القديم والحديث١
لم يأتِ على هذه الأمة دور مثل هذا اشتد فيه النزاع بين القديم والحديث، وانهزم القديم بضعف القائمين به، وقوة أنصار الحديث، عنينا بذلك أرباب التقليد، ممن يرون السعادة في الاكتفاء بما تعلموه من آبائهم، وورثوه عن أجدادهم من العلوم والآداب، ويعدون ما عداها ضررًا يجب البعد عنه ومحاربته بكل وسيلة، كما عنينا أرباب التجديد الذين يزعمون أن الاكتفاء بعلوم أهل الحضارة الحديثة وحدها كافية في رفع شأننا.
نشأت للأمة ناشئة بعد أن كثر احتكاكنا بأوروبا في أواسط القرن الماضي. عادت القديم معاداة خرجت فيها عن طور التعقل، وذلك نكاية بما رأته من دعاة ذاك القديم، وأكثرهم مثال الجمود والبلاهة، ونموذج الفساد وسوء التربية، فقامت تزهِّد فيهم وفيما يدعون إليه، تحمل عليهم حملاتها، وتتحامل عليهم بتحملاتها، وكذلك كان شأن أنصار القديم مع دعاة الحديث، يرمونهم بكل كبيرة، ويسلبونهم كل فضيلة، ويطعنون بعلومهم إلَّا قليلًا، ويعدون النافع منها مما لا يضر ولا ينفع.
لا خلاف في أن ملَكة الدين والآداب ضعُفت في البلاد الإسلامية لضعف حكوماتها، والعامل الرئيسي في كل البلاد هو السياسة، إذا ضعفت يتبعها كل شيء، فجهل الحكام والملوك منذ نحو ألف سنة، هو الذي رفع شأن المنافقين من العلماء الرسميين، فصار العلم الديني يتعلمه المرء لا لينال السعادتين ويكون عضوًا مهمًّا في جسم المدينة الفاضلة، بل ليخدم به أغراض أمراء السوء، ويستولي على عقول العامة، وتُقبل يداه ويُكرم بالباطل، وهذا ما حدا حجة الإسلام الغزالي، وأضرابه في عصره وبعده، أن يُنحوا على فقهاء السوء إنحاءهم على أمراء السوء؛ لأنهم يتعلمون علوم الفقه والفتيا؛ ليتقربوا بها فقط من السلاطين، ويجعلوا من الدين سلاحًا يقاتلون به من يناصبهم في شهواتهم وأهوائهم. ولقد فضل الغزالي في الإحياء وتهافت الفلاسفة من يتعلمون الطب على الفقهاء، وقال: إن من يقولون إن علوم الدنيا تنافي الدين يجني على الدين.
شُغلت الأمة زمنًا بنفسها، فضعفت ملكاتها، وكانت الحروب الصليبية وغارات التاتار من العوامل المنهكة لقواها، ثم قام ملوك الطوائف وفرقوا الشمل بعد اجتماعه، إلى أن جاءت الدولة العثمانية وهي تاتارية لا تقيم للمدنية وزنًا، ولا تعرف لعلوم العمران لفظًا ولا معنى، قوتها بجندها، وعلمها في إرهاف حدها، وعظمتها ببطشها، ومجدها باكتساح البلاد، وإخضاع النفوس لسطوتها، فحاول محمد الفاتح أحد ملوكها أن يجعل من القسطنطينية دار علم، كما هي دار ملك؛ مجاراة لدولة الجراكسة في مصر والشام، وأعظم لذلك الأعطيات والهبات، وأنشأ المدارس وحبس الأوقاف، ولكن ذلك لم يدم إلَّا بدوامه، حتى إذا مضى لسبيله عادت الحكومة إلى زهدها في العلوم، وقد صارت رسميَّة على عهد المفتي أبي السعود الذي سعى لجعل العلم وراثيًّا، وصار ابن العالم يرث أباه ووظائفه ورواتبه، وإن كان أجهل من قاضي جبل. وعالمٌ هذه حاله هو الجناية الكبرى على الدين والدنيا، والبلاء العمم على البلاد.
ومع أن الفرس والترك سواء في العجمة، فالفرس أقدر من الترك على تلقُّف اللغة العربية منذ القديم. والعربية لغة الدين لا يبرز في علومه من لم يتعلمها، ولا يفهم الكتاب والسنة من لم يُحكِم بيانها. وما تراه من حال علماء فارس اليوم وإتقانهم العربية، وارتقاء علومهم الشرعية، وانحطاط العربية في بلاد الترك، وضعف ملكة العلوم الدينية فيها، لا يرجع إلَّا إلى أن ميل أبناء فارس إلى إحكام العربية قديم فيهم، وأن الترك بأمرائهم المتبربرين جمدوا على فروع قليلة من الفقه والكلام، وزهدوا فيما عداها، فجنوا على البلاد جناية كبرى.
