جيمس جويس والرواية الحديثة
ومن الواضح أن جويس قد استخدم كلمة الرواية كمثال، أو ربما كانت هي الأقرب إليه بالنظر إلى كونها الفن الذي برع فيه. ولكنه حين تحدث عن طريقة الخلق الفني هذه، إنما عَنى في الواقع جميع أنواع الفن، من رواية إلى مسرح إلى نحت وتصوير ورسم … إلخ.
ويمكن أن يُقتفى أثر ما قاله جويس في نظريته تلك — إن كان يصحُّ إطلاق اسم نظرية عليها — في أدب جويس ذاته، فهو قد بدأ بكتابة رواية هي مع الأصالة الفنية الواضحة فيها — ترجمة ذاتية، وهي «صورةٌ للفنان في شبابه»، ثم انتقل منها إلى الشكل الملحمي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ في نفس جويس، بكتابه الغريب المشهور «يوليسيس»، حتى وصل إلى المرحلة الثالثة، الدرامية، بكتابه الأكثر غرابة «يقظة فينيجان».
وقد وُلد جيمس جويس في دبلن بأيرلندا في عام ١٨٨٢، وتلقَّى دراسته في بعض مدارسها الجيزويتية ثم بالجامعة الملكية، حتى تخرَّج في كلية الآداب عام ١٩٠٢، وانتقل إلى باريس حيث درس الطب، ولكنه عاد إلى دبلن عند وفاة والدته وعمل بالتدريس فيها فترة، ثم استأنف سياحته في القارة الأوروبية فأقام مدةً في كلٍّ من إيطاليا وسويسرا وفرنسا، وكتب أشهر مؤلفاته إبان هذه الفترة. وقد تُوفي جويس عام ١٩٤١.
ويُعَد أدب جويس الروائي ثورةً على فن الرواية الذي كان شائعًا في عصره، ذلك العصر الذي ساد فيه ثلاثةٌ من الروائيِّين أدبَ الرواية في إنجلترا، وهم أرنولد بينيت، وجون جولز ويرذي، وﻫ. ج. ولز، ويُعَدون كلهم من أمراء الأدب الطبيعي الذي يؤمن بتقديم صورة حية من الحياة الواقعية، كما هي سواء بجمالها أو ببشاعتها، في أدق التفاصيل وأوضحها، وهو المذهب الذي سار عليه «إميل زولا» في فرنسا، و«تيودور درايزر» في أمريكا، وهم في سبيل الوصول إلى غرضهم، يُوردون كلَّ التفاصيل الدقيقة فيما يصفونه أو يكتبون عنه، مما يعطي العمل الفني — في نظرهم — واقعيةً حية تُجسِّد الحوادث والشخصيات أمام القارئ، غير أنهم اقتصروا في وصفهم ونظرتهم على النواحي الخارجية مما يكتبون عنه فحسب، كأن يصفوا ملابس الشخصية أو صفاتها الجسمانية، وهكذا التزمت الواقعية عندهم حدود نظرتهم الخاصة، فكان القارئ يتعرف على شخصيات رواياتهم وأعمالها عن طريق وسيط ثالث — حاضر أبدًا — هو المؤلف. وحتى في الروايات التي تتولى السرد فيها إحدى شخصيات القصة، يشعر القارئ بالمؤلف قابعًا في خلفية الصورة يحرِّك هذا وينطق ذاك.
أعتقد أن ذلك يرجع إلى أسباب غير مباشرة وأخرى مباشرة، وسيكون سبيلنا إلى تبيان هذه الأسباب سبيلًا كذلك إلى تبيان الطريقة الجديدة التي اتبعها جويس ورفاقه، طريقة تيار الوعي، ووسائلهم الأخرى الجديدة بمناحيها المختلفة.
فأول الأسباب هو الحالة السياسية والاجتماعية القلقة التي سادت العالم في تلك الفترة من أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وجعلت البعض يفقد شعور الأمن والاستقرار ويتطلع إلى ميدان آخر أكثرَ ثباتًا وأشدَّ يقينًا مما وجده فيما حوله، وكان أن فشل في ذلك أيضًا، لما كان يتَّصف به العالم في هذه الأوقات من غليان وثورة. ووجد هذا البعضُ نفسَه وحيدًا منطويًا، فارتدَّ إلى نفسه الداخلية يستبطنها ويقبع في داخلها يكتشف أغوارها، علَّه يجد فيها حقيقة تكون الوحيدة التي يراها في حياته.
