الفصل الخامس
ثم وضعها جانبًا وحدَّق متأملًا في غطاء الصندوق المغطى بعلامات قذرة، وسأل في غموض: كم الساعة الآن؟
وأقامت أمُّه المنبه القديم الذي كان مقلوبًا على أحد جانبَيه في منتصف رف المدفأة، حتى أبانت صفحته الساعة الثانية عشرة إلا ربعًا، ثم أنامَته ثانيةً على جنبه.
قالت: ساعةٌ وخمس وعشرون دقيقة. الوقت الصحيح الآن هو العاشرة والثلث، يعلم الله أن الواجب عليك أن تحاول اللحاق بمحاضراتك.
قال ستيفن: املئي لي الحوض لأستحم.
– «كاتي»، املئي الحوض لستيفن ليستحم.
– «بودي»، املئي الحوض لستيفن ليستحم.
– لا أستطيع، فأنا مشغولةٌ تمامًا، املئيه أنت يا ماجي.
وحين ثُبت الحوض المطلي بالميناء قرب البالوعة، وألقيت عليه فرشاة الحمَّام القديمة، سمح لوالدته أن تحكَّ رقبته وتنظف ثنايا أُذُنَيه وطاقتَي أنفه.
قالت: إنه شيءٌ مؤسف حين يكون طالب الجامعة على مثل هذه القذارة حتى تضطرَّ أمُّه أن تُنظفه.
فقال ستيفن في هدوء: ولكن هذا يبعث فيك السرور.
وانبعث صفيرٌ يخرق الآذان من الدور الأعلى، وألقَت أمُّه بمنشفةٍ رطبة في يدَيه قائلة: جفِّف نفسك وأسرع بحق السماء.
ودفعت صفارة حادة أخرى أطالها الغضب بواحدة من الفتيات إلى أسفل السلم.
– أجل يا أبي؟
– ألم يخرج أخوك الكسول الكلب؟
– بلى يا أبي.
– أأنتِ متأكدة؟
– أجل يا أبي.
– ها؟
وعادت الفتاة وهي تُشير إليه أن يُسرع ويخرج في هدوء من الباب الخلفي، وضحك ستيفن وقال: إن فكرته عن أجناس الكلمات غريبة إن كان يظن أن الكلبة مذكر. فقالت أمه: إنه عارٌ مخجل لك يا ستيفن، وسوف تعيش لتندم على اليوم الذي وضعتَ قدمك في مثل هذا المكان. إني أعرف كم غيَّرك. فقال ستيفن وهو يبتسم ويقبِّل أطراف أصابعه مودعًا: سعدتم صباحًا جميعًا.
كانت الحارة خلف الشرفة غارقةً في الوحل، وحين سار فيها ببطء محاذرًا الخطَى وسط أكوام من النفايات المبتلة، سمع راهبةً مخبولة تصرخ في بيت الراهبات المجنونات من خلف الجدران: يسوع! يا يسوع! يا يسوع!
ونفض الصوت من أُذُنَيه بهزةٍ غاضبةٍ من رأسه، وأسرع في سيره يتعثر بين القمامة المتراكمة، وقد وخز قلبَه ألمُ الازدراء والمرارة، وتحوَّل صفيرُ والده وتمتمات والدته وعويل المجنونة الخفية إلى أصوات جد كثيرة، تُسيء إلى زهو شبابه وتُهدد بكسر أنفته. وطرد أصداءها خارج قلبه وهو يلعنها. وإذ كان يسير في الطريق ويشعر بضوء الصباح الرمادي يسقط عليه من خلال الأشجار النادية، ويشم الرائحة الغريبة الجامحة للأوراق ولحاء الأشجار المبتلة، انطلقت روحه من إسار شقوتها.
وأثارَت الأشجار المحملة بالمطر في الطريق، في نفسه — كما تفعل دومًا — ذكريات الفتيات والنساء في ملاعب «جيرهارت هوبتمان»، واختلطَت ذكرى أحزانهن الشابة مع العبير الذي يسقط من الأفنان المبتلة في حالة الفرح الهادئ. لقد بدأت مسيرته الصباحية عبر المدينة، وكان يعرف سلفًا أنه حين يمرُّ على أرض «فيرفيو» الموحلة، فسوف يفكر في نثر نيومان التعبدي ذي الأوردة الفضية، وأنه حين يسير في طريق «نورث ستراند» يتطلع في كسل إلى نوافذ محلات البقالة، فسوف يستعيد مرح «جيدو كافالكانتي» المكفهر ويبتسم، وأنه حين يمر على محلات «بيرد» لأعمال قطع الأحجار في «تالبوت بليس»، ستنبثق فيه روح «إبسن» كالريح الحاد، روح جمال صبياني عنيد، وأنه حين يمرُّ على محلٍّ قذر من محلات المعاملات الملاحية وراء نهر «الليفي»، فسوف يردِّد أغنية ابن جونسون التي تقول:
وحين يتعب ذهنُه من البحث وراء جواهر الجمال وسط كلمات أرسطو أو أكويناس الطيفية، كان غالبًا ما يتحول إلى بهجة الأغاني الإيزابثية الحلوة. وكان ذهنه يقف دومًا في ثياب الكاهن الشاك في ظلال نوافذ هذا العصر، يستمع إلى موسيقى عازفي الفلوت الرزينة الساخرة أو ضحكة صريحة لأحد السكارى، إلى أن تخزَّ كبرياءَه ضحكةٌ خفيضة أو عبارة فاحشة صلفة لوثها الزمن، وتدفعه إلى الخروج من برج مراقبته.
وبالقرب من سياج القناة صادف الرجل المصدور ذا الوجه الذي يُشبه دُمَى الأطفال والقبعة التي بلا حواف، يسير نحوه تحت منحدر الجسر بخطوات قصيرة، ومعطفه البُنِّي مغلقٌ عليه بإحكام، ويُمسك بمظلته المطوية أمامه شبرًا أو شبرَين مثل عصا الركوب. وجال في فكره أن الساعة ربما تكون الحادية عشرة، وأطل في محلٍّ للألبان ليرى الساعة.
وأخبرَته ساعة المحل أن الوقت الخامسة إلا خمس دقائق، غير أنه سمع وهو يلتفت جانبًا ساعة بقربه من ناحية ما، ولكنها غير مرئية، تدقُّ إحدى عشرة مرة في دقة سريعة. وضحك حين سمعها فقد جعلَته يفكر في «ما كان»، وتمثَّله شخصًا مكتنزًا في ملابس الصيد وسراويله، بلحية لطيفة يقف في الرياح عند منعطف هوبكنز، وسمعه يقول: يا ديدالوس، أنت شخص غير اجتماعي، مغلولق على نفسك. إنني لست مثلك، إنني ديمقراطيٌّ وسأعمل وأجاهد من أجل الحرية والمساواة الاجتماعية بين جميع الطبقات والعناصر في الولايات المتحدة الأوروبية في المستقبل.
إحدى عشرة! إذن فقد تأخر كذلك عن المحاضرة، أي يوم من أيام الأسبوع هذا؟ وتوقَّف لدى متعهد صحف ليقرأ رأس إحدى الصحف، الخميس، الحادية عشرة إلا عشر دقائق، لغة إنجليزية، الثانية عشرة إلا إحدى عشرة دقيقة: لغة فرنسية، الواحدة إلا اثنتي عشرة دقيقة: طبيعة. وتمثل لنفسه محاضرة اللغة الإنجليزية وشعر وهو على هذا البعد بالقلق واليأس. ورأى رءوس زملاء صفِّه، ينحنون في دعة إذ يكتبون في كراساتهم النقاطَ التي يُطلَب منهم أن يلاحظوها، تعريفات اسمية، تعريفات أساسية وأمثلة وتواريخ ميلاد أو وفاة، الأعمال الرئيسية، نقد تقريظي ونقد هجائي جنبًا إلى جنب، ولم يكن رأسُه هو محنيًّا معهم؛ فقد جالت أفكاره خارجًا، وسواء جال بناظرَيه حول صفِّ الطلبة الصغير أو خارج النافذة عبر حدائق المتنزه المهجورة، كانت تُهاجمه رائحةُ رطوبة المخازن الكئيبة والعفونة. وتمركز رأسٌ آخر غير رأسه أمامه مباشرةً في الصفوف الأمامية فوق رءوس زملائه المنحنين، وكان يُشبه رأسَ قسٍّ يتضرع في غير ذلٍّ أمام الهيكل من أجل المصلين الخاضعين من حوله. لماذا لم يستطع أبدًا حين فكر في كرانلي أن يتمثل أمام ذهنه صورة جسده الكاملة، بل اقتصر على صورة رأسه ووجهه فقط؟ بل إنه رآه أمامه الآن على ستار الصباح الرمادي مثل طيف الأحلام: وجهٌ كالرأس المقطوع أو كقناع الموت، يُتوِّجه شعره الجامد الأسود المنتصب مثل التاج الحديدي حتى حاجبَيه. كان وجهه شبيهًا بوجوه القسس، شبيهًا بوجوههم في شحوبه وأنفه العريض المجنح، وظلال ما تحت العينين وعلى الفكَّين، شبيهًا بوجوههم في شفتَيه الطويلتَين الخاليتَين من الدماء، واللتين تكادان تبسمان. وحين يتذكر ستيفن في خفة كيف أخبر كرانلي بكل الخصب والقلق، والتلهفات التي تملأ روحَه يومًا بعد يوم وليلةً بعد ليلة، ليُجيبَه صديقه بالصمت المنصت، ليخبر نفسه أن وجه كرانلي يُشبه وجهَ قسٍّ مذنب، يستمع إلى اعترافات مَن لا يملك السلطة على إبرائهم، ولكنه شعر ثانيةً في ذاكرته بنظرة عينَيه الأنثويَّين.
وتمثَّل من خلال صورته لمحةً من كهفِ تأملٍ عجيب مظلم، ولكنه تحوَّل عنه على الفور وهو يشعر أن الساعة لم تَحِن بعدُ لدخوله، ولكن لا مبالاة صديقه بدَت وكأنها تنفثُ رائحةً خافتة قتَّالة في الهواء الذي يحوطه، ووجد نفسَه ينقل البصر من كلمة عابرة إلى أخرى على يمينه أو يساره، متعجبًا في فتور من خلوِّها لهذه الدرجة الساكنة من الإحساس العفوي، حتى إن أيَّ يافطة محل حقير تجذب ذهنَه ككلمات سحر، وروحه تتقلص وتزفر من الكبر، بينما هو يغذُّ السير في إحدى الحواري بين أكوام اللغة الميتة. وكان إحساسه الخاص باللغة يطفو من عقله ويتسرَّب إلى نفس الكلمات ذاتها، التي تجمع نفسها ثم تنفصل في إيقاعات ملتوية:
نظر إليه دون نقمة؛ فعلى الرغم من أن فتور الجسد وفتور الروح قد زحفا عليه كالدودة الخفية، على الأقدام المتثاقلة وفوق ثنايا العباءة وحول الرأس الخنوع، فقد بدا واعيًا في هوان إلى حقارته. لقد كان أشبهَ «بفير بولج» في عباءة «فيلبسيان» المستعارة. وفكر ستيفن في صديقه «دافين»، الطالب الريفي. كان لقبًا هاذرًا بينهما، ولكن الريفي الشاب تحمَّله في خفةٍ قائلًا: إيه يا ستيفي، إنَّ لي رأسًا عنيدًا كما تقول، فلتنادني بما شئت من أسماء.
وابتهج ستيفن عندما نطقَت شفتا الصديق بالنسخة المنزلية لاسمه الأول حين سمعه لأول مرة؛ لأنه كان رسميًّا في معاملاته مع الآخرين كما كانوا هم معه. وغالبًا، حين كان يجلس في منزل دافن في «جرانتام ستريت» متعجبًا من أحذية صديقه الجيدة الصنع التي تصطفُّ إلى جانب الجدار زوجًا زوجًا، يردِّد على مسمع آذان صديقه البسيط أشعار الآخرين ولزماتهم التي تمثِّل غشاءَ تلهفاته وصدِّه، وقد جذب عقلُ محدثه الفظ على طريقة «فير بولج» ذهنَ ستيفن نحوه وردَّه عنه ثانيةً، يجره إليه عن طريق أدب استماع هادئ متأصل، أو عن طريق منحى غريب لحديث بالإنجليزية القديمة، أو بقوة متعته بالمهارة الجسمانية الفظة، فقد كان دافن تلميذ «ميشيل كوزاك» الجالي المطيع، وصدَّه عنه بسرعة وفجأة بخشونة ذكائه أو ببلادة الشعور، أو بنظرة رعب سقيمة في العينين، رعب الروح في القرية الأيرلندية التي تموت جوعًا، والتي يُمثل فيها الناقوس رعبًا ليليًّا.
وبالنظر إلى هذا المطمع مضافًا إليه مزاج الشاب، كان ستيفن كثيرًا ما يدعوه بالإوزة المستأنسة. وكانت هناك نقاط مضايقة في هذا الاسم المبين، منها أن تردد هذا الصديق في القول والفعل تبدو كثيرًا ما تقف بين عقل ستيفن المتلهف على التأمل وبين الوسائل الخفية للحياة الأيرلندية.
وفي إحدى الليالي، وكانت روح الريفي الشاب قد وخزَتها اللغة العنيفة الفاخرة، التي يفر بها ستيفن من صمت التمرد الفكري البارد، مثَّلت أمام عقل ستيفن رؤية غريبة. كان الاثنان يسيران في بطءٍ نحو مسكن «دافين»، خلال طرق اليهود الفقراء الضيقة المظلمة.
– «لقد حدث لي شيء «يا ستيفي» في الخريف الماضي، حيث جئت في الشتاء ولم أُخبر أيَّ مخلوق حي به، وأنت أول شخص أُخبره به الآن. لا أذكر إذا كان هذا ما حدث في أكتوبر أو في نوفمبر، لقد حدث في أكتوبر لأنه كان قبل أن أحضر هنا لأستعد لدروس الشهادة التوجيهية».
وكان ستيفن قد حوَّل عينَيه الباسمتَين نحو وجه صديقه، وقد ملأَته هذه الثقة بالملق، وجذبته لكْنة المتحدث البسيطة إلى التعاطف معه.
– «كنت غائبًا طوال هذا اليوم عن مسكني، كنت في «بوتفانت»، ولا أعرف إذا كنت تعرف هذه المنطقة، لأشهد مباراة عنيفة بين فريق «أولاد كروك» وفريق «ثيرل الجريء»، وبالله يا ستيفي، كم كان صراعًا جبارًا، وقد تجرَّد ابنُ عمي من ثيابه ذلك اليوم، فقد كان عليه أن يلاحظ أبناء «ليهريك»، ولكنه كان معظم الوقت في مقدمة الملعب يصيح كالمجانين. لن أنسى ذلك اليوم أبدًا. وذات مرة، صوَّب أحد لاعبي «كروك» ضربةً رهيبة بعصاه تجاهه، وأشهد أمام الله أنها كانت على مقربة ذراع من جانب صدغه. أوه، بحق الإله لو أن حرفها أصابه آنذاك لكان قد قضى على الفور».
قال ستيفن وهو يضحك: إني سعيد أنه قد نجا، ولكن ليس هذا بالتأكيد الشيء الغريب الذي حدث لك؟
– «حسنًا، أعتقد أن هذا لا يهمك، ولكن حدثت ضجة هائلة بعد المباراة نسيت في عدم لحاقي بقطار العودة، ولم أتمكن من العثور على أي عربة من عربات الثيران لتنقلني؛ فقد شاء الحظ أن يكون هناك اجتماع ديني في نفس هذا اليوم في «كاسلتون روش»، وكانت كل عربات البلدة هناك، ولم يكن من مفرٍّ من قضاء الليل بها أو العودة سيرًا على الأقدام.» حسنًا، بدأتُ في السير وحثثت الخطَى، وحلَّ الظلام حين وصلتُ إلى تلال «بالي هورا» على بُعد أكثر من عشرة أميال من «كيلمالوك» وهناك طريق طويل منعزل بعدها. وهناك لا ترى علامة منزل مسيحي على طول الطريق أو تسمع صوتًا. كانت ظلمة بهيمية، وتوقفتُ مرة أو مرتين في الطريق تحت شجيرة لكي أُشعلَ غليوني، ولو لم يكن الندى ثقيلًا لكنت قد تمددت ونمت، وأخيرًا، بعد منحنى الطريق، لمحتُ كوخًا صغيرًا يبين الضوء من نافذته، فتوجهتُ إليه وقرعت الباب، وسألني صوتٌ عمن أكون وأجبتُ أنني كنت أحضر المباراة في «بوتيفانت» وأعود سائرًا، وأنني أكون شاكرًا لو سُمح لي بكوب ماء. وبعد برهةٍ فتحَت البابَ امرأةٌ شابة، وأعطَتني جرةً كبيرة من اللبن. كانت نصفَ عارية كأنما كانت تتأهب للذهاب للفراش حين طرقت الباب وشعرها متهدل على كتفَيها، وقد افترضتُ من هيئتها ومن شيء في نظرة عينَيها أنها لا بد أن تكون حاملًا. وشغلتني مدةً طويلة بالحديث على عتبة الباب، وفكرت أن ذلك غريب لأن صدرَها وكتفَيها كانت عارية، ثم سألتني إن كنت متعبًا وإن كنت أحب أن أقضيَ الليل بالكوخ، وقالت إنها وحدها تمامًا في البيت، وأن زوجها قد ذهب ذلك الصباح إلى «كوتيرتاون» مع أخته ليُرافقَها في الرحلة. وطوال الوقت الذي كانت تحدِّثني فيه يا ستيفي كانت عيناها مركزتَين على وجهي، وكانت تقف على مقربة مني لدرجة كنت أسمع معها أنفاسها. وحين رددتُ إليها الجرة أخيرًا أمسكَت بيدي لتجرَّني على عتبة الباب، وهي تقول: «تعالَ واقضِ الليل هنا، لا داعي للخوف، ليس هناك أحدٌ سوانا … ولكني لم أدخل يا ستيفي، لقد شكرتها ثم واصلت سيري ثانيةً وقد غمرَتني الحمَّى. وعند أول منحنى للطريق نظرت خلفي، وكانت ما تزال واقفة على الباب».
وتغنَّت الكلمات الأخيرة لقصة دافن في ذاكرته، ومثَّلت صورة هذه المرأة منعكسة مع صورٍ أخرى للنسوة الريفيات اللاتي رآهن يقفنَ على ا لأبواب في «كلان»، حين كانت عربة المدرسة تمرُّ عليها، كنموذج لعنصرهن وعنصره، روح خفاشية تستيقظ على وعيٍ بنفسها في ظلمة وسرية وعزلة، وعن طريق عينَي امرأة خاليتَين من الخداع وصوتها وإشاراتها تدعو الغريب إلى فراشها. وأمسكَت يدٌ بذراعه، وصاح صوتٌ فتيٌّ: آه أيها المحترم، ابنتك يا سيدي، أول قطفة اليوم يا محترم. اشترِ هذه الحزمة الجميلة، أرجوك يا محترم.
وبدَت الزهور الزرقاء التي رفعَتها نحوه وعيناها الزرقاوان في تلك اللحظة صورًا للبراءة. وتوقَّف حتى تلاشَت الصورة ولم يَعُد يرى سوى ثوبها الممزق، وشعرها الرطب الخشن ووجهها الغليظ.
– اشترِها أيها المحترم! لا تنسَ ابنتك يا سيدي!
فقال ستيفن: ليس معي نقود.
– اشترِ هذه الزهور الجميلة، ألَا تفعل يا سيدي؟ بنسًا واحدًا فقط.
فسألها ستيفن وهو ينحني نحوها: ألم تسمعي ما قلته لك، لقد أخبرتك أنني لا أملك نقودًا، وها أنا ذا أُخبرك مرةً أخرى.
فردَّت الفتاة بعد لحظة: حسنًا سوف يكون معك يومًا ما يا سيدي، إن شاء الله.
فقال ستيفن: جائزٌ، غير أنني لا أعتقد ذلك.
وتركها بسرعة بعد أن خشيَ أن تتحول مودتُها إلى عناد، ورغبة في الابتعاد في الطريق قبل أن تقدِّم بضاعتها إلى آخر، إلى سائح إنجليزي أو طالب «كلية ترينيتي».
واستطال شارع «جرافتون» الذي كان يسير فيه من تأثير الفاقة المثبطة. وفي الطريق العمومي، فوق مستوى رأسه، أُقيم لوحٌ تذكاري «لولف تون»، وتذكَّر أنه حضر إقامته مع والده، وتذكَّر في مرارة منظرَ هذا الاحتفال المبهرج. كان هناك أربعة وفود فرنسية في مركبة تجرُّها الجياد، وأمسك واحدٌ منهم، وهو شابٌّ سمينٌ باسم، بعصًا بأعلاها لافتة مطبوع عليها: عاشت أيرلندا.
ولكن الأشجار في متنزه ستيفن كانت تَعْبَق بالمطر، وأخرجت الأرض الرطبة شذاها الآدمي، بخورٌ واهنٌ يرتفع إلى أعلى خلال القالب من أفئدة كثيرة، لقد اضمحلت روح المدنية الوريدية الكريمة التي حدَّثه الأقدمون عنها، بفعل الزمن إلى شذى آدمي واهن يرتفع من الأرض. وعرف في لحظة حين دخل الكلية المعتمة، أنه سيتعرف على فساد آخر مختلف عن حالتَي «باك إيجان» و«بيرنتشابل هويلي».
كان الوقت قد فات للدخول إلى محاضرة اللغة الفرنسية في الدور العلوي. وعبر الردهة واتخذ ممشى اليسار الذي يؤدي إلى مدرج الطبيعة. كان الممشى مظلمًا ساكنًا ولكنه ليس خلوًا من مراقبٍ خفيٍّ. لماذا شعر أنه لا يخلو من خفي؟ هل يرجع ذلك إلى أنه سمع أنه من أيام «باك هويلي» كان هناك سلَّمٌ خفيٌّ فيه؟ أو هل يكون منزل الجزويت خارج المنطقة وأنه يسير الآن بين غرباء؟ لقد بدَت له أيرلندا التي تخص «توم» و«بارنل» تتقهقر إلى الخلف.
وفتح باب المدرج وتوقَّف عند النور الرمادي البارد الذي يجاهد من خلال النوافذ المتربة. كان رجلٌ يُقعي أمام الموقد الكبير، وعرف من نحافته ورماديته أنه عميد الدراسات يوقد النار، وأغلق ستيفن الباب في هدوء واقترب من الموقد.
