الخطابة عند الإفرنج
قال بعض المعاصرين: لو لم يكن خطباء الأقدمين يهيئون خطبهم قبل إلقائها ما كان بقي لنا من كلامهم إلَّا النذر اليسير؛ وذلك لأن فن الاختزال لم يكن يُعهد إذ ذاك، بيد أنه مما لا شك فيه أن بعض خطباء اللاتين الذين وصلتنا خطبهم قد ألقوها بدون أن يستعدوا لها بكتابتها، وكان من العادة أن يعود الخطيب عندهم، فيدون بالكتابة ما قاله من خطاب كما فعل شيشرون في بعض خطبه، والحق الذي لا مرية فيه أن الخط طالما اعتُبر في اليونان ورومية بأنه الأسلوب الوحيد في الجملة لإعداد الكلام ليُلقى على المسمع العام، ويجب أن يلاحَظ أن الخطيب الأثيني مهما بلغ من ثقته بنفسه، لم يكن يجسر أن يقف موقف الخطابة قبل أن ينظر نظرًا بليغًا فيما سيلقي عليهم؛ لأنه عارف بدرجة مدارك الحضور، ومعرفتهم نقد ما يقول، وما بقي من خطب خطباء يونان هو مما هذبته أناملهم، ونظرت فيه عقولهم، ملاحظين في ذلك أنهم سيخلفون ذلك للأعقاب، فلا يليق أن تكون إلَّا من أحسن ما يجب.
وطالما هذب شيشرون خطبه وتمرن على إلقائها، حتى إنه في سن الستين قبل أن يقتل كان يمرن نفسه على كيفية الإلقاء، وكان القدماء يعلقون شأنًا عظيمًا على الإلقاء في المجالس العامة، حتى لقد أفرط شيشرون في قوله بأن الخطاب العام يتطلب تعبيرات لطيفة منتقاة، فقد كتب إلى أحد أصحابه أن الرسالة لا يمكن أن تشبه دفاع المحامي، أو خطابًا سياسيًّا، فإنه تُستعمل فيه جمل شائعة بالاستعمال، بيد أن كثيرين من خطباء اللاتين وقدماء خطباء اليونان، كانوا لا يحفلون بإعداد خطبهم، ويظهر أن هورتانسيوس وهو أستاذ شيشرون لم يكن موافقًا لتلميذه على قضاياه، وهورتانسيوس هذا كان على جانب من الذكاء وحسن الذاكرة، بحيث كان يستطيع أن يتلو خطبه، ويؤلفها في الحال، جاريًا في ذلك على طريقة شارلماد وميترودور، وهما خطيبان أثنيان كانا يعدان في ذهنهما ما يريدان إلقاءه.
وكانت طريقة القائد الخطيب الروماني «كالبا» غريبة في بابها، فكان ينقطع في داره مع خدامه غداة يريد أن يلقي دفاعًا ويلقي عليهم ممرنًا نفسه فيما يريد أن يخوض عبابه، فكان يخرج من الغد في حالة تهيج خارقة للعادة، وعيناه تقدحان شررًا، وهو على غاية التحمس يعبث به هواه، ويذهب إلى ميدان الفوروم، واعتاد بعض شبان الخطباء من الرومان أن يأتوا إلى المحكمة بدفاعهم مكتوبًا على الورق، وكان كنتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين، يرى أن يتقيد الخطباء في إعداد ما سيتلون، ولا سيما للمترشح للخطابة المبتدئ فيها، ويرى أن الارتجال لا يتأتى للمرء إلَّا في أواخر عمره بعد أن يكون ذاق الأمرين في تعلم صناعة الخطابة، وعرف حلوها ومرها، ولم يكن في عهده وهو القرن الأول للمسيح سوى خطيبين مرتجلين هما بورسيوس لاترو وكاسيوس، وما عداهما فكانوا ككل الناس يعدون خطبهم قبل إلقائها.