ولما أرادت الدولة أن تنهض وتتشبه بأوروبا، وأخذت على عهد سليم الثالث تتعلم فنون الحرب والبحر والسياسة، وما ينبغي لها من الطبيعة والرياضة والاجتماع، أخذت روح التفلسف تسري إلى الآستانة، ومنها سرت إلى الولايات ومصر. فلم يعبأ أنصار القديم بما رأوه أولًا، واحتقروا ذاك السيل الجارف الآتي عليهم من أوروبا، وارتأى بعضهم أن خير ما يقابل به المتزندقون أن يكفروا أو يحرموا أو يضربوا، أو يحبسوا أو يهددوا بالقتل أو يقتلوا، ولم يعدُّوا لذلك من العدد اللازمة لبث دعوتهم، وحفظ ملكة الدين في القلوب، لتسير مع علوم الدنيا كتفًا إلى كتف، وجاءت أدوار أصبح الوزراء وولاة الأمر إلَّا قليلًا من الطائفة التي نزعت ربقة القديم، فلم يبقَ عليها إلَّا اسمه، بل كان بعض المتطرفين في انحلالهم يدعون سرًّا وجهرًا إلى عدم التأدب بآداب الدين، محتجين بما هو ماثل للعيان من فساد القائمين عليه، وانحطاط المنتسبين إليه.
وها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين والدنيا والأمة شطرين، شطر هو إلى البلاهة والغباوة، وشطر إلى الحمق والنفرة، وبعبارة أخرى نسينا القديم ولم نتعلم الجديد، ومن الغريب أن معظم المستنيرين بقبس العلوم الأوروبية منا لا يرجعون إلى آداب دينهم، ويميلون في الظاهر والباطن إلى أن يكون الدين فقط جامعة تجمع الأمة على مثال الجامعات السياسية والجنسية، وإذا سألتهم عن الحلال والحرام وعما شرعته الأديان، صعروا إليك خدودهم وقالوا لك: إن الأمة تعيش بحديثها دون قديمها، وإن ذاك القديم إن لم يضرنا الأخذ به فهو لا ينفعنا، والعاقل لا يُقبل إلَّا على ما ينفعه ويُعلي قدره.
تلك هي شنشنة أنصار الحديث أو الملاحدة والزنادقة الطبيعيين، كما يطلق عليهم المتدينون، وهذه حالة هؤلاء مع أولئك، وستكون الغلبة لأنصار الحديث إذا لم يقم خصومهم بلم شعثهم على صورة معقولة مقبولة، وبين هذين الفريقين فريق ثالث اختار التوسط بينهما، فلم يرَ طرح القديم كله، ولا الأخذ بالحديث بجملته، بل آثر أن يأخذ النافع من كل شيء ويضم شتاته، وهذا الفريق المعتدل على قلته لا يقاومه العقلاء من أهل الفريقين الآخرين مقاومة فعلية، وعامتهما غير راضين عنهم بالطبع؛ لأن أكثر الناس يحبون أن تكون معهم أو عليهم ولا وسط بين ذلك.
أما الرسائل التي هي لبها «المجلة» فرأيتها تدور أبدًا على حث الناس على درس العلوم المدنية، التي تُركت في العالم الشرقي منذ نحو خمسمائة سنة، واقتباس الآثار الإفرنجية الحديثة فيها وإحياء الآداب العربية، وهذا مطابق بحسب اختباري للطريقة الصحيحة لسعادة الأمم؛ إذ لا فائدة من تقليد الأجانب وحده، ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية «الوطنية» وحده، بل الخير كل الخير في الأخذ من هنا وهناك، وتعميم الدرس، والبحث مع إضرام تلك الشعلة العظيمة التي هي ذات نور، وذات حرارة، وذات إنبات؛ وأعني بها المبدأ الشعبي، ولنا أن نسميه الشعوبية على شرط أن نجرده من الرائحة غير المقبولة.