– صباح الخير يا سيدي! هل لي في مساعدتك؟
ورفع القسُّ بصره بسرعة وقال: لحظة واحدة يا مستر ديدالوس وسترى. إن إشعال النار فن. هناك فنون سامية وفنون نافعة، وهذا واحد من الفنون النافعة.
فقال ستيفن: سأحاول أن أتعلَّمه.
فقال العميد وهو يعمل بهمة في مهمته: لا تضع كثيرًا من الفحم، هذا سرٌّ من أسرار هذا الفن.
وأخرج أربعة أعقاب من الشموع من الجيوب الداخلية لسُتْرته الكهنوتية، ووضعها بمهارة بين الفحم والورق الملفوف. وراقبه ستيفن في صمت. بدَا وهو يجثو على البلاط ليُشعل النيران منهمكًا بأوضاع رُزَم أوراقه، وأعقاب شمعاته أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، خادمًا مطيعًا يجهز المكان للقربان في معبدٍ خالٍ، سادنًا من سدنة الله. وبمثل رداء السادن من الكتان الخشن كان الكساء الكهنوتي البالي الباهت للرجل الجاثي الذي يُضايقه وتُغيظه قوانين الكنيسة أو رداء الحبر الكهنوتي الموشَّى بالأجراس. لقد شاخ جسده ذاته في خدمة الله، في العناية بالنيران فوق المذبح وفي حمل الرسائل خفية، في خدمة الدنيويِّين، في الضرب بسرعة حين يُؤمر بذلك — ومع ذلك فقد بقيَ غيرَ مكرم بأي شيء مقدس أو بأي جمال أسقفي. أجل، بل إن روحه ذاتها قد شاخت في هذه الخدمة دون الاقتراب من النور والجمال، أو بعث عبير قدسيتها المحبب خارجًا. كانت إرادةً خائبة لا يستجيب لهزَّة الطاعة إلا كمثال استجابة جسده العجوز المغضن لهزَّة الحب أو الصراع، وقد استحال رماديًّا كمثل أطراف النقود الفضية.
وجلس العميد القرفصاء وراقب العصيَّ تشتعل، وقال ستيفن ليقطع الصمت: إنني واثقٌ بأني لا أستطيع إشعالَ النار.
فقال العميد وهو يرفع بصرَه ويغمز بعينَيه الشاحبتَين: أنت فنان، أليس كذلك يا مستر ديدالوس؟ إن مهمة الفنان هي خلق الجمال، أما ما هو الجمال فهذا شيء آخر.
وحك يدَيه في بطء وجفاف حول هذه القضية.
وسأل: هل تستطيع أن تحلَّ هذه القضية الآن؟
فقال العميد: ستكون هذه التي أمامنا بهيجة المنظر، فهل تكون جميلة وفقًا لذلك؟
فالنار حسنة فيما يتعلق بكونها تُرضي مطلب الحيوان في الدفء. ومع ذلك فهي شرٌّ في الجحيم.
فقال العميد: بالضبط، لقد أصبت الهدف تمامًا.
ونهض في رشاقة واتجه ناحية الباب وتركه مواربًا، وقال: يُقال إن جرعة تفيد في هذه المسائل.
وعاد العميد إلى الموقد وبدأ يُربِّت على ذقنه.
سأل: متى يمكن أن ننتظر منك شيئًا حول الموضوع الجمالي؟
فقال ستيفن في دهشة: مني؟ إنني أصادف فكرةً كلَّ عدة أسابيع لو ساعدني الحظ.
فقال العميد: هذه الموضوعات عميقةٌ جدًّا يا مستر ديدالوس، مثلها كمثل أن تنظر من أعالي هضاب «موهير» إلى الأعماق. كثيرٌ يغوصون إلى الأعماق ولا يظهرون أبدًا ثانيةً، الغوَّاص المدرَّب وحده هو الذي يستطيع أن يهبطَ إلى تلك الأعماق ويستكشفها، ثم يعود إلى السطح ثانية.
فقال ستيفن: إن كنت تعني التأمل يا سيدي فإنني أيضًا متأكدٌ أنه ليس هناك من شيء يُدعى بالتفكير الحر من حيث إنَّ كلَّ تفكير يجب أن يكون محكومًا بقوانينه الخاصة.
– ها!
– ولأجل هذا الغرض ففي إمكاني أن أهتديَ في عملي في الوقت الحاضر بفكرة أو فكرتين من أرسطو وأكونياس.
– فهمت، فهمت وجهة نظرك.
– إنني لا أحتاج إليهما إلا لاستعمالي وإرشادي الخاص حتى أخلق شيئًا يهديهما لنفسي. إذا كان المصباح يدخن أو يبخر فسأحاول أن أُصلحه، إنما إذا لم يكن يُعطي الكفاية من الضوء، فسأبيعه وأشتري غيره.
فقال العميد: كان «لإبيكتنتوس» أيضًا مصباحٌ وبِيعَ بثمنٍ خيالي بعد موته. لقد كان المصباح الذي كتب مقالاته الفلسفية على نوره، أتعرف «إبيكتايتوس»؟
فقال ستيفن بخشونة: إنه سيد قديم قال إن الروح أشبهُ شيءٍ بجردل من الماء.
فاستطرد العميد قائلًا: إنه يُخبرنا بأسلوبه الأليف أنه قد وضع مصباحًا حديديًّا أمام تمثال أحد الآلهة، وأن لصًّا سرق هذا المصباح، فماذا فعل الفيلسوف؟ لقد قال إن طبيعة اللص تُجبره على السرقة، وصمم على شراء مصباح خزفي في اليوم التالي بدلًا من المصباح الحديدي.
وانبعثَت رائحة الشحم المنصهر من أعقاب شمعات العميد، وانسابَت إلى وعيِ ستيفن مع طنين كلمات: جردل ومصباح ومصباح وجردل. وكان لصوت القس أيضًا رنة مطنَّة. وتوقَّف ذهنُ ستيفن بالفطرة وقد صدَّته الرنةُ الغريبة والصورة، ووجهُ القس الذي بدا كالمصباح المنطفئ، أو كعاكسٍ معلق في بؤرة خاطئة. ماذا وراءه أو بداخله؟ سبات روح سقيم أم سقم المخيلة محملة بالإدراك، وقادرة على جهامة إلهية؟
قال ستيفن: إنما عنيت نوعًا مختلفًا من المصابيح يا سيدي.
فقال العميد: بلا شك.
فقال العميد في أدب: لا، أبدًا.
فقال ستيفن وهو يبتسم: كلَّا، إنما عنيت …
فقال العميد بسرعة: أجل، أجل، فهمت، فهمت تمامًا، تعني كلمة «معطلة».
ومدَّ فكَّه الأسفل إلى الأمام، وسعل سعالًا جافًّا قصيرًا.
قال: لنَعُد إلى المصباح. إن تغذيته كذلك مشكلة لطيفة، لا بد أن تختار الزيت النقي، ولا بد أن تنتبهَ حين تصبُّه فيه لئلا ينسكب، فعليك ألَّا تصبَّ فيه أكثر مما يتسع له القمع.
فسأل ستيفن: أي قمع؟
– القمع الذي تصبُّ خلاله الزيت إلى مصباحك.
فقال ستيفن: هذا؟ أيسمَّى هذا قمعًا؟ ألَا يُدعى موصِّلًا؟
– ما هو الموصِّل؟
– إنه … إنه … القمع.
فسأل العميد: أيسمَّى هذا موصِّلًا في أيرلندا. لم أسمع هذه الكلمة في حياتي.
فقال ستيفن وهو يضحك: إنها تُدعى موصِّلًا في «درمكوندرا» السفلى، حيث يتحدثون اللغة الإنجليزية الفضلى.
فقال العميد متفكرًا: موصِّل. إنها كلمة عجيبة جدًّا، لا بد أن أراها في القاموس، بحق الإله سوف أفعل.
وأعاد العميد الكلمة ثانية: موصِّل، حسنًا، هذا شائق.
فقال ستيفن في برود: يبدو لي السؤال الذي وجَّهتَه لي منذ لحظة أكثر تشويقًا، ماهية ذاك الجمال الذي يجاهد الفنان في التعبير عنه من بين ركام الدنيا.
وأضاف العميد: ولا بد من التمييز بين الجميل والسامي. لا بد من التمييز بين الجمال الآدمي والجمال المادي، ولا بد من البحث في نوع الجمال المناسب لكل فنٍّ من الفنون المختلفة. هذه بعض النقاط المهمة التي يمكن أن نبحثها.
وصمت ستيفن وقد فترَت همتُه من جرَّاء لهجة العميد الصارمة الجافة. وارتفعت من خلال السكون من جهة الظلم ضجةٌ قصية لصوت أقدام وأصوات مختلطة.
وقال العميد جازمًا:
ومع ذلك، يكمن في متابعة مثل هذه التأملات خطرُ الخواء، يجب أن تنال شهادتك أولًا، ضَعْ ذلك هدفًا أولًا وبعدئذٍ سترى طريقك شيئًا فشيئًا، أعني في كل شيء، طريقك في الحياة وطريقك في التفكير. وقد يكون ذلك بمثابة المجاهدة في صعودِ تلٍّ من التلال في البداية. خذ مثلًا مستر «مونان»، لقد قضى زمنًا طويلًا قبل أن يَصِل إلى القمة، ولكنه وصل فعلًا.
فقال ستيفن في هدوء: قد لا تكون لي مثل موهبته.
فقال العميد في انشراح: لا تستطيع الجزم، لا يمكننا أبدًا إدراك دخيلتنا. إني واثقٌ جد الثقة أنه لا يجب أبدًا أن ييأس المرء:
وترك الموقد بسرعة وتوجَّه ناحية منبسط السلم؛ لكي يرقبَ وصولَ صفٍّ أدبي أول.
وترك الموقد بسرعة وتوجَّه ناحية منبسط السلم؛ لكي يرقبَ وصولَ صفٍّ أدبي أول.
وسَمِعه ستيفن إذ كان مرتكزًا على المدفأة يُحَيِّي كلَّ طالب في الصف بنشاطٍ وبلا تمييز، وكان يكاد يرى ابتساماتِ الطلبة الخشنين الصريحة. وبدأ رثاء كظيم يسقط كالندى فوق قلبه الهشِّ على خادم «ليولولا» الأمين هذا ذي الروح الفروسية، على أخي الكهانة هذا، الأكثر ضعةً من الكهنة في القول، ولكنه أكثر حزمًا في روحه عنهم؛ واحدٌ لا يمكن أن يدعوه مطلقًا بالأب القدس. وجال في خاطره كيف أن هذا الرجل وزملاءَه قد اكتسبوا لقبَ «الدنيويين» على يدَي كلٍّ من الدنيويِّين وغير الدنيويِّين كذلك؛ لأنهم يتضرعون لدى عدالة الله وحكمتها من أجل أرواح المتهاونين والبلداء والمتبصرين.
وأعلنت دخول الأستاذ حكات قليلة من الأحذية الثقيلة للطلبة، الذين جلسوا في الصف العلوي من المدرج الكئيب تحت النوافذ الرمادية، التي تُشبه نسيج العنكبوت. وابتدأ نداء الأسماء وتعالَت الردود بكل اللهجات، حتى وصل اسم «بيتر بايرن».
– موجود!
وصدر الردُّ من صوتٍ عميق جهوري من الصف العلوي، تَبِعته سعالاتُ احتجاج على طول الصفوف الأخرى.
وتوقَّف الأستاذ عن القراءة، ثم نادى الاسم التالي:
– كرانلي!
– لا جواب.
– مستر كرانلي!
وعبرَت ابتسامة على وجه ستيفن حين فكَّر في سير دراسات صديقه.
وصاح صوتٌ من الصف الخلفي: جرِّب اسم «ليباردستون».
ونظر ستيفن بسرعة، ولكنَّ وجهَ موينيهان ذي الأنف الخنزيري الذي تبدَّت حدودُه على الضوء الرمادي، كان هادئًا. وأعطيت إحدى المعادلات، والتفت ستيفن خلفه وسط ضجة الكراسات، وقال: أعطني بعض الأوراق من فضلك.
فسأل موينيهان بتكشيرة عريضة: أَوصلتَ إلى هذا الحد؟
وجذب صفحةً من كراسة مسوَّداته ومرَّرها إليه وهو يهمس: في حالة الضرورة يمكن لأيِّ رجلٍ عادي أو امرأة أن تحلَّها.
وبهرَت عقل ستيفن وأضنَته المعادلة التي كتبها في طاعةٍ على صفحة الورق، وحسابات الأستاذ الطاوية والباسطة، ورموز القوة والعنف التي تُشبه الأطياف، وكان قد سمع البعض ينعت الأستاذ العجوز بأنه ملحدٌ من الماسونيِّين، آه، يا لَليوم السقيم الغائم! لقد بدا هذا اليوم كسجنٍ للوعي الصبور غير المتألم التي تهيم أرواحُ المشتغلين بالحساب خلاله، يعرضون أنسجةً طويلة رقيقة من مستويات الشفق، الذي يأخذ في الندرة والشحوب، مشعًّا دوامات سريعة نحو الحواف الأخيرة لكونٍ سريع أبدًا قصيٍّ أبدًا، وأكثر شفافية أبدًا.
– ولذلك يجب أن نميز بين الشكل الإهليلجي والشكل الإهليلجي الناقص. ربما يكون بعضكم يا سادة على دراية بمؤلفات مستر «و. س. جلبرت»؛ ففي إحدى أغنياته يتحدث عن أحد مَن يغشون في لعبة البلياردو، الذي يضطر إلى اللعب:
وهو يعني كرةً لها الشكل الإهليلي الناقص للمحاور الأساسية الذي تحدَّثت عنه منذ لحظة.
وانحنى موينيهان على أُذُن ستيفن وهمس له: كم تساوي الكرات الإهليلية! اتبعنَني أيتها النسوة، فإني من الفرسان.
وجرى مزاح زميله الجاف مثل اللفحة خلال مسارب عقل ستيفن، وهزَّ الأردية الكهنوتية المعلَّقة على الجدران في حياة بهيجة، وجعلها تترنح وتتراقص في فوضى قداسية، وخرجت شخوص وأشكال رجال طائفة الجزويت من بين الأردية الملفوحة: عميد الدراسات، الصراف ذو الهيئة الناضرة وقبعته ذات الشعر الرمادي، الرئيس، القس الصغير ذو الشعر الذي يُشبه ريش الطيور، والذي يكتب الشعر الديني، الشكل الريفي المكتنز لأستاذ الاقتصاد، الشكل الطويل للأستاذ الشاب لمادة العلوم العقلية، يناقش في أرضية السلم حالة الضمير مع طلبةِ صفِّه، مثل الزرافة التي تحصد أوراق الشجر العالية بين قطيع من الغزلان، عريف الزمالة الرزين القلق، أستاذ الإيطالية البدين المستدير الرأس بعينَيه الماكرتين، جاءوا مسرعين يتعثرون، يتقاطرون ويتقافزون، طاوين أثوابهم ليقفزوا كالضفادع، ماسكين بظهور بعضهم البعض، يهزُّهم ضحكٌ عميق زائف، غامزين أحدهم الآخر من الخلف، ويضحكون من أحقادهم الجافة، ينادون بعضهم البعض بأسمائهم الأولى المألوفة، يحتجون في هيبة مفاجئة عند أي معاملة جافة، ويتهامسون مثنى مثنى من وراء أكفِّهم.
وتوجَّه الأستاذ إلى الحافظة الزجاجية على الجدار الجانبي، وأنزل من أحد الرفوف مجموعةً من الأسلاك الكهربية، وأزاح الغبار عن كثير من نواحيها وحملها في حرص إلى المائدة، ووضع إصبعه عليها بينما استمر في إلقاء محاضرته، وقال إن الأسلاك الكهربية الحديثة مصنوعةٌ من مركبٍ يدعى بلاتينويد اكتشفه «ف. و. مارتينو».
ولفظ الحروف الأولى ولقب المكتشف في وضوح، وهمس موينيهان من الخلف: «فرش ووتر مارتين» العجوز الطيب.
وردَّ ستيفن الهمس في مزاحٍ تَعِب: اسأله إن كان يريد متطوعًا لتجربة الإعدام الكهربي، يمكنني أن أتقدم.
ونهض موينيهان من مقعده حين رأى الأستاذ محنيًّا فوق الأسلاك، وأخذ يفرقع أصابع يده اليمنى دون صوت، ثم أخذ يصيح في صوت الطفل الباكي: من فضلك يا أستاذ! هذا الولد يقول ألفاظًا بذيئةً يا أستاذ.
واستطرد الأستاذ في رصانة: «والبلاتينويد مفضل عن الفضة الألمانية لأن به مقاومة معاملية أقل عن طريق تغيير درجة الحرارة، والسلك البلاتينودي معزول، والغطاء الحريري الذي يعزله ملفوفٌ على البوبينات المطاطية حيث يُشير إصبعي تمامًا، وإذا كانت ملفوفةً بطريقة فردية فسيجري التيار في الأسلاك.
والبوبينات قصيرة مشبعة بشمع البرافين الساخن …»
– هل ستأتي لنا أسئلة عن العلوم التطبيقية؟
وبدأ الأستاذ يتلاعب في رصانة باصطلاحات العلم الخاص والعلم التطبيقي، وحملق طالبٌ متين البنيان يرتدي نظاراتٍ ذهبيةً نحو السائل في عجب. وهمس موينيهان من الخلف في صوته الطبيعي: أليس ماك أليستر شيطانًا حقيقيًّا، حين يهزُّ لحمَه المكتنز؟
ونظر ستيفن في برودٍ إلى الجمجمة البيضاوية في الصف التالي، وقد غلبها الشعر الرمادي المتشابك. لقد أزعجه صوتُ السائل ولهجته وعقليته، وسمح للإزعاج أن يحملَه إلى القسوة المتعمدة، وحمل ذهنه أن يفكر بأنه كان يحسن بوالد الطالب لو أنه أرسل ابنه إلى بلفاست للدراسة، ويوفر بذلك شيئًا من مصاريف القطار.
ولم تستدر الجمجمة البيضاوية التي في الصف التالي لتقابل هذه اللمحة من التفكير، ومع ذلك عادَت اللمحة ثانيةً إلى مستقرها، فقد رأى بعد لحظةٍ وجهَ الطالب المكفهر.
وقال لنفسه بسرعة: ليست هذه الفكرة فكرتي، لقد نبعت من الأيرلندي الفكه في الصف الخلفي. صبرًا، هل يمكنك القطع بمَن قايضَ على روح عنصرك وخان صفوفهم؟ هل هو السائل أم المتهكم … صبرًا، تذكر إيبكتيتوس، ربما كان سيرًا على نهجه أن يُسأل مثل هذا السؤال في مثل هذه اللحظة بمثل هذه اللهجة، وأن تُنطق كلمة «علوم» على أنها كلمةٌ من مقطع واحد.
واستمر صوت الأستاذ المكسال يلفُّ نفسَه ببطء حول الأسلاك التي يتحدث عنها، مضاعفًا مثنى وثلاث ورباع طاقته الناعسة، كما يضاعف السلك وحدات مقاومته الكهربية.
ونادى صوت موينيهان من الخلف مردِّدًا أصداء جرس بعيد: حان وقت الغلق يا سادة.
كانت ردهة الاستقبال مزدحمة تلغط بالحديث، وعلى المائدة بجانب الباب صورتان في إطارَيهما، وبينهما وثيقة ورق طويلة تحمل ذيلًا متعرجًا من التوقيعات. وكان «ما كان» يسير جيئةً وذهابًا في خفة بين الطلبة، يتحدث بسرعة، يردُّ على التمنعات ويقود الواحد إثرَ الآخر إلى المائدة. ووقف عميد الدراسات في الردهة الداخلية يتحدث مع أستاذ شاب، وهو يربِّت على ذقنه في رزانةٍ ويهزُّ رأسه.
وتوقَّف ستيفن في ترددٍ وقد صدَّه الزحام عند الباب. وكانت عينا كرانلي تراقبانه من تحت رقِّ قبعةٍ لينةٍ عريض ملتوٍ.
وسأله ستيفن: هل وقَّعت؟
– ما الغرض منها؟
– ما الغرض منها؟
وأشار ستيفن إلى صورة القيصر وقال: إنَّ له وجهَ مسيحٍ ذاهل.
وأعاد الازدراء والغضب في صوته عينَي كرانلي من استعراض هادئ للصور التي على جدران الردهة.
وسأل: هل أنت مستاء؟
فرد ستيفن: كلَّا.
– هل أنت منحرف المزاج؟
– كلَّا.
فقال كرانلي:
وهمس موينيهان لستيفن في طريقه إلى المنضدة: إن «ماكَّان» يشتعل حماسًا، مستعدٌّ ليُريقَ آخرَ قطرة، عالمٌ جد جديد. لا حماس ولا أصوات لأولاد الكلاب.
وابتسم ستيفن لشدة ثقته، وتحوَّل ثانيةً ليُقابل عينَي كرانلي بعد مرور «موينيهان».
قال: ربما استطعت أن تُخبرني لماذا يصب روحه بعطاءٍ في أذني، هل تستطيع؟
وعبرت جهامة سقيمة على جبين كرانلي. وحملق في المائدة حيث انحنى موينيهان ليكتب اسمه في الوثيقة، ثم قال في بلاده: معسول اللفظ.
فقال ستيفن: مَن منَّا منحرف المزاج، أنا أم أنت؟
ولم ينتبه كرانلي لهذه الغمزة. كان عاكفًا في خشونة مُردِّدًا في نفس القوة البليدة: معسول اللفظ لعين، هذا هو!
هكذا كان نعته لكل الصداقات الميتة، وتساءل ستيفن عمَّا إذا كان سيقول نفس الكلام عنه حين يذكره. ومرَّت العبارة الثقيلة المكوَّمة في بطء بعيدًا عن الأسماع، مثل الحجر الذي يمرق خلال طين الأرض. ورآها ستيفن تمرُّ كما رأى الكثير غيرها، وشعر بثقلها يُثقل فؤاده. لم يكن في حديث كرانلي، على عكس دافن، أيُّ عبارات نادرة من العصر الإليزابيتي ولا صِيَغ محرَّفة في حذقٍ للتعابير الأيرلندية. كانت ثغثغتُه صدًى لمرافئ دبلن تُعيدها صورة مرفأ مهجور متهدم، وطاقته صدى لبلاغة دبلن المقدسة يُعيدها في بلادة صورة منبر «ويكلو».