وكان بوسويه خطيب الفرنسيس المتوفى سنة ١٧٠٤، يكتب خطبه على الورق فيرسمها، ثم يتوقع ما يوحيه إليه المنبر ليجعل فيها حياة وحركة، وظلت الأصول المتبعة في فرنسا مدة القرن الثامن عشر بأن يقيد المحامون والخطباء أقوالهم، هكذا كان يسير أكبر المحامين كوشين، ولما حدثت الثورة الفرنساوية الأولى اضطر أرباب السياسة إلى الارتجال، فأخذوا يخطبون قومهم بدون أن يستعدوا من قبل، ثم ارتقت الخطابة عندهم في الكليات والمحاكم والمجالس حتى قال موريس آجام: ما من شيء يضاد الارتقاء في الخطابة أكثر من إعدادها بالكتابة قبل الإلقاء، فإذا كان وصل كبار المتكلمين إلى أرقى درجات الفصاحة، فبدونها وصلوا، أو بعبارة ثانية على الرغم منها.
ويرى أن يتمرن المرء على الارتجال بأن يرتجل كل صباح في موضوع من الموضوعات لنفسه ولو ربع ساعة، فيتمرن جرسه وصوته، وذلك بأن يذكر دائمًا قاعدة ينيبون أن المرء يتعلم الارتجال بتكرار العمل فيه، وأن الواجب تعويد الناشئة النطق منذ نعومة أظفارهم، وأن صناعة الخطابة ولا سيما الارتجال لا يتعلمها من جاز الأربعين من العمر، ولا من جاوز الثلاثين، فالأولى أن يبدأ بها منذ الصغر، وأنه من اللازم على من يريد تعلم الخطابة أن يستنصح صاحبًا له يدله على عيوبه في النطق والإشارة، وأن يأخذ النفس كل يوم بسماع صاقع الخطباء لا متوسطيهم حتى يتعلم منهم، فإن المتوسط يفسد عليه ملكة الخطابة؛ ولذلك كانت العواصم والحواضر أكبر ميدان للتخرج في الخطابة؛ لأن فيها من أهل الطبقة العالية أصنافًا من الخطباء؛ وذلك لأن السماع يجعل المتكلم متكلمًا، وفكر البشر يغتذي بالتقليد، وعليك يا هذا ألَّا تعمد إلى استعمال الغريب ولا تتقعر، بل توخ السهولة، ومألوف الناس من الكلمات تؤثر فيهم، وتفعل في عقولهم. لا تعمد لغير الوضوح ودع الكلمة النادرة للشاعر، والكلمة العويصة للفيلسوف، وإذا اعتقدت أنه يكفي الإنسان أن يتلو كتابًا يبحث في أصول الخطاب حتى يصبح خطيبًا، فألق سريعًا هذا الكتاب طعامًا للنار.
كان بوسويه نصف مرتجل يعد مفكرات لخطبه، ثم يزيد عليها وينقص منها عند الإلقاء، وكان فلشيه وفنيلون في مواعظهما يعدان ما يلقيان من قبل ويستظهرانه، وكان كوشين يعد من قبل مدافعاته حتى استطاع في آخر عمره أن يرتجل، وكان المحامي جربيه يعد ما يخطب به مطولًا، ولا يزال يمحو منه حتى لا يبقى على أكثر من عشرين سطرًا، وكان تارجه يكتب دفاعه برمته ويقرؤه، وكان ميرابو خطيب الثورة ممن يعتمد على الكتابة ليخطب، فاضطرته السياسة أن يرتجل، وما كان يحسن الكتابة وهو مستريح البال، أمَّا إذا هاج فإنه يعاود القلم ويكتب في الجملة، وكان يبدأ بخطابه متأنيًا في بادئ الأمر ويتحمس بالتدريج، وكان فيرينو من خطباء الثورة لا يخطب إلَّا إذا تألم لظلم يقع أو حاذر خطرًا يدهم، وعندها تنتبه حواسه ويفكر سريعًا، ويعمل في ساعة ما لا يعمل في ساعات، بدأ محاميًا وكان يكتب دفاعه ويتلوه، ثم كف عن الكتابة، وكان يعد كل الإعداد خطبه الكبرى، ولا سيما في تلاوتها لأصدقائه من قبل أن يلقيها على الجمهور، وهذه الطريقة هي التي جرى عليها بعد حين تيرس رئيس الجمهورية الأول في الجمهورية الثالثة والعالم المشهور.
