الإنشاء والمنشئون١
ولم يؤثر عن عصور الجاهلية خطب ورسائل كثيرة؛ لأن التدوين لم يحدث في الأمة العربية إلَّا في أوائل القرن الثاني للهجرة، وكانت العرب تعتمد على ذاكرتها ومحفوظها ورواياتها المتسلسلة، قال الرقاشي: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره، ومعظم الذي أبقته الأيام من أدب العرب لم يبرح محفوظًا في الخزائن لم يُطبع، وأكثره محفوظ في جامعات أوروبا ودور كتبها.
خُتم القرن الأول بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، فإن رسائله الموجزة وخطبه الغراء التي نقلها ابن سعد في «الطبقات الكبير»، وابن الجوزي في «مناقبه» آية في البلاغة، وفيها من أدب العرب مسحة وطلاوة، ورسائله وخطبه في الإدارة والسياسة على قلتها، تربي فيمن يتدبرها ملكة الإنشاء، وتقف به على أصول الإدارة العربية، ومن بلغاء هذا القرن زياد بن أبيه، والحجاج بن يوسف الثقفي، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان، وهذان الأخيران من خطباء الخوارج، وقد استغرقت أخبار الخوارج الذين خرجوا على الخليفة الرابع يوم النهروان، جزءًا مهمًّا من كتاب «الكامل» للمبرد، تتمثل بها بلاغة الفوضويين والعدميين والشيوعيين في الإسلام.
جاء القرن الثاني وقد نبغ في أوله عبد الحميد بن يحيى الكاتب، وهو النهاية في البلاغة والفصاحة، اختط للناس خطة الترسل والإنشاء، ثم عبد الله بن المقفع الذي أسلست له الكتابة قيادها، فلم تعد له هنة واحدة في باب التكلف، بل كان في «اليتيمة» وسائر ما فاضت به قريحته من رسائله ابتداء، كما كان في ترجماته «كليلة ودمنة» طبقة عالية في البلاغة، ولو عمر بن المقفع (عاش ستًا وثلاثين سنة) لأبقى لنا أمثلة في البيان، يتخرج بها طلاب الأدب من العرب، على غابر الحقب، ونبغ في هذا القرن سهل بن هارون، وهو بالقليل الذي وصلنا من رسائله نابغة في علمه وأدبه، وناهيك بمن كان الجاحظ ينوه به، وينقل عنه في كتبه، وكان كثيرًا ما يؤلف الكتاب وينسبه لسهل بن هارون فيجمع الناس على استحسانه، أكثر مما كان لو نسبه لنفسه، وكتابة سهل من السهل الممتنع، لا حوشي فيها ولا مبتذل، أو كما قال الجاحظ في الكتاب: «إنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًّا، ولا ساقطًا سوقيًّا»، ومن خطباء هذا القرن داود بن علي وشبيب بن شيبة، ومن كتابه إسماعيل بن صبيح كاتب الرشيد، وعمر بن مطرف كاتب المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، وصالح بن جناح صاحب كتاب «الأدب والمروءة»، وكلامه رشيق دقيق مستفاد في الحكمة.
وكان يقال: بلغاء الناس عشرة عبد الله بن المقفع، وعمارة بن حمزة، وخالد بن يزيد، وحجر بن محمد، وأنس بن أبي شيخ، وسالم بن عبد الله، ومسعدة، والهزبر، وعبد الجبار بن عدي، وأحمد بن عدي، وأحمد بن يوسف. قال صاحب «الفهرست»: ومن البلغاء الحدث إبراهيم بن العباس الصولي، والحسن بن وهب، وسعيد بن عبد الملك، ولم يصل إلينا من كلام هؤلاء الجهابذة شيء يُذكر اللهم إلَّا ما عُرف من كلام ابن المقفع وأحمد بن يوسف والصولي، والباقون دثرت كتاباتهم إلَّا نتفًا قليلة لا يبنى عليها حكم.
ومن كتاب هذا القرن أبو إسحاق الكاتب إبراهيم بن محمد المدبر وزير المعتمد على الله المتوفى سنة ٢٧٩ — صاحب النظم الرائق والنثر الفائق — وهو صاحب «الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة» التي نشرناها في «رسائل البلغاء».
وامتاز القرن الثالث بظهور الجاحظ (٢٥٥ﻫ)، الذي رزق الإجادة في كل ما كتب، وهو رب البديهة في أفكاره ومظاهر علمه وتقريره، ولم يُعهد قبله أن تبرز الموضوعات المختلفة في هذا القالب الفتان، الذي يُظهرها فيه غير متكلف ولا متعسف، وكلماته كلما كررتها حلت، وبقدر ما تتلوها تتجلى لك رقة معانيها ومتانة مبانيها، وتُدهش وأنت تطالع كلامه من تملكه ناصية اللغة، وبراعته في استعمال الألفاظ في أماكنها، وربما تساهل فأورد ألفاظًا عامية في معرض كلامه لينقل الأفكار بحالتها، ولم يكد يعهد مثله في المجودين من المؤلفين من يريك ببيانه الباطل حقًّا، والحق باطلًا، يقول الشيء ونقيضه، ويقنعك في الأول حتى لا تظنك تقنع بعد بكلام، ويرجع عليك بكلم طيب، فينسيك ما أصاب في الأولى، وهكذا يلعب بالعقول كالسحر، ولكنه السحر الحلال.
افتح أي كتاب من كتب الجاحظ التي أبقتها الأيام للمكتبة العربيَّة ذخرًا وفخرًا، تشهد العجب من تفننه وإبداعه، وتدرك كيف تستجيب له المعاني، وتنقاد الألفاظ برشاقتها وجزالتها، وقد يشوب كلامه ببعض الظرف والهزل والنوادر أحيانًا لئلا يمل مطالعه، هكذا تراه في «كتاب الحيوان» و«البيان والتبيين» و«البخلاء» و«المحاسن والأضداد» و«الحاسد والمحسود» وغيرها من رسائله، وهي بضع وعشر رسائل مطبوعة، وكل صفحة من صفحاتها أفيد من مجلد برمته. وممن يجيء بعد الجاحظ أبو حنيفة الدينوري صاحب كتاب «الأخبار الطوال»، وأبو حنيفة أكثر ندارة، وأبو عثمان — الجاحظ — أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأعرب، وأدخل في أساليب العرب، قال أبو حيان التوحيدي: والذي أقول وأعتقده وآخذ به وأساهم عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر إلَّا ثلاثة لو اجتمع الثقلان (؟) على تقريظهم ومدحهم، ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، وذكر الجاحظ والدينوري وثلَّث بأبي زيد أحمد بن سهل البلخي، ووصف كل واحد بألفاظ عجيبة.
