أصل المعتزلة١
من العادة أن كل فرقة أو أهل مذهب إذا أرادت أن تصف الفرقة المخالفة لها تبخسها حقها، وربما نسبت إليها ما لم تقله، اعتقادًا منها بأن تنفير الناس عن المخالف والدعوة إلى المذهب، لا يتيسران إلَّا بهذه الطريقة الفتة الباردة، حتى إن بعضهم جوزوا الكذب على المخالف، وما ندري أي دين سماوي أو مذهب فلسفي يجوز الكذب في أمثال هذه المسائل.
والمعتزلة ما خلوا ممن يرميهم بما ليس فيهم، خصوصًا أيام استحرت المجادلات بينهم وبين الفرق الأخرى من أهل الإسلام، أيام كانوا ممتعين على عهد أوائل الدولة العباسية بحريتهم الدينية على أصولها، ولم يلاقوا من أرباب السلطة شدة ولا عناء، وقد كثر بحث الغربيين في العصر الأخير عن المعتزلة ومَنشئهم، حتى قال بعضهم: إن من سوء طالع المسلمين أن ينقرض المعتزلة، فإنهم كانوا معدلين لأمزجة الحكومات وأرباب المذاهب الأخرى، إذ جروا مع العقل وطبقوا المنقول على المعقول، ونظروا إلى الجوهر أكثر من العرض، ومن حكَّم العقل في أقواله وأفعاله، يحترمه أحبابه وخصومه على السواء.
وفي أثناء ذلك ظهرت فرقة هي بالفرقة السياسية أشبه منها بالفرقة الدينية، وهي فرقة الشيعة المشايعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والشيعة حزبان حزب منهم كانوا يقولون: إنه هو الأحق بالخلافة غير أن عوارض الأحوال أوجبت تأخيره؛ لكثرة أعدائه من المنافقين وغيرهم، وكانوا لا يطعنون في الذين أخروه عنها، وقسم يقولون: إنما أخروه لعداوة في أنفسهم لا رعاية لمصلحة الأمة، ثم أخذ كل مذهب دورًا من الأدوار كما يعلم من التواريخ المفصلة.
وإذ كان الخوارج أرباب حرب وضرب، وتحمس في الدين، وعبادة ونسك، ولم يكن لهم بصيرة في العلم، كانت أمورهم العلمية بسيطة جدًّا، وأكثر ما يقابلون به السيف، أمَّا المعتزلة فكانوا في أمرهم أرباب تؤدة وتأن، واستبصار بما يقتضيه الوقت، وكان مقتضى مذهبهم القيام بإنكار المنكر، ولو أفضى الأمر إلى سل السيف، إلَّا أن ذلك مشروط فيه الإمكان، فكان المعتزلة يفضين إلى فريقين العامة والأمراء، أمَّا الأمراء فلما يشترطونه في الإمارة من الشروط التي إذا انتشرت في أفكار العامة لم يتيسر لأمير أن ينطلق في أمر الأمة بما يشاء، وأما العامَّة فلأنهم ينفرون ممن يخرجهم عن الدين بمجرد إتيان المنكرات التي أطلق لهم العنان فيها من طرف خفي أمراء السوء الذين يهمهم أن تكون العامَّة ممن يعينونهم على مقاصدهم، وكانت هذه الفرقة أعظم الفرق في المناضلة عن الدين ورد شبه الملحدين، وكان الجمهور يقولون: لا حاجة لنا إلى الجدل، فإن كل من خالفنا استتبناه، فإن قاب فيها ونعمت وإلَّا طهرنا الأرض بسفك دمه عليها.
ولم يزل الأمر كذلك حتى أفضت النوبة إلى المأمون، وكان ممن خالط ناسًا منهم، وكان لهم دهاء عظيم في مخالطة الطبقات العالية مع انكماشهم وشدة ورعهم، فتلقف المأمون أفكارهم فقويت في نفسه، فلما أفضت الخلافة إليه بادر إلى إعلانها، وكان مقتضى الحال أن يدعو إلى مذهبهم، كما يقتضيه حال كل من أخذ بمذهب، إلَّا أن المأمون للمبدأ، والذي كان عليه وهو إطلاق الحرية للموافق له والمخالف، وجد مني الواجب أن يطلق العنان لكل الفرق، فالتي أخطأت يتيسر إقناعها بالحجة والبرهان، والتي معها الحق ينبغي أن تتبع على ما معها منه، فانطلقت في عصره جميع الفرق، وجعل في داره مجالس للمناظرات بين أرباب الملل والنحل، وكان العصر المفرد في ذلك.