واختفَت الجهامة من وجهِ كرانلي حين توجَّه «ماكَّان» نحوهما في خفة من الجانب الآخر من الردهة.
قال «ماكَّان» في مرح: ها أنتما!
فقال ستيفن: ها أنا.
– متأخران كعادتكما. ألَا تستطيعان أن تقرنا أفكاركما التقدمية باحترام المواعيد؟
فقال ستيفن: هذا السؤال ليس ضمنَ البرنامج، فلننتقل إلى المسألة التالية.
وكانت عيناه الباسمتان مثبَّتتَين على لوح شيكولاتة اللبن ذات الورق المفضض، يطلُّ من جيب صدارة القائم بالدعاية. والتفت حلقةٌ صغيرة من السامعين حولهم ليسمعوا عراك الأذكياء، ودسَّ طالبٌ نحيف ذو بشرة زيتونية وشعرٍ أسود مسترسل وجهَه بين الاثنين، ينقل بصره من أحدهما إلى الآخر عند كل عبارةٍ، ويبدو كما لو كان يحاول أن يلتقط كلَّ عبارة طائرة في فمه المفتوح والرطب. وتناول كرانلي كرةً رمادية صغيرةً من جيبه، وبدأ يتفحصها في إتقان وهو يقلِّبها بين يديه.
قال ماكَّان: المسألة التالية؟ ها …
وأطلق ضحكةً عالية، وابتسم ابتسامة عريضة، وهو يجذب مرتين لحيته الصغيرة التي في لون القش، والتي تتدلَّى من ذقنه الجاف.
– المسألة التالية أن توقِّعا الوثيقة.
فسأله ستيفن: هل ستدفع لي شيئًا إن أنا وقَّعت؟
فقال «ماكَّان»: ظننتك من المثاليِّين.
وتلفَّت الطالب ذو المظهر الغجري حوله، وخاطب الملتفِّين في صوتٍ ثاغٍ غير واضح: «بحق الجحيم، إنها فكرةٌ عجيبة، أنا أعتبر هذه الفكرة فكرة أنانية». وذاب صوته في الصمت، لم يُلقِ أحدٌ بالًا لكلماته، وأدار وجهه الزيتوني، ذا التعبير الحصاني نحو ستيفن، يدعوه إلى الحديث ثانيةً.
وبدأ «ماكَّان» يتحدث في طاقةٍ فياضة عن الأمر الإمبراطوري القيصري، وعن «ستيد» وعن نزع السلاح العام والتحكيم في حالات المشكلات العالمية، وعن ظواهر العصر، والبشرية الجديدة، وإنجيل الحياة الجديد الذي يجعل مهمة الجماعة، أن تضمن أعظم سعادة ممكنة بأرخص نفقةٍ ممكنة، لأكبر عددٍ ممكن من الناس.
واستجاب الطالب الغجري للعبارة الأخيرة في الحديث بأن صاح: اهتفوا ثلاثًا للأخوَّة العالمية.
وقال طالبٌ بدين متورد يقف إلى جانبه، استمر «يا تمبل»، سوف أدعوك للشراب بعد ذلك.
فقال تمبل وهو يُحملق فيما حوله من عينَيه السوداوين البيضاوين: إني من دعاة الأخوَّة العالمية، إن ماركس ما هو إلا سمكة لعينة.
وقبض كرانلي ذراعَه بشدة حتى يمنعَ لسانه عن الحديث، وابتسم في قلق وردَّد: مهلًا، مهلًا، مهلًا!
وجاهد تمبل ليخلص ذراعَه، ولكنه استمر وفمُه ملطخٌ بالرغوة الخفيفة: لقد أقام الاشتراكية أيرلندي وكان كولينز هو أول إنسان في أوروبا يدعو لحرية الفكر، منذ مائتي عام، ولقد أدان الكهنوتية فيلسوفُ مقاطعة «ميدلسكس». «اهتفوا ثلاثًا لجون أنتوني كولينز!»
وأجاب صوتٌ رفيع من طرف الحلقة: بيب! بيب!
وهمس «موينيهان» في أُذُن ستيفن: «وماذا عن أخت جون أنتوني الصغيرة المسكينة:
لقد فقدَت لوتي كولينز سراويلَها.
ألَا تُعيرينَها سراويلك؟»
وضحك ستيفن، وهمس موينيهان ثانيةً وقد سرَّته النتيجة: سوف يقفز كلٌّ منا خمسَ مرات من أجل جون أنتوني كولينز.
قال «ماكَّان» باقتضاب: إني في انتظار جوابك.
فقال ستيفن في وهنٍ يلوي شفتَيه: حسنًا، أنت رجعي إذن؟
فسأل ستيفن: هل تعتقد أنك ستؤثر عليَّ إذا استللت سيفك الخشبي؟
فقال «ماكَّان» في بلادة: تشبيهات! انزل إلى الواقع.
وتورَّد وجهُ ستيفن واستدار جانبًا، وثبت «ماكَّان» في مكانه، وقال في مزاحٍ مُعادٍ: أعتقد أن صغار الشعراء فوق قضية تافهة مثل قضية السلام العالمي.
ورفع كرانلي رأسه وأمسك بالكرة بين الطالبين، كأنما يعرض عليهما السلام وقال:
وأزاح ستيفن الملتفين حولهم وهزَّ كتفَيه في غضبٍ نحو صورة القيصر، وقال: احتفظوا بمقدساتكم، إذا كان لا بد لنا من مسيح فليكن مسيحًا شرعيًّا.
فصاح الطالب الغجري لمن حوله: بحق الجحيم، أحسنت، هذا تعبير جميل، إني أحب هذا التعبير للغاية.
وازدرد لعابَه كأنما يزدرد العبارة تحوَّل إلى ستيفن، متلمِّسًا أصابعه إلى طرف قبعته التويد وقال: من فضلك يا سيدي، ماذا تعني بالتعبير الذي قلته الآن؟
ولما أحسَّ أن الطلبة من حوله يزاحمونه قال لهم: إني أتطلَّع إلى معرفة ما يعني بهذا التعبير.
وتحوَّل ثانيةً نحو ستيفن، وهمس له: هل تؤمن بالمسيح؟ إني أومنُ بالإنسان، أنا لا أعرف طبعًا إن كنت تؤمن بالإنسان، إني معجبٌ بك يا سيدي، إني معجبٌ بعقل الإنسان مستقلًّا عن جميع الأديان، أهذا هو رأيك في عقل يسوع؟
فقال الطالب البدين المتورد راجعًا كعادته إلى فكرته الأولى: استمر يا تمبل، إن كأس الشراب بانتظارك.
فشرح تمبل الأمر لستيفن قائلًا: إنه يظن أنني أبله لأنني من المؤمنين بقوة العقل.
وعقد كرانلي ذراعَي ستيفن ومعجبه وقال:
ولمح ستيفن وهو على وشك أن ينقاد لجاذبه وجه «ماكَّان» المتورد ذا الملامح المتبلدة، وقال في أدب: إن توقيعي لا قيمة له، إنك على حقٍّ في انتهاج هذا الطريق، فدَعْني أسير في طريقي.
فقال «ماكَّان» في صلابة: إني أعتقد أنك رفيقٌ طيب يا ديدالوس، ولكن عليك أن تتعلم كرامة حب الآخرين ومسئولية الفرد الإنساني.
وقال صوت: إن المحاور المثقفة تكون أحسن حالًا بعيدًا عن هذه الحركة أكثر من أن تكون فيها.
وتعرَّف ستيفن في الصوت على لهجة «ماك آليستر» الخشنة، ولم يلتفت نحوه. وتقدَّم كرانلي في رزانة وسط حشد الطلبة ممسكًا بذراعَي ستيفن وتمبل، كالواعظ يحفُّ به تابعوه في طريقه إلى المذبح.
وانحنى تمبل في لهفة عبر صدر كرانلي، وقال: هل سمعت ما قال ماك آليستر؟ إنه غيورٌ منك، ألا ترى ذلك؟ أراهن أن كرانلي لم يُدرك ذلك بحق الجحيم، لقد أدركت ذلك على الفور.
وبينما كانوا يعبرون الردهة الداخلية، كان عميد الدراسات يحاول الفرار من الطلبة الذين يجادلونه، ووقف عند أرضية السلَّم وقدمه على الدرج الأخير، وثوبه الكهنوتي الرث مضمومًا حوله ليصعد في حذرٍ نسائي، وهو يهزُّ رأسه كثيرًا ويردِّد: لا شك في ذلك يا مستر «هاكيت»، حسن جدًّا، لا شك في ذلك.
وفي وسط الردهة، كان عريف زمالة الكلية يتحدث في جدٍّ في صوتٍ رقيق شكس مع طالب من القسم الداخلي، وكان يعقص قليلًا حاجبَه المبقع بالنمش حين يتحدث، ويعض قلمًا صغيرًا من العظم بين عبارة وأخرى: آمل أن يحضر خريجو الثانوية كلهم، أما طلبة الصف الأول الأدبي فمؤكد، والصف الثاني الأدبي أيضًا، لا بد أن نضمن الطلبة الجدد.
وانحنى تمبل ثانيةً عبر كرانلي حين كانوا يعبرون باب الخروج، وقال في همس خاطف: أتعلم أنه متزوج؟ لقد كان متزوجًا قبل أن ينتظم في الجماعة. لديه زوجة وأطفال في مكان ما. بحق الجحيم، أعتقد أن هذا أعجب شيء سمعته، هه؟
وانتهت همستُه بضحكة خبيثة مهذارة. وفي اللحظة التي أصبحوا فيها في الخارج، أمسكه كرانلي بعنف من رقبته وهزَّه قائلًا: أيها الأبله «المقاوح» الناري! أُقسم بالكتاب المقدس أنه ليس هناك من قرد لعين كبير أعظم منك في كل الدنيا اللعينة النارية!
وتململ تمبل في قبضته وهو لا يزال يضحك في سرورٍ خبيث، بينما ردَّد كرانلي في بلادةٍ عند كلِّ هزةٍ عنيفة: أبله ناري متألق لعين!
وعبروا معًا الحديقة المعشوشبة، وكان الرئيس متجهًا ناحيتهم عبر أحد المماشي، ملتحفًا بعباءة ثقيلة فضفاضة يتلو طقوسه. وتوقَّف عند نهاية الممشى وقبل أن يستدبر ورفع عينَيه، وحيَّاه الطلبة، وتمبل يتحسس طريقه إلى ذرى قبعته كعادته. وساروا إلى الأمام في صمت. وحين اقتربوا من الحارة تمكَّن ستيفن من سماع لطمات أيدي اللاعبين وضربات الكرة، وصوت دافن يصيح حماسًا عند كل ضربة.
وتوقَّف الطلبة الثلاثة حول الصندوق الذي جلس عليه دافن ليتابع المباراة، وبعد لحظات قليلة، تسلَّل تمبل جانبًا نحو ستيفن، وقال: أريد أن أسألك من فضلك، هل تعتقد أن جان جاك روسو كان مخلصًا؟
وضحك ستيفن على الفور، والتقط كرانلي عارضةً خشبية لبرميل مكسور من على الحشائش بين قدمَيه، واستدار في خفة وقال في صرامة: أُعلن أمام الله الحي يا تمبل أنك إن نطقتَ بكلمة أخرى — أتعرف ذلك — لأي شخص في أي موضوع، فسوف أقتلك في التوِّ والساعة.
وقال ستيفن: أظن أنه كان مثلك، رجلًا عاطفيًّا.
فقال كرانلي في انطلاقه: أحرقه الله، عليه اللعنة، لا تتحدث إليه على الإطلاق. إذا تحدثت إليه فكأنك تتحدث إلى مزهرية نارية. عُدْ إلى بيتك تمبل، بحق الإله، عُدْ إلى بيتك.
فأجاب تمبل وهو يبتعد عن مرمى لوح البرميل الخشبي المرفوع نحوه، ويشير إلى ستيفن: إني لا أهتم بك إطلاقًا يا كرانلي، هذا هو الرجل الوحيد في هذا المنشأة الذي له عقل مفرد.
فصاح كرانلي: منشأة! مفرد، عد إلى بيتك، أحرقك الله، فأنت إنسان لعين لا أمل فيه.
فقال تمبل: إنني إنسان عاطفي، يا لَه من تعبير صادق، وإني جد فخور إنني عاطفي.
وتحوَّل مبتعدًا عن الحارة وهو يبتسم في خبث. وراقبه كرانلي بوجهٍ غُفْل لا تعبير فيه.
قال: انظر إليه! هل رأيت مثل هذا مساحًا للجدران.
ورحبت ضحكةٌ غريبةٌ أطلقها طالبٌ كان يتلكأ بجانب الحائط بهذه العبارة، ويكاد طرف قبعته يغطِّي عيني. وبدَت الضحكة وقد انطلقَت في نبرة عالية، ومن صاحب جسم مفتول مثل عواء الفيل. واهتز جسد الطالب من قمة رأسه إلى أخمص قدمَيه، ثم حكَّ كلتا يدَيه في بهجة على فخذَيه لكي يُهدئ من مزاحه.
قال كرانلي: لقد استيقظ «لينش».
وبسط «لينش» نفسه إجابة على هذه العبارة، ودفع بصدره إلى الأمام.
فقال ستيفن: يبرز لينش صدره انتقادًا للحياة.
وضرب لينش بقبضته على صدره في صخب، وقال: هل من اعتراض على مقاسات جسدي؟
وأخذ كرانلي كلامَه مأخذَ الجد، وبدأ الاثنان يتصارعان. ولمَّا توهج وجهاهما من الصراع افترقا وهما يلهثان، وتوجَّه ستيفن نحو دافن الذي كان مستغرقًا في المباراة، ولم يلتفت إلى حديث الآخرين. سأل: وكيف حال إوزتي الصغيرة الوديعة؟ هل وقَّع هو أيضًا؟ فأومأ دافن برأسه وقال: وأنت يا ستيفن؟
فهزَّ ستيفن رأسه.
فقال دافن وهو يُخرج الغليون القصير من فمه: إنك إنسان مرعب يا ستيفي، وحدك دائمًا.
فقال ستيفن: والآن وقد وقعت التماس السلام العالمي، أعتقد أنك لا بد ستحرق ذلك الدفتر الصغير الذي رأيته عندك.
وحين لم يرد دافن، بدأ ستيفن يقتبس منه بعض العبارات:
– خطوة سريعة، فيانا، إلى اليمين دُر فيانا! فيانا، عُدَّ … واحد، اثنين!
فقال دافن: هذه مسألة أخرى، إنني وطني أيرلندي في البداية وقبل كل شيء، ولكن هكذا أنت دائمًا، إنك ساخر بطبعك يا ستيفن.
فقال ستيفن: حين تشرع في تمردك المصطخب القادم وتحتاج إلى المخبرين اللازمين فأبلغني. بإمكاني أن أعثر لك على قليل منهم في هذه الكلية.
فقال دافن: إني لا أستطيع فهمك، أسمعك يومًا تهاجم الأدب الإنجليزي، وها أنت تهاجم المخبرين الأيرلنديِّين. ما الأمر في اسمك وفي أفكارك … أأنت أيرلندي على الإطلاق؟
فقال ستيفن: تعالَ معي الآن إلى السجلات، وسأريك شجرة عائلتي.
فقال دافن: إذن كُن واحدًا منَّا، لماذا لا تتعلم اللغة الأيرلندية؟ لماذا تركت دروس عصبتنا بعد الدرس الأول؟
فأجاب ستيفن: أنت تعرف سببًا لذلك.
فضرب دافن رأسه بيده وضحك.
وقال: آه، غير معقول. أذلك من أجل تلك الفتاة والأب موران؟ ولكن هذا كله من وحي خيالك يا ستيفن. لقد كانا يتحادثان ويضحكان ليس إلا.
وتوقَّف ستيفن ووضع يدًا ودودة على كتف دافن.
قال: هل تذكر يوم عرفنا بعضنا لأول مرة؟ لقد سألتني في الصباح الأول لتعارفنا، أن أدلَّك على طريقِ صفِّ الشهادة الثانوية، وأنت تضغط ضغطًا قويًّا على المقطع الأول من الكلمة … أتذكر؟ ثم اعتدت أن تدعوَ الجزويت بالآباء … أتذكر؟ وساءلت نفسي عنك: أهو ساذجٌ السذاجة التي تتبدَّى في حديث؟
فقال دافن: إنني شخص بسيط. أنت تعرف ذلك، بحق الله يا ستيفي، حين أخبرتني تلك الليلة في شارع «هاركورت» تلك الأشياء عن حياتك الخاصة، لم أستطع أن أتناول طعامي. لقد كنت على درجة كبيرة من السوء، وبقيت ساهرًا جانبًا كبيرًا من الليل. لماذا أخبرتني تلك الأشياء؟
فقال ستيفن: شكرًا، إنك تعني أنني متوحش.
فقال دافن: كلَّا، ولكن كنت أتمنى لو لم تُخبرني.
وبدأ مدٌّ يفور تحت سطحِ وُدِّ ستيفن الهادئ قال: إنني نتاج هذا العنصر وهذه البلدة وهذه الحياة، سأعبِّر عن نفسي كما أنا عليه في الواقع.
فكرَّر دافن: حاول أن تكون واحدًا منَّا. إنك أيرلندي في فؤادك، ولكنَّ كبرياءَك أقوى من اللازم.
فقال ستيفن: لقد ألقى أجدادي لغتَهم واستبدلوا بها لغةً أخرى. لقد سمحوا لحفنة من أن تستعبدَهم. هل تتصور أنني سوف أدفع من حياتي ومن شخصي ديونًا ارتكبوها هم؟ لماذا؟
فقال دافن: من أجل حريتنا.
فقال ستيفن: لم يمنحكم إنسان محترم ومخلص نفسَه وشبابه أبدًا منذ أيام «فون» إلى أيام «بارنل» إلا وبعتموه إلى الأعداء أو خذلتموه في وقت الحاجة أو لعنتموه وتركتموه إلى غيره، ثم تدعوني إلى أن أكون واحدًا منكم. إني سأراك ملعونًا قبل ذلك.
فقال دافن: لقد ضحَّوا من أجل مثاليتهم، ولسوف يأتي يومنا، صدِّقني.
وظل ستيفن صامتًا برهةً شاردًا مع أفكاره، ثم قال في غموض: إن الروح تُولد في البداية في مثل هذه اللحظات التي أخبرتك بها. إن مولدها بطيء وغامض، أكثر غموضًا من مولد الجسد. وحين تولد روح إنسان في هذا البلد فإنهم يُلقون عليها الشباك ليمنعوها من التحليق. إنك تُحدثني عن الوطنية واللغة والدين. إنني سأحاول أن أفرَّ من هذه الشباك.
ونفض دافن الرماد من غليونه.
قال: إنك عميق حتى لتستعصي عليَّ. ولكن بلد المرء يأتي أولًا. أيرلندا أولًا يا ستيفي. ويمكنك أن تُصبح شاعرًا أو صوفيًّا بعد ذلك.
فقال ستيفن في برود: هل تعرف ما هي أيرلندا؟ أيرلندا هي الخنزير الذي يأكل أبناءَه.
ونهض دافن من مكانه وتوجَّه ناحية اللاعبين وهو يهزُّ رأسه في حزن. غير أن حزنَه فارقَه بعد لحظة، وأخذ يتجادل في حرارة مع كرانلي واللاعبَين اللذَين انتهيَا من لعبهما، وأعدوا لعبةً يشترك فيها أربعة، وقد أصرَّ كرانلي رغم ذلك على استخدام كرته. وقذفها وتناولها في يده ثانيةً مرتين أو ثلاث مرات، ثم رمى بها بقوة إلى قرار الحارة، وهو يصيح متجاوبًا مع لطماتها: روحكم!
ووقف ستيفن مع لينش إلى أن بدأت الأهداف تترى، ثم جذبه من ردنه لكي يمضيا، وأطاعه لينش قائلًا: فلننزع وجودنا من هنا كما يقول كرانلي.
وابتسم ستيفن لهذه الغمزة.
وعبرَا الحديقة وخرجَا إلى الردهة، حيث كان البواب المرتج يُثبت إعلانًا على اللوحة. وعند أسفل الدرج توقَّفا وتناول ستيفن علبة سجائر من جيبه، وقدَّم واحدةً منها إلى رفيقه.
قال: أعرف أنك فقير.
فرد لينش: اللعنة على وقاحتك الصفراوية.
وأعاد هذا البرهان الثاني على ثقافة لينش البسمة إلى شفتَي ستيفن.
قال: لقد كان يومًا عظيمًا للثقافة الأوروبية حين قررت أن تلعن بالصفراوية.
وأشعلَا سيجارتَيهما وعرَّجَا يمينًا، وبعد صمتٍ بدأ ستيفن:
– لم يقدِّم أرسطو تعريفًا للشفقة والخوف، ولقد توصلتُ أنا إلى مثل هذا التعريف. إني أقول …
وتوقَّف لينش وقال ببلادة: قِف، لن أُنصت! إني مريض، لقد قضيت ليلة أمس في الشرب الأصفر مع «هوران» و«جوجنز».
واستطرد ستيفن: الشفقة هي الشعور الذي يستولي على الذهن في حضرةِ كلِّ ما هو خطير ودائم في المعاناة البشرية، ويربطها بالإنسان الذي يعاني، والخوف هو الشعور الذي يستولي على الذهن في حضرةِ كلِّ ما هو خطيرٌ ودائم في المعاناة البشرية، ويربطها بسببها الخفي.
فقال لينش: أعد.
وأعاد ستيفن التعريفين ببطء.
واستطرد: «كانت فتاةٌ تمرُّ في إحدى المركبات منذ يومين في لندن، وكانت في طريقها لملاقاة والدتها التي لم ترَها منذ سنين عدة. وعند ركن الطريق، حطمت الشاحنات زجاج المركبة وأحالَته إلى قطعٍ مدببة، واخترقت قطعة طويلة رقيقة من الزجاج قلبَ الفتاة، وماتت لساعتها.» وقال الصحفي إنه كان موتًا تراجيديًّا، ولكنه ليس كذلك. إن ذلك بعيدٌ عن الشفقة والخوف وفقًا لاصطلاحات التعريف الذي قدَّمته.