وكان كواديه من خطباء الثورة، يكتب خطبه عندما كان محاميًا، ولما أصبح خطيبًا سياسيًّا صار يرتجل، وكان إيسنارد من خطباء الثورة مرتجلًا، ولكنه كان يكتب، وكان دانتون خطيب الثورة الخطيب التام الأدوات في الثورة، وأقدرهم على إدراك حاجة عنصره، وكان أرول دي سيشل من خطباء الثورة يكتب ويحفظ خطبه ويعمل بقول فولتير: إن الألفاظ بريد الأفكار. وكان روبسبير من خطباء الثورة يعد خطابه، ويمحو ويثبت كثيرًا كتلميذ مبتدئ، ومعظم خطبه اختُرعت وأُلفت من قبل أن تُنشر، لم يتوسع فيها عندما يقولها، وكانت طريقة بانجامان كونستان الكتابة لما يخطب به مثل القائد فواولافيت ودوبون ورويه كولار، وكان النائب مانويل مرتجلًا لا يكتب خطبه إلَّا في أمور المالية، ولم يتخل دي مارتينيان عن كتابة ما يريد إلقاءه مع أنه يرتجل أحسن ارتجال، ومن كان يسمعه يتكلم بصوت رخيم يستريح ويسكت وينوع لهجته، يستدل على أنه يرتجل، وكان لينه مثل كواديه ورافيه وفيرير من أمراء الكلام، لم يجعل المتقيد بالكتابة إلَّا مقامًا ثانويًّا، وفيرير كان من أعظم من وجد من رجال المحاماة، كان يفكر طويلًا فيما يريد أن يلقيه ويتأمله، فلم يكن ممن يعتمد على الكتابة صرفًا، وكان هانكن من رجال المحاماة لا يأنف طول حياته من إعداد خطبه، وكان بريه المحامي لا يكتب خطبه ولم يعرفوا طريقته في خطبه، هل كان يحدث بها أصحابه قبل أن يلقيها، كما كان يفعل فرنيو وتيرس، أو يفكر فيها مثل فيرير، أو يكتبها في فكره مثل هورنانسيورس، والذي عُرف عنه وكان يكتم طريقة نبوغه أن كلامه كان يسبق فكره، وإنشاؤه كان منحطًّا.
وكان الأخوان دوبين المحاميان يرتجلان، ولكنهما يدرسان موضوعهما حق الدرس قبل النزول إلى ميدان الخطابة، وكان أحدهما يأسف؛ لأن الوقت لا يساعده أن يفكر مليًّا في خطابه، ويقول لو أكثر ديموستين وشيشرون من الدفاع كثيرًا، لقلنا لم يكونا ديموستين ولا شيشرون، وكان تيرس يعد معظم خطبه من قبل بأن يلقيها مرتين وأحيانًا أربعًا على من يغشون مجلسه، ولم يكن فيكتور هوغو الشاعر الكبير خطيبًا، بل كان يضطر أن يكتب خطبه ويستظهرها، ولطالما قال: لا يستطيع المرء أن يكون خطيبًا حقًّا إلَّا إذا كتب خطابه. زهد المحامي لاشو في الكتابة، وكان لا يقيد إلَّا رءوس المسائل التي يتكلم فيها، وكان الوزير غامبتا لا يكتب ما يخطب وهو يشبه نابليون بعقله وذاكرته، وكان يعد بعض خطبه الأولى من قبل، فلما نشبت الحرب أخذ يرتجل حقيقة، وكان في خطبه يبدأ بصوت منخفض جدًّا، حتى يكاد يقول له الحضور اسكت، وبعد هنيهة ترن القاعة من صوته، وتُدهش لفضل بيانه، وكان المحامي ليون دوفال يعد خطبه من قبل، محتفلًا بها من وراء الغاية، وكان الدوج دي بروكلي يتأنق في إعداد خطبه، ولكنه يستطيع أن يرتجل على أيسر وجه، وكان بوفه مرتجلًا يؤثِّر بفصاحته في مجلس الشيوخ في مسائل كثيرة، وإن كان عضوًا من حزب قليل في الوزراء، وكتب المحامي الإيطالي هنريكوفري عن نفسه فقال: إنه تعلم بأن كان يقصد الضواحي ويرفع صوته، ويجرب نفسه بالخطابة حتى خطب مرة ثماني ساعات متوالية ومرة إحدى عشرة ساعة.