ومما امتاز به هذا القرن أن علوم الأوائل التي بدئ بترجمتها في منتصف القرن الأول في دمشق، بمعرفة خالد بن يزيد الأموي، وعني بها عمر بن عبد العزيز أواخره، قد زادت العناية بها في بغداد على عهد المنصور العباسي، ثم بلغت أشدها في زمن المأمون، وقد أدخلت هذه العلوم والصناعات في العربية روحًا جديدًا، فتُرجم إليها من اليونانية والسريانية والفارسية والهندية وغيرها، فاغتنت اللغة ورأت من الأساليب والأفكار ما لا عهد لها به، وهذا أول تأثير من آداب الأمم الأخرى أصاب اللغة العربية، فأصبحت لغة علم وصناعة، بعد أن كانت لغة شعر وحكمة فقط، وعصر المأمون هو في الحقيقة العصر الذهبي في الأدب والكتابة والعلم وسائر مقومات الحضارة العربية.
قلنا: إن أحمد بن يوسف الكاتب هو من أوائل البلغاء، وقد أورد بعض رسائله الصولي في كتاب «الأوراق» المخطوط، وأورد له ابن طيفور صاحب «كتاب بغداد» المطبوع نموذجات من رسائله، وفي كتب التراجم المطولة شيء عن كتاباته المسجعة على مثال السجع، الذي يقع في كلام أئمة البلاغة في القرن الأول، وناهيك برجل أُعجب المأمون بعقله وأدبه فاستوزره واستكتبه، والكتاب المجودون في هذا القرن كثيرون، ومنهم عمرو بن مسعدة وزير المأمون، «وكان كاتبًا بليغًا جزل العبارة وجيزها، سديد المقاصد والمعاني»، وصدق عليه ما قاله الرشيد في البلاغة: «البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى»، وأبو علي الدامغاني الوزير، وأبو الفتح البستي «صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس النفيس البديع التأسيس».
ومن أهم من انتشرت كتبهم ابن قتيبة (٢٧٦)، فهو ثاني الجاحظ بعلمه وجودة إنشائه وتأثيره، وفي كتابه «الإمامة والسياسة» و«كتاب العرب» و«مختلف تأويل الحديث» و«الأشربة» و«المعارف» و«عيون الأخبار» و«أدب الكاتب» ما يدل على روح سام، سار فيه الأدب مع العلم سيرًا متساوقًا. ويُعد من كتاب الدرجة الأولى في القرن الرابع أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية (٣٤٠)، بغدادي الأصل، انتقل أبوه إلى مصر، وكان أحمد من كتاب الدولة الطولونية، وقد عرفناه من كتاب «المكافأة» الذي نُشر له مؤخرًا مع قطعة من كتابه «حسن العقبى»، وهي عبارة عن حكايات فيها حكمة ومواعظ واعتبار آية في البلاغة، ومنهم أبو بكر الصولي (٣٣٥) صاحب كتاب «الأوراق» و«أدب الكتاب»، وأحمد بن عبد ربه (٣٢٨) صاحب «العقد الفريد»، وجعفر بن قدامة ابن زياد الكاتب (٣١٩)، وعرفنا من أهل هذا القرن زمرة من الكُتَّاب الذين زانوه بأقوالهم وأفضالهم، ومنهم أبو الفضل بن العميد وزير بني بويه (٣٦٠)، وكان أبوه أيضًا كاتبًا مترسلًا من كُتَّاب الدولة السامانية، وابن العميد أول من فتح باب السجع، وأكثر من أنواع البديع، وكان يقال: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. كما قيل: بدئ الشعر بملك؛ أي امرئ القيس، وختم بملك؛ أي أبي فراس الحمداني. وما قيل في ابن العميد يقال في الصاحب بن عباد (٣٨٧)، فهو أيضًا ممن تناغى بالجناس، وأكثر من الأسجاع، وكان يقول: كُتَّاب العصر أربعة: الأستاذ الرئيس يعني ابن العميد، والأستاذ أبو القاسم يعني عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق يعني الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه.
ويجيء مع هذه الطبقة أبو بكر الخوارزمي (٣٨٣)، وكان يميل إلى طريقة ابن العميد في الكتابة، و«رسائله» المطبوعة المشهورة مثال البلاغة والفصاحة على كثرة الأسجاع فيها حتى لا يكاد يعدوها، وقلَّما تفوته. وأما بديع الزمان الهمذاني (٣٩٨) صاحب «الرسائل» و«المقامات» المشهورة، فإنه سار مع الطبع أكثر من الخوارزمي، وكثيرًا ما يترك التسجيع وأنواع البديع، وإذا استعملها ففي مواطن خاصة وجمل معينة، ثم يعود إلى طبعه فتأخذ أقواله بمجامع القلوب، وأكثر ما قرأناه من «رسائل الصابي» (٣٨٤) الصادرة عن الخلفاء وغيرهم، ومنها ما طُبع على حدة، ومنها ما اقتبس في «صبح الأعشى»، قد أُفرغ في قالب من السجع البديع المستملح، وقد يتخلى عنه في بعض التقاليد والعهود، ولو تيسر له أن يطرح السجع على طريقة البديع، لجاءت كتاباته مفخر الأسلاف، وأعظم معلم للأخلاف.
وإن ما كتبه المعري على ديوان أبي تمام الطائي، وسماه «ذكرى حبيب» وعلى ديوان أبي عبادة البحتري وسماه «عبث الوليد»، وما كتبه على ديوان أبي الطيب المتنبي وسماه «معجز أحمد»، يدل على إحاطة المعري بأسرار العربية، وفهم كلام العرب ومراميهم، وشدة ملكته في النقد الأدبي، دع فلسفته في «لزومياته» و«دواوينه»، فالمعري فيلسوف لغوي وليس بكاتب. ومنهم علي بن خلف صاحب «مواد البيان»، الذي نقل القلقشندي في صبح الأعشى جزءًا مهمًّا منه.