ثم لما أفضى الأمر إلى من بعده خف إطلاق العنان لهم، غير أنه بقيت من ذلك بقية، حتى أفضت النوبة إلى المتوكل، فقام في اضطهاد الفرق المخالفة للجمهور لرعاية المشرب العامة، وخلاصًا من فرقة إذا قوي أمرها في مشارق الأرض ومغاربها كان فيها الخطر على أمر الخلافة؛ لأنها شرطت فيها شروطًا يصعب القيام بها على كثير، ولم تزل حال المعتزلة بين انخفاض وارتفاع، حتى انحطت الأمة انحطاطًا زائدًا، وقبل انقراضها كان كثير من الملوك يسعى في إبادتهم بالسيف، كما يُعلم من التاريخ، ولم يبقَ لهم ملجأ غير اليمن، فإن فيه تكون حزب ذو عدة وعدة يصعب محوه، وهم المسمون بالزيدية، فما الزيدية إلَّا فرقة من فرق المعتزلة يخالفون جمهورهم في بعض مسائل الإمامة ونحوها، ومذهب المعتزلة في كون الإنسان مختارًا ليس كما ينقله عنهم المخالفون لهم، فإنهم ينقلونه على صيغة مستبشعة ينفر منها العوام فضلًا عن الخواص، فمن ثمَّ وافقهم عليه كثير من علماء أهل السنة، كما وافقهم على كثير من مسائلهم الفرعية التي استخرجوها، وكانت هذه الفرقة كثيرًا ما تُذكر في التاريخ بأنها معتزلة، مع أن المترجم يكون من المخالفين للمعتزلة في باقي مسائلهم أشد المخالفة، فكان يقع للناظر في التواريخ اضطراب، وحقيقة الأمر تُفهم مما ذكره التاج السبكي في الطبقات، فقد نقل في ترجمة القفال عن الحافظ بن عساكر أنه قال في القفال: بلغني أنه كان مائلًا عن الاعتدال قائلًا بالاعتزال في أول أمره، ثم رجع إلى مذهب الأشعري، قال السبكي: وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة عظيمة، وحسيكة في الصدر جسيمة، فإن مذاهب تحكي عن هذا الإمام في الأصول لا تصح إلَّا على قواعد المعتزلة، وطال ما وقع البحث في ذلك حتى توهم أنه معتزلي، واستند الوهم إلى ما نقل أن أبا الحسن الصغار قال: سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير الإمام أبي بكر القفال فقال: قدسه من وجه ودنه من وجه. أي دنه من جهة نصرة مذهب الاعتزال، والقفال هو أستاذ عصره، قرأ عليه الأشعري علم الفقه، وقرأ هو عليه علم الكلام، وهو معدود من كبار أئمة الشافعية، وعلل السبكي ذلك بقوله: أعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا في الفقه، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم، والمعتزلة هم الذين أحدثوا علم الكلام، وكان الأولون ينهون عنه كثيرًا، إلَّا أن النفوس لما كانت مولعة بالعلم مطلقًا تابعهم عليه غيرهم وألغوا فيه كثيرًا، وأوهموا اللائمين لهم بأن الكلام المنهي عنه إنما هو الكلام على طريقة المعتزلة، غير أن الكتب التي أُلفت على طريقة المعتزلة أمتن جدًّا لما كان في أصولهم من منع التقليد البتة، ولذلك لم يكن بعضهم يقلد بعضًا، وإن كل إنسان مكلف بقدر ما أداه إليه اجتهاده ووسعه، ولا يخفى الفرق بين المقيد والمطلق.