– العاطفة التراجيدية في الواقع وجهٌ يتجه إلى ناحيتَين، نحو الخوف ونحو الشفقة، وهما اثنان من مظاهرها. لقد رأيت أنني استخدمت كلمةَ يستولي، وأعني بذلك أن العاطفة التراجيدية عاطفةٌ سكونية، أو بالأحرى العاطفة الدرامية. أما المشاعر التي تُثيرها الفنون غير الخالصة فهي حركية، تحرِّك الرغبة أو الكُره، والرغبة تحثُّنا على الامتلاك، على الاقتراب من شيء، ويحثُّنا الكُره على الترك، على الابتعاد عن شيء. وعلى ذلك فإن الفنون التي تُثير هذه الأشياء، أدبًا مكشوفًا كانت أو تعليمية، هي فنون غير خالصة. وعلى ذلك فإن العاطفة الجمالية (وأنا أستخدم الاصطلاح العام) سكونية، وفيها يُستولى على الذهن ويرتفع فوق الرغبة والكره.
فقال لينش: أنت تقول إنه من الواجب ألَّا يُثيرَ الفن الرغبة، ولقد أخبرتك أنني كتبت اسمي ذات مرة بالقلم الرصاص على ظهر تمثال فينوس لبراكسيتليز في المتحف. ألم تكن هذه رغبة.
فقال ستيفن: إني إنما أتحدَّث عن الطبائع العادية. لقد أخبرتني أيضًا أنه عندما كنت صبيًّا في تلك المدرسة الدينية الساحرة أكلت قِطَعًا من الروث الجاف.
وانفجر لينش مرةً أخرى في نشيجٍ من الضحك وحك ثانيةً يديه على فخذيه، ولكن دون أن يخرجهما من جيوبه.
وصاح: أجل، لقد فعلت، لقد فعلت.
والتفت ستيفن نحو رفيقه وحملق برهةً بجرأةٍ في عينَيه، وأجاب عليه لينش بعد أن استفاق من ضحكه بعينَيه المتواضعتَين، وعكست الجمجمة الرقيقة الممتدة نحو القبعة الطويلة المدببة أمام ذهن ستيفن صورةَ سلحفاة ذات قناع. وكانت العينان أيضًا عينَي سلحفاة في لمعانهما ونظراتهما.
ورغم ذلك ففي هذه اللحظة، إذ هما ذليلتان وحذرتَا النظرات، أضاءَتهما نقطةٌ إنسانية صغيرة، نافذة روح منكمشة حادة النفس مريرتها.
وقال ستيفن في إدراك مؤدب: إننا جميعًا حيوانات فيما يختص بذلك. أنا أيضًا حيوان.
فقال لينش: إنك كذلك حقًّا.
فاستطرد ستيفن: ولكننا في عالم عقلي حتى الآن. ليست الرغبةُ والكُرهُ اللذان تستثيرهما الوسائل الجمالية غير الخالصة عواطفَ جماليةً في الحقيقة، ليس لأنها حركية الصفة فقط، ولكن لأنها كذلك لا تزيد على عواطفَ جسمانية. إن جسدنا يبتعد عن كل ما يخشاه ويستجيب إلى الدوافع التي يرغب فيها عن طريقِ فعلٍ منعكس خالص للجهاز العصبي، مثل ذلك أن جفوننا تنغلق قبل أن نُدرك أن الذبابة على وشك أن تدخل عيوننا.
فقال لينش ناقدًا: ليس دائمًا.
فقال ستيفن: يحدث هذا بنفس الطريقة التي استجاب بها جسدك لدافع التمثال العاري، ولكني أقول إن ذلك كان ببساطة عملًا انعكاسيًّا للأعصاب. لا يستطيع الجمال الذي يخلقه الفنان أن يُوقظ فينا عاطفة حركية أو إحساسًا جسمانيًّا خالصًا. إنه يوقظ، أو يجب أن يوقظ أو يُثير أو يجب أن يُثير، سكونية جمالية، شفقة مثالية أو خوفًا مثاليًّا، سكونية تنبعث ثم تستطيل وأخيرًا تتصفَّى عن طريق ما أُسميه إيقاع الجمال.
فسأل لينش: وما هو ذلك بالضبط؟
فقال ستيفن: الإيقاع هو أول علاقة جامدة جمالية للجزء بالجزء الآخر في الكل الجمالي، أو علاقة الكل الجمالي بجزئه أو بأجزائه، أو علاقة أي جزء بالكل الجمالي الذي هو جزء منه.
فقال لينش: إذا كان هذا هو الإيقاع، فقل لي ماذا تسمِّي الجمال، وأرجوك أن تتذكر أنه رغم أنني أكلت يومًا كعكةً من الروث، إلا أنني لا أعجب بشيء سوى الجمال.
ورفع ستيفن قبعته كأنما يرحب بذلك، ثم تورَّد وجهه قليلًا ووضع يده على ردن لينش التويد السميك.
قال: إننا على حقٍّ والآخرون مخطئون. الفن هو أن نتحدث عن هذه الأشياء وأن نحاول فهْمَ طبيعتها، وبعد أن نفهمَها نحاول في بطءٍ وتواضع وباستمرار أن نعبر عن صورة للجمال الذي فهمناه، وأن نجبل ثانيةً من الأرض الجافة أو نتاجها، من الصوت والشكل واللون التي هي نوافذ سجن أرواحنا، صورةً لهذا الجمال.
وكانا قد بلغَا جسر الفتاة، وانحرفا عن طريقهما وسارَا بمحاذاة الأشجار. وكان الضوء الرمادي الجاف الذي ينعكس على المياه الخاملة ورائحة الأفنان المبتلة فوق رءوسهم، تبدو كأنما تشنها حربًا على سياق تفكير ستيفن.
قال لينش: ولكنك لم تُجِب على سؤالي: ما هو الفن؟ ما هو الجمال الذي يعبر عنه الفن؟
فقال ستيفن: لقد كان ردِّي هو الاعتراف الأول الذي أعطيته لك، أيها الأخرق البائس، حين بدأت أحاول مناقشة المسألة مع نفسي. أتذكر تلك الليلة؟ حين فقد كرانلي أعصابه وأخذ يتحدث عن لحم خنزير «ويكلو».
قال لينش: إني أذكرها. أخبرنا يومها عن الخنازير السمينة النارية الشيطانية.
فقال ستيفن: الفن هو الخلق الإنساني للمادة المحسوسة أو المدركة من أجل غاية جمالية. لقد تذكرتُ الخنازير ونسيت هذا. إنكما رفيقان متعبان، أنت وكرانلي.
وعبس لينش في وجه السماء الرمادية الكثيفة، وقال: إن كنت سأستمع إلى فلسفتك الجمالية فلا أقل من أن تُعطيَني سيجارةً أخرى. لا أهتم بها، إني لا أهتم حتى بالنساء. اللعنة عليك وعلى كل شيء. أريد عملًا بخمسمائة جنيه في العام. إنك لا تستطيع منحي هذا العمل.
وناوله ستيفن علبة السجائر، وأخذ لينش آخرَ واحدة فيها قائلًا في بساطة: استمر.
فقال ستيفن: يقول أكويناس إن الجميل هو الذي يسبِّب إدراكه السرور.
فقال لينش: كلَّا، بل أعطني وتر فينوس لبراكستيليز.
فقال ستيفن: وعلى هذا فهو سكوني. لقد قال أفلاطون — كما أعتقد — إن الجمال هو رونق الحق، ولا أظن أن لذلك معنى، ولكن الحق والجميل شيئان متقاربان. الحق يُرى بعينَي البصيرة التي هدَّأتها نسب الإدراك الأكثر إرضاء. والجمال يُرى بعين الخيال الذي هدَّأته نسب الحس الأكثر إرضاءً. والخطوة الأولى في اتجاه الحق هو فهمُ إطار البصيرة ذاتها ومجالها، وإدراك الفعل البصيري ذاته. يقوم النظام الفلسفي كلُّه عند أرسطو على كتابه عن علم النفس، وأعتقد أن هذا الكتاب يعتمد بدوره على بيانه بأن نفس الصفة لا يمكن في نفس الوقت وفي نفس المقام، أن تنتميَ إلى نفس الموضوع ولا تنتمي إليه. والخطوة الأولى في اتجاه الجمال هي فهم إطار الخيال ومجاله، وإدراك فعل التفهم الجمالي ذاته. أهذا واضح؟
فقال لينش في ضجر: ولكن ما هو الجمال. عليك بتعريف آخر. شيء نراه ونُحبه! أهذا أفضل ما تستطيع أنت وأكونياس أن تُقدِّماه.
فقال ستيفن: فلنأخذ المرأة.
فقال ستيفن: الإغريق، الأتراك، الصينيون، الأقباط، الهوتنوت، كلهم أُعجبوا بأنماط مختلفة من الجمال. يبدو هذا ورطة لا يمكننا الخروج منها. غير أني أرى مخرجَين، الأول الافتراض بأن كلَّ صفة جسمانية أُعجب بها الرجال في النساء، لها صلة مباشرة بالوظائف المباشرة للنساء لحفظ النوع. قد يكون ذلك. ويبدو أن العالم أشد كآبةً مما كنت تتخيله يا لينش. أما من جانبي فإني أبغض هذا الحل، فهو يقود إلى علم تحسين النسل أكثر من علم الجمال. إنه يقودك خارج الورطة إلى غرفة محاضرات جديدة خادعة، حيث تجد «ماكَّان» وإحدى يدَيه على نسخة من أصل الأنواع ويده الأخرى على العهد الجديد. يقول لك إنك قد أُعجبت بجانبَي فينوس العريضَين؛ لأنك شعرت أن بإمكانها أن تُنجب لك ذريةً ضخمة، وأعجبت بصدرها العريض لأنك شعرت أن بإمكانها توفير لبن كثير لأطفالها وأطفالك.
فقال لينش في نشاط: إذن «فماكَّان» كاذبٌ صفراويٌّ كالكبريت.
فقال ستيفن وهو يضحك: يبقى هناك مخرجٌ آخر.
فقال لينش: عليَّ به.
وبدأ ستيفن بقوله: هذا الحل …
وأقبلت شاحنة محملة بالحديد الخردة حول منحنى مستشفى «سير باتريك دان»، وغطَّت على نهاية حديث ستيفن بزئير المعدن المصلصل المجلجل الحاد.
وغطَّى لينش أُذُنَيه وأخذ يُطلق السباب تلو السباب إلى أن مرَّت الشاحنة، وعندها دار على عقبَيه في خشونة، واستدار ستيفن كذلك وانتظر لحظات قليلة حتى انصرف كدر رفيقه.
وردَّد ستيفن: هذا الحل هو الفرض الآخر، وهو أن الموضوع نفسه قد لا يبدو جميلًا لكل الناس، فإن كلَّ الناس التي تعجب بموضوع جميل تجد فيه نسبًا معينة تُرضي وتتفق مع مراحل الإدراك الجمالي ذاتها، وعلى ذلك فإن نِسَب المحسوس هي التي تبدو لك عن طريق شكلٍ من الأشكال، وتبدو لي عن طريق شكلٍ آخر، لا بد أن تكون هي الصفات اللازمة للجمال. والآن، لنا أن نعود إلى صديقنا القيم القديس توماس من أجل قيراطَين من حكمته.
وضحك لينش، قال: يمتعني جدًّا أن أسمعك تقتبس منه المرة تلو المرة مثل القسيس الطروب البدين. هل تضحك في نفسك؟
فردَّ ستيفن: لو كان «ماك ليستر» لدعَا نظريتي الجمالية تطبيقات أكويناس. وطالما يمتد هذا الجانب من الفلسفة الجمالية، فسيحملني أكويناس في هذا الطريق. أما حين نأتي إلى ظاهرة التصور الفني، المخاض الفني والإنتاج الفني، فإني أحتاج إلى اصطلاحات جديدة وتجربة شخصية جديدة.
فقال لينش: طبعًا، وعلى كل حال فإن أكويناس كان قسيسًا سمينًا طيبًا تمامًا رغم كل بصيرتك، ولكنك ستُخبرني عن التجربة الشخصية الجديدة والاصطلاحات الجديدة في يوم آخر. أسرع الآن وأنْهِ القسم الأول.
وبدأ لينش يغنِّي برقة ورزانة في صوت «باص» عميق:
قال: هذا عظيم! حسنًا جدًّا، موسيقى عظيمة.
وانعطفَا على شارع «لووار ماونت» وعلى بُعد خطوات قليلة من الجانب حيَّاهما شابٌّ بدينٌ يرتدي وشاحًا من الحرير ثم توقَّف. وسأل: هل عرفتما نتائج الامتحانات؟ لقد رسب «جريفين»، و«هالبين» و«أوفلين» في طريقهما إلى الوظيفة، ومونان الخامس في وظائف الهند، وأوشنسي الرابع عشر. لقد أعدَّ لهم الرفاق الأيرلنديون في كلية «كلارك» مأدبة في الليلة الماضية، وأكل الجميع البهارات الهندية.
وبدا على وجهه الشاحب المنتفخ تعابير الخبث الرحيم، وبينما كان مستمرًّا في إذاعة أخبار النجاح، اختفت عيناه الصغيرتان المنتفختان عن الأبصار، وذاب صوتُه الضعيف الصافر عن الأسماع.
وعادت عيناه وصوته ثانيةً من مكمنهما إجابة عن سؤال ستيفن. قال: أجل، «ماكولا» وأنا. سيدرس الحساب، وسأدرس أنا التاريخ الدستوري، هناك عشرون مادة، وسأدرس النبات أيضًا. أنت تعلم أنني عضو في النادي الريفي.
وابتعد عن الاثنين بطريقة مبهرجة، ووضع يدًا سمينة ذات قفاز صوفي على صدره، الذي انطلقت منه ضحكات صافرة على الفور.
وقال ستيفن بجفاف: أحضر لنا لفتًا وبصلًا حين تخرج مرةً أخرى في إحدى الرحلات لكي نُعدَّ منه «يخنة».
فغمر الضحك الطالب البدين، وقال: كلُّنا أناسٌ محترمون جدًّا في النادي الريفي، وقد خرجنا يوم السبت الماضي إلى «جلنماليور»، سبعة منا.
فقال لينش: وهل كان معكم نساء يا دونوفان؟
ووضع دونوفان يدَه مرةً أخرى على صدره، وقال: إن غايتنا هي تحصيل المعرفة.
ثم قال بسرعة: سمعت أنك تكتب مقالًا عن علم الجمال.
فقال ستيفن بحركة إنكار غامضة.
فقال دونوفان: لقد كتب «جوته» و«لسنج» كثيرًا حول هذا الموضوع عن المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومانسية، وكل هذه الأشياء. لقد أثار كتاب «لاوكون» اهتمامي حين قرأته. إنه بطبيعة الحال مثالي، ألماني، فوق العميق.
ولم يتكلم أحد من الحاضرين، واستأذن دونوفان منهما في أدب. قال في رقة وإحسان: لا بد أن أذهب، ولديَّ إحساسٌ قويٌّ يكاد يرتفع إلى مرتبة الاقتناع أن أختي تعتزم صنع الفطائر الحلوة على الغداء اليوم لأسرة دونوفان.
وقال ستيفن في طريقه: مع السلامة، لا تنسَ اللفت لي ولرفيقي.
وتطلَّع لينش خلفه وشفتاه تتقلصان في احتقار بطيء، حتى أصبح وجهه يُشابه قناع الشيطان.
وقال أخيرًا: تصور أن هذا الروث الصفراوي، آكل الفطائر، يستطيع الحصول على وظيفة طيبة، بينما أنا أدخن السجائر الرخيصة!
وحوَّلا وجهتهما ناحيةَ ميدان «مريون»، ومضيَا برهةً في صمت.
قال ستيفن: دَعْني أُنهي ما كنت أقوله عن الجمال. إن النسب الأكثر إرضاءً للمحسوس، لا بد بهذا أن تتطابق مع الأشكال اللازمة للإدراك الفني. لو وجدت هذه النسب لوجدت صفات الجمال العام. يقول أكويناس:
وأُترجمها هكذا: هناك ثلاثة أشياء ضرورية للجمال: الاكتمال، التناسق، التألق. هل تتطابق هذه الأشياء مع أشكال الإدراك؟ أأنت معي؟
فقال لينش: طبعًا، إذا كنت تظن أن لي ذكاءً روثيًّا فلك أن تجري خلف دونوفان وتطلب منه أن يستمع لك.
وأشار ستيفن إلى سلة يُعلِّقها صبي جزار معكوسة على رأسه، وقال: انظر إلى هذه السلة.
فقال لينش: إني أراها.
قال ستيفن: لكي ترى هذه السلة، يفصل ذهنك في البداية السلة عن باقي الكون المرئي الذي لا يتضمن السلة، ويكون أول شكل للإدراك هو خطٌّ فاصل يُرسم حول الموضوع الذي سيُدرك. وتقدم لنا الصورة الجمالية إما في المكان أو في الزمان. وكل ما هو مسموع يقدم في الزمان وكل ما هو مرئي يقدم في المكان. ولكن الصورة الجمالية، سواء كانت مكانية أو زمانية، تُدرك أولًا في وضوح منطويةً منفردة على خلفية المكان أو الزمان الذي لا حد له، والذي ليس هو تلك الصورة. إنها تُدركها كشيء «واحد» وتراها ككلٍّ واحد. إنك تُدرك اكتمالها، وهذا هو «التكامل».
فقال لينش وهو يضحك: العين المستديرة! استمر.
فقال ستيفن: ثم تنتقل من نقطة إلى أخرى، تقودك خطوطها الجامدة، وتُدركها كجزءٍ متوازن مع جزءٍ آخر داخل حدودها، وتشعر بإيقاع تركيبها. وبعبارة أخرى، يتبع تركيب الإحساس الفوري تحليل الإدراك، وبعد أن تشعر أولًا أنها شيء «واحد»، تشعر الآن أنها «شيء» وتُدركها كمركَّب، مضاعف، منقسم، منفصل، مصنوع من أقسام، ونتيجة أقسامه ومجموعها يسبب تناسقها. وهذا هو التناسق.
فقال لينش مستسلمًا: العين المستديرة ثانية. أخبرني الآن ما هو التألق فتكسب السيجار.
وتوقَّف ستيفن، ورغم أن رفيقه لم يتحدث، فقد شعر بأن كلماتِه قد بعثَت حولهما صمتًا من السحر الفكري.
وبدأ يقول ثانيةً: إن ما قلته الآن يُشير إلى الجمال بمعناه الأوسع، بالمعنى الذي تعنيه كلمةُ الجمال في التقاليد الأدبية، أما بمعناها الشائع فهو شيءٌ آخر، حين تتحدث عن الجمال بمعناه الثاني، يتأثر حكمنا في المقام الأول بالفن ذاته وبالشكل الذي عليه هذا الفن. ومن الواضح أن الصورة يجب أن تُوضَع بين ذهن الفنان نفسه أو إحساسه وبين ذهن الآخرين وإحساسهم. وإذا تذكرت ذلك فسوف تفهم أن الفن يقسم نفسه تبعًا للضرورة إلى ثلاثة أشكال، يتطور الواحد منها إلى الآخر. وهذه الأشكال هي: الشكل الغنائي وهو الشكل الذي يقدِّم فيه الفنان فكرتَه بانعكاس مباشر من شخصيته، ثم الشكل الملحمي وهو الشكل الذي يقدم فيه الفكرة بانعكاس من شخصيته وشخصيات الآخرين، ثم الشكل الدرامي وهو الشكل الذي يقدِّم فيه الفكرة بانعكاسٍ من شخصيته وشخصيات الآخرين، ثم الشكل الدرامي وهو الشكل الذي يقدِّم فيه الفنان فكرتَه بانعكاسٍ مباشرٍ من الآخرين.
فقال لينش: لقد قلت هذا منذ أيام مضَت، وبدأنا عندها تلك المناقشة الشهيرة.
قال ستيفن: لديَّ في المنزل دفترٌ كتبتُ فيه أسئلة أكثر مدعاةً للتسلية من أسئلتك. وفي البحث عن أجوبة هذه الأسئلة عثرتُ على نظرية الجمال التي أحاول أن أشرحها الآن. ومن أمثلة الأسئلة التي وضعتُها لنفسي: هل المقعد المصنوع بمهارة تراجيدي أم كوميدي؟ هل تكون صورة الموناليزا جيدة إن أنا رغبتُ في رؤيتها؟ هل تمثال سير «فيليب كرامبتون» النصفي غنائي أم ملحمي أم درامي؟ وإن لم يكن كذلك: لماذا، حقًّا؟
واستطرد ستيفن: إذا كان هناك رجلٌ يحفر في سَورة غضبه على قطعة من الخشب، ورسم عليها صورة بقرة بهذا الحفر، فهل تكون هذه الصورة عملًا فنيًّا؟ وإن لم تكن، فلماذا؟
فقال لينش وهو يضحك ثانية: هذه فكرةٌ جميلة، ففيها الرائحة الإسكولائية الأصيلة.
قال ستيفن: لم يكن يجب على لسنج أن يتناول مجموعةً من التماثيل ليكتب عنها. إن هذا الفن، وهو أقل في المرتبة، لا يُصور الأشكال التي تحدَّثت عنها مميزة بوضوح بعضها عن البعض الآخر. وحتى في الأدب، وهو الفن الأكثر سموًّا وروحية، تختلط الأشكال في أغلب الأمر. والشكل الغنائي هو في الواقع أبسط كساء لفظي للحظة العاطفة، صيحةٌ إيقاعية كتلك التي كان يُطلقها منذ عصورٍ مضَت من يجدف في القارب، أو يدفع الأحجار فوق المرتفعات. ويشعر مَن ينطق بها بلحظة العاطفة أكثر مما يشعر بنفسه كشخص يحسُّ بهذه العاطفة. ويتطور أبسط الأشكال الملحمية من الأدب الغنائي، حين يُطيل الفنان تفكيرَه في ذاته كمركز حدث ملحمي، ويتطور هذا الشكل حتى يتساوى بُعد مركز الثقل العاطفي من الفنان نفسه ومن الآخرين. وفيه لا تُصبح القصة شخصية تمامًا، بل تَجوسُ شخصيةُ الفنان خلال القصة ذاتها، وتُحف بالشخوص والأحداث كالبحر الحي المتدفق. وتجد هذا التطور بسهولة ممثلًا في تلك القصة الشعرية الإنجليزية القديمة «تيربن بطلًا»، التي تبدأ على لسان البطل وتنتهي على لسان الغائب. ونَصِل إلى الشكل الدرامي حين تملأ حيوية الفنان التي سبق أن جفَّت، وأحاطَت بالشخصيات الأخرى هذه الشخوص من الداخل، حتى إن كلَّ شخوص القصة تتخذ حياة جمالية قائمة خفية، وتأخذ شخصية الفنان، التي كانت أولًا صيحة أو نغمة أو حالة ثم لا قصة لامعة سيالة، تأخذ في البعد آخر الأمر بنفسها عن الوجود، أو تلغي شخصيتها، إن صحَّ هذا التعبير، والصورة الجمالية في الشكل الدرامي هي الحياة مصفاةً ومنعكسةً ثانيةً من الخيال الإنساني. وتتم بهذا دورة لغز الجمال، كمثل الخلق المادي، ويظل الفنان كالإله، داخل ما صنعت يداه أو خلفه أو وراءه أو فوقه، خفيًّا، بعيدًا عن الوجود لا مباليًا، يُقلم أظافره.