وقد أدى المبدأ المادي الذي ساد في ذلك الوقت، والذي ينادي بأن العالمَ كلَّه تحكمه سلسلةٌ من التطور المادي الآلي، والأطماع الاستعمارية للدول وتبريراتها لتلك الأطماع، أدَّى ذلك إلى تفشِّي المبادئ المادية بين الأفراد، وتغلَّبت على الجانب الإنساني فيهم، وإيمانهم بمبدأ الفرد في خدمة المجموع وأنه ليس إلا نقطة في بحر كبير. ومن ناحية أخرى، دفع هذا بعض الكُتَّاب إلى الثورة على هذا التيار المادي الدافق والنزوع إلى التيار الرومانسي الذي سبق أن ساد أوروبا في القرن التاسع عشر، أيام وضع الرومانسيون الأوائل الإنسان فوق قاعدة عالية وتعبدوا له، فكان «ووردزورث» ينسج قصائده في تمجيده الإنسان، «وبيزون» في تمجيد حريته، وكتب توماس كارلايل كتابه في عبادة البطولة والأبطال، مبيِّنًا أن فردًا واحدًا قد يكون له من الأهمية والأثر أكثر مما لأمة بحالها. رجع ذلك البعض إلى هذه الأفكار ونادى بها، حتى إن بعض النقاد يُطلقون على هذه الفترة «الرومانسية السيكولوجية»، فهي قد تعتبر امتدادًا أو ظلًّا لحركة الرومانسيِّين في القرن ١٩، مدعمة بالرغبة السيكولوجية للفرد في استكناه ذاته وأسرارها، مستكنهًا بذلك ذات وأسرار الطبيعة البشرية، فنظر الفنان إلى شخصيته في ضوء جديد يتمثلها مركزًا للكون، وعاد إليها يستلهمها مادته وأفكاره.
وأما السبب الثاني — وله من الأهمية ما للسبب الأول إن لم يَفُقه في ذلك — فهو طلوع العالِم النمسوي سيجموند فرويد على الدنيا بعلمه الجديد عن النفس الإنسانية، فكشف به جانبًا مهمًّا من نواحي الفكر الإنساني كانت غائبةً عن أبنائه، هي النفس بأسرارها وغوامضها. وغزا هذا العلم الجديد جميع أطراف الحياة ووجوهها العامة منها والخاصة، وكان الأدب على قمة ما شمله العلم الجديد، وتأثر به كُتَّاب الرواية بصفة أخص في تشكيلهم لشخوص مؤلفاتهم وطريقة تقديمهم لها في تلك المؤلفات. وكانت الشخصية الروائية قبل ظهور الرواية الحديثة — أي في العصر الفيكتوري — قائمةً على أساس ما يمكن أن يُطلق عليه «الجانب الواحد»، أي الجانب الذي يرغب المؤلف في تقديمها عليه، فكانت الشخصية غالبًا إما أن تظهر بمظهر الخير أو الشر طوال وجودها على صفحات الرواية، وهي لا تستمد كينونتها من داخل نفسها أو نتيجة لحوادث مرَّت بها، بل تستمدها من إرادة المؤلف في إظهارها على هذه الصورة أو تلك. لذلك فالشخصية الروائية في ذلك العصر كانت ساكنة (وليست نامية)، بمعنى أن تكون لكل شخصية من الشخصيات بعض الصفات المميزة التي لا تتغير من بدء الرواية إلى نهايتها، وكان ذلك يخدم الغرض الذي رمى إليه روائيُّو هذا العصر — الفيكتوريون وما بعدهم — وهو إبراز مذهب من المذاهب أو فلسفة من الفلسفات، أو لتركيزهم على الرغبة في خلق شخصيات عظيمة يتذكرها القراء، مثل شخصية ماجي توليفر عند جورج إليوت أو سدني كارتون عند تشارلز ديكنز.