وهم الذين وسعوا أصول الفقه حتى إن أكثر المسائل المذكورة فيه هي من مبتكراتهم، غير أن الأصوليين لم يحبوا أن يتركوها لهم، وهذا ظاهر لمن يتتبع فن الأصول عصرًا فعصرًا، وأما ما يرميهم به خصومهم من أن الاعتزال نشأ من انتشار كتب الفلسفة فهي فرية؛ لأن الاعتزال وقواعده الأصلية نشأت قبل ترجمة كتب الفلسفة المتعلقة بالإلهيات بلا خلاف، وكثير مما قالوه كمسألة الاختيار المطلق ومسألة خلود العاصي مؤبدًا، ونحو ذلك كان يستعين خصومهم في الرد عليهم بها بكلام الفلاسفة، وإنما كان دأب المعتزلة بمقتضى متانتهم أن يخوضوا في أي شيء كان من العلوم التي كانت قبل، ولن يجروا على ما يظهر لهم؛ لاعتقادهم وجزمهم بأنه لا توجد حقيقة تخالف الدين، فكانوا أشد الناس إسراعًا للخوض في الفنون، وأكثر المؤلفات المهمة في العلوم المنوعة، ما عدا الفقه، يدهم فيها أطول من يد من يخالفهم إجمالًا، والتاريخ يُظهر ذلك بأجلى مظاهره. وأما الفقه فإنهم أخذوا فيه بما أخذ به غيرهم؛ لاعتقادهم أن الخطب فيه سهل، غير أن لهم في الفقه دقائق غريبة يجدها الإنسان في تضاعيف الكتب هم منشأها، وأما الحديث فإنهم رأوا كثرة الوضع، وظهر لهم أن التمييز بين الصحيح وغيره يعسر، لا سيما ما روي من طرق غيرهم، فإنهم لا يطمئنون إليه؛ لاعتقادهم أن كثيرًا من أهل الورع والصدق من غيرهم ربما يجوزون وضع الحديث للمصلحة، وشاهدوا في عصرهم أحاديث وضعت في حقهم مثل «القدرية مجوس هذه الأمة»، فنفروا من المحدثين وثلبوهم أشد ثلب، ولما كان لهم علم الحديث أهم علوم الدين وهم أشد الناس ولوعًا به، ذهبوا إلى قاعدة غريبة وهي أن كل حديث لا يخالف القرآن، وهو قريب من مقاصد الشارع، أو كان مما يدل على مكارم الأخلاق سلموا به إجمالًا بدون نظر في رواته، وما وجدوه مخالفًا لذلك ردوه البتة، ومن هذا نشأ كثرة ما تراه من ذكر الأحاديث في كتب مثل الجاحظ والزمخشري وغيرهما من أئمة المعتزلة منهم يبحثون عن القول لا عن راوية.
غير أنهم يعتقدون أن من أخذوا بقوله كان على مذهبهم ومشربهم، وقد وقع في التواريخ مناقشات كثيرة في مسألة نحل كثير من المشهورين في العلم والفضل، والسبب في ذلك أن كثيرًا من المتقدمين كانوا لا يصرحون بما يصرح به المتأخرون، فكان كل فريق يدعي أن فلانًا منهم، ويظهر ذلك لمن راجع كتب مناقب المشهورين على طريقة المتقدمين، فإنهم كانوا يفيضون في كل شيء لا على طريقة المتأخرين الذين يطوون كل شيء لا يوافق مأربهم الخاص ظنًّا منهم أنهم بذلك يحسنون صنعًا، وكثيرًا ما يذكرون منقبة، وهي في الباطن مثلبة وربما كانت موضوعة:
هذا ما قاله ننقله بلفظه ومعناه من لسان ذاك الإمام الكبير، وقد قال المرتضى: وأما ما أجمعوا عليه فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثًا قديمًا قادرًا عالمًا حيًّا، لا لمعان ليس بجسم، ولا عرض ولا جوهر عينًا واحدًا لا يدرك بحاسة، عدلًا حكيمًا، لا يفعل القبيح ولا يريده، كلف تعريضًا للثواب، ومسكن من الفعل وأزاح العلة، ولا بُدَّ من الجزاء، وعلى وجوب البعثة، حيث حسنت ولا بُدَّ للرسول — صلى الله عليه وآله — من شرع جديد، أو إحياء مندرس، أو فائدة لم تحصل من غيره، وأن آخر الأنبياء محمد — صلى الله عليه وآله وسلم — والقرآن معجزة له، وأن الإيمان قول ومعرفة وعمل، وأن المؤمن من أهل الجنة وعلى المنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق لا يسمى مؤمنًا ولا كافرًا إلَّا من يقول بالإرجاء، فإنه يخالف في تفسير الإيمان وفي المنزلة، فيقول الفاسق يسمى مؤمنًا، وأجمعوا على أن فعل العبد غير مخلوق فيه، وأجمعوا على تولي الصحابة، واختلفوا في عثمان بعد الأحداث التي أحدثها، فأكثرهم تولاه وتأول له، وأكثرهم على البراءة من معاوية وعمرو بن العاص، وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تعداد علمائهم مصنفات عدة، كالمصابيح لابن يزداد وغيره. ا.ﻫ.