فقال لينش: محاولًا إبعادها عن الوجود هي أيضًا.
وبدأ مطرٌ خفيفٌ يسقط من السماء الملبدة، وعرجَا على مرج الدوق ليصلَا إلى المكتبة الوطنية قبل نزول الشآبيب.
وسأل لينش بغلظة: ماذا تعني بالتفرقة بين الجمال والخيال في هذه الجزيرة البائسة التي ازدراها الإله؟ لا عجب إذا انعزل الفنان داخل ما صنعت يداه أو خلفه بعد أن يجني على هذا البلد.
واشتد المطر، وحين عبرَا الممرَّ الذي يقع بجانب مبنى «كلدار»، وجدَا كثيرًا من الطلاب يحتمون تحت سقف ممشى الكنبة. وكان كرانلي متكئًا على أحد الأعمدة ويحفر في أسنانه بعود ثقاب مدبَّب ويُنصت إلى بعض الرفاق. ووقفت بعض الفتيات بالقرب من باب الدخول، وهمس لينش لستيفن: حبيبتك هنا.
واتخذ ستيفن مكانه في صمت على الدَّرَج الذي يقع أسفل مجموعة الطلاب، غيرَ ملقٍ بالًا إلى المطر الذي اشتد نزوله، موجِّهًا بصرَه تجاهها من آنٍ لآخر. ووقفَت هي الأخرى صامتةً بين رفيقاتها. وجال في خاطره، في وعيٍ مريرٍ، وقد تذكَّر آخر مرة رآها فيها، أنه ليس معها قسٌّ حتى تُغازله. إن لينش على حق. وارتدَّ ذهن وقد خلا من النظريات ومن الشجاعة إلى هدوء فاتر. وسمع الطلبة يتحادثون. كانوا يتحدثون عن صديقين نجحا في امتحان الطب النهائي، وعن فُرَص الحصول على عملٍ في البواخر العابرة للمحيطات، وعن الوظائف الغنية والفقيرة.
– كل هذا هراء، أفضل الأعمال في الريف الأيرلندي.
– لقد قضى هاينز عامين في ليفربول، ويقول الشيء نفسه. قال إنها كانت كالهُوَّة المخيفة، لا عمل فيها سوى حالات الولادة.
– أتريد أن تقول إنه من الأفضل الحصول على عمل هنا في الريف عن العمل في مدينة غنية كهذه؟ أعرف صديقًا …
– هاينز لا عقل له. إنه لم يَصِل إلى هدفه لأنه ليس له عقل، هذا كل ما في الأمر.
– لا تهتمَّ بذلك. في الإمكان جمعُ ثروة كبيرة من العمل في مدينة تجارية كبرى.
– هذا يعتمد على نوع الزبائن.
وبلغت أصواتُهم مسامعَه كأنها آتيةٌ من بعيد في خفقٍ متقطع. كانت تتهيأ للذهاب مع رفيقاتها.
وانقطع الرذاذ الخفيف، متمهلًا في تجمعات ماسية بين شجيرات المربع، حيث تنفثُ الأرض المسودة تضوعاتِها، وأخذت أحذيتهن الدقيقة تدقُّ حين كنَّ يقفنَ على درجات البهو ذي الأعمدة، يتحدثنَ في هدوء ومراح، يتطلعنَ إلى السحب، حاملات مظلاتهن في زوايا ماكرة يتَّقينَ بها نقاط المطر الأخيرة، ثم يُغلقنَها ثانيةً، وهنَّ يُمسكنَ بفساتينهن في رصانة.
وماذا لو كان قد قسا عليها في الحكم؟ ماذا إن كانت حياتها سلسلةً بسيطة من الساعات، حياتها بسيطة وغريبة مثل حياة الطائر، مرحٌ في الصباح، وقلقٌ طوال النهار، وتعبٌ عند الغروب! ماذا لو كان قلبها بسيطًا عنيدًا مثل قلب الطائر؟
•••
وصحَا قرب الفجر، آهٍ، يا لَها من موسيقى عذبة. كانت روحها كلها يُغطِّيها الطلُّ النادي. لقد عبرت موجاتٌ باردة شاحبة من النور أطرافه في المنام. ورقد ساكنًا، كأنما ترقد روحه وسط المياه الباردة، تستشعر الموسيقى العذبة الواهنة. كان ذهنه يصحو في بطءٍ على عرفان صباحي مرتعد، إلهامٌ صباحيٌّ، لقد غمرَته روحٌ صافية كأصفى ما يكون الماء، عذبةٌ كالطل، لها سحر الموسيقى. ولكن لشدَّ ما كانت نفثاتها واهنةً لا انفعال فيها، كأنما ينفثها الملائكة أنفسهم فوقه! كانت روحه تصحو في بطء، تخاف لو تصحو كلية. كانت الساعة ساعة الهدوء في الفجر حين يستيقظ الجنون، وتتفتح نباتات غريبة للنور وتطير الفراشة بعيدًا في سكون.
نشوة الفؤاد! لقد كانت ليلةً سحرية، لقد عرف نشوة الحياة الملائكية في حلم أو في رؤيا. هل كانت لحظةً واحدة من لحظات السحر أم ساعات طويلة ودهورًا؟
وبدَت تنعكس لحظة الإلهام الآن من جميع الجوانب على الفور من جمهرة ظروف غبشاء من الأحداث التي وقعَت أو الأحداث التي قد تقع. وومضَت اللحظة كطرف الضياء، أخذ الآن شكلًا متشابكًا يغطي وهجه في رقة من سُحُب فوق سُحُب من الظروف الغامضة. آه! لقد اكتسَت الكلمة لحمًا ودمًا في رحم الخيال العذري. لقد حضر الملاك جبريل إلى غرفة العذراء، وعمق في روحه غسقٌ جديد، ذهبت عنه الطلاوة البيضاء، وعمق إلى نورٍ ورديٍّ حادٍّ. إن النور الوردي الحاد هو قلبها العنيد، غريبٌ غرابة لم يعرفها بشرٌ أو سيعرفها بعد ذلك، عنيدٌ من قبل بداية العالم، وقد استهوى ذلك الوهج الوردي الحاد جماعة الملائكة فسقطوا من السماء.
ثم ماذا؟ مات الإيقاع، توقَّف. وبدأ يتحرك ويخفق ثانيةً، ثم ماذا؟ دخان، بخورٌ يتصاعد من مذبح العالم.
وارتفع الدخان من كل الأرض، من المحيطات المبخرة، دخان مديحها، وكانت الأرض مثل المبخرة المتمايلة الراقصة، كرةً من البخور، كرةً إهليليجية. ومات الإيقاع على الفور، واختنقت صيحة فؤاده، وبدأت شفتاه تُهمهمان الأشعار الأولى مرارًا وتكرارًا، ثم انتقل منها متعثرًا في أنصاف أشعار، مترنحًا محبطًا، ثم توقَّف. لقد اختنقت صيحة فؤاده.
ومرَّت الساعة النقباء التي لا ريح فيها وبدأ يتجمَّع نورُ الصباح خلف أعراش النافذة العارية، ورنَّ جرسٌ رنينًا واهنًا بعيدًا جدًّا. وغرَّد طائر، طائران، ثلاثة طيور. وانقطع رنين الجرس وتغريد الطيور، ونشر الطيور، ونشر النور الأبيض السقيم نفسه شرقًا وغربًا، مغطيًا النور الوردي الذي يغمر فؤاده.
وخاف أن يفقد كلَّ شيء، فنهض فجأةً وارتكز على مرفقه يبحث عن ورقة وقلم، ولم يكن أيٌّ منهما على المائدة، بل وجد هناك طبقَ الحساء الذي كان يأكل الأرز منه في العشاء، والشمعدان بخيوط الشمع والثقب الورقي، وقد تركَت ذبالةُ الشعلة أثرَها عليه. ومدَّ ذراعَه متعبًا ناحية آخر السرير، منقِّبًا بيده في جيوب المعطف المعلَّق هناك. وعثرَت أصابعه على قلم وعلبة سجائر. وتمدَّد ثانيةً وفتح العلبة، ووضع آخر سيجارة فيها على حافة النافذة، وبدأ يكتب كوبليهات الفلانيل في حروف صغيرة منمقة على سطح البطاقة الخشن.
وبعد أن كتبها مرةً أخرى على الوسادة الخشنة، وهو يُهمهم بها ثانيةً. وأعادَت خشونة جزز الصوف المعقودة تحت رأسه إلى ذاكرته جزز شعر الخيل المعقودة في الأريكة التي في ردهة منزلها، والتي كان يجلس عليها، مبتسمًا أو جادًّا، سائلًا نفسه لماذا جاء، غاضبًا منها ومن نفسه، مضطربًا من صورة القلب المقدس على الصوان الخالي. ورآها تقترب منه في هدهدة من الحديث، وتطلب منه أن يغنِّيَ إحدى أغانيه العجيبة، ثم رأى نفسه جالسًا إلى البيانو القديم، يضرب الأوتار برقة على مفاتيحه الرقطاء، ويغنِّي وسط الحديث الذي ارتفع ثانيةً في الغرفة، يغني لها تلك التي انحنت إلى جانب المدفأة أغنيةً حلوة من العصر الإليزابيتي، شكوى حزينة عذبة من الفراق، أنشودة انتصار أجينكورت، ولازمة جرينسليف المرحة. وبينما كان يغني وهي تُنصت أو تتظاهر بالإنصات كان قلبه هادئًا، ولكن حين انتهت الأغاني القديمة وسمع الأصوات ثانيةً في الغرفة، تذكَّر ما كان يقوله ساخرًا من أن هذا هو المنزل الذي يُدعى فيه الشبان بأسمائهم الأولى بعد فترة أقصر من اللازم.
وكان عيناها تبدوان في لحظاتٍ معينة على وشك أن تثقَا فيه، ولكنه انتظر دون جدوى. وعبرَت الآن ذاكرته متراقصةً في خفة، كما كانت تلك الليلة في حفلة الكرنفال الراقصة، وثوبها الأبيض مرفوع قليلًا، ورذاذٌ أبيض يخفق بين شعرها. ورقصت في الحلبة في خفة. كانت ترقص متجهة نحوه، وكانت عيناها تعرضان عنه قليلًا حين تقترب منه، بينما وهج واهن يلتمع فوق خدَّيها. وعندما توقَّف الرقص، وتشابكَت الأيدي، لمسَت يداها يدَيه برهة، سلعة رقيقة.
– إنك غريبٌ عظيم الآن.
– أجل، إنني راهب بطبيعتي.
– أخشى أن تكون كافرًا.
– أتخشين ذلك كثيرًا؟
وردًّا على سؤاله رقصت مبتعدةً عنه على طول الأيدي المتشابكة، ترقص في خفةٍ وفي رصانة، ولا تُعطي نفسها لأحد، وخفق الرذاذ الأبيض لرقصها، ويعمق الوهج على خدَّيها حين تكون في الظل.
راهب! وبرزَت صورتُه إلى الأمام، دنيوي داخل دير، فرانسيسكي كافر، يريد ولا يريد أن يخدم الدين، ينسج مثل «جيرار دينو دابورجو سان دونينو»، نسيج سفسطائية لينًا ويهمس في أُذُنَيها.
كلَّا، لم تكن صورته، بل هي أشبهُ بصورة القس الشاب الذي رآها بصحبته أخيرًا، تنظر إليه بعينَي يمامة وهي تعبث بصفحات كتابها عن الجمل الأيرلندية.
– أجل، أجل النساء يقتربن منَّا، أستطيع أن أرى ذلك كل يوم، النساء معنا. أفضل عون يمكن للغة أن توفره.
– وماذا عن الكنيسة أيها الأب موران؟
– والكنيسة أيضًا تقترب منا. العمل يتقدم هناك أيضًا، لا تقلقي على الكنيسة.
هراء! لقد أحسن صنعًا حين ترك الغرفة احتقارًا. لقد أحسن صنعًا حين لم يُحيِّها على درج المكتب، لقد أحسن صنعًا حين تركها لتُغازل القس، ولكي تعبث بكنيسة هي مثل كرار المسيحية.
وقذف الغضب الحاد البهيمي بلحظات النشوة المتلكئة الأخيرة من روحه، وحطم صورتها الجميلة بقسوة وألقى بالحطام في كل الأنحاء. وانبعثَت من ذاكرته إلى كلِّ الأنحاء انعكاساتُ مشوهة لصورتها: فتاة الزهور ذات الثياب الممزقة والشعر الخشن الرطب، والوجه الفظ الذي دعَت نفسها فتاته، وطلبت إحسانه خادمة المنزل المجاور التي تغنِّي على انصفاق أطباقها، مع ثغثغة المغني الريفي الألحان الأولى من أغنية «عند بحيرات ومروج كيلارني»، الفتاة التي ضحكت في بهجة حين رأَته يتعثر إذ يشتبك نعلُ حذائه الممزق بالمشبك الحديدي في الممر عند «كورك هيل»، فتاةٌ تنظر إليها وجذبه فمُها الصغير الريان حين كانت خارجة من مصنع «يعقوب» للبسكويت، والتي صاحَت به من وراء ظهرها: هل يُعجبك ما تراه مني، الشعر المبسوط والحاجبان المعقودان؟
– هل يُعجبك ما تراه مني، الشعر المبسوط والحاجبان المعقودان؟
غير أنه شعر أنه مهما سبَّها وسَخِر من صورتها، فإن غضبه هذا شكلٌ من أشكال الخضوع. وقد ترك قاعة الدرس في ازدراء، لم يكن مخلصًا تمامًا وهو يشعر أنه ربما يكمن سرُّ جنسها وراء هاتين العينَين السوداوين اللتين تُلقي رموشُهما الطويلة ظلالًا سريعةً عليهما. لقد أخبر نفسه في مرارة؛ إذ كان يجوب خلال الطرقات، أنها شكلٌ من أشكال جنس النساء في هذا البلد، روحٌ خفاشية تستيقظ على الوعي بنفسها في ظلمة وفي خفية ووحدة، متمهلةً قليلًا، دون حبٍّ أو خطيئة، ومعها حبيبها الوديع، وتتركه لكي تهمس في آذانِ قسٍّ عن تجاوزات بريئة، ووجد غضبه منها متنفسًا في لعناتٍ قاسيةٍ موجهًا إلى حبيبها الذي يُسيء اسمه وصوته وملامحه إلى كبريائه المحبط، ريفي قسسي، له أخٌ يعمل شرطيًّا في دبلن، وأخٌ نادل حانة في «موي كولن». سوف ترفع له النقاب عن عُرْيِ روحِها الخجِل، إلى شخصٍ لم يتعلم سوى إلقاء الطقوس الجامدة، ولن ترفع له هو، قس الخيال الخالد، الذي يحول خبز التجربة اليومي إلى الجسد المضيء لحياة خالدة.
ووحدت مرةً أخرى صورة القربان المقدس المضيئة بين أفكاره المريرة واليائسة، وارتفعت صيحاتها سليمة في ترنيمة شكر.
•••
ونطق بالأبيات من السطور الأولى حتى خضبَت الموسيقى والإيقاعُ ذهنَه، وحوَّلاه إلى انغماس هادئ في الموضوع، ثم كتبها في مشقة لكي يشعر بها أفضل حين يراها، ثم تمدَّد ثانيةً على الوسادة.
وغمر نور الصبح الكون، ولم يكن يُسمع من صوت، ولكنه أدرك أن الحياةَ كلَّها من حوله على وشك الاستيقاظ في ضجيجها العادي وأصواتها الخشنة وصلواتها الناعسة. وتحوَّل ناحية الحائط مجفلًا من هذه الحياة، مغطيًا رأسه بالملاءة ومحدِّقًا في زهور أوراق الحائط الممزقة العظيمة الذابلة القرمزية. وحاول أن يُدفئ من بهجته الذاوية في وهجها القرمزي، وهو يتخيل ممرًّا ورديًّا يصعد منه إلى السماء مبطنًا كله بالزهور القرمزية. متعب! متعب! كان هو أيضًا متعبًا من الوسائل الحارة.
وطاف به دفءٌ تدريجيٌّ وتعبٌ متخاذل، مارًّا عبر عموده الفقري من رأسه المغطَّى بإحكام، وشعر به يهبط. وابتسم حين رأى نفسه وهو يرقد. سينام حالًا.
لقد كتب فيها شعرًا مرة أخرى بعد عشر سنوات. منذ عشر سنوات، كانت ترتدي وشاحًا مشدودًا حول رأسها، مرسلةً رذاذ شذاها الدافئ في هواء الليل، تدقُّ الأرض الزجاجية بقدمها. لقد كانت العربة الأخيرة، وكأنما عرفت الجياد العجفاء الداكنة ذلك، فأخذت تهزُّ أجراسها في تلك الليلة الصافية تنبيهًا للناس. وكان قاطع التذاكر يتحدث مع السائق ويُومِئان مرارًا على ضوء المصباح الأخضر. ووقفَا على درج العربة، هو على الدرجة العليا وهي على السفلى، وصَعِدت إلى درجته مراتٍ عديدةً وعادَت إلى درجتها ثانيةً، حين كانا يتبادلان الحديث، ووقفت مرةً أو مرتين بجواره في الدرجة العليا بضع لحظاتٍ ناسيةً أن تنزل، ثم تهبط ثانيةً. ما أهمية ذلك الآن؟ عشر سنوات تفصل بين حكمة الطفولة وحماقته الحالية. وماذا لو بعث لها بالأشعار؟ ستقرؤها على الإفطار وسط قرع قشر البيض. حقًّا يا لها من حماقة! سيضحك إخوتها ويحاولون أن يتخاطفوا الورق من أحدهما بأصابعهم القوية الحادة، وسيبسط القسُّ الدمث، عمها، الورقة على طول ذراعه، وهو جالسٌ في مقعده الكبير، ويقرؤها مبتسمًا ويقرظها من حيث الشكل الفني.
كلَّا، كلَّا، هذه حماقة. وحتى إذا أرسل لها الأشعار فلن تُريَها للآخرين. كلَّا، كلَّا، لن تستطيع ذلك.
وبدأ يشعر أنه قد ظلمها. ودفعه إحساسٌ ببراءتها إلى الشفقة عليها، براءة لم يفهمها أبدًا حتى بدأ يتعرف عليها عن طريق الخطيئة، براءةٌ لم تفهمها هي أيضًا حين كانت بريئة أو قبل أن ينزل بها إذلال طبيعتها الغريب أول مرة. وحينئذٍ بدأت روحها أولًا تعيش كما عاشت روحُه حين أخطأ أول مرة، وغمر قلبَه عطفٌ رقيق حين تذكَّر شحوبها الواهن وعينَيها، خاضعةً حزينةً من عار النساء المظلم.
وحين عبرَت روحُه من النشوة إلى الفتور، أين كانت هي؟ قد يكون — بطريقة غامضة من طرق الحياة الروحية — قد تكون روحها في هذه اللحظات نفسها واعيةً لخضوعه لها؟ قد يكون.
وأشعل وهجُ الرغبة روحَه ثانيةً وأشعل كلَّ جسده وأفعمه، لا بد أنها أحسَّت برغبته، وتستيقظ من النوم العاطر، غانيةُ أشعاره الفيلانيلية. وفتحت عينَيها السوداوين وفيهما نظرةُ كلال على عينَيه، واستسلم عريُّها له، مضيئًا دفيئًا عطرًا، لدن الأطراف، وضمه كالسحابة اللامعة، وضمه كالماء، كحياةٍ سيالة، وانسابَت إلى ذهنه حروفُ الكلم السيالة، رموز عنصر الإلغاز، مثل سحابة البخار أو مثل المياه المحيطة بالفضاء.
•••
•••
•••
•••
•••
أي طيورٍ كانت؟ وقف على درجات المكتبة ينظر إليها، مرتكزًا في إرهاقٍ على عصاه. كانت تطير هنا وهناك حول طرف أحد المنازع بشارع «مولس ورت». وساعد هواء مساء مارس طيرانها، وأجسادها المظلمة المرتعشة المنطلقة تطير في وضوح في صفحة الماء، كأنما هي قماشٌ ناعمٌ من الزرقة الخافتة الدخانية.
وراقب طيرانها، طيرًا وراء طير، ومضة مظلمة، مروقًا، خفقة أجنحة. وحاول أن يُحصيَها قبل أن تختفيَ أجسادها المنطلقة المرتعشة: ستة، عشرة، أحد عشر. وتساءل عمَّا إذا كانت زوجيةَ العدد أم فرديته، اثنا عشر، ثلاث عشر، فقد أقبل اثنان يمرقان من أعماق السماء، كانت تطير عالية ومنخفضة ولكن في خطوط مستقيمة ومتعرجة على الدوام، تطير دائمًا من الشمال إلى اليمين، تحوم حول معبد من معابد الهواء.
وأنصت إلى صيحاتها، مثل صراخ الفئران وراء ألواح الخشب، صوتٌ حادٌّ مضاعفٌ، ولكن الأصوات كانت طويلةُ وحادة وذات طنين، مخالفة لأزيز الفئران أو السوس، تنطلق في ثلاثة أو أربعة، وتزغرد حين تشقُّ المناقير الطائرة الهواء. كانت صيحاتها حادة واضحة لطيفة، وتنطلق كخيوط نور حريري يتفكك عن ملفه الدوار.
وهدَّأ الصخب الحيواني من مسامعه التي كان تطنُّ دومًا بنشيج والدته ولومها، وهدَّأ مشهد الأجساد المظلمة الواهنة المرتعشة، تنطلق وتخفق وتمرق حول معبد هوائي في السماء الخافتة، من ناظره الذي كان لا يزال عالقًا به صورة وجه أمه.
