطب من العربة الصغيرة، لقد دخل السجن من جراء ذلك، وأنه يذكر أن الجاويش «أونيل» حضر إلى المنزل في إحدى الأمسيات، ووقف في الردهة يتحدث في صوتٍ خفيضٍ مع والده ويمضغ شريط قبعته في عصبية. ولم يذهب مستر كاسي هذه الليلة إلى دبلن بالقطار، بل حضرَت عربةٌ إلى باب المنزل، وسمع والده يذكر بعض الكلام عن طريق «كابنتيلي».
كان مستر كاسي ووالده من مناصري أيرلندا، «وبارنل» وكذلك دانتي؛ فذات ليلة حين كانت الفرقة الموسيقية تعزف في أرض الاحتفالات، ضربت رجلًا على رأسه بمظلتها؛ لأنه خلع قبَّعتَه حين عزفَت الفرقة لحن «حفظ الله الملكة» في نهاية العرض.
وأطلق مستر ديدالوس زفرة احتقار، وقال: آه يا جون، إنهم على حق، إننا شعبٌ سيِّئ الحظ يتحكم فينا القسس، وكنَّا دائمًا كذلك وسنبقى دائمًا هكذا حتى نهاية الكون.
وهزَّ العم تشارلس وهو يقول: شيء مؤسف، شيء مؤسف.
وردَّد مستر ديدالوس: شعبٌ يتحكم فيه القسس وينبذه الرب.
وأشار إلى صورةِ جدِّه المعلَّقة على الحائط على يمينه، وقال: أترى هذا الرجل العجوز يا جون؟ لقد كان أيرلنديًّا معتزًّا بوطنه في وقتٍ كان ذلك الاعتزاز لا يجلب شيئًا على صاحبه، وقد حُكم عليه بالإعدام لأنه كان عضوًا في الجماعة السرية. وقد قال مرةً عن «أصدقائنا» القسس، إنه لا يمكن أبدًا أن يسمح لأحدٍ منهم أن يضع قدمَه تحت سقف بيته.
فصاحَت دانتي في غضب: إذا كنَّا شعبًا يتحكم فيه القسس فيجب علينا أن نفخر بذلك. إنهم عين الله، وقد قال المسيح عنهم «لا تمسوهم بأذى، فإنهم قرة عيني.»
فسأل مستر كاسي: ولكن أليس لنا أن نُحبَّ وطننا إذن؟ أليس لنا أن نتبع الرجل الذي خُلق لزعامتنا؟
فأجابَت دانتي: إنه خائنٌ لوطنه، إنه خائنٌ زانٍ. إن القسس على حقٍّ لتخليصهم عنه، لقد كان القسس دائمًا أصدقاء أيرلندا المخلصين.
وكان وجهُه متوهجًا من الغضب، وشعر ستيفن بالوهج يرتفع في وجنته هو؛ فقد هزَّته هذه الكلمات، وأطلق مستر ديدالوس ضحكةَ احتقار شديدة، وصاح:
ومالَت دانتي عبر المائدة وصاحَت في مستر كاسي: على حق، على حق، إنهم على حق دائمًا، الله والأخلاق والدين أولًا وقبل كل شيء.
وقالت مسز ديدالوس لها بعد أن لاحظت غضبها: لا تُثيري غضبك بالرد عليهم يا مسز ريوردان.
وصاحَت دانتي: الله والدين قبل كلِّ شيء، الله والدين قبل الدنيا كلها.
فرفع مستر كاسي يدَيه المنقبضتَين وضرب بهما على المائدة، وصاح في حدَّة: حسنًا جدًّا، إذا كان الأمر كذلك فليس هناك إله لأيرلندا.
فصاح مستر ديدالوس وهو يُمسك بردن معطف ضيفه: جون! جون!
وشخصَت دانتي بعينَيها عبر المائدة وخدَّاها يرتجفان. وحاول مستر كاسي النهوض من مقعده، ومال على المائدة نحوها، وهو يُلوِّح أمامه في الهواء بإحدى يدَيه، كأنما يمزق أستار أحد العناكب، وصاح قائلًا: ليس لأيرلندا إله! لقد ضقنا ذرعًا بالإله، فخذوه بعيدًا.
فصرخَت دانتي وهي تقفز على قدمَيها، وتكاد تبصق في وجهه: أيها الكافر، أيها الشيطان.
وجذب العمُّ تشارلس ومستر ديدالوس مستر كاسي، وأعادوه إلى مقعده مرةً أخرى، وهما يتحدثان إليه من كلا الجانبين محاولين تهدئته. وكان يتطلع أمامه بعينَيه السوداوين الحادَّتَين مردِّدًا: أبعدوا الإله عنَّا.
وأزاحَت دانتي مقعدَها في عنفٍ وغادرَت المائدة. وقلبت أثناء ذلك حلقة المنشفة، فتدحرجَت في بطءٍ على البساط، حتى استقرت بجانب أرجل أحد المقاعد الكبيرة. ونهض مستر ديدالوس في سرعة وتَبِعها إلى الباب. وعند الباب التفتت دانتي في حدةٍ وصاحت، وقد توهجَت وجنتاها وارتعشتا من فرط الغضب:
– أيها الشيطان الجهنمي! لقد انتصرنا! لقد قهرناه حتى مات، أيها الشيطان.
وانصفق الباب خلفها.
وبعد أن خلَّص مستر كاسي ذراعَيه ممن كانا يُمسكانه، أحنَى رأسه فجأةً على يدَيه وأجهش بالبكاء من الألم، وصاحَت بصوتٍ مرتفعٍ باكٍ: أيها المسكين بارنل، يا مليكي الذي مات.
وبكى بصوتٍ عالٍ مريرٍ. وعندما رفع ستيفن وجهه الذي ارتسم عليه الهلع، رأى عينَي والده وقد اغرورقتَا بالدموع.
•••
كان التلاميذ يتحدثون في جماعات صغيرة، وقال أحدهم: لقد أمسكوهم بالقرب من تل «ليونز».
– مَن الذي أمسكهم؟
– مستر «جليسون» والقس، كانا يركبان إحدى العربات.
وأضاف نفس هذا التلميذ:
– لقد سمعت هذا من أحد تلاميذ الصف الأعلى.
وسأل «فلمنج»: ولكن لماذا هربوا؟
فقال «سيسل تندر»: أنا أعرف السبب. لقد سرقوا بعض النقود من غرفة المدير.
– ومَن الذي سرقها؟
– شقيق «كيكهام»، واشترك الجميع في ذلك.
ولكن هذه سرقة، كيف استطاعوا أن يفعلوا ذلك؟
وقال «ولز»: إنك لا تعرف شيئًا عن الموضوع يا ثندر، أما أنا فأعرف لماذا هربوا!
– أخبرْنا إذن عن السبب.
فقال ولز: ليس لي أن أُفشيَ ذلك.