•••
ونشر آجام عادات طائفة من الأساتذة والمحاضرين من العلماء في الخطابة من الفرنسيس، فكان منهم أناس يفكرون مليًّا قبل أن يخطبوا؛ أي إنهم يعدون الكلام أو معناه، ومنهم من يكتب ما يريد قبل إلقائه وآخرون يرتجلون، والأكثر في هذه الفئة الكتابة قبل الإلقاء؛ لأن خطبهم علمية على الأغلب، ولا يرتجل عادة سوى السياسيين. وعلى من أحب أن يجودها أن يخطب لنفسه في متنزه، أو قاعة خاصة مرة، أو عشر مرات ريثما يستجم قريحته، ولا تخونه الألفاظ، وكل مرة في الموضوع الواحد تزيد معانيه وتغزر ألفاظه، ويجب ألا يهتم لانتقائها والتنطع فيها، بل يكتفي بما جاءه عفو الخاطر وابن الساعة.
وقد سأل المؤلف كثيرين من المشتهرين بالخطابة من قومه المبرزين فيها عن طرقهم في تعلمهم وارتجالهم، فمنهم من قال: إنه يفكر مليًّا في محاضراته بأن يقولها بصوت منخفض أولًا، وأحيانًا يقولها في عقله، وإنه لا يكتب كتابًا صغيرًا قبل أن ينشئه في عقله، ويستظهر الجمل الأربع الأولى حتى لا يفاجئه الحضور إذا مثل أمامهم، ومنهم من تحضره الأفكار إذا أمسك القلم وقيدها، ولكنه يحاذر استظهاره، وهو يرى أن من يكتب محاضرته وخطابه يتعلم الارتجال مع الزمن، ومنهم من تتمثل لعينيه المعاني والألفاظ عندما يشرع في الكلام كأنها مكتوبة أمام عينيه، ومنهم من ينظم الأفكار التي يحاضر بها على الورق، ثم يرتجل ويستعد قبل الكلام أن يقول في ذاته ما يجب إلقاءه على الجمهور مرة أو مرتين، وقال: إنه بكتابته خطابه من قبل يسقط على الأفكار التي لا تجيئه بصورة أخرى، ومنهم من قال: إن خير طريقة لاستظهار ما يريد إلقاءه أن يكتب تلك القطعة، ومنهم وهو أستاذ عظيم يعد موضوعه أولًا، ثم يعين في عقله أفكاره، ثم يخط لها خطة، ثم يفكر في البراهين التي عثر عليها ونظمها.
ومنهم من ضعفت ذاكرته، فيضطر للاستظهار أن يحرك شفتيه بما يحفظ حتى يعلق شيء منه في ذهنه، ومنهم من لا يحسن الكلام إلَّا إذا اضطربت نفسه وفرحت أو سخطت، فإنه في تلك الحال يسرع في خطابه غير مبال، أمَّا إذا لم يكن على حاله من تلك الحالات فيتلعثم ويتردد، ولا يعثر على اللفظ الذي يريده، والخجل الذي يشعر به يزيد هذا الارتباك، ومنهم من لا تأتيه الأفكار وتواتيه إلَّا إذا كان القلم بيده، وآخر يستظهر المقدمة والخاتمة، ومعظم الجمل الأساسية، ثم يتكلم ويترك الباقي للمصادفات، وغيره يرى أن الكلمات تولد فيه الأفكار، وتفتح أمامه أفقًا جديدًا، وهو يدرس موضوعه بالإيجاز، ويفكر فيه قليلًا أو طويلًا بدون أن يحكيه ولا يكتبه في عقله، ويكتب أو يحاول أن يكتب، والكتابة تسهل بزوغ الفكر أحيانًا، وأحيانًا يتضرر من الكتابة وتفلج قريحته، وبالجملة فإن الكلام في الجمهور من شأن الحكومات الديمقراطية، والخطباء يكثرون — كما قال مونتين — حيث تكون الأمور تتقاذفها العواطف الدائمة بين أخذ ورد.