أما جويس وزملاؤه من كتَّاب القصة الحديثة، فقد ركزوا اهتماماتهم على الفرد، على الإنسان الذي لا تبرز فيه صفة خاصة تكون كل شيء فيه، إنما الإنسان كما هو في الحقيقة والواقع، فمن الواضح أنه لا يمكن أن يكون إنسان ما خيِّرًا أو شريرًا طوال عمره، في أخلاقه وسلوكه، وفي أفكاره التي تراوده؛ فالإنسان ليس آلة أو جمادًا، بل هو مخلوق حي يشعر ويتجاوب مع الأحداث، كلٌّ حسب دلالتها بالنسبة له. وهو إنسانٌ يرغب، ورغباته لا يمكن أن تتفق حتمًا مع القواعد الأخلاقية. وقد يبدو أحدهم في سلوكه الخير كله، بينما هو في داخلية نفسه الطامع الحقود. وعلى ذلك فالرواية الحديثة لا تنظر إلى الإنسان على أنه نوعٌ معين، ولا تضعه في رتبة معينة، بل أصبح الإنسان عبارة عن لحظات من الشعور، وتختلف هذه اللحظات باختلاف الظروف والمواقف، فقد تأتي لحظةٌ من الشر بعد الخير، ولحظةٌ من الحقد بعد الحب … وهكذا، ولم تَعُد للإنسان أو للفرد في الرواية الحديثة شخصية معينة ثابتة، بل تناوله الروائيون على أنه شيء يأمل، أو شيء يفكر، أو شيء يكره … إلخ. لقد اعتبر روائيو العصر الحديث النفس الإنسانية بحرًا كبيرًا يموج بأنواع لا حصر لها من الأسماك، فهذا سمك أحمر، وذاك أسود، وتلك سمكةٌ من نوع القرش، وذاك أخطبوط، وهكذا، أي إن النفس الإنسانية — تلك الدنيا الواسعة — أصبحت تُقدَّم بكل ما فيها من عواطف متضاربة متضادة.
وقد عرف المحدثون من كتَّاب الرواية هذه الحقائق كلها كما قدَّمها لهم علم النفس، وأدركوا أن هذا الجانب المختفي في الإنسان هو الأجدر بالتصوير، فإذا كان الأدب تعبيرًا وتصويرًا للنفس الإنسانية، فهذه النفس لا توجد في الظواهر الخارجية للأشياء وللأحياء، بل في جواهرها الداخلية، فعمد الروائيون إلى عقولٍ وأذهان شخوصهم يعملون فيها بحثًا وتنقيبًا، ويقدِّمون للقرَّاء ما يمر على هذه الأذهان من خواطر وخلجات، وهذه هي الواقعية كما يفهمونها. فبدلًا من أن يتعرف القارئ على إحدى الشخصيات من خلال وصف المؤلف لملامحها، ولما ترتديه من ملابس، يقدِّم لنا الكاتب ما تفكر فيه هذه الشخصية، وأفكارها عمَّا تراه حولها، فنلمس بذلك شخصيتها الحقيقة رأسًا، ونكون قد تعرَّفنا عليها أكثر من تعرُّفِنا عليها بوصف مظهرها الخارجي.
أما ثالث هذه الأسباب التي أدت إلى التغيير الجوهري في معالجة فن الرواية، فهو الحركة الرمزية التي سادت الأدب والفن — وخاصةً الشعر — في تلك الأوقات، ونبهت الأذهان إلى وجود طرق أخرى غير تقليدية يمكن تطبيقها على أنواع الأدب.
«أحمر وذهبي (إنه الآن داخل المطعم)، بريقٌ من الضياء، المقهى، المرايا اللماعة، النادل ذو المئزر الأبيض، مشاجبٌ عليها قبعات ومعاطف». هل أعرف أحدًا هنا؟ أولئك الناس يراقبونني منذ دخلت، محجوزة، فأين سأجلس؟ هناك بعيدًا مائدة خالية. عظيمٌ، إنها المائدة التي اعتدتُ أن أجلس عليها. ولِمَ لا يحصل المرء على مائدته الأثيرة؟ لا شيء في هذا يحمل «ليا» على الضحك.
– خدمةٌ يا سيدي؟
ويبدو أن هذه القصة قد وقعت في يد جويس بطريقةٍ ما فقرأها. وعندما كانوا يسألون من أين ينبثق فنُّ القصة الجديد، كان يجيب دائمًا بأنه مدين في ذلك لإدوارد دي جاردان، مما أضفى على الأخير قسطًا من الشهرة في أخريات أيامه. ويذكر ليون إيديل في كتابه عن القصة السيكولوجية أن في قول جويس بدينه لدى جاردان اعترافًا ضمنيًّا بأنه مدين للحركة الرمزية؛ ذلك لأن دي جاردان كان من الرمزيين.