فقال الجميع: أوه … أخبرنا يا ولز، أخبرنا على ألَّا نقولَ لأحدٍ شيئًا.
ومدَّ ستيفن رأسه إلى الأمام ليسمع. ونظر ولز حوله ليرى ما إذا كان أحد قادمًا، ثم قال في سرية: أتعرفون نبيذ الهيكل الذي يحتفظون به على أحد الرفوف في غرفة المقدسات؟
– أجل.
– حسنًا، لقد شربوا ذلك النبيذ، وقد اكتشفوا من شربه عن طريق الرائحة. وقد هربوا لذلك السبب.
فقال التلميذ الذي تكلَّم أول مرة: أجل، هذا ما سمعتُه أيضًا من تلميذ الصف الأعلى.
وصمت جميع التلاميذ، ووقف ستيفن بينهم منصتًا، وهو يخشى أن يتكلم. وغمرَه شعورٌ واهنٌ بالرهبة جعله يشعر بضعفه. كيف استطاعوا أن يفعلوا ذلك؟ وجالت بفكره غرفة المقدسات المظلمة الهادئة؛ هناك رفوفٌ خشبيةٌ سوداء بُسطت عليها الأوشجة الكهنوتية المطوية، وعلى المرء أن يتحدث عنها في رهبة ووجل؛ فرغم أنها ليست الكنيسة إلا أنها مقدسٌ. وتذكَّر تلك الأمسية في فصل الصيف حين ذهب إلى هناك ليرتديَ ملابس حامل «القارب» في مساء الذهاب إلى الهيكل الصغير في الغابة. مكانٌ غريبٌ مقدسٌ، وكان الصبي الممسك بالمبخرة قد رفعها عاليًا من سلسلتها الوسطى، حتى يظلَّ الفحم مشتعلًا، إنه يُسمَّى الفحم النباتي، وقد اشتعل في هدوء حين أخذ الصبي يهزُّه في رفقٍ، وصدرت عنه رائحةٌ حادة خفيفة. وعندما ارتدى الجميع ملابسهم للاحتفال، تقدَّم هو بالقارب إلى المدير، فوضع هذا فيه ملء ملعقة من البخور، الذي أخذ يئزُّ على الفحم المشتعل.
كان التلاميذ يتحدثون في جماعات صغيرة هنا وهناك في الملعب. وبدا التلاميذ صغار الحجم في عينَيه؛ ذلك لأن أحد المتسابقين وهو تلميذٌ في الصف الثاني بقسم القواعد، قد اصطدم به وألقاه أرضًا نهار أمس، حين ألقَته دراجة التلميذ برفقٍ على أرض السباق، فكُسرت نظارته إلى ثلاث قطع، ودخل بعض الحصى ورماد الطريق في فمه؛ ولهذا السبب بدا له التلاميذ على هيئةٍ أصغر وعلى مسافةٍ أبعد، وبدَت له قوائم المرمى في الملعب رفيعة بعيدة، والسماء الرمادية الهادئة على علوٍّ شاسعٍ، ولم يكن هناك أحدٌ في ملاعب كرة القدم؛ فقد كانوا يُعدون للعبة الكريكت، وقد قال البعض إن «بارنز» سيكون رئيس الفريق، وقال البعض الآخر إنه سيكون «فلاورز».
كان التلاميذ يلعبون بالكرة ويسددون الضربات على امتداد أرض الملعب. ومن هنا وهناك كانت تتردد أصوات مضارب الكريكيت خلال الهواء الرمادي الهادئ، وكانت أصداؤها: «بيك باك بوك بك» تبدو كقطرات ماء الينبوع، تتساقط في بطء على الحوض الممتلئ حتى حافته.
وقال أثاي في هدوء، وكان مُلازمًا الصمت: كلكم على خطأ.
فالتفت الجميع نحوه في فضول.
– لماذا؟
– أتعلم أنت؟
– مَن قال لك؟
– أخبرنا يا «أثاي».
فأشار أثاي نحو الملعب حيث يسير «سيمون مونان» وحده يتسلَّى بركل الأحجار التي أمامه، وقال: اسألوه.
فنظر التلاميذ إليه وقالوا: لماذا نسأله؟
– أهو مشتركٌ معهم؟
وخفض أثاي من صوته، وقال: أتعلمون لماذا هربَا؟ سوف أُخبركم ولكن عليكم ألَّا تُفشوا ما ستعرفونه.
– أخبرنا يا أثاي، هيَّا، عليك أن تُخبرنا إذا كنت تعلم.
فصمت لحظةً ثم قال بغموض: لقد ضُبطوا مع «سيمون مونان» و«تسكر بويل» في دورة المياه في إحدى الليالي.
– فنظر إليه التلاميذ وسألوه:
– ضُبطوا؟
– ماذا كانوا يفعلون؟
فقال أثاي: يفعلون شيئًا قبيحًا.
وصمت جميع التلاميذ، وقال أثاي: وهذا سبب هربهم.
ونظر ستيفن إلى وجوه التلاميذ، غير أنهم كانوا يتطلعون ناحية الملعب، وشعر برغبة في سؤال أحدهم عن هذا الموضوع، ماذا يعنون بفعلِ شيءٍ قبيحٍ في دورة المياه؟ ولماذا هرب تلاميذ الصف الأعلى الخمسة من أجل ذلك؟ وخطر بباله أن الأمر مجرد مزاح. إن «سيمون مونان» يرتدي ملابس جميلة، وقد أراه ذات ليلة كرة بها بعض الحلوى، كان بعض تلاميذ كرة القدم الخمسة عشر، قد ألقَوا بها إليه على البساط وسط المطعم، عندما كان يجلس بجانب الباب. كان ذات ليلة المباراة ضد فريق «بيكتيف رانجرز»، وكانت كرتُه على هيئة تفاحة حمراء وخضراء، وبالإمكان فتحها وهي مليئة بالحلوى. ذات يوم قال «بويل» إن الفيل له نوبان بدلًا من نابَين؛ ولهذا فقد أطلقوا عليه «نوبي بويل»، ولكن بعض الزملاء أطلقوا عليه اسم مدام بويل؛ لأنه كان مشغولًا على الدوام بتقليم أظافره.
لإيلين أيضًا يدان طويلتان نحيلتان باردتان بيضاوان؛ لأنها فتاة، وكانتا شبيهتَين بالعاج، غير أنهما رقيقتان، وهذا هو معنى البرج العاجي، ولكن البروتستانت لم يتمكنوا من فهم ذلك وسخروا منه. وقف ذات مرة بجانبها، يتطلعان إلى فناء الفندق. كان هناك خادمٌ يرفع أعلامًا مزينةً على السارية، بينما يعدو كلبٌ من كلاب الصيد مذعورًا هنا وهناك على الحشائش المشمسة. وضعت يدها في جيبه حيث كانت يده، وشعر بيدها باردة نحيلة رقيقة. قالت إن الجيوب شيءٌ مضحكٌ حقًّا، ثم انطلقت فجأة تجري عبر منحنى الممر المنحدر، وتطاير شعرها خلفها كأسلاك الذهب تحت أشعة الشمس، البرج العاجي، البيت الذهبي، تستطيع فهم الأشياء بمداومة التفكير فيها.