لماذا يُحملق إلى أعلى من على درجات الرواق، يستمع إلى صيحاتها الحادة المضاعفة، ويراقب طيرانها، النبوءة حسنة أم سيئة؟ وطافَت على ذهنه عبارةٌ من «كورنيليوس أجريبا»، ثم طافت هنا وهناك أفكارٌ لا شكل لها من سويدنبرج عن مراسلات الطيور إلى أمور الفكر، وكفية حصول المعرفة لمخلوقات الهواء وإدراكهم لأوقاتهم وفصولهم؛ لأنهم — على نقيض الإنسان — على طبيعة أمرهم وسجيتها، ولم يُفسدوا هذه الطبيعة بالنظام أو بالفعل.
وقد حملق الإنسان دهورًا ودهورًا إلى أعلى لمراقبة الطيور كما يفعل الآن. وبعث الرواق الذي يرتفع أمامه إلى فكره في غموض بصورة معبد قديم، والعصا التي يستند إليها بعصا متنبِّئ ملتوية. وتحرَّك إحساسٌ بالخوف من المجهول في قرار تعبه، خوف من الرموز والنذير، من الرجل الذي يُشبه البازي والذي يحمل اسمه، ينطلق من أَسْره على أجنحةٍ مصنوعة من خوص الصفصاف، من «ثوث» إله الكُتَّاب، يكتب بقصبة غاب على لوح ويحمل على رأسِه الضيِّق الطيري القمر المتوَّج.
وابتسم حين فكَّر في صورة الإله، فقد جعلَته يفكر في قاضٍ بشعره المستعار وأنفه القاروري، يضع الفواصل في وثيقة يرفعها على امتداد ذراعه، وأدرك أنه لو لم يكن اسم الإله يطابق قسمًا أيرلنديًّا لمَا أمكنه أن يتذكره. كان ذلك حمقًا، ولكن، أمن أجل تلك الحماقة يوشك الآن أن يترك إلى الأبد موطن الصلاة والبصيرة، الذي وُلد فيه ونظام الحياة الذي نتج عنه؟
وعادَت الطيور ثانيةً بصيحاتها الحادة على أطراف المنزل تطير عبر الهواء الذاوي. أي طيور كانت؟ أعتقد أنها طيور الخطاف وقد عادت من الجنوب. ثم كان عليه أن يرحل؛ لأنها كانت طيورًا تذهب وتجيء على الدوام، ثم تبني دائمًا أعشاشًا غير دائمة تحت أطراف منازل الإنسان، وترحل دائمًا عن الأعشاش التي بنَتها لكي تجول.
وانبثقَت في ذاكرته بهجةٌ رقيقة سيالة مثل صخب مياه دفاقة، وشعر في فؤاده بالهدوء الرقيق السلمي للفضاءات الساكنة، للسماء الذاوية الخافتة فوق المياه، للسكون المحيطي، للخطافات تطير عبر غبشة البحر فوق المياه الدافقة.
وطافَت بهجةٌ رقيقة سيالة خلال الكلمات التي تهبُ فيها الحروف المتحركة الطويلة الرقيقة دون صخب ثم تسقط ثانيةً، منثنية، ثم تتدفق ثانيةً وتهزُّ أبدًا أجراس موجاتها البيضاء، في رنينٍ أخرس وصلصلة خرساء وصيحة غاشية رقيقة خفيضة. وشعر أن النبوءة التي نشدها في الطيور المنطلقة السارية، وفي فضاء السماء الشاحب فوقه قد انبثقت من فؤاده مثل انبثاق الطير من أحد أبراجه، في هدوء وفي خفة.
رمز الرجل أم رمز العزلة؟ ورنَّت الأشعار في آذانِ ذاكرتِه وهي تُشكِّل أمام ناظره المتذكر منظرَ الردهة في ليلة افتتاح المسرح الوطني. كان وحيدًا في جانب البلكون، ينظر من عيونٍ خابيةٍ إلى ثقافة دبلن وهي تجلس على المقاعد، وإلى ملابس التمثيل المبهرجة، والعرائس الآدمية التي تحيط بها الأضواء الباهرة على المسرح. وكان خلفه رجل شرطة ينضح عرقًا، ويبدو كل لحظة وكأنه سيقوم بوظيفته. وملأ القاعةَ المواءُ والأزيز وصيحات السخرية في هتافات حادة من زملائه الطلبة:
– قذف في حق أيرلندا!
– صُنع في ألمانيا.
– كفر.
– لم نَبِع ديننا أبدًا.
– لم تفعل امرأةٌ أيرلندية هذا من قبلُ أبدًا.
– لا نريد كفارًا هواة.
– لا نريد بوذيين جددًا.
وترامى إليه أزيزٌ من النافذة وأدرك أن المصابيح الكهربية قد أُضيئت في قاعة القراءة بالمكتبة. وتحوَّل إلى ردهة الأعمدة وقد أُضيئت الآن إضاءة هادئة، وصَعِد إلى الطابق الأعلى ومرَّ من الحاجز الدوار الدقاق.
وتطلَّع كرانلي خلفه في بلادة وغموض، واستمر طالب الطب في قراءته في صوتٍ أكثر رقة:
– البيدق إلى خانة الملك الرابعة.
فقال ستيفن محذِّرًا: أفضل لنا أن نذهب يا ديكسون، فقد ذهب يشكونا.
وطوى ديكسون الجريدنة، ونهض في هيبة قائلًا: وعادت قواتنا إلى مقرها سالمة.
فأضاف ستيفن وهو يُشير إلى عنوان كتاب كرانلي الذي كتب عليه «أمراض الثيران»: محملين بالبنادق والماشية.
وبينما كانوا يعبرون صفوف الموائد، قال ستيفن: أودُّ أن أتحدَّث معك يا كرانلي.
ولم يُجِب كرانلي أو يستدِر، ووضع كتابه على المكتب وخرج وقدماه المغطَّتان بالصوف تدقان في فتورٍ على الأرض. وتوقَّف أسفل الدرج وحملق في ذهول إلى ديكسون وردَّد: البيدق إلى خانة الملك الرابعة اللعينة.
فقال ديكسون: كما تريد.
كان صوته هادئًا لا نغمة فيه، وأخلاقه مهذبة، ويرتدي في إصبع من أصابع يده النظيفة السمينة خاتمًا منقوشًا باسمه. وحين كانوا يعبرون الردهة اتجه نحوهم رجلٌ ذو بنية قرمزية. وبدا وجهه غير الحليق يبتسم في سرورٍ تحت قبة قبعته الدقيقة، وسمعوا همهماته، وكانت عيناه كئيبتَين كعينَي القرد.
قال الوجه الشائك القردي: مساء الخير يا سادة.
فقال كرانلي: جوٌّ دافئٌ بالنسبة لشهر مارس. لقد فتحوا النوافذ في الطابق الأعلى.
وابتسم ديكسون وأدار خاتمه، ولوى الوجهُ الأسود ذو التجاعيد القردية فمَه الآدمي في سرورٍ رقيقٍ، وبدأ صوته يهر: جوٌّ بهيج في مارس، بهيجٌ للغاية.
قال ديكسون: هناك آنستان لطيفتان أتعبهما الانتظارُ في الطابق الأعلى يا كابتن.
فابتسم كرانلي وقال في عطف: للكابتن جرام واحد فقط: السير «وولتر سكوت». أليس كذلك يا كابتن؟
فسأل ديكسون: ماذا تقرأ الآن يا كابتن: «عروس لامرمور»؟
فقالت الشفتان المرنتان: إني أحب سكوت القديم، أعتقد أنه كتب أشياء جميلة. ليس هناك من كاتبٍ يُقارَن بسير «وولتر سكوت».
ولوَّح في الهواء في رقة بيده النحيلة المتقلصة البُنِّية ليؤكد مديحه، بينما تخفق رموشه النحيلة السريعة على عينَيه الحزينتَين.
وكان حديثه أشدَّ بعثًا للحزن في قلب ستيفن، لهجة مهذبة، خفيضة ندية مملوءة بالأخطاء. وتساءل وهو يستمع إليه هل حقًّا ما يُشاع عن أن الدم الذي يسري في جسده المتقلص دمٌ أزرق نتج عن حبٍّ بين المحارم؟
كانت أشجار المتنزه مثقلةً بالمطر، والمطار ما يزال يتساقط على الدوام في البحيرة التي تنبسط مثل الدرع. وعبر فيها سربٌ من البجع، وتعكَّرت المياه والشاطئ من مخاطها الأبيض المخضوضر. كانا يتعانقان في رقة، دعاهما إلى ذلك العناق النور الرمادي الممطر، والأشجار المبتلة الصامتة ووجود البحيرة التي تُشبه الدرع، والبجعات. كانَا يتعانقان دون لذة أو عاطفة، وذراعه حول رقبة أخته، وكانت عباءة صوفية رمادية ملفوفة عليها من الكتف حتى الخصر، وكان رأسها محنيًّا في خجلٍ إراديٍّ، وكان شعرُه مرسلًا أحمرَ بُنيًّا، ويداه رقيقتَي التكوين قويَّتَين، ووجهه؟ لم يكن يُرى له وجه. كان وجه الأخ محنيًّا على شعرها الجميل المحمل بالمطر، وكانت اليد المنمشة القوية الرقيقة المهدهدة هي يد دافن.
وعند الأعمدة كان «تمبل» واقفًا وسط مجموعة صغيرة من الطلاب، وصاح واحدٌ منهم: تعالَ يا ديكسون لكي تسمع، إن تمبل في أحسن مزاج.
وأدار «تمبل» عينَيه السوداوَين الغجريَّتَين نحوه، وقال: إنك منافقٌ يا «أوكيف»، وديكسون بشوش، بحق الجحيم، أعتقد أن هذا تعبير أدبي طيب.
وضحك في خبثٍ، وهو ينظر في وجه ستيفن ويردد: بحق الجحيم، إني أحب هذه الصفة، بشوش.
وقال طالبٌ بدين كان يقف تحتهم على الدرج: عُد إلى حكاية العشيقة يا تمبل. نريد أن نسمعها.
فقال تمبل: كان له واحدة، وكان فوق ذلك متزوجًا. وكان جميع القسس معتادين على الغداء هناك. بحق الجحيم، أعتقد أنهم يفعلون ذلك كلهم.
فقال ديكسون: نحن ندعو ذلك «ركوب الحمار لتوفير الجواد».
فقال «أوكيف»: أخبرْنا يا تمبل كم من أرباع الجالونات من البيرة السوداء يحتويها بطنك؟
فقال تمبل في ازدراء واضح: إن روحك المفكرة كلها في هذه العبارة يا أوكيف.
وسار في عرج خفيف حول المجموعة، وتحدَّث إلى ستيفن وسأله: هل علمت أن آل فورستر هم ملوك بلجيكا؟
وأقبل كرانلي من باب مدخل الردهة، وقبعته ملقاة على قذاله، وهو ينظف أسنانه بعناية.
وقال تمبل: وها هو المتفلسف، هل تعلم ذلك عن آل فورستر؟
وصمت انتظارًا للرد، وأزاح كرانلي بذرة تين من بين أسنانه بطرف عود سواكة، وحملق فيها في إمعان.
قال تمبل: تنحدر أسرة فورستر من بولدوين الأول ملك الفلاندرز، وكان يُدعى فوريستر، وفوريستر وفورستر هما نفس الاسم. واستقر سليل لأسرة بولدوين الأول، وهو الكابتن فرانسيس فورستر في أيرلندا، وتزوج ابنة آخر عميد لأسرة كلانبراسيل، ثم هناك آل بليك فورستر، وهم فرع آخر.
وسأل «أوكيف»: من أين لك كل هذه المعلومات التاريخية؟
فقال تمبل وهو يستدير إلى ستيفن: إني أعلم التاريخ لعائلتك أيضًا، هل تعلم ماذا يقول «جيرالدوس كامبرنسس» عن عائلتك؟
فسأل طالب طويل مصدور له عينان سوداوان: أهو سليل بولدوين أيضًا؟
فردَّد كرانلي وهو يمتصُّ فجوة ما بين أسنانه: بولدهيد.
وأطلق الطالب البدين الذي يقف تحتهم على الدرج ريحًا خفيفًا، وتحوَّل ديكسون نحوه وقال في صوت رقيق: هل يتكلم أحد الملائكة؟
وتحوَّل كرانلي أيضًا نحوه وقال في حدة، ولكن بدون غضب: جوجنز، أتعلم أنك أكثر الشياطين الذين قابلتهم ناريةً وقذارة.
فأجاب جوجنز في ثبات: لقد قلت ما كنت أفكر فيه. إني لم أُصِب أحدًا بضرر، أليس كذلك؟
فقال تمبل وهو يلتفت يمنةً ويسرة: ألم أقل لكم إنه بشوش. ألم أُطلق عليه هذه الصفة؟
فقال المصدور الطويل: أجل قد فعلت ذلك، لسنا أصمَّين. وكان كرانلي لا يزال عابسًا في وجه الطالب البدين الذي يقف تحتهم، ثم دفعه أسفل الدرج في عنف وهو يُطلق خوار ازدراء، وقال له في حدة: ابتعد عن هنا، اذهب أيها النتن، وإنك لنتنٌ حقًّا.
وقفز جوجنز إلى أسفل حتى وصل إلى الرمال، ثم عاد على الفور إلى مكانه في مزاج حسن. والتفت إلى ستيفن وسأله: هل تؤمن بقانون الوراثة؟
فسأله كرانلي وهو يواجهه بتعبير تعجب: أأَنت ثَمِل أو ما أنت أو ماذا تحاول أن تقول؟
فقال تمبل في حماس: إن أكثر العبارات المكتوبة عمقًا هي العبارة التي في آخر كتاب علم الحيوان، إن التوالد هو بداية الموت.
ولمس ستيفن في وجل عند مرفقه، وقال له في لهفة: هل تشعر كم هي عميقة بما أنك شاعر؟
وبسط كرانلي سبابته الطويلة نحوه، وقال للآخرين في ازدراء: انظروا إليه، انظروا إلى أمل أيرلندا!
وضحكوا من كلامه وإشارته. والتفت تمبل نحوه بشجاعة قائلًا:
إنك تسخر مني دائمًا يا كرانلي، إنني أُدرك ذلك، ولكني لا أقلُّ عنك شيئًا بأي حال. هل تدري بماذا أفكر فيك الآن عند مقارنتك بي؟
فقال كرانلي في أدب: يا رجلي العزيز، أتدري أنك لا تقدر، لا تقدر أبدًا على التفكير.
فاستمر تمبل يقول: ولكن أتدري بماذا أفكر فيك وفي نفسي عند المقارنة بيننا؟
وصاح الطالب البدين من على الدرج: علينا بها يا تمبل، قُلْها لنا كلمة كلمة!
والتفت تمبل يمنةً ويسرة وهو يقوم بإشارات واهنة مفاجئة وهو يتحدث، وقال وهو يهزُّ رأسه في يأس: إنني مغفل، إنني كذلك وأنا أعرف، وأعترف أنني كذلك.
وربَّت ديكسون على كتفه بلطف وقال في وداعة: وهذا ما يزيدك شرفًا يا تمبل.
فقال تمبل وهو يشير إلى كرانلي، غير أنه هو مغفل كذلك مثلي، ولكن الفرق أنه لا يعرف ذلك. وهذا هو الفارق الوحيد الذي أراه.
فقال ستيفن في غموض: أحقًّا؟
كان يلحظ وجهَ كرانلي ذا الملامح الثابتة وهو يقاسي، وقد أضاءَته الآن ابتسامة اصطبار زائف. لقد مرَّ اللقب الجارح عليه، مثل انصباب الماء القذر على تمثال قديم من الحجر، مصطبرًا على المكاره. وإذ كان يلحظه، رآه يرفع قبعته محيِّيًا ويكشف شعره الأسود، الذي يقف عند جبهته متصلبًا مثل التاج الحديدي.
عبرَت ممرَّ المكتبة وانحنَت تجاه ستيفن ردًّا على تحية كرانلي، أهو أيضًا؟ ألم يَجُل احمرارٌ خفيف على وجنة كرانلي؟ أم هل كان ذلك راجعًا إلى كلمات تمبل؟ لقد ذوَى الضوء. لم يَعُد باستطاعته أن يرى.
أهذا يفسِّر صمتَ صديقه الفاتر، وتعليقاته الجارحة، وإدخاله المفاجئ للعبارات الجافة التي كان يحطم بها اعترافات ستيفن الحارة العنيدة؟ وقد غفر ستيفن له بسخاء لأنه وجد نفس الغلظة في نفسه هو أيضًا. وتذكَّر الأمسية التي ترجَّل فيها من على دراجةٍ قديمة مستعارة؛ لكي يصلي إلى الله في إحدى الغابات بالقرب من «مالاهيد». لقد رفع ذراعَيه وتكلَّم في نشوة إلى محور الأشجار المعتم، وهو يعلم أنه يقف على أرض مقدسة وفي ساعة مقدسة. وحين ظهر جنديان عند منحنى الطريق الكئيب قطع صلاته، وأخذ يصفر عاليًا بأحد ألحان التمثيلية الحركية الأخيرة.
وبدأ يضرب طرف عصاته المتآكل على أرضية أحد الأعمدة. ألم يسمعه كرانلي؟ ومع ذلك فبإمكانه أن ينتظر. وانقطع الحديث الدائر حوله لحظة وسُمع حفيف خفيف مرةً أخرى من نافذة الطابق العلوي. ولكن لم يكن من صوت آخر في الهواء، ونامت الخطاطيف التي كان يراقب طيرانها بعيون فاترة.
لقد مرت خلال العتمة. وعلى ذلك فإن الهواء ساكنٌ إلا من حفيف خفيف واحد. وعلى ذلك فقد سكتت الألسنة من حوله عن هذرها. كانت الظلمة تسقط.
الظلمة تساقط من الهواء.
ولعبت بهجة مرتعدة كالمضيف السحري من حوله، برَّاقة كالنور الواهن، ولكن لماذا؟ من أجل مرورها خلال الهواء المعتم أو الشعر بحروفه المتحركة السوداء ورنته العريضة الغنية التي تُشبه رنة العود؟
عيونٌ تتفتح من ظلمات الرغبة، عيون أظلمت شروق الفجر. ما طلاوتها المتراخية إلا رقة مصطنعة، وما تألُّقها إلا تألُّق الرغوة التي تغطِّي بالوعة بلاط الملك ستيورات المهذار. وذاق من خلال لغة الذاكرة الأنبذة المعنبرة، الخفقات الأخيرة للألحان العذبة، الرقصات المزهوة، ورأى بعينَي الذاكرة السيدات المهذبات العطوفات في «كوفنت جاردن»، يتودَّدن من مقاصيرهن بشفاهٍ امتصاصية، وصبايا الحانات ذوات البثور والزوجات الشابات، يستسلمن للغواة يداعبونهن مرات ومرات.
ولم تبعث فيه الصور التي استدعاها لذهنه أيَّ مسرة. كانت صورًا خفيةً ملهبة، ولكن صورتها لم تكن مشتبكة بها. ليست هذه بالطريقة التي يجب أن يفكر بها فيها، بل ليست بالطريقة التي فكر فيها قبل ذلك، ألَا يثقُ ذهنُه بنفسه إذن؟ عباراتٌ قديمة، ليست بالجميلة إلا الجمال الذي يكشف عن المخبوء، مثل بذور التين التي ينزعها كرانلي عن أسنانه اللامعة.
لم تكن بأفكار أو رؤى، رغم أنه يعلم علمًا مبهمًا أن شخصها يتجه إلى المنزل خلال المدينة. وشمَّ جسدها بغموض أولًا ثم بحدة أكثر، وغلَى قلقٌ واعٍ في دمائه. أجل، هو جسدها الذي اشتمه، رائحةٌ جامحة كليلة، الأطراف اللينة التي طافَت موسيقاه عليها في اشتياق، والكتان الخفي اللين الذي يستقطر جسدها عليه العبير والطل.
وزحفت قملةٌ على قذاله، فدسَّ إبهامه وسبَّابته بخفةٍ تحت ياقته المفتوحة وأمسك بها، وضغط على جسدها الرقيق الشائك مثل حبة الأرز بين الإبهام والإصبع برهةً ثم تركها تسقط، وتساءل عما إذا كانت ستموت أم تحيا بعد ذلك. وقفزت إلى ذهنه عبارة غريبة ﻟ «كورنيليوس آلابيد»، يقول فيها إن القملة التي تنتج عن العرق الآدمي، لم يخلقها الله مع الحيوانات الأخرى في اليوم السادس. ولكن دغدغة جلد عنقه جعلت ذهنه فجًّا متوهجًا، وجعلته حياة جسده السيِّئ الملبس، السيِّئ المطعم، الذي يطؤه القمل، يُغلق جفنَيه في دفعة يأس مفاجئة، ورأى في الظلمة أجسامَ قمل مضيئة تسقط من الهواء، وتستدير غالبًا قبل أن تسقط. أجل، ولم تكن الظلمة ما يسقط من الهواء، بل الضياء.
الضياء يساقط من الهواء.
لم يكن قد تذكَّر شعر «ناش» تذكُّرًا صحيحًا. وكل ما أثارته الكلمة السابقة كانت صورًا زائفة. إن ذهنه يولد الدود، أفكاره قملة تولدت عن عَرَق الكسل.
وعاد مسرعًا على طول الرواق نحو جماعة الطلبة. حسنًا، لتذهب وعليها اللعنة! فلتحب أحد الرياضيِّين النظيفين، يغسل نفسه كل صباح حتى الخاصرة، ولديه شعرٌ أسود على صدره، فلتفعل ذلك.
وكان كرانلي قد تناول تينةً جافة أخرى من المخزن في جيبه، وأخذ يأكلها في بطءٍ وبصوتٍ مسموع، وجلس تمبل على قاعدة العمود، منحنيًا إلى الخلف، وقبعته تغطِّي عينَيه الناعستَين.
وخرج شابٌّ مكتنزٌ من الممر وقد ثبَّت تحت إبطه محفظة جيب جلدية، وسار ناحية الجماعة وهو يضرب البلاط بكعب حذائه، وبالحلقات الحديدية لمظلته الثقيلة، ثم رفع المظلة محييًا وقال موجهًا حديثه للجميع: مساء الخير يا سادة.
وضرب البلاط ثانيةً وابتسم ابتسامةً متكلفة، بينما رأسه يهتز في حركات عصبية خفيفة. وكان الطالب المصدور الطويل و«ديكسون» وأوكيف يتحدثون بالأيرلندية ولم يردوا عليه. فقال وهو يلتفت إلى كرانلي: مساء الخير، خصيصًا لك.