•••
وتميز القرن الخامس بظهور كثير من الكُتَّاب فيه، ومن أشهرهم الذين تركت الأيام لنا شيئًا من كتاباتهم الأمير قابوس بن وشكمير (٤٠٣) صاحب «كمال البلاغة»، فإن كتاباته هي الموسيقى برنتها والشعر الفتان، ولكن بدون قافية وروي، إلَّا أن الأسجاع غالبة عليه، مستحكمة في حواشي كلامه، آخذة بجماع أدبه خلافًا للثعالبي (٤٢٩) سيد كتاب هذا العصر، ومن أعظم مؤلفيهم في اللغة والآداب، فإن مقدمة كتابه «فقه اللغة» طبقة عالية في الكتابة المرسلة في عصره وبعده، ولو تخلى عن السجع في «يتيمة الدهر»، التي ترجم فيها أدباء عصره على نحو ما تركه في «المضاف والمنسوب» و«لطائف المعارف»، وغيرهما من كتبه ورسائله لما عيب عليه في شيء، ومثل ذلك يقال في ابن رشيق القيرواني (٤٥٦) صاحب «العمدة» أحد أمهات كتب الأدب الذي انتقده أبو عبد الله بن شرف القيرواني في «رسائل الانتقاد»، وكان الناس في الدهر القديم يعتمدون على أربعة كتب لإتقان فن الأدب، «البيان والتبيين» للجاحظ، و«أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«الكامل» للمبرد، و«الأمالي» لأبي علي القالي، ومن هذه الكتب الأربعة ما شُرح ومنها ما اختُصر، ومنها ما انتَقد شرح «أدب الكاتب» لابن قتيبة بن السيد البطليوسي، وممن انتقدوا «آمالي القالي» أبو عبيد البكري صاحب «معجم ما استعجم»، في جزء لا يزال مخطوطًا سماه: «التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه.»
وممن توفي على رأس الأربعمائة أبو حيان التوحيدي، وهو مبتدع طريقة خاصَّة به قرأناها في كتاب «المقابسات» و«رسالة الصديق والصداقة» و«الإشارات الإلهية»، وذكر الثعالبي ثلاثة من كُتَّاب آل بويه، وهم أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو أحمد عبد الرحمن بن الفضل الشيرازي، وأبو القاسم علي بن القاسم القاشاني، وأورد من كلامهم نموذجات لطيفة. ويُعد في الطبقة الأولى من المؤلفين والكُتَّاب المجيدين أبو الفرج الأصفهاني صاحب «الأغاني»، وأبو الحسن علي بن عبد العزيز صاحب كتاب «الوساطة» بين المتنبي وخصومه، والأمير عبد الله الميكالي فإنه من الكُتَّاب المجيدين، والسجع غالب عليه، ومثله أبو النصر العتبي واضع «تاريخ ابن سبكتكين» المعروف باليميني، وهو التاريخ المسجع البديع، ويُعد مؤلفه من أكبر المنشئين.
ومن كُتَّاب هذا القرن ابن موصلايا (٤٩٨)، وابن ناقيا (٤٨٥)، والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء على عهد الحافظ العبيدي بمصر، (وكانت له قوة على الترسل يكتب كما يشاء)، وكان الغالب على الموفق بن الخلال في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب السجع، وكان فن الكتابة بمصر في زمن الدولة العلوية غضًّا طريًّا، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكانًا وبيانًا، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطانًا، وممن أثرت بعض رسائله في هذا القرن هلال بن المحسن الصابي (٤٤٨) حفيد أبي إسحاق صاحب الرسائل ومؤلف كتاب «أخبار الوزراء». ومن المجيدين في الإنشاء وإن عدهم الناس في طبقة الحكماء أحمد بن مسكويه (٤٢١) مؤلف «تهذيب الأخلاق» و«الفوز الأصغر» و«تجارب الأمم»، فإن كتابته، مثال الإنشاء المرسل البديع. ومنهم أبو طاهر محمد بن حيدر (٥١٧) صاحب «قانون البلاغة» وهو لم يُطبع.
وفي هذا العصر نبغ في الأندلس الوزير ابن زيدون (٤٦٣) في النظم والنثر، و«رسالته» على لسان ولادة بنت المستكفي بالله أديبة عصرها من المرقص المطرب، ومثل ذلك يقال في الوزير ابن حزم الأندلسي (٤٥٦)، فإنه من أكتب العلماء في عصره، ومن المكثرين من التأليف المجودين فيه، وناهيك بكتابه «طوق الحمامة» و«رسالته في الأخلاق» دليلًا على أدبه الراقي، ومثالًا من إنشاء عصره الذي أشبه في الأدب عصر لويز الرابع عشر في فرنسا.
ونشأ في هذا القرن والذي يليه في الأندلس طبقة من الكُتَّاب، ومنهم من تولى الوزارة، والغالب أن الكاتب المجيد في الدهر السالف يكون وزيرًا، كالخطيب المصقع في هذا الدهر يكون رئيس الوزراء، مثل الباجي، وابن الدباغ، وابن الجد، وابن القاسم، وأبي الأصبغ وابنه أبو عامر، وابن سفيان، وابن الحاج، وابن عبدون، وابن أبي الخصال، وابن عبد العزيز، وابن السقاط، وابن القصيرة «وكان هذا على طريقة قدماء الكتاب من إتيان جزل الألفاظ، وصحيح المعاني، من غير التفات إلى الأسجاع التي أخذها متأخرو الكتاب، اللهم إلَّا ما جاء في رسائله من ذلك عفوًا من غير استدعاء»، ومنهم ابن عبد الغفور، وابن عمار، وابن الأفطس، وابن سالم، ومنذر بن سعيد، وابن أيمن، وابن اللبانة، وابن عبد البر والفرضي، وابن سعيد المؤرخ، وابن حيان، وابن القوطية، وأبو عبيد البكري صاحب «معجم ما استعجم» و«المسالك والممالك»، وابن الطفيل صاحب «رسالة حي بن يقظان»، وفيها إشارات لمذهب النشوء والارتقاء، ومنهم البطليوسي، وابن تومار، وابن هود، والنحلي والأشبوني، والقسطلي، وابن لبون، وابن رزين، والنمري، والسرقسطي، وابن القلاس، والقصاعي، والبهاري، والحجاري، والداني، والبلنسي، والطليطلي وغيرهم، وما منهم إلَّا منشئ مجود ومؤلف جزل العبارة رشيق الألفاظ، ولا غرو فإن الأندلس أخرجت للأدب رجالًا عظامًا، تشم من مكتوباتهم أرج الغرب، وقد جمع أحد علماء المشرقيات من الإسبان تراجم الأندلسيين من العرب، فكانوا ثلاثين ألف عالم، وأديب، وفقيه، ومهندس، وطبيب … إلخ من أصحاب المنزلة، وترجمَ الفتح بن خاقان (٥٣٥) صاحب «قلائد العقيان» و«مطمح النفس» لبعض أولئك الأدباء بالأسجاع المطبوعة، كما ترجم لهم ولغيرهم ابن بسام في «الذخيرة»، واشتهر بالوزارة من الكُتَّاب المجودين في بغداد الوزير علي بن عيسى، والوزير أبو الحسن بن الفرات، ولعلي بن عيسى «مذهب في الترسل لا يلحقه فيه أحد ولا ابن الفرات»، ومنهم أبو علي محمد بن خاقان، ومحمد بن عبد الملك الزيات إلى غيرهم من الكُتَّاب النابهين والخاملين، وربما كان في الخاملين من هم أعلى كعبًا من النابهين.