«كان بالبوس يبني جدارًا.»
«كتب يوليوس قيصر الكاليكو بيللي.»
قد يكون هذا هو سبب ذهابهم هناك، فهو المكان الذي يكتب فيه بعضُ التلاميذ نكاتِهم، ومع ذلك فإن ما قاله «أثاي» غريبٌ، وكذلك الطريقة التي قاله بها. لم يكن ما فعلوه من قبيل المزاح؛ لأنهم هربوا. وتطلع مع الآخرين إلى الملعب، وشعر بالخوف يتملكه.
وأخيرًا قال «فلمنج»: وهل يعاقبوننا على ما جناه غيرنا!
وقال «سيسل تندر»: لن أعود للمدرسة ثانية، وسترون ذلك. ثلاثة أيام دون كلام في المطعم مع الضرب بالمسطرة لأقل شيء.
فقال ولز: أجل، وكذلك فإن «بارت» العجوز اتخذ طريقةً جديدة لثني أوراق الجزاءات، حتى لا نتمكن من فتحها، لنرى كم ضربةً سيعاقبنا بها، إني لن أعود كذلك.
فقال سيسل تندر: أجل، كما أن المشرف كان عند الصف الثاني قسم القواعد هذا الصباح.
فقال فلمنج: فلنَقُم بتمرُّد، ألَا توافقون؟
وظل جميع التلاميذ صامتين. وكان الهواء ساكنًا، وأصوات مضارب كرة الكريكت تتردد أكثر بطئًا عن ذي قبل: بيك، بوك.
وسأل ولز:
– ماذا سيفعلون بهم؟
فقال أثاي: سيجلدون «سيمون مونان» و«تسكر»، أما تلاميذ الصف الأعلى، فقد خيَّروهم بين الجلد وبين الفصل من المدرسة.
وسأل التلميذ الذي تكلَّم أولًا: وماذا سيختارون؟
فأجاب أثاي: كلَّا، كلَّا، سوف يُجلد كلاهما على مُؤخِّرتَيهما.
فأخذ ولز يحكُّ جسده ويقول مقلِّدًا صوتًا باكيًا: أرجوك أن تتركني يا سيدي.
فكشَّر أثاي عن أسنانه وشمَّر عن ردني سترته، وهو يقول:
وضحك التلاميذ، ولكنه شعر بالخوف يراودهم. وكان يسمع أصوات مضارب كرة الكريكت من هنا ومن هناك، خلال سكون الهواء الرمادي العليل: بوك. هذا مجرد صوت يتطرق إلى سمْعه، أما إذا كان الأمر يتعلق بالضرب، فسوف يشعر بالألم. وللضرب بالعصا صوتٌ أيضًا، غير أنه يختلف عن هذا الصوت. يقول التلاميذ إن العصا قد صُنعت من عظام الحيتان والجلد، وحُشيت بالرصاص من الداخل. وتساءل متعجبًا عما يكون عليه الألم. هناك أصواتٌ عديدة مختلفة؛ فمثلًا للعصا الطويلة الرفيعة صوتٌ صافر مدوٍّ. وتساءل كيف يكون الألم الناتج عن ضربة مثل هذه العصا. وشعر بالرعدة والبرودة من جراء تفكيره في ذلك الأمر، ومما سمعه من أثاي أيضًا. ولكن ما الذي أضحكهم في ذلك الموضوع؟ سبَّب له هذا رجفة؛ ذلك لأننا نشعر دائمًا بالرجفة حين نُنزل سراويلنا، تمامًا كما يحدث في الحمام حين ننزع ملابسنا. وتساءل عمن سيقوم بإنزالها، المدرِّس أم التلميذ بنفسه، أو … كيف يضحكون على ذلك بهذه الطريقة؟
ونظر إلى أردان أثاي المرفوعة لأعلى، وإلى يدَيه المعروقتَين الملطختَين ببقع الحبر. لقد شمر عن أردانه ليُمثِّل كيف سيقوم مستر جليسون بالجلد. ولكنَّ رُدني مستر جليسون مستديرةٌ براقة، ومعصمَيه نظيفان أبيضان ويدَيه سمينتان بيضاوان، كما أن أظافره طويلة مدببة. قد يكون معنيًّا بتقليم أظافره كما يفعل ليدي بويل، ولكنها كانت أظافرَ طويلةً مدببة بصورة مزعجة. إنها تبدو طويلة قاسية مع أن اليدين البيضاوَين السمينتَين لم تكونَا قاسيتَين بل رفيقتَين. وعلى الرغم من رعدة البرد والخوف التي أحس بها عند تفكيره في الأظافر الطويلة القاسية، وصوت العصا الصافر المدوِّي، والرعدة التي نحس بها عند نهاية القميص عندما نخلع ملابسنا، فقد كانت تخامر فؤادَه بهجةٌ غريبة هادئة، حين تخطر بباله اليدان السمينتان البيضاوان لنظافتهما وقوتهما ورفقهما. وفكَّر فيما قاله سيسل تندر عن أن مستر جليسون لن يجلد كوريجان بشدة. وقد قال فلمنج إنه لن يفعل ذلك لأنه يحسن به ذلك، غير أن هذا ليس هو السبب.
وصاح صوتٌ ومن أقصى الملعب: «اجمع».
وصاحت أصواتٌ أخرى: اجمع! اجمع!