وقال ريبو: إن معرفة الموضوع الذي يريد الخطيب الخوض فيه ورسم خطته في الفكر بسيطة للغاية من قبل، وهما شرطان لازمان للإجادة في الخطابة، وما عدا ذلك فهو من شأن الحضور المستمعين أكثر مما هو من شأن الخطيب، وأسعد ضروب الارتجال ما ساعد فيه الحضور بتراسل عيون الحب بينهم وبين خطيبهم، والعبرة في معرفة روح الجمهور، فإن له مناحي خاصَّة في الحسن والتعقل والفهم، حتى ولو كان مؤلفًا من فلاسفة وعقلاء، قال ماكس نوردو: اجمع عشرين أو ثلاثين من أمثال كيتي، وكانت وهلمهولز وشكسبير ونيوتن واعرض على حكمهم وآرائهم المسائل العلمية الحاضرة، فإن قراراتهم لا تختلف بتاتًا عن مقررات أي مجلس كان، ولماذا يكون ذلك؟ لأن كلًّا من العشرين أو الثلاثين منتخبًا فضلًا من تفرده بمزايا تجعله رجلًا فائقًا، قد ورث بعض صفات نوعه مما يكون به مثيلًا لجاره في المجلس، بل شبيهًا لعامة الأشخاص الذي يمرون في الشارع، فإن الجوهر الإنساني مستحكم من شخصية المرء، وطربوش العامل يغطي قبعة الفيلسوف.
وبقدر ما يستطيع الخطيب قيادة جمهور سامعيه يفعل في أرواحهم ويسوقهم إلى حيث يريد، ومن أجمل ما قاله بريان من خطباء فرنسا: إن الخطاب ليس قطعة أدبيَّة بل هو عمل، والخطاب لا يعمل ليُقرأ، بل ليُسمع، وصورته التي يظهر فيها ثانوية، فالتأثير يحدث والنتيجة الحاصلة هي كل شيء، ومراعاة القواعد مطلوبة في الخطاب، ولكن مهما كانت قيمته من الوجهة الأدبية، فإنه إذا فصل عن محيطه الذي ألقي فيه وفارق الأسباب التي دعت إليه، هل يكون له شأن صحيفة جميلة من الأدب استخرجت من قلم أستاذ في الكتابة؟
•••
وإليك بعض نصائح عملية لطالب النبوغ في الخطابة، منها أن يجتنب حق الاجتناب كل استعداد كتابي للخطاب: أن يحمل الخطيب نفسه كل صباح، ولو عشر دقائق على أن يتكلم كثيرًا في مكان عام أيًّا كان نوعه، وألَّا يكتب مراسلة قبل أن يتكلم بمضمونها سواء كان في عقله أو بصوت جهوري، فالتفكر والكلام قبل الكتابة في أي شيء كانا مطلوبان، وألَّا يعد خطابه في آخر ساعة، بل يجب أن تكون بين ساعة إلقائه وساعة الاستعداد له ليلة على الأقل، واستجمام الفكر خلال الساعات الأخيرة التي تسبق المحاضرة، وألَّا يُكثر من استعمال المفكرات، بل يقتصر على قيد التقاسيم الكبرى والتواريخ، وأن يحفظ حق الحفظ الأسماء الخاصة التي ترد في الكلام، وأن يعود المرء نفسه النطق بالصعب من الحروف ومعناة المخارج المختلفة من اللسان، وأن يتفنن الخطيب في الجمل التي لا مناص له من استعمالها، وهي من لوازم أكثر الناس، فيجتهد أن ينوعها، ويُكثر من الأساليب التي هي بمعنى واحد وبألفاظ متباينة، وأن يبدأ الخطيب خطابه أبدًا ببطء بل بانخفاض، ثم يتدرج في رفع صوته، فكل خطيب يبدأ كلامه بصوت جهوري يوشك أن يختمه، وقد أبح صوته وانخفض، ويجب أن يعرض فكره بدون أن يثور غضبه، فإن الغضب ليس من الصحة في شيء وبه يُبح الصوت، وينبغي له أيضًا أن يحدق بصره فيمن ينصتون إليه، وألَّا يشغل نفسه بقراءة شواهد أو التقليل منها ما أمكن.