اجتهد الإسلام والنصرانية أن يُنشئا جمعية تقوم بالدين وحده؛ ليكون أهل الشهادة بذلك الدين ظاهرين على الدين كله إلَّا أنهما فشلا. ولقد تنبأ بعض المسلمين بأن الجامعة الإسلامية التي ستكون في أواخر هذه السنة، لن تأتي بما يرجوه أكثرهم من تقوية عروة الدين، بل ستقوي الأحزاب الشعبية، وربما يتسع الخرق بين الجماعات من جهة المذهب الديني. أما أنا فأقول: إن تقوية روابط المسلمين مع من حولهم من غير المسلمين المبنية على وحدة التربية والأخلاق والعادات، وعلى وحدة اللسان، لا تخلو حقيقة من تقوية الدين نفسه؛ لأن هذا الاجتماع من شأنه أن يدعو إلى نمو عامة التقوى، فيزيد من له ميل إلى الحياة الدينية اعتقادًا وعملًا، كما يزيد من له ميل إلى غير الدين قوة فيما اختاره؛ وعلى هذا فمن مصلحة كل دين أن يكون نصف منتحليه مجتهدين مخلصين، أكثر من أن يكون الجميع فاترين غير مكثرين بشيء. ا.ﻫ.
هذا ما كتب لنا به العالم الغربي الشرقي منذ أشهر، نشرناه ليطلع عليه أنصار القديم والحديث، فيعلم الجامدون على مسطور القديم ألَّا قيام لأمرنا بغير الأخذ من مدنية أوروبا، ويدرك أنصار الحديث بأن هذه المدنية الجديدة التي بهرتهم بزخارفها وسفاسفها، لا تنفعهم وتنفع بني قومهم إلَّا إذا رافقها ما يُجملها من علوم الأسلاف وآدابهم، والأمة التي تنزع ربقة قديمها جملة واحدة، وتنتقل إلى طور آخر دفعة، قد ينعكس عليها الأمر ويلتوي عليها القصد، ولم تنجح اليابان إلَّا لكونها اقتبست المدنية الغربية ومزجتها بأجزاء مدنيتها؛ وهذا سر قول العالم المشار إليه: «لا فائدة من تقليد الأجانب وحده، ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية»؛ أي ما ورثناه عن أجدادنا من التشبث بأهداب الوطنية، وذكر القديم والحرص عليه.
ولنا في الغرب دولتان كبريان، هما مثال في اقتباس الجديد والحرص على القديم، فقد شهدنا ألمانيا إلى اليوم تجري في مدارسها وكلياتها على آداب النصرانية المنقحة، فلا تسند التدريس فيها إلَّا لرجل عرفت ترجمته وحياته؛ مخافة أن يُفسد عليها تربية أبنائها فتكون مدنية دينية، أما فرنسا فناهضت الدين منذ زهاء مائة سنة، وزادت مناهضتها له في السنين الأخيرة، حتى نزعت لفظ الجلالة من المعاهد العامة، وأخذت تُضيق الخناق على أهل التدين من حملة العلم والأقلام، حتى صار المتدين سرًّا يتجاهر بالانحلال جهرًا؛ ليأمن على معاشه ورزقه، وسموا هذا حرية، ولكن الله يحصي على الأمم ذنوبها كما لا يغفل عن الأفراد، وها قد أخذت المدنية الإفرنسية التي بهرت العيون في الزمن الماضي، ترجع القهقرى وعلماء الأخلاق فيها يبكون دمًا على انبتات شملهم وتراجع عمرانهم، حتى روى بعض الإحصائيين أن عدد الفرنسيس سينزل في أواخر القرن العشرين إلى ثلاثة ملايين؛ لأن المواليد أخذت تنقص عن الوفيات. أمَّا في ألمانيا فبفضل التربية الدينية والحرص على الأخلاق قبل الحرص على تلقين العلوم، فإن النفوس تتزايد سنة عن سنة، بحيث خيف من تكاثر نسلهم على البلاد المجاورة لهم مع ما هم عليه من المدنية الصحيحة، والعلم بالصناعات والفنون. ولا غرو؛ فإن من خُلق الألماني أن يترك من القديم كل ما لا ينفع منه، أمَّا الفرنسوي فيجرف منه النافع مع الضار، وشتان بين الخلقين والمدنيتين، وها هي النتيجة قد ظهرت للعيان مذ الآن.
وبعد، فإن كل عاقل عرف تاريخ هذه الأمة، يرى الخير كل الخير في احتفاظها بقديمها، وضم كل ما ينفع من هذا الجديد، على أن تكون للدين والعلم حريتهما، فتكون المعتقدات بمأمن من طعن الطاعنين بها، كما تجري المدنية على الشوط الذي يراه، وإذا رأى بعضهم في بعض المعتقدات ما لا ينطبق على روح الحضارة والعلوم العصرية، فالأولى أن يطبقوا العقل على النقل، كما هو رأي كبار علماء الإسلام منذ القديم، وإذا عجزت عقولهم عن ذلك فالأجدر بهم أن يأخذوا بعض القضايا بالتسليم، ويتركوا العالم حرًّا يسير وحده دون أن يعوقه عائق، وما نخال كل عاقل إلَّا ويعتقد أن صحيح النقل لا يخالف صريح العقل والله أعلم.