وجلس في حصة الكتابة ضامًّا ذراعيه، مُنصتًا إلى احتكاك الأقلام البطيء على الورق. وكان مستر هارفورد يجول هنا وهناك، يضع علامات صغيرة بالقلم الأحمر، ويجلس أحيانًا بجانب أحد التلاميذ ليُريَه كيف يُمسك بالقلم. وحاول أن يتهجَّى حروف العنوان المكتوب على السبورة بنفسه، وكان يعرفه قبلًا لأنه كان آخر موضوع في الكتاب: «الحماس بدون تبصُّر كالسفينة الجانحة»، ولكن الحروف بدَت له خيوطًا خفية، ولم يكن يستطيع أن يتبيَّن ملامح الحرف الكبير كاملة إلا بإغماض عينه اليمنى تمامًا، والنظر من خلال العين اليسرى، غير أن مستر هارفورد كان لطيفًا جدًّا ولم يغضب مطلقًا، مع أن جميع المدرِّسين الآخرين تجتاحهم نوباتٌ جامحة من الغضب، ولكن … لماذا يتحملون هم مغبة ما فعله تلاميذ الصف الأعلى؟ قال ولز: إنهم شربوا بعض نبيذ الهيكل من على رف غرفة المقدسات، وإنهم قد كُشفوا من شُربه عن طريق الرائحة، لعلهم سرقوا كأس القربان المقدس، ليهربوا به ويبيعوه في مكانٍ ما. لا بد أنها خطيئة رهيبة: يتسللون هناك بهدوء في الليل، ويفتحون قمطرًا ويسرقون ذلك الشيء المضيء الذهبي؛ حيث يوضع الإله على الهيكل وسط الزهور والشموع عند طلب البركة، بينما يتصاعد البخور كالسحب من كلا الجانبَين حين يهز التلميذ المبخرة، «ودمونيك كللي» يُغني أول جزء بنفسه مع الكورس، ولكن الإله لم يكن فيها بالطبع حين سرقها التلاميذ. ومع ذلك فمجرد لمسها خطيئة كبرى وغريبة. وفكَّر في ذلك برهبةٍ شديدة، خطيئة غريبة هائلة. وشعر بهزة الإثارة عند التفكير في ذلك خلال السكون الذي يشقُّه صوتُ احتكاك الأقلام في رفق. ولكن شرب نبيذ الهيكل من على القِمَطْر، واكتشاف ذلك عن طريق الرائحة خطيئة كذلك، ولكنها ليست خطيئة هائلة أو غريبة، كل ما تُثيره هو إحساس خفيف بالسقم من رائحة النبيذ. عندما تناول القربان المقدس لأول مرة في الكنيسة أغمض عينَيه، وفتح فمه وأخرج لسانه قليلًا. وعندما انحنى المدير لكي يُناوله القربان المقدس، اشتمَّ رائحة نبيذ خفيفة تصدر عن أنفاس المدير من بعد نبيذ القداس. يا لَجمال تلك الكلمة: نبيذ، إنها تحمل أفكارك إلى اللون الأرجواني الداكن؛ لأن العنب أرجواني داكن يُزرع في اليونان أمام منازل تُشبه المعابد البيضاء، ولكن أنفاس المدير الخفيفة جعلته يشعر بإحساس سقيم صباح يوم تناول القربان لأول مرة. يوم تناول القربان المقدس لأول مرة هو أسعد أيام حياتنا. وذات مرة سأل القادة نابليون عن أسعد يوم في حياته، وكانوا يظنون أنه سيقول إنه اليوم الذي ربح فيه معركة عظيمة أو اليوم الذي نُصِّب فيه إمبراطورًا، غير أنه قال: إن أسعد يوم في حياتي أيها السادة هو اليوم الذي تناولت فيه القربان المقدس لأول مرة.
فقال الأب أرنال في صرامة: يجب أن تخجلَ من نفسك وأنت قائد الفصل. ثم سأل تلميذًا آخر، وآخر، وآخر.
ولم يعرف أحد، وهدأ الأب أرنال، وكان هدوءُه يزداد كلما يحاول تلميذ الإجابة ثم يعجز. ومع أن صوته كان هادئًا إلا أن وجهَه كان مكفهرًا وعينَيه تبرقان، ثم سأل فلمنج، وأجاب فلمنج أن الكلمة ليس لها جمع. وفجأة أغلق الأب أرنال الكتاب وصاح فيه:
– اركع هناك في وسط الفصل، فأنت واحدٌ من أبلد مَن صادفتُ في حياتي، أما الآخرون فليعيدوا كتابة الواجب ثانية.
وتحرَّك فلمنج في تثاقلٍ خارجًا من مكانه وركع بين القِمَطرَين الأخيرَين، وانحنى التلاميذ الآخرون عن كراريس الواجبات وبدءوا في الكتابة. وملأ السكون غرفة الدراسة، ولاحظ ستيفن وهو ينظر في خوف إلى وجه الأب أرنال المكفهر، أن الحمرة قد شابَته قليلًا من تأثير الغضب الذي انتابه.
أيكون الأب أرنال قد أخطأ حين ثار غاضبًا، أم يُسمح له بأن يغضب حين يكون التلاميذ بُلَداء، حتى يحملَهم ذلك على أن يُحسنوا استذكارَ دروسهم، أم يكون قد تظاهَرَ بالغضب؟ لا بد أن ذلك مسموحٌ له؛ لأن القَسَّ يعرف الخطيئة ولا يرتكبها، ولكن لو أنه وقع فيها مرةً عن طريق الخطأ، ماذا يفعل كي يعترف؟ ربما يُسِرُّ باعترافه إلى راعي الكنيسة في هذه الحالة. ولو وقع راعي الكنيسة في الخطيئة فإنه يعترف للمدير، والمدير لزعيم الإقليم، وزعيم الإقليم لزعيم الجزويت. يسمُّون هذا بالنظام الجزويتي. وقد سمع والده يقول ذات مرة إنهم كلَّهم رجالٌ ماهرون. كان بإمكانهم أن يُصبحوا رجالًا ذوي مكانة في الدنيا، لو لم يختاروا الانضمام للجزويت. وتساءل عمَّا كان من الممكن أن يُصبح عليه الأب أرنال وبادي باريت، وكذلك مستر ماك جلاد ومستر جليسون لو لم ينضموا لطائفة الجزويت. من الصعب تصوُّر هذا؛ لأن عليك في هذه الحالة أن تتصورهم على حالة مختلفة، بمعاطفَ ملونة وسراويلَ مختلفة ولِحًى وشوارب، وأنواعٍ مختلفة من القبعات.
وفتح الباب في هدوءٍ ثم أغلق.
وسرَت همهماتٌ سريعة بين أرجاء الحجرة … المشرف، وساد الفصلَ سكونٌ تامٌّ أعقبه صوتُ ضربٍ بالعصا عند آخر قِمَطر.
وقفز قلب ستيفن من الخوف.
وصاح المشرف: ألَا يوجد أحدٌ هنا يستحق الضرب أيها الأب أرنال؟ ألَا يوجد كسولٌ بليدٌ يستحق الجلد في هذا الفصل؟
وتوجَّه إلى منتصف الحجرة، وأبصر فلمنج راكعًا على ركبتَيه.
وصاح: هوه … من هذا الصبي؟ لماذا يركع هكذا؟ ما اسمك أيها الفتى؟
– فلمنج يا سيدي.
– هوه … فلمنج! أحد الكسالى طبعًا، إني أرى ذلك في عينَيك. لماذا يركع على ركبتَيه أيها الأب أرنال؟
فقال الأب أرنال: لقد كتب واجب اللاتيني غايةً في السوء، ولم يستطع الإجابة على أيِّ سؤال في القواعد.
فصاح المشرف: لقد فعل ذلك بالتأكيد، لقد فعل ذلك بالتأكيد، إنه كسولٌ بفطرته، إني أرى ذلك في طرف عينَيه.
