بعل مرقد
بعل مرقد زين شباب الأولمب.
لها فما لها إله مثله.
علقته الإلهات فوَلَّهَهُنَّ، حتى أغار الآلهة، بيد أنه كان يعشق من دونهن صورة لصبية تخيلها أبهى وأجمل وأنعم من أجملهن وأروعهن بهاء.
ذلك سره المكنون، سر كان يترك على جبينه مسحة كآبة وفي عينيه أطيافًا وأحلامًا.
وبعد أن أدار بعل الكبير الكون، راح بعل مرقد يتعرف إلى وجه الأحياء والنبات والجماد، لعله يجد للصورة الحبيبة في المخلوقات شبيهًا.
يضرب كفًّا في السفوح فيفجِّر الينابيع.
ويشير بيده إلى التراب صعدًا فتنبثق الأشجار.
ويرنم، فيكر من كل أفق بلبلٌ جديد يبسط على الريح جناحًا رشيقًا، ويرسل في الأجواء أغنية واجدة.
وتسلى الإله طويلًا وعبثًا.
وبينا هو يطوف ذات يوم في جبال لبنان، بلغ مكانًا عُرف في ما بعد بهضبة بعل مرقد، فأعجب به: تلة تنهض كالشمخ الغض وكالنهد المتكبر، تدور حولها الأوداء، وترمقها قمم صنين والكنيسة، ويرنو لها المتوسط بألف عين متألقة، وتنسكب عليها الأضواء من أغوار السماء البعيدة.
ونظر، فإذا الأرض هنالك تنكشف عن صخر تغلغلتْ في حناياه ألوان الوزال والشقائق والخشخاش، وبقيت فيه على بهائها تعبث بكف الزمن الماحية.
فأخذ إزميلًا وراح ينحت.
ينحت ليل نهار، يحدوه الشوق، ويستحثه الأمل.
فينفلت الحجر.
ثم يتكور الحجر.
ثم يشرق الشكل العجيب الفريد.
ويخر بعل أمام الصورة الحبيبة المحققة في الحجر الأبكم.
هو ذا المعبود ينقطع، والأجيال تنهض وتنهار، على معبود من نسج خياله ومن صنع يديه فتعرف السماوات حبًّا لم تشهد من قبل له نظيرًا، إن كواكب لبنان وتراب التلة المقدسة تستطيع وحدها أن تقول لنا كم ذرف بعل مرقد من دموع، وكم مرغ على قدمي تمثاله جبينه العالي، وكم قضى من الأزمان يناجيه ويسترقه. وإن الحجارة هنالك والأدغال تهمس في أُذُنَيْ من يسمع: إن العذب الحار من لغة الحب أصداء باردة لأحاديثه، وإن الصلاة ذكريات من نجواه.
وبينا هو يومًا في غمرة من الهوى والألم، إذا بالتمثال يرتعش، وينقل في الأرض رجلًا، ويتمايل بين يديه أخف من النسيم.
مر على الأولمب فترة كان خبر الشوق الخالق فيه حديث الآلهة، ومر على بعل مرقد ولبنانة عهد نشوةٍ ومرح يُعجز الوصف.
ولكن المأساة، مأساة الألم والشقاء، كانت قد بدأت ساعة صار الحجر إنسانًا ولم يستطع أن يصير إلهًا.
لم يهون على لبنانة حب بعل ولا الأعراس التي أُقيمت لها، وضجت بها مشارق الدنيا ومغاربها.
ولا رَوَّحَ عنها أن الغوالي المخبآت في أقاصي السماء، في مقاصير الشمس ومغاني القمر، كانت تسفح كل يوم على قدميها.
ولا أسلاها وأنساها أن الأنغام كانت ترتفع بالتسابيح لها كلما أطل وجهها السني على الدنيا.
ولا قَلَّلَ من همها أن الإلهات كُنَّ يحسدنها، ويتمنين أن يحتللن من قلب بعل الجميل بعض مكانها فيه.
فقد كانت لبنانة تشعر في أعماقها أن ذل الحجر ما يزال عالقًا بها، يشدها إلى الأرض حين تريد أن ترتفع، وأنها سجينة هذا الشكل الرائع المحسود لا تستطيع براحًا ولا انفلاتًا، ولا هي تعرف هل تظل هي إياها، ولا ما سيكون مصير ما تستشعر بذاتها من عقل وإحساس وشوق ولذة وألم إذا ما قدرت على الانعتاق.
وكانت تعرف أن بقاءها موقوفٌ على أنها تأكل وتشرب وتنام، وتعرف أنْ لا حاجة للإلهات من أجل البقاء إلى النوم ولا إلى الطعام ولا إلى الشراب، وأنهن إنما يأكلن ويشربن ويَنَمْنَ، متعة منهن ولذة، وأنهن لا يخفن لوافح البرد ولا لواذع الحر.
وتعرف أنها لا تعرف كيف تأتيها هذه المعرفة.
وكانت، بسبب ذلك كله، شقيةً تتساءل: أهي اليوم أفضل حالًا، أم كانت أفضل حالًا قبل أن يحركها الشوق، يوم هي حجر لا يعقل ولا يحس، ولا ينعم ولا يشقى، ولا يُفكر بمصير، ولا يُدرك أنه موجود؟
لا، لن يقول لنا أحدٌ شيئًا عن الجهد الجبار الذي كان يقوم به بعل ليُزيل من خاطِر لبنانة هذه الهواجس، وليجعل من حياتها نعيمًا. إن شوقه هو الذي خلق مع الحياة هذه المتاعب عند أحب مخلوقة يطمئن إليها قلبه، وتقر بها عيناه.
فيا لعظم التبعات التي هي تبعاته!
غير أن لبنانة كانت تدرك من ناحيتها أن بعلا لن يستطيع من أجلها بعدُ شيئًا، وأن إخلاصها غير منوط به، وأن الشوق، شوقها هي هذه المرة، شوقها إلى الانعتاق والانفلات، يقدر وحده على شق طريق الخلاص.
وذات ليلة وبعل يعزف ويغني لها أغنية الحب الخالد، قامت إلى رأس التلة وأخذت تختطف الخطو اختطافًا، فلا تلمس قدماها الأرض إلا لمسًا رفيقًا كأنما هي تتوكأ على جناحَي النغم.
وأقبل الكون ينظر:
وظلت لبنانة ترقص وترتفع، ثم تهبط راقصة وترتفع ثانية، حتى أقبل الفجر عليها وهي خصلة من نور، تتعالى مسرعة إلى ما وراء النجوم، وبعل مرقد في أثرها يعزف ويغني ويرتفع.
وشيَّدت بنات لبنان بأيديهن الناعمات القويات السخيات هيكلًا جبارًا فوق التلة المقدسة، أخذن حجارته من المقلع الذي نَحَتَ منه بعل تمثال لبنانة، يَعْبُدْنَه فيه ويَعْبُدْنَها.