وهكذا اتخذ المذهب الجديد شكله واستبان بفضل أبطاله الذين أخلصوا له في جميع ما كتبوه، ولا يمكن لأحدٍ أن يتناول هذا المذهب الجديد بالمفاضلة بينه وبين المذاهب الأخرى التي سادت قبله؛ لأن لكلٍّ هدفه الذي يسعى إليه، ويُقاس نجاحه أو فشله بمقدار نجاحه في تحقيق هذا الهدف أو فشله في ذلك، فقد ركَّز المحدثون اهتمامهم على الحياة الداخلية للفرد بدل الخارجية، وصوَّروا صراع وعلاقة الدوافع والعناصر مع بعضها البعض في داخل نفسه، بدلًا من تصوير صراعه مع أفرادٍ آخرين أو علاقاته معهم.
والمذهب النفسي الجديد عند جويس يرتكز في أساسه — كما قدمنا — على تقديم الأفكار والخواطر التي تَرِد على العقل في خلال جميع ألوان التجارب الخاصة منها والعادية، فقد عمد إلى إيلاج كاميرا فوتوغرافية إلى عقل شخصياته، ووجَّه عدستها لا إلى الخارج بل إلى العقل نفسه، لتقديم صورة لما يجول فيه من ملايين الأفكار والذكريات عن مختلف الموضوعات. ولكن هناك حقيقة مهمة لا بد من إيضاحها جنبًا إلى جنب مع الفكرة السابقة، وهي أن جويس في اتباعه لهذه الطريقة قد حرص أيضًا على أن يتبع طريقة «الانتقاء» في تقديم هذه الأفكار، فلم يكتب كلَّ ما يخطر على بال شخصياته من خواطر، وإنما قدَّم منها ما يُفيد روايته وموضوعه الذي هو بصدده. وهذا ما يُنفي عن روايات جويس ما نادى به البعض من تفككٍ وسوء بناء؛ فكل ما أورده جويس من تيار الوعي لدى شخصياته يساعد على إبراز صفات الشخصية الروائية وتجاربها، ويفيد في فهمنا لها. وقد أساء بعض الروائيِّين ممن جاءوا بعد جويس، أساءوا فهمَ طريقته، فعمدوا إلى تقليدها تقليدًا أعمى وقدَّموا لنا العقل البشري في حالات عمله اليومي بما يخطر عليه أفكار مفككة غير مفهومة، فجاء عملهم فجًّا لا معنى له ولا ترابط فيه، مما ينفي عنه صفة الفن الأصيل.
وبعد هذا العرض للمذهب الجديد، نحاول الآن معالجة رواية من روايات جويس، وهي «صورةٌ للفنان في شبابه». وهذه الرواية كتبها جويس في خلال عشر سنوات ما بين عام ١٩٠٤ وعام ١٩١٤، وهي أول حلقة من سلسلة فنه كما خططها في أواخر هذه الرواية — الحلقة الغنائية — التي يكتب فيها الفنان عن حياته وعن تجاربه. وقبل كل شيء يجب أن نُعطيَ فكرةً سريعةً عن القصة وما جاء بها. والرواية مكوَّنة من خمسة فصول، ويبدأ الفصل الأول بذكرياتٍ تجول في ذهن «ستيفن ديدالوس» عن أيام طفولته، بينما يكون في مدرسة كلونجوز الثانوية الداخلية يلعب مع زملائه في الفناء. ويبدو لنا فكره مشغولًا بالأمور الصبيانية التي تشغل بال التلاميذ جميعًا، من شعوره نحو زملائه في المدرسة، وعن ذكريات تجول في ذهنه عن أبيه وأمه، وميولهما السياسية والدينية التي لم يكن يتفهمها وقتذاك، ثم يمرض ستيفن ويحلم في مستشفى المدرسة بأنه قد مات والجميع يصلون عليه، ثم يذهب ستيفن إلى منزله لقضاء إجازة عيد الميلاد، ونرى الاستعدادات لحفل العيد من خلال تفكيره، ثم يشهد وهو على مائدة الطعام نقاشًا بين أبيه وبين «العمة دانتي» حول السياسة، وحول الزعيم «بارنل» الذي يتعصب له الوالد، ويتطور النقاش حتى يمسَّ الجانب الديني وتخرج العمة دانتي مغضبة، ونعود مع ستيفن إلى المدرسة، ونجد التلاميذ يتحدثون عن اثنين من زملائهما سيُعاقبان لأنهما أتيَا أمرًا غير طيب. ثم نرى ستيفن في فصل الدراسة، وباله مشغول بأمور الجرائم والعقاب والظلم، ويدخل المشرف الفصل ويسأل ستيفن لماذا لا يقرأ كزملائه، ويعتذر ستيفن بأن نظارته قد كُسرت هذا الصباح وقد أرسل لمنزله في طلب نظارة جديدة، وقد أعفاه المدرس من الدراسة لحين ورود النظارة الجديدة، ولكن المشرف يظن أن ستيفن يتهرب بهذه الحجة ويضربه بالعصا على يديه. ويحزُّ هذا الظلم في نفس ستيفن، وتتدافع الانفعالات في نفسه حتى إنه يذهب إلى مدير المدرسة ليعرض عليه قصة هذا الظلم الذي حاق به. ويعده المدير بأنه سيحدِّث المشرف في ذلك، ثم نرى انعكاس ما حدث، في أفكار ستيفن ومجرى ذكرياته.
