دولة الأدب في حلب١ على عهد سيف الدولة بن حمدان
لكل قرن من قرون العز في العرب نابغة أو نوابغ من الملوك والأمراء، ومثلهم من العلماء والأدباء، وقد امتاز القرن الرابع في الشام — وإذا قلنا الشام عنينا هذا القطر المحبوب الممتد من العريش إلى الفرات، ومن جبال طورس إلى البادية على نحو ما كان يعرفه العرب — بقيام بني حمدان فيه، ورئيسهم سيف الدولة بن حمدان استولى على القسم الشمالي منه، والدولة العباسية قد أخذت تتناوشها ملوك الأطراف، وأمراؤها في العراق ومصر والشام والجزيرة، وأخذت دولة الخلافة بالضعف بصنع بعض الخوارج، ومنهم من كان ينازعها السلطة علنًا، ومنهم من كان يشاركها فيها، ويخضع لها في الصورة الظاهرة، وبنو حمدان كانوا من هذا النوع الأخير.
أصل بني حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية، وهم بنو حمدان بن حمدان، كانوا ملوك الموصل والجزيرة وحلب في أيام المقتفي بالله العباسي، وأول من ملك منهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، ثم أخوه إبراهيم بن حمدان، ثم أخوه سعيد ونصر أبناء حمدان، ثم استولى على الشام وحلب معين الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان، ثم لؤلؤ مولى سعد الدولة بن حمدان، ثم غلبه على ذلك صالح بن مرداس أمير بني كلاب وانتزعه منه في سنة ٤٠٢ﻫ.
كان للقبائل سلطان في هذه الديار، وأي سلطان؛ لأن البادية خلقوا رجال حرب وغزو أكثر من الحضر؛ لذلك كان العرب قبل الإسلام بخمسة أو ستة قرون يحكمون هذه الديار، أو يغيرون على المعمور منها، أو ينزلون في صقع معين منها فيبنون المصانع، ويغتنون كما يغتني أهل الحضر ويعيشون عيشهم، ومن هؤلاء العرب من كان لهم قبل الهجرة وبعدها مدنية رائعة مثل النبطين في الجنوب، وهم عرب تعزى إليهم آثار البتراء، أو وادي موسى، وآثار جرش في عجلون، ومثل الغسانيين في حوران، والصفا، واللجاة، ودمشق، وحمص وغيرها، ومثل التنوخيين في أرجاء حلب، ومثل بني لخم وجذام، وكلب، وكلاب، وتميم وطي، وسليم، وعاملة، والضجاعم وغيرها من قبائل العرب التي نزلت الشام، فكانت عرضة كل حين لاستيلاء البادية عليها؛ لأن أهلها أشد مراسًا وأجرأ على القتال يوم النزال؛ ولأن سلاح المدن والبوادي كان واحدًا إذ ذاك، وهذا ما حدا بدولة الرومان لما أضافت هذه الديار إلى مملكتها أن تنشئ على سيف البادية مخافر كثيرة؛ ليأمن المعمور عيث البادية، ومن جملة الدواعي إلى استيلاء الحمدانيين على حلب طمع العرب فيها، وغزوهم لها المرة بعد المرة، ففي سنة ٢٩٢ﻫ ولى المكتفي أبا الحسن ذكا بن عبد الله الأعور حلب، ودام بها إلى سنة ٣٠٢، فعاثت بنو تميم في أيامه في حلب، وأفسدت فسادًا عظيمًا وحاصروا ذكا بحلب، فكتب المقتدر إلى الحسين بن حمدان في إنجاد ذكا بحلب، فأسرى من الرحبة حتى أناخ عليهم بخناصرة وأسر منهم جماعة، وقامت على الحسين بن حمدان العرب من كلب، واليمن، والنمر، وأسد وغيرهم فاجتمعوا بنواحي حلب، فخرج للقائهم سنة ٢٩٤ فهزموه حتى بلغوا به باب حلب.
تبعت الشام مصر في حكومتها سنة ٣٢٥، فأقام محمد الإخشيد واليًا على حلب أحمد بن سعيد الكلابي شيخ قبيلة بني كلاب، فكثر الكلابيون إذ ذاك، وأقطع الخليفة العباسي الشام لمحمد بن رائق على أن يستخلصه من الإخشيدية الذين خلعوا طاعته، فطرد ابن رائق وقاتل الإخشيدية فاستولى على دمشق.