والمحركات في الخطيب مكانة، ولكن الإكثار منها لا يُحتمل، والأحسن أن يذهب الخطيب مع الطبع، وإذا قوطع الخطيب فعليه أن ينتظر ريثما يعود السكون إلى المجلس، وعلى الخطيب أن يلاحظ تتمة سلسلة كلامه قبل أن يعد جوابًا على البديهة، والجواب السديد هو على الغالب من جودة الذاكرة، وعليه إذا خانته لفظة ألَّا يضيع وقته أصلًا في البحث عنها، فاللحن والخطأ أفضل من الوقوف في الإلقاء، وإياك أن تضيع فرصة إسماع موسيقار حاذق في صناعة الكلام؛ أي خطيب مصقع، وفِر من المدندنين فرارك من الوباء.
وخير ذريعة للمرء حتى لا يخونه الكلام أن يستظهر كثيرًا من المفردات، حتى إذا نسي لفظة أقام غيرها مكانها من دون أن يتوقف، فقد كان الشاعر تيوفيل غوتيه يقرأ كل يوم صفحة من المعجم، ولا يبعد أن يكون شأن الشاعرين بالزاك وبودلير، والكاتب فلوبر على هذا النحو لما علم من تمكنهم من أساليب اللغة ومصادرها، فكانوا يتصفحون أيضًا هذه الكتب الضخمة التي جمعت نبوغ عنصر بأجمعه، وبدت بها مظاهر مدنيته المنوعة على اختلاف العصور. وأرى أن من المفيد التطريس على آثار أولئك الكُتَّاب، وأن يقرأ المرء كل يوم صفحة من معجم اللغة، وكم من لفظ تذكر به صاحب الفكر عالمًا، وروايات وتواريخ، وصفحة من الطبيعة وبلادًا وعصرًا، ثم إن الألفاظ وحدها لا تكفي لإكثار مادة الخطيب ولا بُدَّ له من القوالب، فعليه أن يحفظ جملًا مأثورة لطيفة تعلمه أساليب البلغاء، وتركيب الجمل على مختلف الصور، ولا يبالغ في الاستشهاد بها؛ فإنه بذلك يضيع شخصيته، ويكون ناقلًا كلام غيره فقط، وعليه أن يركب لنفسه جملًا يمكنه أن يقولها ويلفظ بها بصوت جهوري كل يوم من ١٥ إلى ٣٠ دقيقة، ونجاحه مؤكد لا محالة.
تعلُّم الارتجال هو غاية الغايات التي يجب على مريد الخطابة أن يحاول بلوغها، وإليك ما عساه يهيئ لك الطريق إلى ذلك: افرض أنك بما لقفته سابقًا من المعارف قد استعددت لأن تكتب بعض الشيء خطابًا لك على الورق، فاترك الآن عادة تقييد فكرك في الكاغد، وفكِّر في موضوع لك مدة ساعة أو ساعتين، وذلك بينا أنت سائر، أو راكب في حافلة، أو منصرف إلى عملك البدوي، إن كنت ممن يتعاطون صناعة بيدك، أو بينا تكون في مكتبك فالخطب سيان، انظر إلى جميع النقط التي تعرض لفكرك، وائت بالاعتراضات وردها بما لديك من الحجج تنقضها بها، وخمِّر المادة العقلية التي بلغت منزلتها، حتى إذا كنت في دارك بمعزل عن المكدرات وجلبة الخارج، اطرد من ذهنك جميع الشواغل الخارجة، وخذ نفسك بما تريد أن تأخذه بها، واجمع كل قوتك العقلية في الفكر الذي يأخذ من نفسك بخط، وتدبَّر فيما تريد بضع دقائق، واشرع في التكلم جهارًا جائيًا ذاهبًا في غرفتك، تكلمْ على مهلك بدون أن تبحث عن تعابيرك، ولا تهتم بحالة جملك، ولا لصحتها من النحو والصرف، وداوم بدون انقطاع، ودع كلماتك تتساقط منك، ولكن بأن تصل بينها ما أمكن اتصالًا جيدًا أو رديئًا، فتقارب بينها وتتكرر وتتشوش الأفكار، فالقطع على هذا الضرب من الكلام تنتهي في الدمدمة، أو لا تنتهي أبدًا، وأنت لا يأخذنك قلق من ذلك، بل ظل مثابرًا أيضًا، ونخط العوائق، واطرح وراءك الفقرات التي لم تتلطف في رصفها، ولا تبتئس أبدًا لما لا تذكره حافظتك، ولا لما يتخلل كلامك من المنافذ، أو لضعف حججك وتفاهة براهينك، وثابر ثم ثابر، واذهب إلى أدراجك لا تلوي على شيء، وارفع صوتك حتى ينخفض ويخونك بطبعه.