وفي الفصل الثاني نرى ستيفن في بيت والده أثناء العطلة الصيفية، ونتعرف على اهتماماته الصغيرة التي كانت تمنحه السعادة والفرص للتفكير، وعلى أحلامه وخيالاته وآماله في مقابلة مرسيدس بطلة الكونت دي مونت كريستو. ويضطر والد ستيفن إلى الانتقال إلى دبلن — العاصمة — حيث فرص العيش واسعة. وبعد ذلك، نعلم شيئًا عن حب ستيفن لفتاة تُدعى إيلين كانت رفيقة لهوه أثناء الطفولة الأولى، وينظم أشعارًا لها، ونشهد أثناء ذلك كيفية تكوُّن التجربة الفنية والإنتاج الفني في نفسه، ويُمثل ستيفن دورًا في تمثيلية في إحدى حفلات مدرسته الجزويتية الجديدة بدبلن، بينما إيلين تشاهده من بين صفوف النظارة. وبعد الحفل يتجول ستيفن وحيدًا، ويتذكر تأنيب مدرِّس الإنشاء له لأنه كتب مرةً عن موضوعات دينية، ثم يقابل زميلين له يُضايقانه بكلامهما عن الشعر والأدب. ويشعر ستيفن بانعزاله ووحدته وغرابة الحياة التي يجدها عمَّا يريدها أن تكون عليه. وتنمو الرغبة الجنسية في صدره مع مرور الزمن، فيهيم على وجهه في الطرقات، ويُشبع رغبته مع الساقطات في أحيائهن.
وفي الفصل الثالث تتكرر زياراته لهذه الأحياء، ويشعر أنه قد غَرِق في الخطيئة ولا مرد له عنها، ثم تقيم المدرسة احتفالها السنوي بذكرى القديس فرانسيس إكسافيير — راعي المدرسة — حيث تُلقَى خطبٌ ومواعظُ كثيرة. وفي الاحتفال وأثناء الخطبة الرئيسية يَصِف الواعظ الموت والعقاب والحكم على الروح الضالة والخطيئة، فيكون تأثيرها عظيمًا في نفس ستيفن، ويشعر بالخزي مما يفعله. وفي اليوم التالي يَصِف الواعظ الجحيم الذي سيكون مثوى الخاطئين، ويَصِفه وصفًا بشعًا: حيث لا يستطيع مَن لعنوا فيه التحرك حتى ولا لطرد دودة تقرض العين. ويؤكد الواعظ على العذاب الحسي والنفسي للمخطئين، وعلى أبدية العذاب والعقاب، ويرتجف ستيفن من هول ما سمع، ويحنُّ للبراءة والطهر، ويَعِد بالعمل طول حياته لإثبات ندمه على ما اقترف من خطيئة.