هذا ما قاله واحد منهم في حقيقة ما أجمعوا عليه، وإليك ما قاله الشهرستاني صاحب الملل والنحل وهو لين منهم قال: والمعتزلة، ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية، وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركًا، وقالوا: لفظ القدرية يُطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى، احترازًا عن وصمة اللقب إذا كان الذم به متفقًا عليه لقول النبي — عليه السلام: القدرية مجوس هذه الأمة. وكانت الصفانية تعارضهم بالاتفاق على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل تضاد، فكيف يُطلق لفظ الضد على الضد، وقد قال النبي — عليه السلام: القدرية خصماء الله في القدر.
والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على فعل الله وفعل العبد، لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل، وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم المحكوم، فالذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد القول بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف لذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلًا فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته لا يعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به؛ لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لمشاركته في الإلهية، واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه، فإنما وجد في المحل عرض فقد فني في الحال، واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته، لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها، واتفقوا على نفي رؤية الله بالإبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كل وجه جهة ومكانًا، وصورة، وجسمًا، وتحيزًا، وانتقالًا، وزوالًا، وتغيرًا، وتأثرًا، وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسموا هذا النمط توحيدًا، واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق ما يفعله ثوابًا وعقابًا في الدار الآخرة، والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالمًا كما لو خلق العدل كان عادلًا، واتفقوا على أن الحكيم لا يفعل إلَّا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم، وسموا هذا النمط عدلًا، واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض، والتفضل معنى آخر وراء الثواب، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار، وسموا هذا النمط وعدًا ووعيدًا، واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك، وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء — عليهم السلام — امتحانًا واختبارًا ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، واختلفوا في الإمامة والقول فيها نصًّا واختيارًا.
وهنا ذكر الشهرستاني مقالة كل طائفة من طوائف المعتزلة مثل «الواصلية» أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال، و«الهذيلية» أصحاب أبي الهذيل حمدان بن أبي الهزيل العلاف، و«النظامية» أصحاب إبراهيم بن سيار بن هاني النظام، و«الحائطية» أصحاب أحمد بن حائط، و«الحدثية» أصحاب فضل بن الحدثي، و«البشرية» أصحاب بشر بن المعتمر، و«المعمرية» أصحاب معمر بن عباد السلمي، و«المزدارية» أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى، الملقب بالمزدار، و«الثمامية» أصحاب ثمامة بن أشرس النميري، و«الهشامية» أصحاب هشام بن عمر الفوطي، و«الجاحظية» أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ، و«الخياطية» أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط، و«الجبائية والبهشمية» أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام.