وممن نشأ في هذا القرن ضياء الدين بن الأثير صاحب «المثل السائر»، فهو أيضًا كاتب مسجع مبدع، وهو الذي تصدى ابن أبي الحديد المدائني لمؤاخذته والرد عليه وعنته، وجمع هذه المؤاخذات في كتاب سماه «الفلك الدائر على المثل السائر». وسيد المنشئين على التحقيق في هذا العصر القاضي الفاضل وزير صلاح الدين، فهو حجة المنشئين سواء توسل بالسجع أو تخلى عنه، مع أنه لم يكن يفارقه على الأغلب، ولو انتهت إلينا رسائله كلها لجاءت بضعة مجلدات، والقليل المقتبس منه في صبح الأعشى «ورسائله» المخطوطة، وما نقل له في «الروضتين» مما تنبسط له النفس، ويجيء بعده في المرتبة عماد الدين الكاتب الأصفهاني، فهو سالك طريقته، ولكنه في دعواه التفوق على غيره من الكُتَّاب أشبه الناس بصاحب المثل السائر، والدعوى تذهب بمهجة العلم وإن كانت صحيحة، وكتاباه «الفتح القسي» و«زبدة النصرة» نموذج أدبه، وراموز صالح من سجعه وترسله، وقد نشأ في عصر القاضي الفاضل والعماد الكاتب، كاتب هزلي اسمه الوهراني (ركن الدين أبو عبد الله محمد ٥٨٥) عمل «المنامات والرسائل» المشهورة التي لم تُطبع؛ وذلك لأنه أيقن لما دخل الشام مهاجرًا من الجزائر أن بضاعته لا تنفق مع وجود القاضي الفاضل والعماد الكاتب، وتلك الحلبة كما قال ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، فعمد إلى الهزل ونفق سوقه. ومنهم ابن منقذ صاحب كتاب «الاعتبار» ذكر فيه قصصًا في الشجاعة وقعت له ولأسرته أصحاب قلعة شيزر على عهد الحمالات الصليبية الأولى، وذكر شيئًا من عادات الصليبيين وأخبارهم وشجاعتهم على صورة مستغربة، ومنهم يحيى بن زيادة الشيباني انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء، وابن الصيرفي صاحب «الإشارة إلى من نال الوزارة» و«قانون ديوان الرسائل».
وممن كان في القرن السابع من الكُتَّاب وسار على الطريقة الفاضلية في الإنشاء محيي الدين بن عبد الظاهر (٦٩٢)، وابنه محمد فتح الدين، ويُعد الأب والابن من واضعي نظام الإنشاء في عصرهما والعصرين التاليين، وابن عبد الظاهر أضعف في البلاغة بما ورد له في صبح الأعشى من الفاضل والعماد، ومن تقدمه في الميلاد، وممن عُرف بالبراعة في تصوير البلدان والآثار عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف (٦٢٩)، فإن كتابه «الإفادة والاعتبار» شاهد له بأنه من خيرة البلغاء في عصره، ومنهم الوزير عبد المحسن بن حمو (٦٤٣)، وبهاء الدين الإربلي، والكمال بن العديم (٦٦٦).
وتعد رحلة ابن خبير الكناني الأندلسي (٤١٦) إلى الشرق من الأدب العالي؛ فقد وصف البلدان في عصره وصفًا فاق فيه من تقدمه، مثل ابن بطلان وابن فضلان، كما فاق من تأخر مثل العبدري (٦٨٨)، والبلوى (٧٤٠)، وابن بطوطة (٧٧٩)، والزركشي (٧٩٤)، وابن أبي البركات النجدي (٨٩٥)، على أن الجمل التي أثرت عن ابن بطلان في مطولات الجغرافية — وكانت رحلته من العراق إلى الشام في النصف الأول من القرن الخامس — تنم عن أدب وفضل ذوق في وصف البلدان والسكان، والقليل مما قرأناه من هذا القبيل في معجم البلدان، ولأحمد بن فضلان — وكان المقتدر بالله العباسي أرسله إلى ملك الصقالبة سنة ٣٠٩ﻫ — يدل أيضًا على ذوق وفضل علم وأدب.
وعلى ذكر الجغرافية يجب أن يُعد في جملة الأدب الجيد ما كتبه ياقوت الحموي؛ فإن «معجم البلدان» و«معجم الأدباء» من أنفس ما كتب الكاتبون في هذا القرن، كما أن ما كتبه القفطي (٦٤٦) في «أخبار الحكماء»، وما كتبه ابن أبي أصيبعة (٦٦٨) في «طبقات الأطباء»، يُعد من الأدب العالي في تراجم الناس، ومن هذه الكتب الأربعة التي طبعها المستشرقون استفدنا أمورًا كثيرة في الحضارة العربية لم نكن نعرفها من قبل، كما استفدنا أي استفادة من نشرهم لنا «تاريخ الرسل والملوك» لابن جرير الطبري، «ومروج الذهب» للمسعودي، و«الكامل» لابن الأثير، و«تاريخ اليعقوبي» و«تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء» لحمزة الأصفهاني، و«الفخري» لابن الطقطقي، و«البدء والتاريخ» لمطهر بن طاهر المقدسي، وغير ذلك من تواريخ الأولين، وكذلك استفدنا من نحو خمسة عشر مجلدًا لجغرافي العرب، طبعوها فعلمونا بها تاريخ بلادنا الاقتصادي والعمراني، وأشياء مهمة لم نكن نحلم بوجودها، وكثر بها رأس مالنا من الفصيح والتعابير العلمية.
ومن كُتَّاب القرن الثامن في مصر والشام ابن فضل الله العمري صاحب «مسالك الأبصار» و«التعريف بالمصطلح الشريف»، والصلاح الصفدي (٧٦٤) صاحب «الوافي بالوفيات» و«تحفة ذوي الألباب» و«نكت الهميان» و«جنان الجناس» و«دمعة الباكي»، والشهاب محمود الحلبي صاحب «حسن التوسل في معرفة صناعة الترسل»، وعلاء الدين بن غانم، وأحمد الأنصاري، وابن القيسراني، وكمال الدين الزملكاني. ونبغ في الأندلس لسان الدين بن الخطيب، ولو لم يكن له إلَّا «الإحاطة في أخبار غرناطة»، لكفى في تفوقه في كتابته وشعره، فإنه صَوَّر وتَرجم لهم كأنك تراهم، فهو كاتب ومصور على ما يظهر، ونفح الطيب للمقري يحوي طرفًا صالحًا من نظم لسان الدين ونثره، مع زمرة من رجالات الأندلس، وقد حل لسان الدين بعض القيود في الكتابة هو وصاحبه ابن خلدون (٨٠٨)، وكان الكُتَّاب قبلهما، ولا سيما في القرنين السادس والسابع يقلد بعضهم بعضًا، فأصبحت الصناعة تسير نحو التقليد لا إبداع فيها ولا تجديد، فالمجددون في الحقيقة في القرن التاسع، هما عبد الرحمن بن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، ولم تكد تُكتب العلوم الاجتماعية والتاريخية قبل ابن خلدون، بمثل ذاك اللسان الذي استعمله، ولا غرو فهو وصاحبه حسنة من حسنات الأندلس، وزهرتان ناضرتان من الزهور التي أهداها المغرب للمشرق، وبهما ختم عهد الأندلس.