وفي الفصل الرابع نجد ستيفن، وقد غمره التدين والورع وخوف الله، يعترف بخطاياه أمام القس، ثم يدعوه مدير المدرسة ذات يوم ويعرض عليه الالتحاق بسلك الكهنوت، كي يصير راهبًا في خدمة الدين، ويبين له ما سيُتيحه له هذا من قوة روحية، ويطلب إليه أن يفكر في الأمر. ونرى ستيفن بعد ذلك في صراعٍ مع نفس، تتدافع على ذهنه ذكريات حياته السابقة في كلونجوز الثانوية، ويرتفع في ثنايا روحه صوتٌ يدعوه إلى عدم الانخراط في هذا السلك الديني الذي سيقيِّد روحه، دون أن يُدرك أثناءها ماذا سيفعل بحياته بعد ذلك. وفي أثناء تجواله ذات مرة على الشاطئ تنبثق في نفسه الحياة التي يشعر أنه قد خُلق من أجلها، الفنان الذي يشكِّل من مادة الأرض الهزيلة شيئًا جديدًا ساميًا لا يموت، ويحس بالحياة تدعوه أن يعيش الحياة، أن يخطئ، أن ينتصر.
هذا عرضٌ سريع لما جاء في الرواية، وهو بالطبع مجردُ عرضٍ جافٍّ عارٍ لحوادث الرواية، ولا يمثِّل بحالٍ طبيعتَها في العمل الفني الكامل المتكامل، ولا بناءَه المعجز.
وحين بدأ جويس في كتابة هذه الرواية، لم تكن على هيئتها الحالية، بل كانت رواية أخرى تحمل اسم «ستيفن بطلًا». ويبدو أنه رأى أنها لا تحقق ما كان ينبغي تقديمه، فألقى بمخطوطها إلى النيران، وقد التقطت زوجته المخطوط بعد أن احترقَت منه بعض الأجزاء، وقد طبعت هذه الرواية بعد ذلك وخرجت إلى النور. و«ستيفن بطلًا» رواية عادية تقليدية في طريقةِ سرْدِها، وموضوعُها محشوٌّ بكثيرٍ مما هو غريب عليه، وليس هناك وجهٌ للمقارنة بينها وبين الرواية الجديدة التي كتبها جويس عن الموضوع نفسه. والأمر الذي يُثير التساؤل هو: لماذا أعاد جويس كتابة «ستيفن بطلًا»، وما هي المؤثرات التي جعلَته يُقدِم على ذلك …؟
أما الرواية ذاتها فيمكن تناولها من ناحيتَين: ناحية الفلسفة الكامنة وراءها، وناحية بنائها الفني؛ فإذا نظرنا إلى القصة من الوجهة الأولى نتبين فيها غرضًا ساميًا قدَّمه لنا جويس — ليس بصورة مباشرة غير مقنعة — وإنما من خلال ثنايا عمل فني متكامل الأطراف؛ فقد صوَّر لنا جويس نفسًا فنانة تعيش وسط بيئة تقليدية، في صراعٍ مع الفقر والمغريات والقيود. ومن خلال هذه الصورة تلمس الطريقَ إلى غرضه، من تبيان أن الفنَّ والإخلاص له هو أهمُّ حدثٍ في حياة الفنان وأن بالفن وحده — الفن الحقيقي لا الفن الزائف — يمكن للفنان الأصيل أن يحقِّق وجوده وذاته في هذه الحياة، وأن النفس الفنانة حقًّا تجد طريقها إلى هدفها، مهما كانت الصعوبات التي تجتاحها والظلمات التي تكتنفها. وتلفُّ هذه الفكرةَ فكرةٌ أخرى أعمق وأوسع، هي فكرة الحرية.