وفي سنة ٣٢٩ بعث محمد الإخشيد قائده كافورًا إلى الشام في جيش عظيم، فهزم عامل ابن رائق واستولى على حلب، وفي السنة التالية عقد الصلح بين محمد الإخشيد واستأثر هذا بولاية حلب، والإخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية، وما معها من البلاد الشامية والأعمال الحجازية، كانت له سياسة حسنة مع جميع رعاياه؛ أي إنه كان بارعًا بما نسميه اليوم «سياسية العناصر»، فقد كتب إلى أرمانوس ملك الروم من كتاب: «وسياستنا لهذه الممالك قريبها وبعيدها على عظمتها وسعتها بفضل الله علينا، وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيانا، كما كتبت إلينا، وصح عندك من حسن السيرة، وبما يؤلف بين قلوب سائر الطبقات من الأولياء والرعية، ويجمعهم على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة ويكسبها المودة والمحبة.»
وفي سنة ٣٢٩ وصل الروم إلى قريب حلب ونهبوا وخربوا البلاد، وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان، وفي هذه السنة أيضًا قُتل ابن رائق قتله ناصر الدولة بن حمدان، وكتب بالأمر إلى الخليفة المتقي لله فحل ذلك من نفسه محلًّا عظيمًا ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء وتقلد حلب وأعمالها، ودانت له العرب، ولُقب شقيقه عليَّ سيف الدولة وخلع عليه، وهذا هو موضوع كلامنا في هذه المحاضرة.
•••
سار سيف الدولة إلى حلب سنة ٣٣٣ فحكمها واستولى عليها، وكان مع المتقي لله بالرقة، فلما عاد المتقي إلى بغداد وانصرف الإخشيد إلى الشام، لقي يأنس المؤنسي بحلب فقصده سيف الدولة، فلما نازلها فارقها يأنس، فحكمها سيف الدولة وهزم الروم لما قاربوها، ودخل الإخشيد سنة ٣٣٤ حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي، فقُطعت الأشجار التي كانت في ظاهر حلب، وكانت عظيمة جدًّا — وقيل إن حلب كانت من أعظم المدن شجرًا وأشعار الصنوبري تدل على ذلك — ونزل عساكر الإخشيد على الناس بحلب وبالغوا في أذى السكان لميلهم إلى سيف الدولة.
مال الناس هنا إلى سيف الدولة لما اشتهر عنه من الشجاعة والكرم، ومال أهل دمشق عنه فطردوه عن بلدهم؛ لأنهم رأوا منه ما أخافهم على أملاكهم؛ وذلك أنه لما ملك دمشق اتفق — وهو مقيم بها — أنه كان يسير هو والشريف العقيلي بنواحي دمشق فقال سيف الدولة: «ما تصلح هذه الغوطة إلَّا لرجل واحد»، فقال له العقيلي: هي لأقوام كثيرة، فقال سيف الدولة: «لئن أخذتها القوانين السلطانية ليتبرءوا منها»، فأعلم العقيلي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافورًا يستدعونه من الإخشيدية فجاءهم وأخرجوا سيف الدولة عنهم، وظل مُلك الحمدانيين مقصورًا في الشام على شماله ودخلت فيه حماة، وحمص، وسلمية، وجوسية، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان، وجبل السماق، ومعرة مصرين، والأثارب.
•••
رسخت بسيف الدولة أقدام بني حمدان في هذه الديار، واتخذ حلب عاصمته، وكانت مملكته عبارة عن جند حمص، وجند قنسرين، والثغور الشامية والجزرية، وديار مصر وديار بكر، ولما تم له الأمر مثَّل في بلاده الصورة التي كان يريد أن يمثلها في دمشق، وأبى أهلها عليه تمثيلها، فأخذ يستصفي الأملاك، ويصادر الأموال ويبني الدور والقصور، ويظهر من الأبهة ما كان يعجز عنه الخوالف من العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس والفاطميين في مصر.
•••
لم تكن الجباية في تلك القرون على حالة مستقرة، فما ورد عن الشارع وأصحابه من قوانينها العادلة السهلة التطبيق، كان يجري العمل به في البلاد كلها، وكانت صورة التنفيذ تختلف باختلاف نزاهة السلطان وعفته عن أموال الناس، وسيف الدولة كان على الأرجح من القائلين بأن الغاية تبرر الواسطة.
كان رحمه الله على ما أجمع عليه الثقات مثل ابن حوقل معاصره والأزدي، وسبط ابن الجوزي، يجوِّز أخذ ما في أيدي الناس ليستعين به على غزو الروم، ويسرف بجانب كبير يفضل به على الشعراء والأدباء، فيخرجه من أكياس الرعية وجيوبهم؛ لينفقه في وجوه المبرات والعطايا؛ ولذلك أسس في هذه المدينة الجميلة دولة في الأدب، لم يقم مثلها في الشام منذ نحو عشرين قرنًا إلى يوم الناس هذا.