•••
كانت دواوين الإنشاء في قرطبة وغرناطة والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من مراكز الحكومات في القرون الوسطى، مدارس لتعلم الإنشاء، والأخذ من فن الأدب العربي الواسع، فلما انحلت دولة الأندلس، واستولى الترك العثمانيون على مصر والشام والعراق، بطل التناغي بالأدب والإنشاء؛ لأن التميز في هذا الشأن أصبح لا يجدي صاحبه شيئًا، وغدا فن الإنشاء مقصورًا على بعض أفراد في كل قطر عربي يستخدمونه حلية وزينة، وإذ لم يبقَ في الحكومات من يقدر الأدب قدره، ضعف بحكم الطبيعة، وزاد عدد الشعراء أكثر من الكُتَّاب؛ لسهولة الشعر وإمكان الانتفاع به في المديح، وإن كان الشعراء في كل دور من أدوار العرب فيما رأينا أكثر من الكُتَّاب بما لا يقاس.
طالع كتاب «عجائب المقدور في أخبار تيمور» المسجع المجنس و«فاكهة الخلفاء»، وكلاهما لابن عربشاه من أهل القرن التاسع، وتأملهما وتأمل «تاريخ العتبي» وسجعه، تجد حتى في السجع فروقًا وأي فروق، وطالع «مقامات السيوطي» و«مقامات ابن الوردي»، وعارضها بمقامات الحريري وبديع الزمان، يتجلى لك الفرق بين النمط العالي على ما يقال فيه، والذي دونه بمراحل، واقرأ «ريحانة الألبا» للشهاب الخفاجي، وطالع سجعه الذي هو أرقى سجع في القرن العاشر، تجد بينه وبين نثر ابن بسام في «الذخيرة»، وابن خاقان في «قلائد العقيان» فرقًا بيِّنًا أيضًا، كما أنك قلَّما تجد في الأدباء الذين تَرجم لهم الخفاجي، وكانوا تقدموه وعاصروه في الشام ومصر والحجاز واليمن والمغرب إلَّا شاعرًا، والكُتَّاب قلائل، والأدب العربي كاد يستحيل إلى أماديح، وأكثره للتزلف من الكبراء وهو ضيق العطن، مبتذل الديباجة، فللنثر أسجاع تشق على الأسماع، وللنظم قواف لا تألفها الطباع، والروح منقولة، والألفاظ من جنس المبتذل مدخولة، ومعظم المنشئين والمتأدبين يكتبون نمطًا واحدًا من عهد أبي إسحاق الصابي، وأحمد بن يوسف إلى عهد لسان الدين بن الخطيب وابن خلدون، وهما اللذان أثبتا أن للمعاني تأثيرًا أعظم من تأثير الألفاظ، فأتيا بالجديد المبتدع، وخلص كلامهما من المصنع الغث، وسارا مع الطبع في التأليف والوضع.
وفي القرن التاسع نشأ القلقشندي (٨٢١) صاحب «صبح الأعشى»، وكتابته من السجع على الطريقة الفاضلية المتناسبة مع زمنه، وقد جمع في كتابه نموذجات من إنشاء العصور السالفة إلى عصره، فكان كتابه معلمة (أنسيكلوبذيا) للمنشئين، كما كان كتاب «نهاية الأرب للنويري». وأهل البصر بعيوب الكلام يفضلون على القلقشندي المؤرخ المقريزي وجلال الدين السيوطي. ومن كُتَّاب القرن التاسع محمد بن أبي بكر المخزومي، ومحمد بن عبد الدائم، وابن حجة الحموي (٨٣٧)، وكتابا «خزانة الأدب» و«ثمرات الأوراق»، لابن حجة مثال التكلف، ومن اقتصر في درسه عليهما تخدشت فيه ملكة البيان لا محالة.
والقرن الحادي عشر مبدأ قرون الظلمات في الكتابات، فإن «نفحة الريحانة» للمحبي صاحب «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» نموذج من نثر ذاك العصر، ومن ترجم لهم من الأدباء، وأكثرهم ممن ترجمهم في «خلاصة الأثر» عنوان أهل جيله، وكذلك يقال في «سلافة العصر» لابن معصوم من أهل ذاك القرن، فإن سجعه متكلف، ومن ترجمهم وليسوا من الكتاب قل فيهم النبوغ، وغاية إجادة المجيد منهم أن ينظم قصيدة غزلية تقع موقع القبول من بعض القلوب، أو قصيدة يتكسب بها من أرباب المظاهر، أو يؤلف كلمات مسجوعة متشاكلة هي والشعر، ومثل ذلك يقال في كلام الحسن البوريني (١٠٢٤) في تراجم الأعيان، فإنه من هذا البحر والقافية، وكان في أوائل هذا القرن رجل استفاضت شهرته؛ لأنه جمع علومًا كثيرة، وكان أديبًا بارعًا وهو بهاء الدين العاملي (١٠٠٣) صاحب «الكشكول» و«المخلاة» و«أسرار البلاغة»، فإنه كان زينة عصره في الأدب، متفننًا في تنويع موضوعاته.
وما قيل في المحبي وابن معصوم والبوريني، يقال في الغزي مترجم أهل القرن الحادي عشر، والمرادي مترجم علماء القرن الثاني عشر، وما أورد هذا لهم من الشعر والنثر في كتاب «سلك الدرر»، وبعضه أثقل من رضوى، وأبرد من عضرس، وأين هو من السخاوي في «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، ومثل هذا قل في كتاب أهل القرن الثالث عشر مثل سجع البربر (١٢٢٦) في «مقاماته»، وابن شاشو في «تراجم أعيان دمشق»، فإنه غاية ما وصلت إليه الكتابة من الابتذال والسجع الثقيل على الطبع، ولكن هذا القرن تجلت في أواخر نصفه الأول حركة تجدد، فاختلط أهل مصر والشام بأهل الغرب، ولا سيما مع علماء فرنسا، وتخرج بعض أبناء القطرين في جامعاتها، فأخذت المترجمات في العلوم المختلفة على عهد محمد علي مؤسس الدولة العلوية المباركة، تؤثر تأثيرها المطلوب في روح الكتابة، وأخذوا طرفًا من آداب الغربيين، ولا سيما الفرنسيون، نقلوه إلى العربية نقلًا ضعيفًا ركيكًا، وأيقن الدارسون من أبناء مصر والشام أن الآداب العربية خلت في أرقى عصورها من التمثيل، وإن لم تخلُ من القصص والروايات والحكايات التاريخية والأدبية، ولكن على صورة مصغرة.