وهبط بالعصا على القمطر محدِثًا دويًّا عاليًا، وصاح: انهض يا فلمنج، انهض يا فتى.
ونهض فلمنج في بطء.
وصاح المشرف: افتح يدك.
ومدَّ فلمنج يده، وهبطَت العصا عليها في صوتٍ عالٍ: واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة.
– اليد الأخرى!
وهبطَت العصا مرةً أخرى في ستِّ ضرباتٍ سريعة عالية.
وصاح المشرف: اركع هناك.
وركع فلمنج وهو يعتصر يدَيه تحت إبطَيه، وقد تقلَّص وجهُه من الألم.
وكان ستيفن يعلم مبلغَ قدرةِ يدي فلمنج على تحمُّل الألم؛ لأنه كان يدهنهما بالزيت. ولكن ربما كان الألم الذي شعر به عظيمًا لأن صوت العصا كان مهولًا، وأخذ قلب ستيفن يدقُّ ويخفق.
وصاح المشرف: هيَّا إلى عملكم جميعًا! لا نريد كسالى بُلَداء هنا، الكسالى البلداء المحتالين، إلى عملكم … سيحضر الأب دولان ليراكم كل يوم، سيحضر الأب دولان غدًا.
ثم وخز أحدَ التلاميذ في جنبه بعصاه وقال له: أنت أيها الصبي، متى سيحضر الأب دولان ثانية؟
فأجاب صوت توم فيرلونج: غدًا يا سيدي.
فقال المشرف: غدًا وغدًا وغدًا، اجعلوا ذلك في حسابكم، سيحضر الأب دولان كل يوم. هيَّا إلى كتابتكم. أنت أيها الصبي، مَن أنت؟
وقفز قلب ستيفن بغتة:
– ديدالوس يا سيدي.
– ولماذا لا تكتب كالآخرين؟
– أنا … إن …
ولم يستطع الكلام من فرطِ الخوف.
– لماذا لا يكتب هذا الصبي أيها الأب أرنال!
فقال الأب أرنال: لقد انكسرَت نظارته، وقد أعفيتُه من الكتابة.
فقال المشرف: انكسرَت؟ ما هذا الذي أسمعه؟ ما هذا الذي تقول، إنه اسمك؟
– ديدالوس يا سيدي.
– اخرج من هنا يا ديدالوس، أيها المخادع الصغير الكسول. إني أرى الخداع في وجهك، أين كُسرت نظارتك؟
وتعثر ستيفن في وسط الفصل، وقد أعماه الخوف والعجلة.
وأعاد المشرف قوله: أين كُسرت نظارتك؟
فصاح المشرف: أوه … طريق السباق؟ إني أعرف هذه الحيلة.
فرفع ستيفن عينَيه في دهشة، وشاهد في لمحةٍ خاطفةٍ وجهَ الأب دولان الرمادي، الذي تجاوز سنَّ الشباب، ورأسه الرمادي الأصلع وقد ملأ الزغب جوانبه، وأطراف نظارته الحديدية، وعينَيه اللتين لا لون لهما، تتطلعان من وراء النظارة. لماذا قال إنه يعرف هذه الحيلة؟
وصاح المشرف: أيها المتبلد الصغير الكسول! كُسرت نظارتي. حيلة قديمة يلجأ إليها التلاميذ. ابسط يدَيك حالًا.
فأغمض ستيفن عينَيه، ومدَّ ذراعَه المرتجفة في الهواء، ورفع راحته إلى أعلى، وشعر بالمشرف يمسُّها مسًّا خاطفًا بعصاه عند الأصابع ليقوِّمها، ثم شعر بردن السترة يشتق الهواء حين رفع العصا ليضربه بها. ونزلت عليه ضربة حارقة واخزة مجلجلة كصوتٍ مدوٍّ لعصا تنكسر، جعلت يده المرتجفة تتقلص مثل ورقة الأشجار في النيران. وبعث الصوت والألم بالدموع الحارقة إلى عينَيه، وأخذ جسده يرتجف من الخوف، وذراعه ترتجف، ويده المتقلصة المحترقة الزرقاء ترتجف كورقة شجر يتلاعب بها الهواء، وارتفعت صرخة كالصلاة إلى شفتَيه، وكان على وشك إطلاقها، ولكنه أمسك بدموعه الساخنة، وحبس الصرخة التي أحرقَت حلقه، رغم الدموع التي تحرق عينَيه، وارتجاف الألم والخوف في أطرافه.
وصاح المشرف: يدك الأخرى.
فسحب ستيفن ذراعه اليمنى العاجزة المرتجفة، ومدَّ يده اليسرى. وشق ردن السترة الهواء ثانية عند رفع العصا، وحوَّل الصوت الساحق والألم القاسي الجنوني الحارق المجلجل يدَه وراحتَه وأصابعه إلى كومة زرقاء راجفة. وانبجسَت الدموع الحارقة من عينَيه، وسحب ذراعه المرتجفة في رعبٍ وهو يحترق بالخزي والحزن والخوف. وانفجر يُعوِّل من آلامه، وأخذ جسدُه يرتجف رجفة الخوف. وفي موجةِ الخزي والغضب شعر بالصرخة الحارقة تنطلق من حلقه، والدموع الحارقة تتساقط من عينَيه على خدَّيه المتوهجَين.
وصاح المشرف: اركع هناك.
وركع ستيفن بسرعةٍ وهو يعتصر يدَيه المضروبتَين بين جنبَيه، وبعث تفكيرُه في يدَيه وقد ضُربتا وتورمتَا من الألم في لحظة خاطفة، شعورَ الأسف في نفسه كما لم تكونا يدَيه بل يدَي شخصٍ غيره يشعر بالأسف لهما. وبينما هو راكعٌ يُهدِّئ غصصَه الأخيرة في حلقه، ويشعر بالألم الحارق المجلجل مدفونًا بين جنبَيه، جالَت بخاطره اليدان اللتان مدَّهما في الهواء براحتَين مرفوعتَين، ولمسة العريف الثابتة لهما ليقوِّم الأصابع المرتجفة، وكومة الراحة والأصابع المضروبة المتورمة المحمرة، التي كانت ترتجف في يأسٍ في الهواء.
وصاح المشرف: اركع هناك.
وصاح المشرف من عند الباب: هيَّا إلى عملكم جميعًا، سيحضر الأب دولان كل يوم ليرى ما إذا كان أي صغير كسول بليد يحتاج للجلد كل يوم، كل يوم.
وأغلق الباب خلفه.
واستمر التلاميذ في صمتهم يكتبون الواجب. ونهض الأب أرنال من مقعده وأخذ يتجول بينهم، يساعد الصبية بكلمات لطيفة، ويُصحِّح لهم الأخطاء التي وقعوا فيها. كان صوته لطيفًا جدًّا ورقيقًا، ثم عاد إلى مقعده وقال لفلمنج وستيفن: عودَا أنتما الاثنَين إلى مكانَيكما.