وإياك أن تحبط إذا لحظت أن النتيجة التي تحصل عليها حقيرة، فإن هذا الجهد الذي يبدوا لك هزوًا بانحلال السياق والسباق بين أجزائه، ربما عبث بنشاطك وخيَّب من أملك، فليس هو من العبث بالدرجة التي تتصورها بادئ الرأي، لا جرم أن مثل هذه التجربة لتربية ملكة الخطابة لا تنتج شيئًا إذا اقتصر عليها، ومهما بلغت من الثبات في الخطة التي اختطها لنفسك، ورزقت من الصبر لتجديدها على الدوام، فإنك تصلح منطقك بالتدريج والكلام الذي تدعوه يأتيك هفوًا أكثر من قبل، ولا تستعصي عليك الجمل، وتلين مادة الكلام وتتلاحم أجزاؤه على أسلوب حسن، وتنجلي الأفكار فتنال كل مرة نتيجة تحمد غب سراها، فتصل بعد فضل الثبات والصبر إلى ما تريد بلوغه من مراقي الكمال، وإياك إذ ذاك أن تقنع بغير سلطة الإرادات العالية، لا يكفي السهولة في المنطق بدون ارتجال، فكثرة مادة الكلام حسن، ولكن الواجب تنظيمه وتخطيط الطريق الذي يجب عليه سيره حتى لا يضل في تافهات لا منفذ لها: إن تعيين الخطة ضرورية في إنشاء خطاب مكتوب، وهو ضروري أكثر عند إرادة الارتجال، إن القريحة المخيلة والمنطق في الخطيب التي تظهر بأنها منبعثة من ذهنه، هي ثمرة التدريب والنظام العلمي بادئ بدء، وبدونه لا رباط ولا سياق.
ثم شبه الخطيب بالممثل في حركاته، ولكن تمثيلًا حسنًا بحسن استعمال حركاته وسكناته، لا تأخذه رهبة ولا جزع. قال: والأحسن أن يعمد من يحب التبريز في هذا الفن أن يتمرن أمام أصحابه، ويقوم بينهم خطيبًا كما لو كان بين غرباء، وهم يدلونه على نقصه ويبينون له عوراته، وبصحة الإرادة وفضل الانتباه يتوصل المرء إلى ما يريد، حتى إذا حصلت له أنسة بالكلام يشرع في خطابه ببطء، والمستمعون لا يستمعون له بكليتهم أولًا، بل إن لهم من أحواله أعظم جاذب، وعلى الخطيب أن يلاحظ وسط القاعة التي يخطب فيها أو آخر الحضور يحدق النظر فيهم؛ ليدلهم بلسان حاله أنه يعنى بأسماعهم وإقناعهم.
هذا محصل ما اخترناه من الكتابين في الخطابة عند الفرنسيس، وهم من الأمم المشهورة بفصحائها وخطبائها، فالسياسي الخطيب منهم هو الذي يتسلط على النواب ببيانه، ويتولى الوزارات والسفارات، وكلما برز في هذا الفن استجاش أنصارًا وأحرز سمعة على وجه الدهر، والخطيب بين العلماء هو الذي يستولي كل الاستيلاء على المجامع العلمية والكليات، ويكهرب الشعب بأقواله، ويكثر أشياعه وأعوانه.