الرصد
قبل أن يتفرق الآلهة في الأرض، فكر بعل كبيرهم أن يدعوهم إلى مأدبة يقيمها لهم في مغارة قاديشا.
وكان الليل الذي اختاره ليلًا صافيًا نقيًّا من أعذب ليالي لبنان، أمر فيه الرياح أن تهدأ، والبحر أن يسكن، والهواء أن يعتدل. في الهزيع الأول من ذلك الليل كانت أشباح جبارة تتخطى رءوس جبال الجرمق والريحان والباروك وصنين والعاقورة والشيخ، هابطة من فم الميزاب وضهر القضيب، تسير في مواكب من العظماء والعظيمات على ضوء النيرات المدلاة لهم من أعالي السماء.
فإذا بلغت المواكب الطريق المؤدية إلى المغارة ارتفعت النيرات عائدة إلى سمائها، وداس الآلهة طريقًا فرشها لمقدمهم الإله الأكبر برمال من الذهب، تؤدي بهم إلى مغارة غُطيت حيطانها بالحرير الأرجواني، وفُرشت أرضها بالأخضر منه، وأضيئتْ جوانبها بأشعة تنبعث من شموع لا تذوب، كأنها من جوهر الماس، وزُيِّنت بمختلف أنواع الزهر الشذي النضير، في سلال محبوكة بالنور.
ودُعي الآلهةُ إلى مقاصفَ ارتفعت على أعمدةٍ من الفضة، فوق مجرى النبع، ووضعت من حولها الطنافسُ الناعمة النادرة، وقدم الطعام الشهي، وهو من خير ما عرفت الدنيا، والفاكهة، وهي من أَلَذِّ ما أنبتت جنائن لبنان، والخمرة المعتقة منذ الأزل في أقبية بعل، أدارها عليهم، في آنية من الإبريز مرصعة بالياقوت والمرجان، صبايا حييات مجللات بالأبيض، مؤتزرات بالأرجوان، أرق أديمًا وأندى من وجه الفجر.
وكانت الراقصات في أثناء الطعام، يقمن بأبرع ما عَلَّمَهن بعل مرقد من فنون تحار بها الألباب، على أعذب وأطرب أنغام عرفتْها السماء ومرت في أجواء الأرض.
وما أن هَمَّ الآلهة بمغادرة المقاصف، حتى وقف الإله الأكبر فقال: لقد قسَّمت بينكم الأرض، وسيسافر غدًا كل واحد منكم إلى حيث أعددت له العُبَّاد والهياكل.
ولكنه لا يصلح لنا جميعًا أن نتخلى عن حماية هذه الديار أنى أقمنا من الأرض؛ فهي بلادنا الأصيلة ونعيمنا الأول، ترعرعنا في أكنافها، وتظللنا سماءها، وعببنا من أنهارها وينابيعها، وغسل بحرُها أقدامَنا.
فانبرى ملكرت، رب الحرب المنتصر وإله البحر، فقال: سأظل أحمي شواطئها وأرد عنها.
وقال مرقد: أجعل من مرابعها مراقصَ ومسارحَ للنعيم، وأُعلِّم أبناءها أصول الفن، فلا يبذهم فيه أحد.
وقالت شيما: أمسح أبدًا وجهها بظل من جمال وجهي، فتكون أنعم وأرق بقعة من الأرض.
وقال أنو، إله السماء: أترك لون عينيَّ في سمائها فتظل زرقاء صافية تلمع على آفاقها أبهى النيرات.
وقال أنليل إله الأرض: أخصب أرضها.
ووعدت مينرفا، إلهة الحكمة، أن تجعلها للفكر معقلًا وللحكمة مهدًا.
واتفقوا جميعًا على أَنْ يجود كلٌّ بما عنده من خير ومحبة وقوة على لبنان، ليظل، مهما تألبت عليه النوائب، راسخًا عزيز الجانب مرموقًا، لا يدخله فاتح إلا ويخرج منه ذليلًا، ولا يطمع فيه طامع إلا ويخيب، ولا تمتد يد إليه إلا وتحرقها النار. ويظل هو منبعًا دائم التدفق للجمال والحب، يوزع منها على الدنيا ويخفف بهما الآلام التي كان يعرف الآلهة أنها ستعصف بالخليقة، ويظل اسمه حربًا على البشاعة حيثما عششت في الأرض.
قال بعل: طيبة هذه العهود، ولكن لا بد لنا من أن نترك رصدًا في هذا الجبل، ينبئنا بما فيه؛ لنسارع إلى نجدته كلما هددتْه المخاطر، وأحدقت به الرزايا. وخليقٌ بنا أن نقيمه من شيء لا يظن به ولا يتوجس منه المعتدون، وهذا الأرز القائم على مقربة منا في ظهر الرابية، من ها هنا، حقيقٌ بأن يكون هذا الرصد.
فصفَّق الآلهةُ، استحسانًا، وامتدت أيديهم إلى جوف الأرض حتى أمسكت بجذور الأرز فباركتْها، وانصرف الآلهةُ بعد ذلك وأطبقت الصخور على باب المغارة المقدسة.
وها أن الأرز يقوم برسالته منذ آلاف السنين، فهو كلما أحدق خطر بلبنان تضطرب أغصانه الخالدة، وتثور وتسمع عزيفًا رائعًا، فيتسارع الآلهة من أقاصي السماء والأرض، يدفعون البلوى مهما طال أمرها، ويدحرون المغتال مهما عظم شأنُه وتفاقم خطرُه، ويعيدون الطمأنينة إلى الجبل ويُوطِّدون السلام.