ونهض فلمنج وستيفن، وسارَا إلى مقعدَيهما وجلسا، وفتح ستيفن كتابًا بيدٍ واحدةٍ ضعيفة — وقد احمرَّ وجهُه من الخجل — وانحنى عليه مُقرِّبًا وجهَه من الصفحة. كان ما حدث ظلمًا وقسوةً؛ لأن الطبيب قال له ألَّا يقرأَ دون النظارة، وقد كتب إلى والده هذا الصباح، ليُرسل له نظارةً جديدة، وقد سمح له الأب أرنال بألَّا يستذكرَ دروسه حتى تحضر النظارة الجديدة … ثم يُلقِّبه المشرف بالمخادع أمام التلاميذ ويضربه، في حين أنه يحصل دائمًا على المرتبة الأولى أو المرتبة الثانية، وهو قائد فريق يورك! وكيف يستطيع أن يعرف أنها خدعة؟ وشعر بملمس أصابع العريف حين كان يُقوِّم يده … في البداية ظن أنه سيصافحه لأن أصابعه كانت رقيقة ثابتة، ولكن بعد لحظة قصيرة سمع ردن السترة يشقُّ الهواء وصوت الضربة يجلجل. إن ركوعه في وسط الفصل أمرٌ ظالمٌ قاسٍ، وقد طلب منهما الأب أرنال العودةَ إلى مكانَيهما هما الاثنان دون أيِّ تمييز بينهما. وأنصتَ إلى صوت الأب أرنال الخفيض اللطيف، وهو يصحح الواجبات للتلاميذ، ربما يكون قد شعر بالأسف ويرغب في أن يكون رقيقًا، ولكن هذا ظلمٌ وقسوة. إن المشرف قَسٌّ دينيٌّ ورغمًا عن ذلك فإن ما فعله ظلمٌ وقسوة، وكان وجهه الرمادي وعيناه اللتان لا لون لهما، تُبديان نظرات القسوة من وراء النظارة ذات الإطار المعدني؛ لأنه مدَّ أصابعه اللينة الثابتة ليُقوِّم من يده أولًا لكي تكون الضربة شديدة وذات صوتٍ داوٍ.
قال فلمنج في الردهة حين كان التلاميذ يمرون مصطفِّين إلى المطعم: يا لَه من فعلٍ دنيء حقير أن يُضرب تلميذ لا ذنب له.
وسأل ناستي روش: إن نظارتك قد كُسرت بمحض الصدفة، أليس كذلك؟
وشعر ستيفن بقلبه يغصُّ بما قاله فلمنج ولم يردَّ.
فقال فلمنج: طبعًا، لو حدث لي ذلك ما احتملت، بل ذهبت وشكوته للمدير.
فقال سيسل تندر بحماس: أجل، وفوق ذلك فقد رأيته يرفع العصا فوق مستوى كتفه، وليس مصرَّحًا له أن يفعل ذلك.
فسأل ناستي روش: هل آلمَتْك الضربات كثيرًا؟
فقال ستيفن: جدًّا؟
فعاد فلمنج يقول: لم أكن لأتحمل ذلك من هذا الرجل الأصلع أو ممن على شاكلته، إنها حيلةٌ دنيئة قذرة منحطة، بل كنت أذهب إلى المدير وأُخبره بذلك بعد الغداء مباشرة.
فقال سيسل تندر: أجل، افعل ذلك، أجل.
وقال ناستي روش: أجل، افعل ذلك، أجل. اذهب واشكه للمدير يا ديدالوس؛ لأنه قال إنه سيأتي غدًا مرةً أخرى ليضربك.
فقال الجميع: أجل، أجل، قُلْ للمدير.
وكان بعض تلاميذ الصف الثاني قسم القواعد يُنصتون للحديث، وقال أحدهم: لقد أعلن مجلس الشيوخ والشعب الروماني أن ديدالوس قد عُوقب ظلمًا.
هذا خطأ! هذا ظلمٌ وقسوة. وطوال جلسته في المطعم كان يعاني المرة تلو المرة نفس الإذلال، حين يتذكر ما حدث، حتى بدأ يتساءل عمَّا إذا كان هناك شيء في وجههم يجعلهم يبدو كالمخادع، وودَّ لو أن لديه مرآة ليرى فيها ذلك، غير أن هذا لم يكن ممكنًا، ولم يكن ما حدث سوى ظلم وقسوة وجَور.
ولم يستطع أن يأكل شرائح السمك السوداء التي كانوا يُقدِّمونها لهم يوم الأربعاء في أيام الصوم الكبير، كما أن إحدى حبَّات نصيبه من البطاطس كانت تحمل علامة المجرفة. أجل، سيفعل ما أشار إليه به زملاؤه. سيذهب ويُخبر المدير بأمر العقاب الذي نزل به دون وجه حق. لقد حدث في التاريخ شيء مثل هذا قبلًا، قام به شخص عظيم شاهد صورته في كتب التاريخ، وسيعلن المدير أنه قد عوقب بدون وجه حق؛ لأن مجلس الشيوخ والشعب الروماني دائمًا يُعلنون أن الرجال الذين يحدث لهم ما حدث له، قد عوقبوا دون وجه حق، كانت أسماء هؤلاء الرجال العظماء مدوَّنة في كتاب «أسئلة ريتشمال ماجنال». إن التاريخَ كلَّه يدور حول هؤلاء الرجال وعن أعمالهم، وكذلك تدور قصص «بيتر بارلي» عن اليونان وروما حول الموضوع نفسه. وهناك صورة لبيتر بارلي نفسه في أول صفحة من الكتاب. وبجانب صورته طريق في أعلى مرج مليء بالحشائش وبعض الشجيرات الصغيرة. ولبيتر بارلي قبعة عريضة مثل التي يرتديها القسس البروتستانت وعصًا ضخمة، ويبدو في الصورة مُغِذًّا السيرَ نحو اليونان وروما.
إن ما عليه أن يفعله سهلٌ للغاية، ليس عليه بعد انتهاء الغداء وخروجه، إلا أن يواصل السير ليس نحو الردهة، بل إلى الدور الأعلى على اليمين في الطريق المؤدي لإدارة المدرسة. ما عليه إلا أن يقوم بهذا: أن يُعرِّجَ يمينًا ويغذَّ السير نحو الدور الأعلى، وفي نصف دقيقة سيكون في الردهة الواطئة المظلمة الضيقة، التي تؤدي إلى حجرة المدير عن طريق مبنى المدرسة. وقد قال التلاميذ جميعهم إن هذا ظلم ومنهم تلميذ الصف الثاني بقسم القواعد، الذي ذكر في حديثه مجلس الشيوخ والشعب الروماني.