ومن رجال المعتزلة الحسنان — عليهما السلام — ومحمد بن الحنفية، وسعيد بن المسيب، وأبو الأسود الدؤلي، وعلقمة والأسود، وشريح من أصحاب عبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وعبد الله بن عمر، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن عباس، وغيلان بن مسلم الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك، وقتل صاحبه صالحًا في أبشع صورة؛ لأنه أنكر على بني أمية سوء سياستهم في الرعية، وواصل بني عطاء، وهو الذي أنفذ أصحابه إلى الآفاق، وبث دعاته في البلاد، فبعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب، فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم، وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة وعثمان الطويل إلى أرمنية، ومنهم عمرو بن عبيد، وكان المنصور العباسي يبالغ في تعظيمه ورثاه، وقلما عهد أن الخليفة رثى رعية بقوله:
ومنهم أبو الهذيل العلاف الذي قال فيه المأمون: أطل أبو الهذيل على الكلام، كإطلال الغمام على الأنام، ومنهم إبراهيم النظام وهو الذي يقول فيه الجاحظ: الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحًا فهو أبو إسحاق النظام. وبشر بن المعتمر الهلالي، وأبو عمرو بن بحر الجاحظ، وعبد الرحمن بن كيسان الأصم، وأحمد بن أبي دؤاد، وثمامة بن الأشرس، ومنهم الجعفران اللذان يُضرب المثل بعلمهما وزهدهما، كما يُضرب المثل في حسن السيرة بالعمرين، وهما أبو محمد جعفر بن مبشر الثقفي، وأبو الفضل جعفر بن حرب، ومنهم أبو جعفر الإسكافي، وأبو عبد الله الدباغ، وأبو علي الجنائي، ومنهم أبو العباس الناشئ، ومحمد بن عمر الصيمري والسيرافيان أبو القاسم، وأبو عمران، وقاضي القضاة عبد الجبار الهمداني، ومنهم الصاحب بن عباد، والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، والجوهري صاحب الصحاح والشريف المرتضى، وأبو بكر الرازي، وأبو بكر الدينوري.
ومما يؤثر من أخلاق أئمة المعتزلة وورعهم ما قاله الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: لم لا تولي أصحابي؛ أي (المعتزلة) القضاء كما تولي غيرهم فقال: يا أمير المؤمنين إن أصحابك يمتنعون من ذلك، وهذا جعفر بن مبشر وجهت إليه بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها، فذهبت إليه بنفسي واستأذنت فأبى أن يأذن لي، فدخلت من غير إذن، فسل سيفه في وجهي، وقال: الآن حل لي قتلك، فما تصرفت عنه فكيف أولي القضاء مثله؟! ورُوي أن أحد أئمتهم جعفر بن مبشر أضرت به الحاجة حتى كان يقبل القليل من زكاة إخوانه، فحضره يومًا بعض التجار، فتكلم بحضرته في خطبة نكاح، فأُعجب به ذلك التاجر، فسأل عنه فأخبر بمسكنته، فبعث إليه بخمسمائة دينار فردها، فقيل له قد عذرناك في رد مال السلطان للشبهة، وهذا تاجر ماله من كسبه فلا وجه لردك، فقال جعفر: إنه استحسن كلامي أفتراني أن آخذ على دعائي إلى الله تعالى وموعظتي ثمنًا، لو لم أكن فعلت هذا ثم ابتدأ في لقبلت، ورُوي أن بعض السلاطين وصله بعشرة آلاف درهم فلم يقبل، وحمل إليه بعض أصحابه بدرهمين من الزكاة فقبل، فقيل له في ذلك فقال: أرباب العشرة أحق بها مني، وأنا أحق بهذين الدرهمين لحاجتي إليهما، وقد ساقهما الله إليَّ من غير مسألة، وأغناني بهما عن الشبهة والحرام.
وفي طبقات السبكي: قال ابن الصلاح: هذا الماوردي عفا الله عنه يُتهم بالاعتزال، وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه، وأتأول له وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يَختلف فيها أهل التفسير تغير أهل السنة، وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منهما، وأقول لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل؛ ولهذا يورد من أقوال المشتبهة أشياء مثل هذا الإيراد، حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة، وما بنوه على أصولهم الفاسدة، ومن ذلك مصيره في الأعراف إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان. قال في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ، وجهان في جعلنا؛ أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء، والثاني تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها، وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحونًا بتأويلات أهل الباطل تلبيسًا وتدليسًا على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق، ثم هو ليس معتزليًّا مطلقًا، فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن، كما دل عليه تفسيره في قوله — عز وجل: مَا يَأْتِيهِم مِن ذِكْرٍ مِن رَبِّهِم مُحْدَثٍ وغير ذلك، ويوافقهم في القدر وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديمًا. انتهي.