ليس العالم شر محض ولا خير محض، ولكل عاقل في الأرض مزية، كما أن له ما يعد عليه من الهنات، وسيف الدولة من هذا القبيل لم تكن أعماله إلى الخير المحض بمصادراته وإسرافه، وكانت له مزيتان قل أن يُكتبا لغيره وهما: نهضة الآداب في هذه البلاد، ودفع عادية الروم عنها، ولولاه لعاد إليها سلطانهم بعد أن تقلص بالإسلام نيفًا وثلاثة قرون، وهذا الإجمال كما ترون يحتاج إلى تفصيل.
كان هم سيف الدولة في سياسته الخارجية أن يُضعف الروم في آسيا الصغرى، فكان كثيرًا ما يغزوهم ويفتح حصونهم، ويسبي من أبنائهم، ويخرب في زرعهم وقراهم، ويستصفي أموالهم وعروضهم، وقيل: إنه غزاهم أربعين مرة كانت فيها بعض الغزوات له وبعضها عليه. وكان همه في سياسته الداخلية تنجيد القصور، وجمع الأموال، والتجوز في أخذ الحلال والحرام منها، وإظهار أبهة الملك، والإفضال على الشعراء، وكانت عصبيته من عرب الجزيرة مسقط رأسه ومنبعث دولته. ومن عرب الشام مثل بني كلاب الذين أدناهم وأمن سربهم فقهروا العرب وعلت كلمتهم، قال في مسالك الأبصار: وبنو كلاب هم عرب أطراف حلب والروم، ولهم غزوات عظيمة معلومة وغارات لا تعد، ولا تزال (أي في القرن الثامن) تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم، ويتكلمون بالتركية ويركبون الأكاديش، وهم عرب غزو ورجال حروب وأبطال جيوش، وهم من أشد العرب بأسًا وأكثرهم ناسًا.
قل في أيام سيف الدولة غزو الروم لمدينة حلب، وكانوا يغزونها السنة بعد الأخرى، ويعيثون في أرباضها وقراها، ويحرقون ويخربون ويسبون، دع غزوتهم لها سنة ٣٥١ أيام استولوا عليها دون قلعتها، ولم يعلم سيف الدولة بالخبر، فخرج إليهم فيمن معه فقاتلهم، فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه فقُتل أكثرهم، ولم يبقَ من أولاد داود بن حمدان أحد، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب وتسمى الدارين، فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة (والبدرة كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار من الدراهم، ويبلغ مجموعه نحو مليوني دينار باصطلاحنا اليوم) وأخذ له ألفًا وأربعمائة بغل، ومن خزائن السلاح ما لا يُحصى، وأخذ الجميع، وخرب الدار، وملكَ الحاضر، وحصر المدينة فقاتله أهلها، وهدم الروم في السور ثلمة فقاتلهم أهل حلب عليها، فقُتل من الروم كثير ودفعوهم عنها، فلما جنهم الليل عمروها، فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل الجوشن، ثم إن رجال الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس، وخانات التجار لينهبوها فلحق الناس أموالهم؛ ليمنعوها فخلا السور منهم، فلما رأى الروم السور خاليًا من الناس قصدوه وقربوا منه فلم يمنعهم أحد، فدخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا، ولم يرفعوا الفتك حتى تعبوا وضجروا، وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسارى، فتخلصوا وأخذوا السلاح وقتلوا الناس، وسُبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرة، فلما لم يبقَ من الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي وإحراق المساجد، قال ابن الأثير: وكان عدد عسكره مائتي ألف رجل، منهم ثلاثون ألفًا بالجواشن (الدروع) وثلاثون ألفًا للهدم، وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحديد، وكانت هذه الموقعة بسفح (بالقوسا) فأحرقوا جامعها.
بيد أن هذه الواقعة وأمثالها لم تثن من همة سيف الدولة، فظل على غزو الروم؛ ليكف عاديتهم عن هذه الديار، وكانت له طرق غريبة في الرحمة، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس، وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين فأخذ بالفداء، ولما لم يبقَ معه من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين دينارًا، حتى نفد ما معه من المال، فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته (درعه) الجوهر المعدومة المثل، ثم لما لم يبقَ أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح، قال ابن الوردي: وهذه من محاسن سيف الدولة.