فأما من ناحية الفن، فإن جويس حرص على أن يقدِّم لنا شخصية ستيفن ديدالوس منذ البداية في صورة النفس المرهفة الفنانة، التي تنظر إلى ما حولها بالنظرة التحليلية الحساسة التي يتصف بها كلُّ فنان أصيل؛ فستيفن يشعر في حدة بانعزاله عن الآخرين، ووحدته في وسطهم، وطالما فكَّر في الأشياء الصغيرة التي يراها من حوله، والتي لا تجذب عادةً انتباهَ الشخص العادي؛ ولهذا نراه في الفصل الثاني وطاقاته الفنية تتفتح:
هذه اللمحات التي قدَّمها لنا المؤلف في ثنايا القصة، إن هي إلا إرهاصات لما سيحدث بعد ذلك لهذه الطاقات الفنية التي تكمن في نفس ستيفن ديدالوس الفنان الصغير. وقد تعذبت هذه النفس المرهفة بأحاديث العذاب السماوي؛ لأنها كانت قد وقعت في الخطيئة، وأحس ستيفن بصور العذاب والنيران والآخرة أكثر من الآخرين، لما في روحه من قدرة على الخيال، وعلى تقليب الأمور على جميع وجوهها، فكانت النتيجة المبدئية أن تهاوى أمام الخوف، وخضع لما يُمليه عليه الدين من تحريمات وقيود، ولكن بذرة الفن في هذه الأثناء — الفن الذي لا يرضى بالقيود ولا يحيا إلا في ظل الحرية الكاملة — كانت لا تزال كامنة فيه وإن اختفت إلى حين؛ فقد ظهرت حين كان مدير المدرسة الدينية يعدُّ العدة للقضاء على الفن في روحه نهائيًّا. فحين عرض عليه مدير المدرسة أن ينضمَّ إلى سلك الكهنوت ويصير قسًّا، أحسَّ بصراعٍ في نفسه لم يُدرك ماهيته، وإن كان القارئ قد فطن إلى أن طاقته الفنية تتفاعل في وجدانه بصورة لا شعورية، حتى انبثقت أخيرًا وقد أدرك الغاية التي خُلق من أجلها، وهي التعبير عن نفسه بواسطة الفن، لكي يصنع عملًا خالدًا ساميًا، ويرى ستيفن مرةً فتاةً جميلة تغسل قدمَيها على الشاطئ، فيشعر بفنِّ الجمال وبجمال الفن في الوقت نفسه، ويحس أن هذه الدنيا تدعوه إليها ليجرِّب ويُخطئ ويندم، بدلًا من أن يصير قسًّا ويقيد نفسه بمحرمات الدين، التي لا تتفق — في رأيه — مع الحرية التي تطلبها روحه لتعبِّر عن نفسها في الفن. وهو في الفصل الخامس يحيا حياته بعيدًا عن القيود التي كبَّلت روحه فيما مضى، وكانت تقف حجرَ عثرة في سبيل انطلاقه الفني. وفيه نستمع إلى شرح ستيفن للنظرية الجمالية التي توصَّل إليها، وهي نظرية تتفق ونظريته في الحرية والفن، بما كان يدعو فيها إلى الموضوعية، غير أن ستيفن يُدرك أن لا حرية تامة إلا بعد أن يتخلص من أشد القيود قسوة، الدين، البلد، المنزل، فيسعى إلى التخلص من هذه كذلك، فنجده وقد أنكر الدين، وإن لم يُنكر الإله، فهو يتفق في ذلك مع الكاتبة جورج إليوت قديمًا. ثم نعلم في آخر الرواية أنه على أهبة السفر إلى باريس، فيحقق ما ينشده من الحرية الكاملة بعيدًا عن وطنه — أيرلندا — أشبه كما قال عنه بالأم التي تأكل أبناءها، وهو يقول عن أهدافه لصديقه «كرانلي» وقد سأله هذا عما يريد أن يفعل:
وأهم ما تتميز به «صورة للفنان في شبابه» بعد هذا العرض لفلسفتها، هو أسلوبها وبناؤها الفني؛ فالأسلوب ينحو منحى أسلوب هيمنجواي في كتاباته المتميزة بالجمل القصيرة المتقطعة، الأسلوب البرقي. والفرق بين استعمال هيمنجواي لهذا الأسلوب واستعمال جويس له، أن استعمال الأول ناتجٌ عن الرغبة في الوصول بالصنعة الفنية وطرق تصويرها إلى مناخات قوية جديدة، وهو قد نجح فيما ابتغاه، بينما استخدم جويس هذا الأسلوب كطريقة طبيعية لتيار الوعي الذي يسعى لتصويره، فمن الطبيعي أن الأفكار تترى على الذهن متقطعة سريعة في غير ترابط ولا انتظام؛ ولذلك نجد هذا الأسلوب يزيد من نجاح واقعية جويس الفكرية، ويدعم الطريقة التي اختارها لسرده القصصي.