ولوَّح بمظلته تعبيرًا عن ذلك وابتسم ثانيةً في تكلُّف، وردَّ عليه كرانلي الذي كان ما يزال يمضغ التين بحركاتٍ عاليةٍ من فكَّيه: خير؟ أجل إنه مساء خير.
ونظر إليه الطالب المكتنز في جدية، وهزَّ مظلتَه في لطف ولوم، قال: أستطيع أن أُدرك أنك على وشك أن تُدليَ ببعض الملاحظات.
فردَّ كرانلي: «ها» وهو يخرج بما تبقى من نصف التينة الممضوغ، ويهزُّها تجاه فم الطالب بحركة تدل على أنه يجب أن يأكلَها.
ولم يأكلها الطالب المكتنز بل سدر في مزاجه الخاص، وقال في رزانة وهو لا يزال يبتسم في تكلُّف وينخس عبارته بمظلته: هل تقصد ذلك …؟
وقطع حديثه، وأشار في بلادة إلى لباب التينة الممضوغ، وقال بصوت مرتفع: أعني هذا.
فعاد كرانلي يقول: ها.
فقال الطلب القصير: هل تعني ذلك كحقيقة واقعة أو — فلنقل — مجرد كلام؟
وتحوَّل ديسكون عن جماعته قائلًا: كان جوجنز بانتظارك «يا جلن»، وقد ذهب إلى «أدلفي»، ليبحث عنك وعن «موينيهان».
ثم سأل وهو يُربِّت على المحفظة التي تحت ذراع «جلن»: ماذا عندك هنا؟
فردَّ جلن: أوراق امتحانات، إنني أعقد لهم امتحانات شهرية لأرى ما إذا كانوا يستفيدون من دروسي الخصوصية.
وربَّت هو أيضًا على المحفظة، وسعل في رقة وابتسم.
فقال كرانلي في غلظة: دروس خصوصية! أعتقد أنك تعني الأطفال الحفاة الذين يُدرِّسهم قردٌ لعينٌ مثلك. ليساعدهم الله!
وقضم بقية التينة وألقى بالعنقود بعيدًا.
وقال «جلن» في ودٍّ: إني أدعو الأطفال الصغار لكي يأتوا إليَّ. فردَّد كرانلي بإصرار: قردٌ لعين، قردٌ لعين كافر!
ونهض تمبل وأبعد كرانلي ثم خاطب «جلن» قائلًا: إن العبارة التي قلتها الآن مأخوذة من العهد الجديد عن قول المسيح: أدعو الصغار يأتون إليَّ.
فقال «أوكيف»: عُدْ إلى النوم ثانيةً يا تمبل.
فاستطرد تمبل وهو ما زال يخاطب «جلن»: حسنًا جدًّا إذن. وإذا كان يسوع سيدعو الصغار للذهاب إليه، فلماذا تُرسل بهم الكنيسة جميعًا إلى الجحيم، إن ماتوا دون تعميد؟ لماذا هذا؟
فسأله الطالب المصدور، وهل عُمدت أنت نفسك يا تمبل؟
فقال تمبل وعيناه تجوسان في عينَي «جلن»: ولكن لماذا يرسلون إلى الجحيم، ويسوع يقول إنهم كلهم سيأتون إليه؟
فسعل جلن، وقال في لطف وهو يُمسك بصعوبةٍ الضحكةَ العصبية في صوته، ويهز مظلته عند كل كلمة: إذا كانت الحالة كما تقول، فإني أتساءل تساؤلًا مبرمًا من أين نشأت هذه الحالة؟
فقال تمبل لأن الكنيسة قاسيةٌ مثل جميع الخطاة الكبار.
فقال ديكسون في دماثة: هل أنت أرثوذكسيًّا مثاليًّا في هذه النقطة يا تمبل؟
فردَّ تمبل: ويقول القديس «أوغسطين» الشيء نفسه عن ذهاب الأطفال غير المعمدين إلى الجحيم؛ لأنه كان خاطئًا كبيرًا قاسيًا كذلك.
فقال كرانلي في وحشية: لا تناقش معه يا ديكسون، لا تتحدث إليه أو تنظر إليه، بل قُده باللجام إلى منزله كما تفعل بالماعز الثاغية.
وصاح تمبل: اليمبوس! إنه اختراع عظيم أيضًا، مثل الجحيم.
فقال ديكسون: ولكنه خالٍ من المزعجات.
وتحوَّل مبتسمًا نحو الآخرين وقال: أعتقد أنني أردِّد آراءَ كلِّ الحاضرين بكلامي هذا.
فقال جلن في لهجة حازمة: أجل، في هذه النقطة أيرلندا متحدة.
وضرب الحلقات الحديدية في مظلته على أرض الرواق الحجرية.
قال تمبل: يا للجحيم، إني أستطيع أن أحترم اختراع امرأة الشيطان الرمادية، الجحيم، روماني، مثل جدران الرومان القوية القبيحة، ولكن ما هو اليمبوس؟
وصاح أوكيف: أعِدْه إلى عربة الأطفال يا كرانلي.
وخطا كرانلي خطوةً واسعة نحو تمبل، ثم توقَّف ودقَّ قدمه، وصاح كأنما يخاطب دجاجة: «هش»!
وابتعد تمبل من أمامه في خفة.
وصاح: ألَا تعرف ما هو اليمبوس؟ أتعرف ماذا نُسمي مثل هذه الفكرة عندنا في «روسكومون»؟
وصاح كرانلي وهو يصفق بيدَيه: هش، لعنك الله!
فصاح تمبل في ازدراء: لا عيرًا ولا نفيرًا، هذا هو اليمبوس كما أسمِّيه.
فقال كرانلي: أعطني هذه العصا.
وجذب العصا في خشونة من يد ستيفن، وهبط الدرج قافزًا، ولكن تمبل سَمِعه يتجه نحوه فاختفى في العتمة كالحيوان البري، خفيفًا سريع القدمين. وسمعوا حذاء كرانلي الثقيل يطارده في صخب عبر الفناء المربع، ثم عاد متثاقلًا، مهزومًا، وهو يدفع الحصباء عند كل خطوة من خطواته.
كانت خطواته غاضبة، ودفع العصا ثانيةً إلى يد ستيفن بحركة غاضبة مفاجئة. وشعر ستيفن أن لغضبه سببًا آخر، ولكنه تظاهر بالصبر، ولمس ذراعه برفقٍ وقال في هدوء: كرانلي، لقد أخبرتك أنني أريد التحدث إليك … تعال.
ونظر إليه كرانلي بضع لحظات، ثم سأله: الآن؟
فقال ستيفن: أجل الآن، لا نستطيع الحديث هنا. لنمضِ.
وغادرا الفناء المربع معًا في صمت، وتبعَتهم من درج الممر صيحاتُ الطائر من أغنية سيجفريد تتردد في صفير رقيق. والتفت كرانلي، وصاح بهما ديكسون الذي كان يصفر قائلًا: إلى أين تذهبان؟ ماذا عن تلك اللعبة يا كرانلي؟
وتباحثا عن طريق الصيحات عبر الهواء الساكن عن لعبة بلياردو ستُقام في فندق «أدلفي». وسار ستيفن وحده وخرج إلى هدوء شارع كلوار أمام فندق «مابل». وتوقَّف منتظرًا في صبر مرةً أخرى، وأثار فيه اسم الفندق وخشبه اللامع الذي لا لون له وواجهته التي لا لون لها، وخزةً كأنما هي نظرة احتقار مؤدب. وأعاد النظر في غضب إلى غرفة الاستقبال المضاء إضاءة خفيفة، حيث تخيُّل الحياة الملساء لطبقة الأشراف في أيرلندا وقد سكنت في هدوء، يفكرون في لجان الجيش ووكلاء الأراضي والفلاحين يحيُّونهم على طول الطرقات في الريف، ويعرفون أسماء أطعمة فرنسية معينة، ويُصدرون الأوامر إلى سائقي العربات في أصوات ريفية عالية النبرات تخترق حُجُبَ لهجاتهم.
كيف يمكنه أن يَصِل إلى ضمائرهم، أو كيف يعرض ظله على خيالات بناتهم قبل أن يتناسل منهن أقاربهم من الأشراف، حتى يُنجبوا جنسًا أقل خسةً من جنسهم؟ وشعر تحت وطأة الغبشة المتزايدة بأفكار ورغبات الجنس الذي ينتمي إليه، تمرق كالخفافيش خلال حواري الريف المظلمة، تحت أشجار تقع على حواف الجداول وقرب المستنقعات المرقشة. كانت إحدى النساء تقف على الباب، حين مر «دافن» في الليل، وقدَّمت له كوبًا من اللبن ثم دعَته إلى فراشها، فقد كان ﻟ «دافن» عينان وديعتان تنمَّان عن شخص يكتم السر، ولكن لم تدعه عينَا امرأة قط.
وقبضت يدٌ قوية على ذراعه، وقال صوت كرانلي: فلننزع وجودنا من هنا.
وسار جنوبًا في صمت، ثم قال كرانلي: هذا المهذار الأبله تمبل — أتعرف؟ — أُقسم بموسى أنني سأكون السبب في موت هذا الشخص يومًا.
ولكن صوته لم يكن غاضبًا. وتساءل ستيفن هل كان يفكر في تحيَّتها له عند الممر.
واستدار إلى اليسار وسارا كما كانا قبل ذلك. وبعد مدة من الوقت قال ستيفن: لقد تشاجرتُ مشاجرةً عنيفةً هذا المساء يا كرانلي.
فسأل كرانلي: مع أسرتك؟
– مع أمي.
– حول الدين؟
فردَّ ستيفن: أجل.
فسأل كرانلي بعد صمت: ما عمر والدتك؟
فقال ستيفن: ليست عجوزًا، إنها تريدني أن أؤدي طقوس عيد الفصح.
– وهل ستفعل؟
فقال ستيفن: لن أفعل.
فقال كرانلي: ولِم لا؟
فقال كرانلي في هدوء: لقد قيلت هذه الملاحظة قبل ذلك.
فقال ستيفن في حرارة: وها أنا أقولها الآن بدوري.
وضغط كرانلي ذراع ستيفن قائلًا: على رسلك يا رجلي العزيز. أتعرف أنك رجلٌ لعينٌ سريع الغضب؟
وضحك في عصبية إذ هو يتحدث، وتطلَّع إلى وجه ستيفن بعينين ودودتَين متأثرتَين، وقال: هل تعرف أنك رجل سريع الغضب؟
فقال ستيفن وهو يضحك كذلك: أظن أنني كذلك.
وبدا كما لو أن عقلَيهما اقتربا فجأة بعد أن اغتربا عن أحدهما الآخر في المدة الأخيرة.
وسأل كرانلي: هل تؤمن بالقربان المقدس؟
فقال ستيفن: كلَّا.
– هل تكفر به إذن؟
فردَّ ستيفن: إنني لا أومن به ولا أكفر به.
فقال كرانلي: لكثير من الناس شكوكهم، حتى الدينيِّين منهم، ورغم ذلك فهم يقهرونها أو يُزيحونها. هل شكوكك في هذا المجال قوية جدًّا؟
فردَّ ستيفن: إني لا أريد أن أقهرها.
وأفحم كرانلي برهةً، فتناول تينةً أخرى من جيبه، وكان على وشك أن يأكلَها حين قال ستيفن: لا تفعل أرجوك، إنك لا تستطيع مناقشة هذه المسألة، وفمك مملوء بالتين الممضوغ.
وفحص كرانلي التينة تحت نور مصباح توقَّف تحته، ثم قسمها وألقى بالتينة في غلظة إلى المجاري، وخاطبها في مرقدها هناك قائلًا: اغربي عني أيتها الملعونة إلى جنهم الأبدية.
ثم تناول ذراعَي ستيفن ومضى معه ثانيةً، وقال: ألَا تخشى أن تُردد تلك الكلمات على مسامعك في يوم الحساب؟
فسأله ستيفن: وماذا يقدمون لي في الجانب الآخر؟ أبديةٌ من السعادة في صحبة عميد الدراسات؟
فقال كرانلي: تذكَّر أن المجد سيكون من نصيبه.
فقال ستيفن في شيء من المرارة: آه، مضيء، لا يُضار، وفوق كل شيء، ماكر.
فقال كرانلي في غير حرارة: أتعلم أنه شيء عجيب، كيف أن عقلك مشبعٌ بالدين الذي تقول إنك تكفر به. هل كنت تؤمن به حين كنت في المدرسة؟ أراهن أنك كنت تؤمن به؟
فردَّ ستيفن: كنت أومن به.
فسأله كرانلي في لطف: وهل كنت أكثر سعادة آنذاك؟ أكثر سعادة مما أنت الآن مثلًا؟
فقال ستيفن: كنت سعيدًا حينًا وغير سعيد حينًا. كنت شخصًا مختلفًا آنذاك.
– كيف كنت شخصًا مختلفًا؟ ماذا تعني بهذه العبارة؟
فقال ستيفن: أعني أنني لم أكن أقرب إلى نفسي مثلما أنا الآن، وكما يجب أن أصبح.
فردَّد كرانلي: لست كما أنت الآن، ولست كما يجب أن تصبح، دَعْني أسألك سؤالًا، أتحب أمك؟
فهزَّ ستيفن رأسه في بطء، وقال: لست أدري ماذا تعني بذلك؟
فسأل كرانلي: ألم تُحب أحدًا على الإطلاق؟
– أتعني من النساء؟
فقال كرانلي في لهجة أكثر برودًا: إنني لا أتحدث عن ذلك، إنما أسألك ألم تشعر بحب تجاه أي شخص أو أي شيء؟
وسار ستيفن إلى جانب صديقه، وهو يتطلع في كآبة إلى الطريق.
وقال أخيرًا: لقد حاولت أن أحب الله. ويبدو الآن أنني قد فشلت، إن ذلك صعبٌ جدًّا. لقد حاولت أن أوحد إرادتي مع إرادة الله لحظةً بلحظة، ولم أفشل دائمًا في هذا الجانب، وربما استطعت أن أستمر في ذلك …
وقاطعه كرانلي بالسؤال: أكانت أمك سعيدة في حياتها؟
فقال ستيفن: وأنَّى لي أن أعرف.
– كم طفلًا لديها؟
فردَّ ستيفن: تسعة أو عشرة، مات بعضهم.
– وهل كان والدك …
وقطع كرانلي حديثه برهة ثم قال: لا أود أن أنبش في شئونك العائلية، ولكن هل كان والدك ما تدعوه ميسور الحال؟ أعني، حين كنت طفلًا؟
فقال ستيفن: أجل.
فسأل كرانلي بعد صمت: وماذا كان يعمل؟
وبدأ ستيفن يحصي بذلاقةٍ أعمال والده.
طالب طب، ضاربٌ بالمجداف، مغنِّي «تينور»، ممثلٌ هاوٍ، سياسيٌّ فصيح، مالك أرض صغير، مستثمرٌ صغير، سكِّير، رفيقٌ طيب، قاصُّ حكايات، سكرتير فلان، موظفٌ في معمل تقطير، جامع ضرائب، مفلس، والآن مشيد بماضيه.
وضحك كرانلي وهو يشدِّد قبضته على ذراع ستيفن، وقال: معمل التقطير وظيفةٌ حسنة.
فسأل ستيفن: أهناك شيءٌ آخر تريد معرفته؟
– هل ظروفك حسنة في الوقت الحاضر؟
فسأل ستيفن في فتور: هل يبدو عليَّ ذلك؟
فاستطرد كرانلي متأملًا: إذن فأنت قد وُلدت وفي فمك ملعقة من ذهب.
وقال هذه العبارة في اتساع وصوت مرتفع كعادته دائمًا عند استخدام الأساليب الفنية، كأنما يودُّ لسامعه أن يفهم أنه يستخدمها دون اقتناع.
ثم قال: لا بد أن والدتك قد مرَّت بظروفٍ قاسية. ألَا تحاول أن تُنقذها من معاناة أكثر حتى ولو … أو هل تقبل ذلك؟
فقال ستيفن: لو استطعت، فذلك لن يكلفني إلا أقل المشقات.
قال كرانلي: إذن افعل ما تريده منك، وماذا يعني ذلك بالنسبة لك، إنك لا تؤمن به، وهو شيءٌ شكليٌّ ليس إلا، ولسوف تُريح قلبها.
وتوقَّف عن الكلام وبقيَ صامتًا حين لم يردَّ ستيفن، ثم قال كأنما ينطق ما يتردد في فكره.
– مهما كان أي شيء في هذا العالم النفاية القذر غير مؤكد، فإن حب الأم ليس كذلك، الأم تجلب ابنها إلى الدنيا بعد أن تحمله في جوفها. ماذا نعلم عما تشعر به؟ ولكن مهما كان ما تشعر به فلا بد أن يكون حقيقيًّا على أقل تقدير. لا بد من ذلك، ما هي أفكارنا ومطامحنا؟ هراء، أفكار! حتى هذا التيس الثاغي اللعين «تمبل» لديه أفكار، و«ماكَّان» لديه أفكارٌ أيضًا. كلُّ غبي أحمق يذرع الطرقات يظن أن لديه أفكارًا.
فقال ستيفن في عدمِ اكتراثٍ مفتعل، بعد أن أنصت إلى المعنى الذي يختفي وراء حديث صديقه: إن باسكال — إن لم تخني الذاكرة — لم يكن يسمح لأمه أن تُقبِّله؛ لأنه كان يخشى الاتصال بجنسها.
فقال كرانلي: كان «باسكال» خنزيرًا.
فقال ستيفن: أعتقد أن «الويسيوس جونزاجا» كان فيه هذا الطبع نفسه.
فقال كرانلي: إذن يكون هو الآخر خنزيرًا.
فاعترض ستيفن: ولكن الكنيسة تدعوه قديسًا.
فقال كرانلي في بلادة وغلظة: لا يهمني ذرة واحدة ما يقوله عنه أي شخص. إني أدعوه خنزيرًا.
واستطرد ستيفن وهو يعدُّ الكلمات في ذهنه في دقة.
– ويبدو كذلك أن يسوع قد عامل أمَّه في العلن بحفاوة قليلة، ولكن «سواريث» وهو لاهوتي جزويتي وسيد إسباني قد اعتذر عنه.
فسأل كرانلي: هل خطرَت لك فكرة أن يسوع لم يكن حقًّا ما كان يتظاهر به؟
فردَّ ستيفن: أول شخص خطرت له هذه الفكرة، هو يسوع نفسه.
فقال كرانلي وهو يُخشن من كلامه: أعني هل خطرَت لك فكرة أنه كان نفسه منافقًا واعيًا، «ضريحًا خاويًا» كما كان يرمي يهود عصره؟ أو كي أوضح لك الفكرة، أنه كان دجالًا؟
فردَّ ستيفن: لم تخطر لي هذه الفكرة مطلقًا، ولكني أتلهف على معرفة إذا كنت تحاول أن تجعل مني مهتديًا، أو تجعل من نفسك مارقًا؟
والتفت إلى وجه صديقه ورأى فيه ابتسامةً فجة، جاهد بقوة إرادته لكي يجعل منها شيئًا ذا معنى. وسأل كرانلي فجأةً في لهجة بسيطة مرهفة: اصدقني، هل صدمك ما قلته لك؟
فقال ستيفن: إلى حدٍّ ما.
وألحَّ كرانلي في اللهجة نفسها: ولماذا صُدمت إذا كنت تشعر شعورًا مؤكدًا أن ديننا زائف، وأن يسوع لم يكن ابن الله؟
فقال ستيفن: إني غير متأكد تمامًا، إنه أقرب إلى أن يكون ابن الله عن أن يكون ابن ماري.
فسأل كرانلي: ولأجل هذا لن تتناول القربان المقدس؛ لأنك غير واثق من هذا أيضًا؛ لأنك تشعر أن القربان كذلك قد يكون دمَ وجسدَ ابن الله، وليس مجرد رقاقة من الخبز؟ ولأنك تخشى أن يكون الأمر كذلك؟
فقال ستيفن في هدوء: أجل، إني أشعر بذلك وأخشاه أيضًا.
فقال كرانلي: فهمت.
وأعاد ستيفن فتْحَ باب المناقشة على الفور، وقد أُخذ بلهجة صديقه الجازمة، وقال: إني أخشى أشياءَ كثيرةً: الكلاب والجياد والأسلحة النارية والبحر والعواصف الرعدية، والآلات، وطرقات الريف في الليل.
– ولكن لماذا تخشى قطعةً من الخبز؟
فقال ستيفن: إني أتصور أن هناك شيئًا من الضغينة يكمن خلف الأشياء التي أقول إني أخشاها.
فسأل كرانلي: أتخشى إذن أن يُرديَك إله الروم الكاثوليك صريعًا، ويلعنك إذا ارتكبت خطيئةَ تدنيس المقدسات؟
فقال ستيفن: يستطيع إله الروم الكاثوليك أن يفعل ذلك الآن. إني أخشى أكثر من ذلك التفاعل الكيميائي الذي يمكن أن يحدث في روحي، نتيجة خضوعٍ زائفٍ لرمزٍ يتجمع خلفه عشرون قرنًا من السلطة والتبجيل.
فسأل كرانلي: وهل ترتكب تحت ظروف الخطر العظيم، هذا التدنيس المعيب للمقدسات؟ مثلًا، إذا كنت تعيش في عصور العقاب؟
فردَّ ستيفن: لا يمكنني أن أُبرِّر الماضي، ربما كنت أفعل.
فقال كرانلي: إذن فأنت لا تنوي أن تُصبح بروتستانتيًّا؟
فردَّ ستيفن: لقد قلت إنني فقدتُ إيماني، ولم أقل إنني فقدتُ احترامي لنفسي، أي حرية تكون هذه، أن أهجر عبثًا منطقيًّا متماسكًا، وأقبل عبثًا غير منطقي مفكك؟
كانا قد وصلا إلى مجلس «بمبروك» البلدي. وهدَّأت الأشجار والأنوار المتناثرة في الفيلات من فكرهما؛ إذ كانا يسيران ببطء على طول الطرقات، وبدَا جو الثراء والراحة المنتشر حولهما يُهدهد من حاجتهما. والتمع نورٌ في نافذة مطبخ وراء سور من نبات الغار، وسمعا صوتَ خادمةٍ تغنِّي وهي تشحذ السكاكين. وكانت تغني في نغماتٍ قصيرةٍ متكسرةٍ:
روزي أوجرادي.