ولقد امتازت دولة سيف الدولة بمزيتين: الأولى سياسية إسلامية، والثانية علمية أدبية، فمزيتها السياسية أنه كثيرًا ما أغار على الروم، وجعل ديدنه التخريب في بلادهم؛ ليردهم عن قصد بلاده؛ لأنهم كانوا يطمعون فيها منذ القديم، ويذكرون من تاريخها أنهم حكموها طويلًا، فكان بعمله سدًّا حاجزًا دون انبعاثهم إلى هذه البلاد، فخدم بذلك الإسلام والعرب، والمزية الثانية لدولته جعلها كحضرة بني العباس على ضيق رقعتها، وذلك في الإفضال على العلم والأدب، فكان يقصده أهل هذا الشأن، فينزلهم في بلاده على الرحب والسعة ويبرهم بصلاته، قال في دائرة المعارف الإسلامية: «إن الفضل الذي أحرزه سيف الدولة بن حمدان بنشر العلوم والآداب العربية هو عنوان مجد لا يقل عن أعماله الحربية.»
ومما يؤخذ عليه تغاليه في الإفضال على الشعراء والأدباء، على أن منهم كأبي الطيب المتنبي مثلًا من فارقه بعد أن منعه الإقطاعات والإنعامات الكثيرة؛ ليستجدي أكف كافور في مصر، فقد أعطى سيف الدولة شاعره المتنبي ضيعة بالمعرة اسمها «صف» إقطاعًا له، وأقطع قرية «عين جارة» وهي من الضياع الكبرى على ابن أحمد بن البازيار نديمه عدا ما كان يناله من صلاته، وذكروا أن الناشئ الأحصى دخل على سيف الدولة فأنشده قصيدة له فيه، فاعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ، وقال له: أعذر فما يتأخر حمل المال فإذا بلغك ذلك، فإننا نضاعف جائزتك ونحسن إليك، فخرج من عنده فوجد على باب سيف الدولة كلابًا تُذبح لها السخال وتُطعم لحومها، فعاد إلى سيف الدولة فأنشده هذه الأبيات:
ثم اتفق أن حملت إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال، فضاع منها بغل بما عليه، وهو عشرة آلاف دينار، وجاء هذا البغل حتى وقف على باب الناشئ الشاعر بالأحص، فأخذ ما عليه من المال وأطلقه، ثم جاء حلب ودخل على سيف الدولة وأنشده قصيدة يقول له فيها:
فقال له سيف الدولة: بحياتي وصل إليك المال الذي كان على البغل، فقال: نعم، فقال: خذه بجائزتك مباركًا لك فيه.
إن ما صدر عن سيف الدولة غاية في الكرم، ولكنه لا يجوز في شرع العقل أن تجبى هذه الأموال من الفقراء والأغنياء؛ لتُصرف في مصالح الأمة، ثم يأخذها شاعر واحد، ومعلوم أن العشرة آلاف دينار في القرن الرابع لا تقل قيمتها عن مائة ألف دينار في هذا القرن؛ ولذلك قال ابن نباتة في مدح سيف الدولة، وقد تبرم بكثرة ما ناله من عطائه:
مثال آخر من إسراف الدولة: ذكر أنه ضرب دنانير خاصَّة للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، قال بعض المؤرخين في حوادث سنة ٣٥٤: فيها صاهر سيف الدولة أخاه ناضر الدولة، فزوج ابنته أبا المكارم، وأزوج أبا المعالي بابنة ناصر الدولة، وأزوج أبا تغلب بابنته ست الناس، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثين دينارًا، وعشرين وعشرة عليها مكتوب: محمد رسول الله، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فاطمة الزهراء، الحسن، الحسين، جبريل، (وكان سيف الدولة يرى رأي الشيعة)، وعلى الجانب الآخر: «أمير المؤمنين المطيع لله، الأميران الفاضلان ناصر الدولة وسيف الدولة، الأميران أبو تغلب وأبو المكارم»، وجاد بما لم يجد به أحد، يقال: إن المبلغ الذي جاد به سبعمائة ألف دينار، فما قولكم بمن يجود بهذا المبلغ في عرس، وهو مبلغ جسيم لا تقل قيمته إذا قدرناه بسكة زماننا عن سبعة ملايين دينار، إن هذا العمل ممقوت شرعًا وعقلًا؛ لأنه التبذير بعينه.