ويشرح المدافعون عن هذا الأسلوب البرقي الذي يدَّعون بالتواضع في التعبير، بقولهم إن أقصر وأقوى الطرق لتوصيل الفكرة إلى القارئ، هي أبسطها في التعبير عنها؛ فبدلًا من إقامة العوائق في الطريق إلى ذهن القارئ بالتشبيهات والاستعارات والتكرار في العبارات والمعاني، يجب أن يُزال كلُّ حشوٍ وزخرف من الجملة، والاقتصار على أقل قدر ممكن من الكلمات. فمثلًا بدلًا من أن نقول: «كانت ليلة يعصف فيها الريح عصفًا عظيمًا، ويخيِّم البرد على الدنيا كالحارس القاسي»، نقول: «كانت ليلة عاصفة باردة» فقط. وفي الفقرة التالية من «صورة للفنان في شبابه» يمكن إدراك كيف خدم جويس طريقته في السرد بهذا الأسلوب:
أما من ناحية البناء الفني للرواية، فأنا أعتقد أن «صورة الفنان في شبابه» قد بلغت الكمال، ولا يوجد شبيه لها من هذه الناحية في روايات الأدب الإنجليزي. إنها أشبه بالقصيدة في تطورها العضوي، وفي تضامن كلِّ جزء وحرف فيها نحو الوصول إلى معنًى كليٍّ واحد، فإنك لا تجد فيها شيئًا لا احتياج إليه، مهما بدا كذلك لعين القارئ في البداية. ولا تجد شيئًا زائدًا، بل كل جملة لها دورها في توضيح المعنى أو تطوير الشخصية، وبذلك تلعب دورها المهم في الرواية.
ونحن نجد اللغة في الرواية تنمو مع نمو بطلها «ستيفن ديدالوس»؛ ففي البداية نكون مع ستيفن الصبي بحكاياته ومشاغله الصبيانية، ونظرته البسيطة للأمور، وعلى هذا فكل ذلك يسرد بلغة وكلمات سهلة بسيطة كالتي يفكر بها الأطفال، ثم تنمو اللغة وكلماتها التي تمرُّ بذهن ستيفن كلما مرَّ به الزمن ونما، حتى النهاية حتى يبلغ البطلُ شأوًا من الثقافة والتفكير، نجد اللغة معقدةً شيئًا ما لتتلاءم مع تشابك فكر البطل وشطحات خياله. وقد أتاحت طريقة تيار الوعي لجويس التخلص من البناء التقليدي للقصص، الذي يصرُّ على تقديم تسلسل منطقي متتابع للأحداث، ولو أدى ذلك إلى تدخُّل المؤلف ليقدِّم تفسيرًا لكل ما يحدث في روايته، حتى تكون هذه الأحداث شيئًا منطقيًّا مفهومًا للقرَّاء. وجويس لا يفعل هذا وما كان له أن يفعله، فهو يقدِّم لنا ما يمرُّ على ذهن شخوصه؛ فإذا مرَّ بهذا الذهن شيءٌ مألوف لديه ومعروف له، ولكننا نحن القرَّاء لا نعرفه؛ فالمؤلف لا يتدخل لتفسيره، وإنما يتركه كما هو، حتى إذا ما سنحَت الفرصة بعد ذلك عَمِل على توضيح الأمر لنا في مسار الرواية، وهذه هي الواقعية الحقة. ولإيضاح ما تقدَّم، نقول إن جويس يذكر لنا في ثاني صفحة من الرواية، أن ستيفن وهو طفل قال إنه سيتزوج من «إيلين»، ابنة الجيران التي كان يلعب معها، فزجرته خالتُه دانتي وطلبت منه أن يعتذر وإلا سينزع الصقر مقلتَيه، ونحن لا نفهم سببًا لهذا الزجر على أمر طبيعي يقوله كل طفل عن رفيقة لهوه. ولكننا نعلم بعد ذلك أن «إيلين» هذه من مذهب في المسيحية يختلف عن ذلك الذي تعتنقه الخالة دانتي المتعصبة لمذهبها تعصُّبًا أعمى، ونحن لا نعلم هذا التبيان إلا بعد سبعين صفحة من الإشارة الأولى لهذه الحادثة، ودون أي ربط بينهما، وكذلك فإن حوادث الرواية لا تترى في تتابعٍ منطقي مألوف، وإنما تأتي في مكانها المرسوم لها حسب ورودها على أذهان شخوص القصة.
وهكذا يرتبط كلُّ جزء في الرواية بالأجزاء الأخرى برباط وثيق، متعاونًا على إخراج بناء مُحكم دقيق لهذه الرواية الخالدة.