ماذا سيحدث؟
وسمع أصوات تلاميذ الصف الأعلى ينهضون في أقصى المطعم من الأمام، وسمع صوت خطواتهم وهم يعبرون أرض الغل: «بادي رات» و«جيمي ماجي» والإسباني والبرتغالي، أما الخامس فكان كوريجان الكبير الذي سيقوم مستر جيسون بجَلْده. كان هذا سببَ دعوة المشرف له بالمخادع وضرْبه له بدون سبب. وبجهدٍ من عينَيه الضعيفتَين اللتين أرهقَتهما الدموع، شاهد كتفَي كوريجان الكبير العريضتَين ورأسَه الكبير الأسود المعلق بينهما تمرُّ في الصف. ولكن هذا التلميذ ارتكب خطأ ما، وبجانب ذلك فإن مستر جليسون لن يجلدَه بشدة. وتذكَّر مبلغ الضخامة التي يبدو عليها كوريجان في الحمام. إن جلدَه في مثل لون ردغَة المياه المغطَّاة بالحشائش في طرف الحمام الضحل. وعندما يسير على أحد الجوانب تصطفق قدماه بصوتٍ عالٍ على أحجار القرميد المبتلَّة، وتهتزُّ فخذاه قليلًا عند كل خطوةٍ لأنه كان سمينًا.
خلا المطعم من نصف التلاميذ وما زال الباقون يخرجون في الصفوف. في إمكانه الصعود للدور الأعلى؛ إذ لا يوجد قسس ولا مشرفون خارج باب المطعم، ولكنه لن يستطيع الذهاب، سوف ينحاز المدير إلى جانب العريف ويظن أنها مجرد حيلة تلاميذ. وحينئذٍ سيأتي العريف كلَّ يوم وسيكون الأمر أسوأ من ذي قبل؛ لأنه سيكون شديدَ القسوة على أيِّ تلميذٍ يشكوه للمدير. لقد نصحه زملاؤه بالذهاب غير أنهم لم يكونوا ليذهبوا هم أنفسهم، وقد نسوا كلَّ شيء عن الأمر الآن. كلَّا، من الأفضل نسيان الأمر تمامًا، ولربما لم يكن العريف يَعني بأنه سيحضر كل يوم سوى مجرد القول فقط. كلَّا، من الأفضل الابتعاد عن طريق العاصفة لأن المرء حين يكون صغيرًا في السن والحجم، ففي إمكانه تجنُّب ذلك.
ونهض التلاميذ الجالسون إلى منضدته، ونهض هو وسار إلى الخارج بينهم في الصف، لا بد له أن يحزم أمره. إنه يقترب من الباب، وإذا استمر في السير مع التلاميذ فإنه لن يتمكن من الصعود للمدير مطلقًا؛ لأنه من المستحيل بعد ذلك أن يترك الملعب لذلك الغرض، ولو أنه ذهب للمدير ثم ضُرب رغمًا عن ذلك، فسيهزأ به التلاميذ جميعهم، وسيتحدثون عن ديدالوس الصغير الذي صَعِد للمدير ليشكوَ المشرف.
كان يسير عبر الغل، وشاهد الباب أمامه. هذا مستحيل، إنه لا يستطيع الذهاب. وخطر بباله رأسُ المشرف الأصلع وعيناه القاسيتان اللتان لا لون لهما، تتطلَّعان إليه، وسَمِع صوت المشرف يسأله مرتين عن اسمه، لماذا لم يتذكر الاسم عندما قال له أول مرة؟ ألم يكن منتبهًا أم كان يريد أن يسخر من اسمه؟ إن عظماء التاريخ لهم مثل هذه الأسماء، ومع ذلك لم يسخر منهم أحد. وإذا كان يريد أن يسخر من شيء فليسخر من اسمه هو: دولان، إنه شبيهٌ بأسماء الغسالات.
ووصل إلى الباب، وانحرف بسرعة نحو اليمين ثم صَعِد السلَّم، ودخل الردهة الواطئة المظلمة الضيقة التي تؤدي إلى الإدارة، قبل أن يتمكن من التفكير في العودة. وبينما هو يعبر مدخل باب الردهة — وبدون أن يُديرَ رأسه لينظر — شاهد جميع التلاميذ يتطلعون بأبصارهم خلفه، وهم يسيرون في صفوفهم.
وعبر الردهة الضيقة المظلمة بعد أن مرَّ على بعض الأبواب الصغيرة، أبواب غُرَف أفراد الطائفة، ونظر أمامه وعلى يمينه ويساره خلال العتمة، وخطر بباله أن أمامه بعضَ الصور، كان الظلام والصمت يكتنفان المكان، وعيناه ضعيفتَين أتعبَتهما الدموع؛ ولذلك لم يتمكن من الرؤية، غير أنه كان يظن أنها صور قديسين وكبار رجال الجزويت، الذين كانوا ينظرون إليه من علٍ في صمتِهم وهو يمر بهم: القديس أغناطيوس لويولا، ممسكًا بكتاب مفتوح ويشير إلى ما كتبه فيه من كلمات: «إلى مجد الله وعظمته»، والقديس «فرنسيس إكسافير» يشير إلى صدره، و«لورنزو ريتشي» وعلى رأسه البيريه كأحد مشرفي الفصول، ثم مناصري الشباب المقدس الثلاثة: القديس «ستانيسلاوس كوستكا»، والقديس «ألويسيوس جونزاجو»، والمقدس «جون بير شمانز»، وكلُّهم ذوو وجوه شابة لأنهم ماتوا في شبابهم، ثم الأب «بيتر كيني» جالسًا على مقعد مرتديًا عباءة فضفاضة.
ودلف إلى أعلى الدرج الذي يقع فوق ردهة المدخل، ونظر حواليه … لقد قُتل «هاملتون روان» في هذا المكان، وما زالت علامات رصاص الجنود ظاهرة. وفي هذه المنطقة أيضًا شاهد الخدم المسنين الشبح الذي يرتدي عباءة الماريشال.
وكان هناك خادم يكنس الأرض عند مهبط أعلى السلم، فسأله عن مكان حجرة المدير، وأشار الخادم العجوز إلى بابٍ في الطرف الأقصى، وشخص إليه بعينَيه حين ذهب نحوه وقرع الباب.
ولم يأتِه أيُّ رد، فقرع الباب ثانيةً بصوتٍ أعلى، وقفز قلبه حين سَمِع صوتًا مكتومًا: ادخل!
وأدار المقبض وفتح الباب وأخذ يتلمَّس مكان مقبض الباب الداخلي المكسو بالقطنية الخضراء، وعثر عليه وفتحه ودخل.
وشاهد المدير جالسًا إلى المكتب منهمكًا في الكتابة، وكانت هناك جمجمة على مكتبه، بينما رائحة عجيبة وقورة كرائحة جلد المقاعد تملأ الغرفة.