ومن المجددين الذين ختم بهم القرن الماضي أحمد فارس الشدياق اللبناني، فإنه أقام سنين طويلة في إنجلترا وفرنسا ومالطة والآستانة، ونقل للعرب طريقة جديدة في تآليفه، وترك أثرًا جميلًا من نبوغه وتفننه في أساليبه، وفي كتابه «الساق على الساق» و«الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، ومقالاته العلمية في جريدة الجوائب التي جمعت في «كنز الرغائب» و«الجاسوس على القاموس» و«سر الليال» يتجلى للناقد البصير كيف قلب الأفكار، وأتى العرب بنمط مبتكر في التفكر والبحث، وفهم الأدب على غير ما فهمه أهل عصره، ومن سلفه من الأعصار.
وممن كان في النصف الثاني من القرن الماضي في مصر، وعُد إمام النهضة الحديثة رفاعة بك الطهطاوي (١٢٩٠)، فإنه ترجم وألف كثيرًا، وبه تخرج عشرات من رجال مصر، وكان السجع يغلب عليه، ومن أدبائهم عبد الله فكري باشا وهو ملتزم السجع، ولكنه السجع القصير البعيد عن التكلف في الجملة، وكذلك علي مبارك باشا (١٣١١)، وأهم الرجال الذين أدخلوا الإنشاء في طور جديد وحلوه من قيوده الثقيلة التي رسف فيها قرونًا، الشيخ محمد عبده المصري (١٣٢٢)، فإنه كان خطيبًا مصقعًا، وكاتبًا بليغًا، ولم يعهد لرجال الدين كاتب مثله في القرون الأخيرة، فكان كما قيل فيه يكتب الشريعة بلسان صاحبها، تشهد له بذلك «رسالة التوحيد» و«الإسلام والنصرانية» و«رحلته إلى إيطاليا» و«درس تفسيره»، وقد تخرج به كثيرون من رجال مصر الحديثة، كما تخرج بصديقه الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي كثير من رجال النهضة في الشام، فإن هذا أيضًا خلع الثوب القديم البالي في الإنشاء، بعد أن لبسه في أول عهده وأخذ يسير مع الطبع، تاركًا للجناسات وأنواع البديع جانبًا، تشهد له الكتب الكثيرة التي ألفها في الشريعة والطبيعة واللغة والآداب، ونشأ في الشام كتاب عصريون منذ خمسين سنة، ومعظمهم ممن تشبعوا باللغات الإفرنجية، والمبدع منهم قليل، ولا نذكر أنه نشأ في الشام على عهدها الأخير كاتب مثل إبراهيم المويلحي المصري في إبداعه، ولا سيما الجد في قالب الهزل، وكان يقلد الجاحظ في سرد الحقائق على أسلوب الرياليست. ونشأ في الإنشاء في الشام أمثال إبراهيم اليازجي، وإبراهيم المصور، وشكيب أرسلان، ويعقوب صروف وغيرهم من المجودين، وفي مصر أمثال حفني ناصف، وقاسم أمين وإبراهيم اللقاني، وأحمد سمير وأضرابهم من الأحياء والأموات في الأقطار العربية، ولو كُتب لبعض الكتاب المشهورين في الشام والعراق أن يحذقوا أدب الغرب، كما حذقوا أدب العرب، لخدموا الأدب كثيرًا، بيد أن الإجادة المتناهية قليلة، وعيوب الإنشاء تبدو أكثر من عيوب الشعر، وفي الثاني يُغتفر ما لا يُغتفر في الأول، فقد قال لابروير: أربعة لا يطاق فيها الاعتدال: الشعر، والموسيقى، والخطابة، والتصوير.
إلى اليوم على كثرة اختلاط مصر والشام وتونس والجزائر، بأدباء الغرب وأخذهم عنهم، لم يكتب للغة العربية اقتباس التمثيل، كما هو الحال في الغرب؛ وذلك لأن التمثيل عارض في المدنية العربية، وإيجاد المفقود أصعب من إصلاح الموجود، ولكن الخروج بالكتابة عن روحها العتيقة مع إلباسها الحلة العربية القديمة التي كانت لها في القرنين الثاني والثالث مثلًا، والرغبة في القصص والنوادر آخذة بالترقي، ومعظم قصصنا ونوادرنا ورواياتنا التشخيصية محتذاة من الإفرنجية، أو منقولة عنها بالحرف، وهذا من أبشع ضروب الاقتباس، ولعله لا يطول الأمر حتى ينشأ للأمة العربية روائيون وقصصيون، وكتاب فاجعات، ومآسٍ على الصورة التي جرت عليها أمم الحضارة الحديثة، فيعود أرباب الأقلام إلى الإبداع والاختراع، ويسير المنشئون بروح الأمة يعالجونها بما يوائمها، فما ينفع من أدب الغرب قد لا ينفع ولا يلتئم مع حالة ابن المشرق.
•••
تقرأ الأستاذ العقاد فتظنك تقرأ نقادًا من نقاد فرنسا أمثال: فاجية، ولمنر وبيدو، وبريستون، ولكن بديباجة عربية تشبه اللغة يوم عزها، ويدهشك بسلامة ذوقه، وسلاسة تعبيره، ورصف جمله، ورنة تراكيبه، وقلَّما يكتب ذلك إلَّا لأفراد في كل عصر، فقد كانت الطبقة السابقة التي حاولت إدخال هذه الطريقة في اللغة إلى جانب القصور؛ لضعف ملكاتها من اللغة التي حاولت تبديل قيافتها، وكثيرًا ما كانت ضعيفة أيضا في اللغة التي حاولت الأخذ عن بنيها تفهم الألفاظ، ولكنها عن المعاني بمعزل، بيد أن هذا النابغة رزق السعادتين، فأتقن الأدب الإفرنجي إتقانه للعربي، وجاء منه جهبذ بحاثة، ذو أسلوب مبتكر لا ينكره المنصفون من الغالين بتمجيد القديم، ويغتبط به المجددون أية غبطة.
منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، وأنا أنظر في الكتب العصرية التي تخرجها المطابع العربية في الشرق والغرب، فلم أكد أقرأ كتابًا في الأدب المعاصر، تأليفًا كان أم ترجمة، إلَّا وتتراءى لي كثرة تفريطه في تأليفه، وقلَّما رأيت إبداعًا إلَّا في بعض التآليف، أمثال «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي الصغير، و«النظرات» و«العبرات» للمنفلوطي، و«ليالي سطيح» لحافظ، وبضعة كتب أخرى ليست على خاطري، رجوت لها الخلود، وباقيها ومنه المسجع، أو الممسوخ، أو المسلوخ، أو المنسوخ، لا أستحي أن أقول إنها تتساقط كما يتساقط ورق الشجر في الخريف، وتضيع كما تضيع مقالات الصحف اليومية بعد صدروها بساعات معدودة.
لم يبرح النزاع عندنا بين أنصار الجديد والقديم على أتمه، ولكن التطور يعمل عمله، رغم احتجاج المحتجين وصياح الصائحين، والانتقال محسوس في الأدب كما هو محسوس في كل أطوار الحياة عندنا، وأنت اليوم إذا قرأت صفحة من «مقامات اليازجي»، أو رسالة من «رسائل الأحدب»، أو جملًا من مصطفى نجيب وحمزة فتح الله على تلميذ شدا شيئًا من الأدب يضحك مما تسمعه، ويقول لك هذا كلام يضعف اللغة، ويذهب ببهجتها، وألفاظه أكثر من معانيه، ولكنك إذا تلوت عليه صفحات من السيد العقاد تطربه نغمته، وتعجبه ديباجته، فتستغرق معه ساعات في المطالعة لا تمل، وكلما أتممت فصلًا وددت لو طال أكثر. فمقالات العقاد في تحليل روح المعري وحياة المتنبي وأدبه، دلت عن أدب بارع ونفس طويل، وخواطره في ماكس نوردو وأناتول فرانس، والشعر ومزاياه، والطبع والتقليد، وعبقرية الجمال والتشاؤم، وأدوار العمر، كل ذلك مما يحمل للقارئ علمًا طريفًا وتليدًا، ونبوغًا وعبقرية وتجديدًا، يروقك بأسلوبه فتستفيد من الفكرة، ومن القوالب البديعة التي ظهرت فيه.
طلق الأستاذ العقاد الأسجاع والجناس وأنواع البديع، وجاءنا بإنشاء فيه طلاوة الحديث بسبكه ومعناه، وجلالة القديم ببيانه، وربما تلوت له فصلًا برمته، وليس فيه سجعة أو معنى مكرر، تراه يكتفي في تصويره بعشرة ألفاظ، وكان غيره يحشر له العشرين والثلاثين لفظة، وإذا عمد إلى استعمال الفصيح الذي لم يبتذل، فإنه يكون في كلامه بمقدار الخال في صفحة الوجه الجميل، أمَّا التراكيب فتظن نفسك وأنت تقرأ كلامه أمام «أبدى بدوي وعلى طباع أفصح عربي».
وإن أهل هذه الطبقة العالية قد أكذبوا القائلين بأن العربية لا يتسع صدرها للمعاني الجليلة، وأن العرب عنوا بالألفاظ أكثر من المعاني، وما الألفاظ إلَّا القوالب، فقد قال ابن جني في الخصائص ردًّا على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني: إن العرب كما تعنى بألفاظها وتصلحها وتهذبها وتداعبها، وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التي تلزمها وتكلف استمرارها، فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدرًا في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بألفاظها، فإنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقًا إلى إظهار أغراضها ومرئيها، أصلحوها وبالغوا في تجييدها وتحسينها؛ ليكون ذلك أوقع لها في السمع، وأذهب في الدلالة على القصد، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا تريد أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندهم خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها وتشريف منها، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه، وتكوينه وتقديسه، وإنما المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى، وعليه جوازه بما يعطر نشره … وقال عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز»: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، وقولهم يدخل في الأذن بلا إذن، فهذا مما لا يشك العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنه لا يتصور أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وُضع له في اللغة.
قلنا وهذا ما جعله المجودون من كتابنا المعاصرين نصب أعينهم، فلم يقنعوا بالقشور، بل اهتموا باللباب، وعنوا بالقوالب وما تحويه، وإذ قد أرهفوا أقلامهم لنقد الكاتبين المتوسطين، كانوا أحرياء بأن يُظهروا كتاباتهم خالية من الشوائب اللفظية والمعنوية، وأدبنا في كل عصر ما خلا من نقاد يوازنون بين كلام المبرزين في منثورهم ومنظومهم، ينوهون بالكلام الشريف، ويرذلون الساقط الوضيع، ومعولهم في أحكامهم على قوانين البلغاء والذوق السليم.
لو لم تغفل عين العناية بعد القرن الرابع للهجرة عن الاقتباس عن الأمم الأخرى، ولو لم يكتفِ أهل الأدب والعلوم بما حصل لهم ونفحوه وأضافوه حتى القرن الثالث عشر؛ أي لو لم نقف بأدبنا عند حد ما عرفنا تسعة قرون، لكنا اليوم كفرنسا بالشعر والأدب، نفهم منها ما يفهمه الفرنسيس، بل سائر أمم الغرب الراقي من الشعوب الأنجلوسكسونية واللاتينية والسلافية، ولكنا ننال جوائز نوبل في الأدب على نحو ما يأخذها الهولانديون والسويديون على الأقل، ونحن معاشر العرب بعددنا نحو عشرة أضعاف كل أمة من تلك الأمم الصغيرة الممدنة.
وإنا نرى هذا التجدد محسوسًا في الشعر كما هو محسوس في النثر، فقد جاء محمود سامي البارودي أواخر القرن الماضي في شعره عربيًّا قحًّا، وتلاه إسماعيل صبري بشيء من أدب العصر، فحل قيدًا من قيوده، وجاء بعدهما حافظ إبراهيم بشعره الاجتماعي المرقص ففك قيود سابقيه، وسيجيء صاحب السلسلة الرابعة بما ليس الآن في الحسبان والتجدد والنشوء الاجتماعي. لا جرم أن للصحف والمجلات اليوم يدًا طولى في هذا التطور، فإنها تنقل إلينا كل يوم شيئًا جديدًا عن آداب الأمم الأخرى، وكلما تطورت مدنيتنا بطور العصر، فالأدب أول ما يتطور فينا، يعلم ذلك كل من تصفح سفرًا نُشر قبل خمسين سنة، وكتابًا نشر اليوم، ومن تلا الصحف لعهدنا وعارضها بما كان يُكتب من نوعها أوائل عهد الصحافة العربية في مصر والشام وتونس، يدرك الخطوات السريعة التي خطوناها نحو المدنية، وجددناها على ما يوافق إقليمنا وطباعنا، وألبسناها حلة من حللنا الشرقية البديعة، وأساتذة هذا الشأن بمصر اليوم العقاد، وطه حسين، والمازني، وعبد القادر حمزة، وغيرهم من حملة الأقلام الذين يقودون قراءهم إلى سوق عكاظ جديد، وفي الشاميين كتاب من هذه الطبقة يطرسون على آثار كتاب مصر، ولا نعلم في العراق وتونس والجزائر أناسًا يصدق عليهم تعريف المجددين في الإنشاء.