واهتزَّت الأفئدة كلها والتفتت إلى صوتها المضيء كالنجم الشاب، والتمع في وضوح أكثر حين ترنَّم الصوت باللهجة الحادة، ووهن أكثر حين مات الإيقاع.
وتوقف الغناء وسارا معًا، وكرانلي يردِّد نهاية اللازمة في إيقاعٍ جد مشدد:
قال: هذا شعر صحيح، به حبٌّ حقيقيٌّ.
ونظر جانبًا إلى ستيفن بابتسامة غريبة، وقال: هل تعتبر هذا شعرًا؟ أو هل تعرف ماذا تعني هذه الكلمات؟
فقال ستيفن: أريد أن أرى روزي أولًا.
فقال كرانلي: من السهل العثور عليها.
كانت قبعته قد هبطت على جبهته، وأعادها إلى الوراء، ورأى ستيفن وجهَه الشاحب في ظل الأشجار تحيط به الظلمة، وعينَيه الكبيرتين السوداوين. أجل، إن وجهه وسيمٌ وجسده قوي صلب. لقد تحدَّث عن حب الأم. كان يشعر وقتها بمعاناة النساء وضعف أجسادهن وأرواحهن، وكان مستعدًّا أن يحميهنَّ بذراعه القوية الجامدة، وأن يُطوِّع فكرَه لهن.
هروبًا إذن، لقد حان أوان الرحيل. وتحدَّث صوتٌ رقيق إلى قلب ستيفن الوحيد، طالبًا منه الرحيل ومنبئًا إياه أن صداقته على وشك الانتهاء. أجل، سيرحل، لا يمكنه المجاهدة ضد آخر. إنه يعرف نصيبه.
قال: ربما رحلت إلى الخارج.
فسأل ستيفن: إلى أين؟
فقال ستيفن: إلى أي مكان أستطيع الرحيل إليه.
قال كرانلي: أجل، قد يكون من الصعب عليك الحياة هنا الآن، ولكن أهذا ما يحملك على الرحيل؟
فردَّ ستيفن: يجب أن أرحل.
فاستطرد كرانلي: لأنك لا حاجة بك أن ترى نفسك مغلوبًا على أمرك إن لم تشأ أن ترحل، أو كافرًا أو خارجًا على القانون، هناك الكثير من المؤمنين يفكرون على طريقتك. أيدهشك هذا؟ ليست الكنيسة هذا المبنى الحجري ولا القسس وعقائدهم الصارمة، إنها مجموع من ينشأ تحت ظلها. إني لا أعرف ماذا تريد أن تفعل في هذه الدنيا، أهو ما سبق أن أخبرتني به تلك الليلة، حين كنَّا نقف خارج محطة هاركورت ستريت؟
قال ستيفن وهو يبتسم على الرغم منه من طريقة كرانلي في تذكُّر الأفكار فيما يتصل بالأماكن: أجل، الليلة التي قضيت فيها نصف ساعة تتصارع مع دوهرتي فيما يختص بأقصر طريق من «ساليجاب» إلى «لاراس».
قال كرانلي في ازدراء هادئ: أخرق! ماذا يعرف عن الطريق من ساليجاب إلى لاراس؟ أو ماذا يعرف عن أي شيء من هذه الأمور، يا لَرأسه من وعاء أخرق!
وانفجر في ضحكة عالية طويلة.
قال ستيفن: حسنًا؟ هل تذكر البقية؟
قال كرانلي: بقية ما قلته؟ أجل أذكره. تكشف نمطًا للحياة أو للفن تستطيع روحك بواسطته التعبير عن نفسها في حرية غير مقيدة.
ورفع ستيفن قبعتَه موافقًا.
وردَّد كرانلي: حرية! ولكنك لست حرًّا بعدُ إلى حدِّ أن ترتكب خرقًا للمقدسات. أخبرني هل تسرق؟
فقال ستيفن: أفضل لي أن أشحذ قبل ذلك.
– فإذا لم تحصل على شيء، هل تسرق؟
فأجاب ستيفن: أنت تريدني أن أعترف أن حقوق الملكية هي حقوق مؤقتة، وأن السرقة لا تصبح غير قانونية في ظروف معينة. قد يتصرف كلُّ شخص وفقًا لهذه العقيدة؛ ولذلك لن أردَّ عليك بهذا الجواب. وهذا ينطبق على اللاهوتي الجزويتي «خوان ماريانا دي تالافيرا»، الذي يشرح لك أيضًا الظروف التي تدعوك لقتل الملك قانونيًّا، وعمَّا إذا كان من الأفضل لك أن تُناوله السم في قدح، أو تلطخ به رداءه أو سرج جواده. اسألني بدلًا من ذلك هل أدع الآخرين يسرقونني، أو هل أطبق عليهم إن فعلوا بي ذلك ما أعتقد أن يُدعى بالقصاص الدنيوي؟
– وهل تفعل ذلك؟
فقال ستيفن: أعتقد أن ذلك يؤلمني بالقدر نفسه الذي يؤلمني به أن يسرقوني.
فقال كرانلي: فهمت.
وأخرج عود ثقاب وأخذ ينظف به فجوةً بين سنَّين من أسنانه، ثم قال بعدم اكتراث: أخبرني مثلًا، هل تفض عذرية فتاة؟
فقال ستيفن في أدب: عذرًا، أليس هذا هو مطمح أكثر الشبان المهذبين؟
قال كرانلي: ما هي وجهة نظرك إذن؟
وأثارت عبارتُه الأخيرة بما فيها من فتورٍ للهمة ورائحة حريفة تُماثل دخان الفحم النباتي، ذهنَ ستيفن الذي بدا كما لو يعكف على دخانه.
قال: اسمع يا كرانلي، لقد سألتني ماذا أفعل وما لا أفعل، سأُخبرك ما سأفعل وما لن أفعل. إنني لن أخدم شيئًا لم أَعُد أومن به سواء كان ذلك منزلي، أو بلدي أو كنيستي، وسأحاول أن أُعبِّر عن نفسي في الحياة أو في الفن على أكثر الأشكال حريةً وكمالًا، مستخدمًا للدفاع عن نفسي الأسلحة الوحيدة، التي أسمح لنفسي باستخدامها: الصمت، المنفى، الدهاء.
وقبض كرانلي على ذراعه وأداره جانبًا، كأنما يقوده خلفًا ناحية «ليزون بارك». وضحك فيما يُشبه الخبث وهو يضغط ذراع ستيفن في ودِّ الشخص الأكبر سنًّا.
قال: مقدرة حقًّا! أهذا أنت؟ أيها الشاعر المسكين، أنت!
قال ستيفن وقد أثارَته لمستُه: لقد جعلتني أعترف لك كما اعترفت لك بكثير من الأشياء، أليس كذلك؟
فقال كرانلي وهو لا يزال على مرحه: أجل يا صغيري.
– لقد جعلتني أعترف لك بمخاوفي، ولكني سأُخبرك أيضًا عمَّا لا أخافه.
إني لا أخشى أن أُصبح وحيدًا أو أن أزدريَ أو أهجر ما يجب عليَّ أن أهجرَه، كما لا أخشى أن أرتكب خطأ، ولو كان خطأً كبيرًا، خطأ يدوم العمر كله، وربما كان دوامه دوام الأبدية أيضًا.
وأبطأ كرانلي من خطواته وقد عاد رزينًا ثانيةً، وقال: وحيدًا، وحيدًا تمامًا، إنك لا تخشى ذلك. وهل تدري معنى هذه الكلمة؟ لن تكون بعيدًا عن كل الآخرين فقط، ولكن لن يكون لك ولا صديق واحد.
فقال ستيفن: سوف أركب هذه المخاطرة.
فقال كرانلي: ولا يكون لك صديقٌ واحد ممن هم أكثر من أصدقاء، أكثر من أنبل وأصدق أصدقاء لدى أيِّ إنسان.
وبدَت كلماته كما لو تضرب وترًا عميقًا في طبيعته. هل كان يتحدث عن نفسه، كما كان أو كما رغب أن يكون؟ وراقب ستيفن وجهه لحظات في صمت. كان يغمره حزنٌ بارد. لقد تحدَّث عن نفسه، عن وحدته التي يخافها. وسأله ستيفن أخيرًا: عمَّن تتحدث؟
ولم يُجِب كرانلي.
٢٠ مارس
حديث طويل مع كرانلي حول موضوعٍ تمرديٍّ، هو بأخلاقه العالية، وأنا مرنٌ ودمثٌ. هاجمني حول حب المرء لأمه. أحاول تصور أمه: لا أستطيع، أخبرني مرة، في لحظة اندفاع، أن أباه كان في الواحدة والستين من عمره حين وُلد. أستطيع أن أراه، نموذج الفلاح القوي، في رداء رمادي، الأقدام المستديرة واللحية الخشنة الشهباء، ربما يواظب على حضور مصارعة الديكة، يدفع مستحقاته بانتظام ولكن ليس بوفرة، إلى الأب «دواير» في «لاراس».
يتحدث أحيانًا إلى الفتيات بعد هبوط الليل، ولكن أمه؟ صغيرة جدًّا أو عجوز جدًّا؟ مرجحٌ ألَّا تكون الأولى؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك لما تحدَّث كرانلي بهذا الحديث، عجوزٌ إذن، ربما، ومهملة. ومن هنا يئس كرانلي الروحي، صبي الخصر الواهن.
٢١ مارس، صباحًا
فكرت في هذا الفراش ليلة البارحة ولكني كنت كسلًا وحرًّا لدرجة لم أستطع الإضافة إليها. أجل، حرًّا، الخصر الواهن خصر إليزابيت وزخاري. وعندئذٍ يكون البشير، مقطع: يأكل أساسًا بطن لحم الخنزير وتينًا جافًّا. اقرأ عن الجراد وعسل النحل البري، وأيضًا حين أفكر فيه أرى دائمًا رأسًا حادًّا مفصولًا، وقناع الموت كأنما هو محفورٌ على ستارة رمادية أو شجرة لبلاب. يسمون ذلك في الأغنام قطع الرأس. يحيرني الآن القديس يوحنا عند البوابة اللاتينية. من أرى؟ مبشر مقطوع الرأس يحاول أن يلتقط أحد الأقفال.
٢١ مارس، ليلًا
حُر، حر الروح وحر الخيال، فليدفن الموتى. أجل، وليتزوج الموتى الموتى.
٢٢ مارس
مع لينش، نتبع ممرضة مستشفى مكتنزة، فكرة لينش، أكره ذلك، كلبَا صيدٍ أعجفان جائعان يسيران خلف بقرة.
٢٣ مارس
لم أرَها منذ تلك الليلة. مريضة؟ ربما تجلس أمام النار ووشاح الأم حول كتفَيها، ولكنها ليست كدرة. طبقٌ لذيذٌ من الثريد؟ ألَا تريد الآن؟
٢٤ مارس
بدأتُ مناقشة مع والدتي. الموضوع: العذراء المقدسة مريم. يمنعني جنسي وصغري، ولكي أهرب، عقدت روابط بين يسوع ووالدي في مقابل الروابط الموجودة بين مريم وابنها. قلت إن الدين ليس مستشفى للرقاد، الأم مهتمة، قالت إن لي عقلًا غريبًا وقد قرأت أكثر من اللازم. ليس حقًّا، لقد قرأت قليلًا وفهمت أقل، ثم قالت إنني سوف أعود إلى الإيمان لأن لي عقلًا قلقًا. وهذا يعني أن أترك الكنيسة من باب الخطيئة الخلفي وأعود إليها عن طريق نافذة التوبة، لا أستطيع أن أتوب، أخبرتُها بذلك وطلبت منها ستة بنسات، أعطتني ثلاثة بنسات.
عند عبور حديقة ستيفن، أي الحديقة التي اعتدتُ على التريض فيها، تذكرتُ أن قومَه وليسوا قومي هم الذين ابتكروا ما دعاه كرانلي الليلة الماضية ديننا. أربعةٌ منهم، أربعة منهم جنود فرقة المشاة السابعة والتسعين، جلسوا أسفل الصليب وقذفوا النرد ليقترعوا على معطف المصلوب.
ذهبت إلى المكتبة، حاولت قراءة ثلاث مجلات عبثًا. لم تخرج بعد. هل انزعجت؟ علامَ؟ إنها لن تخرج ثانيةً أبدًا.
قال «بليك»:
أتساءل إذا كان وليام بوند سيموت.
فإنه مريضٌ جدًّا.
وا أسفاه يا وليام المسكين!
كنت ذات مرة أمام المنظار المقرب في «الروتندا»، وكانت هناك صورُ رءوس كبيرة في طرفها. وكان منها رأس «وليام إيوارت جلادستون»، وكان قد مات توًّا أيامها. وعزفت الأوركسترا: «آه يا ويبي، لقد افتقدناك».
أمة من الأجلاف.
٢٥ مارس، صباحًا
ليلٌ مزعج الأحلام، أريد أن أُزيحَها على صدري. صالة عرض طويلة متعرجة. تصعد من الأرض أعمدة الأبخرة السوداء، مليئة بصور الملوك الخرافيِّين، مقامة بالأحجار، وأيديهم مضمومة على رُكَبهم علامة على التعب وعيونهم مسودة، فإن أخطأ الإنسان تترى أمامهم إلى الأبد على شكل أبخرة سوداء.
واقتربت شخوصٌ غريبة كأنما تقترب من كهف، ليسوا في طول الرجال ولا يبدو على أحدهم أنه يقف على مبعدةٍ ما من الآخر. وجوههم فسفورية بها خطوط أكثر إظلامًا، ينظرون نحوي وتبدو عيونهم وكأنما تسألني شيئًا. إنهم لا يتكلمون.
٣٠ مارس
كان كرانلي هذا المساء في ردهة المكتبة، يعرض مسألة على «دايكسون» وأخيها. أمٌّ تركَت ابنتَها تسقط في النيل. ما زال يدقُّ على وتر الأم، وأمسك تمساحٌ بالابنة، وطلبت الأمُّ استعادتَها، وقال التمساح إنه يوافق إذا أخبرته ماذا سيفعل بالابنة، أسيأكلها أم لن يأكلَها.
لو كان «ليبدوس» لقال عن هذه العقلية إنها حقًّا نتاج وحلنا بفعل شمسنا وعقليتي؟ أليست هي كذلك أيضًا؟ إذن إلى وحل النيل بها!
١ أبريل
أعارض هذه العبارة الأخيرة.
٢ أبريل
رأيتها تشرب الشاي وتأكل الكعك في محل «جونستون وموني وأدبرين» أو بالأحرى، رآها لينش الحاد البصر ونحن نمر. أخبرني أن الأخ دعا كرانلي إلى هناك أيضًا، هل أحضر تمساحه معه؟ أهو الآن نجم الحفل؟ حسنًا، لقد كشفت، أؤكد ذلك، يلمع في هدوء خلف مكيال نخالة «ويكلو».
٣ أبريل
قابلت «دافن» عند محل السيجار المواجه لكنيسة «فندلاتر». كان يرتدي قميصًا أسود ويطوح عصا في يده. سألني إن كنت حقًّا سأرحل إلى الخارج، ولماذا أخبرته أن أقصر طريق إلى «تارا» هو «هوليهيد». وعندها حضر والدي. تعارف. الوالد مؤدب وحذر. سأل «دافن» إن كان له أن يقدِّم بعض المنعشات، واعتذر «دافن»، إذ كان على موعد، وقال لي والدي حين خرجنا إن له عينًا طيبة شريفة. سألني لماذا لم ألتحق بنادي التجديف. تظاهرتُ بأنني سأفكر في الأمر. أخبرني بعد ذلك كيف حطم فؤاده «بنفيذر» يريدني أن أقرأ في القانون، يقول إنني خلقت من أجل ذلك، مزيدٌ من الوحل، مزيدٌ من التماسيح.
٥ أبريل
ربيع جامح، سحبٌ مندفعة. آه أيتها الحياة! جدول غامض من المستنقعات الدوارة حيث تُلقي أشجار التفاح بزهورها الرقيقة. أعين الفتيات بين الأوراق، فتياتٌ يتظاهرنَ بالاحتشام ويخاشنَّ في التصرف، كلهن بيضاوات أو خمريات.
ليس بينهن سمراوات. إنهن يتودَّدن أفضل. ها.
٦ أبريل
لا بد أنها تتذكر الماضي. يقول لينش إن كل النساء يفعلن ذلك. إذن فهي تذكر زمن طفولتها وطفولتي، إذا كنت طفلًا يومًا من الأيام. الماضي مدفونٌ في الحاضر والحاضر لا يحيا إلا لأنه يجلب المستقبل. إذا كان لينش على حقٍّ فإن تماثيل النساء لا بد أن تكون مكسوة بالجوخ كلها، وإحدى يدَي المرأة تتحسس في أسف أعضاءها الخلفية.
٦ أبريل، بعد ذلك
يتذكر «ميشيل روبارتس» الجمال المنسي، وحين يضمُّها بين ذراعَيه فإنه يضمُّ الجمال الذي ذوَى منذ مدة طويلة من الدنيا، ليس هذا، ليس هذا على الإطلاق. أريد أن أضمَّ بين ذراعي الجمالَ الذي لم يأتِ بعدُ إلى الدنيا.
١٠ أبريل
يبدو صوت الحوافز على الطريق، في خفوت، وتحت ستار الليل الثقيل، خلال سكون المدينة التي تحوَّلت من الأحلام إلى النور بلا أحلام، كحبيبٍ متعبٍ لا تهزُّه المداعبات. لم تصبح على هذه الدرجة من الخفوت حين اقتربَت من الجسر. وفي لحظة، حين كانت تمر على النوافذ المظلمة، انقطع الصمت فجأةً كأنما يشقُّه أحدُ السهام. يسمع صوتها الآن بعيدًا، حوافز تضيء وسط الليل الثقيل كالجواهر، مسرعًا فيما وراء الحقول النائمة، إلى أية نهاية للرحلة؟ أي غاية؟ وماذا تحمل من أنباء؟
١١ أبريل
أقرأ ما كتبتُه ليلة البارحة. كلماتٌ غامضةٌ لعاطفة غامضة. هل ستحبُّها؟ أعتقد ذلك، إذن لا بد أن أحبَّها أنا أيضًا.
١٣ أبريل
كلمة «الموصِّل» هذه ما زالت عالقةً في ذهني فترةً طويلة. كشفتُ عنها في القاموس ووجدتها إنجليزية، وإنجليزية صرفة قديمة أصيلة أيضًا، اللعنة على عميد الدراسات وقمعه! لماذا أتى إلى هنا؟ ليُعلمنا لغته أم ليتعلمها منا؟ عليه اللعنة بطريقة أو بأخرى!
١٤ أبريل
عاد «جون ألفونسون ميليرنان» توًّا من غرب أيرلندا. طلب ذكر ذلك في الصحف الأوروبية والآسيوية. أخبرنا أنه قابل عجوزًا هناك في كوخٍ جبليٍّ. رجل عجوز ذو عينَين حمراوَين وغليون قصير. رجل عجوز يتحدث الأيرلندية. و«ميليرنان» يتحدث الأيرلندية. إذن فالرجل العجوز وميليرنان يتحدثان الإنجليزية. تحدث إليه «ميليرنان» عن الكون والنجوم. جلس العجوز وأنصت ودخَّن وبصق، ثم قال: آه، لا بد أن هناك مخلوقاتٍ فظيعةً غريبة عند الطرف الأقصى من العالم.
إني أخافه. أخاف عينَيه المتحجرتَين ذواتي الحواف الحمراء. لا بد أن أتصارع معه طوال هذه الليلة حتى يطلعَ النهار، حتى يموت، أموت أنا أو يموت هو، أقبض على حلقه القوي إلى أن … إلى أن ماذا؟ إلى أن يستسلم لي؟ كلَّا. لا أريد إنزال الضرر بأحد.
١٥ أبريل
قابلتها اليوم مصادفةً في طريق «جرافتون». حملنا الزحام وجهًا لوجه. توقَّف كلانا. سألتني لماذا لا أحضر إليهم، وقالت إنها سمعت كثيرًا من الحكايات عني. كان هذا كسبًا للوقت فقط، سألتني هل أكتب شعرًا؟ سألتُها عمَّن؟ وأصابها هذا بارتباكٍ أكثر، وشعرتُ بالأسف والضعة. وغيَّرت زمام هذا الموضوع على الفور، وفتحت الجهاز المبرد ذا البطولة الروحية الذي ابتكره «دانتي أليجيري»، ونال امتيازه في كل البلدان. تحدثتُ بسرعة عن نفسي وعن مشروعاتي. وفي وسط الحديث قمتُ لسوء الحظ بحركة مفاجئة ذات طبيعة ثورية. لا بد أنني بدوتُ مثل الشخص الذي يُلقي بحفنةٍ من البازلاء في الهواء. بدأ الناس ينظرون إلينا. صافحتني بعد لحظة وقالت وهي تذهب إنها تأمل أن أُنفذ ما قلته. والآن، أُسمِّي هذا ودًّا، أليس كذلك؟
أجل، لقد أحببتها اليوم، قليلًا أم كثيرًا؟ لا أعرف. لقد أحببتها وبدا ذلك شعورًا جديدًا مني. وإذن، في هذه الحالة، فكل ما عدا ذلك، كل ما فكرت أنني فكرته، وكل ما شعرت أنني شعرت به، كل ما عدا الآن، في الحقيقة …
آه، فلتترك ذلك يا عزيزي العجوز! نم عليه.
١٦ أبريل
الفرار! الفرار!
سحر الأذرع والأصوات. أذرع الطرق البيضاء، ووعدها بعناقٍ قريب، والأذرع السوداء للسفن الطويلة التي تقف في مواجهة القمر وحكاياها عن البلاد القصية. إنها كما لو تقول: إننا وحيدان، تعالَ. وتقول الأصوات معها: إننا أقرباؤك. والهواء مثقل برفقتهم حين يدعونني، أنا قريبهم، ويستعدون للرحيل، يهزون أجنحة شبابهم البهيج المرعب.
٢٦ أبريل
والدتي تُصلح ثيابي القديمة. إنها تصلي الآن، كما تقول، لكي أتعلم في حياتي الخاصة وبعيدًا عن البيت والأصدقاء، ما هو القلب وما هي مشاعره، آمين. فليكن كذلك، مرحبًا أيتها الحياة! إنني ذاهبٌ لكي أقابل للمرة المليون حقيقة التجربة، ولكي أصنع في مصهر روحي الضمير الذي لم يُخلق لعنصري.
٢٧ أبريل
تريستا ١٩١٤