وأخذ قلبه يدقُّ في سرعة حين دخل هذا المكان الوقور، وبسبب السكون الذي يسود الغرفة. ونظر إلى الجمجمة وإلى وجه المدير الطيب.
وقال المدير: حسنًا أيها الرجل الصغير، ماذا تريد؟
وازدرد ستيفن لعابَه وقال: لقد كُسرت نظارتي يا سيدي.
ففتح المدير فمه وقال: «أوه» ثم ابتسم، وقال: حسنًا، إذا كسرنا نظارتنا فيجب أن نكتب لمنزلنا حتى يبعثوا لنا بنظارة جديدة.
فقال ستيفن: لقد كتبتُ للمنزل يا سيدي! وقد سمح لي الأب أرنال بعدم الاستذكار حتى تأتيَ النظارة الجديدة.
فقال المدير: حسنًا جدًّا.
وازدرد ستيفن لعابَه مرةً ثانية، وحاول جهده أن يمنع ساقَيه وصوته من الارتعاد: ولكن يا سيدي …
– ماذا؟
– لقد حضر الأب دولان اليوم وضربني؛ لأنني لم أكن أحل واجبي.
ونظر المدير إليه في صمت، وشعر بالدم يصعد إلى وجهه، والدموع توشك على الانبجاس من عينَيه.
وقال المدير: إن اسمك هو ديدالوس، أليس كذلك؟
– أجل يا سيدي.
– وأين كُسرت نظارتك؟
– في أرض السباق يا سيدي، حين كان أحد التلاميذ منطلقًا من مكان الدراجات، فسقطَت وكُسرت النظارة، كما أني لا أعرف اسم هذا التلميذ.
ونظر إليه المدير ثانيةً في صمت، ثم ابتسم وقال: أوه … حسنًا، لقد حدث هذا عن طريق الخطأ، إني واثقٌ أن الأب دولان لم يكن يدري ذلك.
– ولكني أخبرتُه أنها كُسرت يا سيدي، وقد ضربني رغم ذلك.
فسأله المدير: وهل قلتَ له إنك كتبتَ لمنزلك في طلب نظارة جديدة؟
– كلَّا يا سيدي.
فقال المدير: حسنًا إذن، إن الأب دولان لم يفهم ذلك. يمكنك أن تقول إنني أعفيك من دروسك بضعة أيام.
فقال ستيفن بسرعة خوفًا من أن يمنعه ارتعاده من الكلام، أجل يا سيدي، ولكن الأب دولان قال إنه سيأتي في الغد لكي يضربني على ذلك مرةً أخرى.
فقال المدير: حسنًا جدًّا، إنها غلطةٌ وسوف أتحدث إلى الأب دولان بنفسي، أيكفي هذا الآن؟
وشعر ستيفن بالدموع تُبلل عينَيه وتمتم: أوه … أجل يا سيدي، شكرًا.
ومدَّ المدير يدَه عبر جانب المكتب الذي وُضعت عليه الجمجمة، وشعر ستيفن براحة يده الباردة الرطبة وهو يضعها في يده للحظةٍ خاطفة.
وقال المدير وهو يسحب يده وينحني: والآن طاب يومك.
فقال ستيفن: طاب يومك يا سيدي.
وانحنى ثم سار في هدوء خارج الحجرة، وهو يُغلق الأبواب في حرصٍ وبطءٍ.
ولكنه بدأ يسير في سرعة أكثر فأكثر، حين خلَّف الخادم العجوز وراءه على مهبط الدرج، ودخل ثانيةً في الردهة الواطئة المظلمة الضيقة، وزاد في سرعته أكثر وأكثر خلال العتمة، وضرب البابَ القصيَّ بكوعه وأسرع هابطًا الدرج، ثم سار بسرعة عبر الردهتين وخرج إلى الهواء الطلق.
وتردَّدت في سمعِه صيحاتُ التلاميذ في الملاعب، وأخذ يجري، وأسرع أكثر وأكثر في جريه، وجرى عبر أرض السباق، ووصل إلى ملعب الصف الثالث وهو يلهث.
وشاهده التلاميذ وهو يجري، والتفوا حوله في حلقة وهم يتدافعون لكي يسمعوا.
– أخبرْنا، أخبرْنا!
– ماذا قال؟
– هل دخلتَ؟
– ماذا قال؟
– أخبرْنا، أخبرْنا!
وأخبرهم بما قاله، وبما قاله المدير.
وبعد أن أخبرهم بذلك، قذف جميع التلاميذ بقبعاتهم في الهواء، وصاحوا: مرحى …
وأمسكوا بقبعاتهم ثم قذفوها عاليًا مرةً أخرى إلى عنان السماء، وصاحوا ثانيةً: مرحى! … مرحى!
وتشابكَت أيديهم على شكل حلقة، ورفعوه فيما بينهم وحملوه حتى اضطر إلى مقاومتهم ليتركوه. وحين نجح في الهرب منهم تفرَّقوا في كل ناحية، وهم يقذفونه بقبعاتهم عاليًا في الهواء مرة أخرى، ويصفرون أثناء ذلك ويصيحون: مرحى …
ثم أطلقوا بعض صيحات السخط على دولان الأصلع وثلاث هتفات «لكونمي»، وقالوا إنه ألطف مدير جاء ﻟ «كلونجوز».
وماتت الصيحات في الهواء الرمادي، وأصبح وحيدًا. كان سعيدًا حرًّا، ولكنه لن يكون بأي حال مزهوًّا بما فعله بالأب دولان. سيكون في منتهى الهدوء والطاعة، وودَّ لو يفعل شيئًا طيبًا له؛ كي يُثبتَ له أنه ليس مزهوًّا بما فعله.
كان الهواء هادئًا رماديًّا رفيقًا، وكان المساء يوشك على الهبوط، والهواء يَعْبَق برائحة المساء، رائحة الحقول في الريف حيث ينبشون الأرض بحثًا عن رءوس اللفت، يقشرونها ويأكلونها حين يذهبون للنزهة إلى «هيجور بارتون»، وتلك الرائحة تنبعث هناك من الغابة الصغيرة الواقعة خلف المنطقة المليئة بجوز العفص.
وكان التلاميذ يتدربون على قذف الجُلَّة الطويل وعلى لعب الكرة والعقد البطيء للكريكت. وفي السكون الرمادي الهادئ كان يُسمع وقْع ضربات الكرات، ومن هنا وهناك كانت تتردد أصواتُ مضارب الكريكت خلال الهواء الساكن: ييك، ياك، يوك، يك، مثل قطرات ماء الينبوع تتساقط في رقَّة على سطح ممتلئ حتى الحافة.
المعطس سُعُوط: يساعد على العطس … مستحضرٌ من دقيق التبغ يمكن تعاطيه بالشَّم.