ربما يتساءل القارئ، وقد بلغ به البحث إلى هذه الجملة، وهل كان النساء يا ترى بعيدات عن هذه الحركة الأدبية على حين لم يكن في بغداد، ولا الأندلس، ولا في صدر الإسلام بعيدات عنها؟ راجع الجزء الخاص بالصحابيات من طبقات ابن سعد الكبرى و«بلاغات النساء» لابن طيفور، وأخبار الأندلسيات في «نفح الطيب»، فالجواب أنهن شاركن بقدر اللزوم، ولا يزال عددهن ينمو بنمو روح العلم فيهن، فقديمًا رأينا المحدثات والواعظات والمتفقهات والأديبات، واليوم نرى الكاتبات والأديبات والباحثات والخطيبات، فقد افتخرت مصر بنبوغ السيدة عائشة عصمت التيمورية شقيقة الأستاذ أحمد تيمور باشا العالم المشهور، ولها ديوان شعر سلس رقيق، وجاءت بعدها السيدة ملك ناصف، الملقبة بباحثة البادية، وهي ابنة حفني ناصف شيخ الأدب في عصره، وصاحبة كتاب «النسائيات»، وكانت كاتبة مبدعة فعاجلتها المنية، وكان يُرجى منها أن تقلب حياة المرأة المصرية رأسًا على عقب، وقد حللت الكاتبة المشهورة السيدة ماري زيادة، الملقبة بمي حياة ملك ناصف في سفر بديع، دل على علو كعبها في الأدب وتحليل النفوس. وفي الشام ومصر اليوم زمرة من الكاتبات المجيدات، المتشبعات بالآداب الغربية، لا تحضرني الآن أسماؤهن بأجمعهن. والنساء عندنا في دور الفهم والتطور والاقتباس.
ولا يسعنا أن نختم هذه العجالة قبل أن نرسل سلامًا طيِّبًا إلى كتابنا الشاميين في المهاجر، ولا سيما في الأمريكيتين، فإنهم تشبعوا بالأدب الإفرنجي، فأخذوا يكتبون لقومهم هنا وهناك بلسان جديد من التجديد، بل أكثر من التجدد، واشتهر منهم أمين الريحاني صاحب «الريحانيات»، وملوك العرب وغيرهما من تآليفه، وجبران خليل جبران وهو كاتب ومصور، ولكن تصوير الكلام بالحروف يتعاصى عليه أحيانًا أكثر من التصوير بالقلم والخطوط على ما يظهر، فيبدو الغموض في تضاعيف سطوره، ومثال من ذلك كتابه «الأجنحة المتكسرة»، ولكل منهما قراء ومعجبون بأدبهما، ولو كُتب لهما أن يرزقا حظًّا من البيان العربي يوازي حظهما من الآداب الإنجليزية، إذن لجاء من شعرهما المنثور وخيالهما اللطيف مادة للمجددين في أدب لغتنا، وهناك بضعة من الكُتَّاب نزلوا ممالك الجنوب والشمال من أميركا، فكتبوا وعلموا قومهم، ولم يُكتب لنا الاطلاع على عامة ما خطته أناملهم، ونمَّقته أفكارهم.
ولا بأس من التصريح هنا برأي لنا خاص في الكُتَّاب الأقدمين منهم والمحدثين، وربما كان في حملة الأقلام من لا يساهمنا هذا الرأي، ويعدون حكمنا من باب التهجم على من عرفوا كلهم شهد الله بالفضل، وأغنوا غناءهم في جانب الآداب، ولكن هو الرأي يصدره الصغير أمام الكبير، ولا إثم عليه ولا حرج، نريد أن نقول: إن عُمر الطالب يقصر عن استيعاب جميع ما كتبه المنشئون في هذه الملة تصفحًا ودرسًا، فالأولى أن يختار الزبدة، ويأخذ الأهم فالأهم مما يعينه على تحسين ملكته في البيان، وما نخاله من حيث الأسلوب إلَّا مخترع طريقته بنفسه، متى تمت أدواته اللازمة، وأتقن ما لا غنية عنه من نحو اللغة وصرفها وبيانها وبلاغتها، والأولى الاقتصار في الدراسة على من أجمعت الأمة على تبريزهم في هذه الصناعة، كعمرو بن بحر الجاحظ، وعبد الله بن المقفع، وعبد الحميد بن يحيى، وسهل بن هارون، وأحمد بن يوسف، وأضرابهم ممن كتبوا مع طبعهم غير متعلمين، وما قيل في الكُتَّاب يقال في الشعراء جاهليهم ومخضرميهم ومولديهم، وهم — بحمد الله — كثيرون جدًّا، والأولى الاقتصار على بضعة من المشهود لهم بالإجادة المتناهية، أمَّا أدب أهل العصور المتأخرة فإن الطالب يقرؤه حب الاطلاع، أو لأخذ مادة عن تاريخ الأدب في عصورهم، وبعبارة أوجز يعتمد في البيان على القدماء من قبل الإسلام إلى أواخر القرن الرابع، كما يأخذ العلوم عن المحدثين من أمم الحضارة وغيرهم.
لا جرم أن الأدب الغربي قد اتسع أمامه مجال التجدد الآن، وما حدث فيه من التطور منذ نحو مائة سنة، فكاد يلحقه بآداب الغربيين إلَّا قليلًا، دليل على قابلية هذه اللغة — بما فيها من الفصيح والمترادف، والقلب والإبدال، وما لا تأباه من التصريف والاشتقاق، والوضع والدلالة، والمجاز والكناية — للتجدد في كل عصر، وبرهان على مرونتها؛ للأخذ بالأصلح على قاعدة الانتخاب الطبعي، مع مراعاة قواعدها وروابطها التي استقرت باستقرار القرآن الكريم.
ولذلك ساغ لنا أن نقول: إن لغة القرآن صالحة للمدنية في كل زمان ومكان، وإن أدبًا عُرف تاريخه منذ خمسة عشر قرنًا هو من السعة بحيث لا يتسع مبحث صغير كهذا لاستيعاب جرمه الكبير.