ومما ذكره المؤرخون أن سيف الدولة كان مرة في بغداد، فدخل على جماعة في مجلس أنسهم، فرفعوا منزلته بدون أن يعرفوه وشاركهم في طربهم، ولما تقوض المجلس طلب ورقة ودواة، وكتب رقعة وتركها وانصرف، فنظر أصحاب المجلس في رقعته، فإذا هي سفتجة بألف دينار يؤديها وكيله في دار السلام، فلما حملوا إليه خطه سألوه من عساه أن يكون الذي جاد بهذا المبلغ، فقال لهم: هو سيف الدولة بن حمدان. وكان كثيرًا ما يفتقد رجال الدولة في بغداد، ويتعهد بعض علمائها وشعرائها، ولكن عطاياه للشعراء أجزل، فقد كان يعطي المعلم الثاني أبا النصر الفارابي أربعة دراهم في اليوم؛ أي القدر الذي يستطيع به فيلسوف الإسلام أن يعيش عيش الكفاف، على حين كان يعطي ابن عمه أبا فراس ضيعة تغل ألف دينار في السنة من قرى منبج جائزة عن بيت استجاده، وأبو فراس هو الذي قال فيه الصاحب ابن عباد: «بُدئ الشعر بملك — أي بامرئ القيس — وخُتم بملك أي بأبي فراس.»
•••
وبهذا رأيتم أن المال لا قيمة له في نظر سيف الدولة، فقد ذكروا — وهو مما يعاب عليه — أن الخليفة المتقي العباسي لما استولى البريدي على بغداد، استنجد ببني حمدان أمراء الموصل، فطلب سيف الدولة من الخليفة مالًا لينفقه في الجيش؛ حتى يقويه ويمنع الأتراك من بغداد، فأعطاه الخليفة أربعمائة ألف دينار، ففرقها سيف الدولة في أصحابه، ثم هرب سيف الدولة ودخل «تورون» بغداد وملكها، ومنها أن أبا الحصين علي بن عبد الملك الرقي ولي قضاء حلب وكان ظالمًا، فإذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة، وقال: «كل من هلك فلسيف الدولة ما ملك»، ولما مات هذا القاضي رفسه سيف الدولة برجله فيما قيل، وقال له: قبحك الله كم كنت تزين لي الظلم، وذكر ابن حوقل في كلامه على بالس «مسكنة»: إن سيف الدولة بعد انصرافه عن لقائه صاحب مصر، وقد هلك جميع جنده أنفذ المعروف بأبي الحصين القاضي، فقبض من تجار كانوا بها معتقلين عن السفر، ولم يطلق لهم النفوذ، فأخرجهم عن أحمال وأطواف زيت إلى ما عدا ذلك من متاجر الشام في دفعتين بينهما شهور قلائل، وأيام يسيرة ألف ألف دينار، وقال ابن حوقل أيضًا: «إن نصيبين لم تزل منذ من أول الإسلام تضمن بمائة ألف دينار إلى سنة ٣٦٠، فأكب عليها بنو حمدان بصنوف من الجور وتجديد الكلف، إلى أن حمل ذلك بني حبيب، وهو بنو عم بني حمدان على أن خرجوا بذراريهم ومواشيهم، وثقلهم في اثني عشر ألف فارس إلى بلد الروم، فتنصروا بأجمعهم، وأوثقوا ملك الروم من أنفسهم بعد أن أحسن لهم النظر في إنزالهم على كرائم الضياع ونفائس المتاع، فعادوا إلى بلد الإسلام على بصيرة بمضاره، وعلم بأسباب فساده وقلوبهم تضطرم حقدًا، فلحق بهم كثير من المخلفين عنهم، فشنوا الغارات على بلد الإسلام، وافتتحوا بعض الحصون وألحقوا أسوار بعضها في الأرض، وخربوا الضياع وتزايدت ثقة الروم بهم، إلى أن جعلوا لهم الأرزاق والأعطية، وصاروا خاصَّة الملك، وفتحوا له المضايق وأطعموه في أنطاكية، والمصيصة، وحلب، وطرسوس.»
هذا ما ذكره الجغرافي الرحالة ابن حوقل في أعمال سيف الدولة؛ على أنه قد وسم كتابه باسمه، وقد سكت بعض المؤرخين عن ذكرها بتاتًا، وأشار إليها بعضهم بصورة مختصرة، قال ابن مسكويه: «كان سيف الدولة معجبًا بنفسه يحب أن يستبد برأيه، كريمًا شجاعًا، محبًّا للفخر والبذخ، مفرطًا في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه والعجب بآرائه، سعيدًا مظفرًا في حروبه، جائرًا على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه.
ومن جملة بذخه أنه كان يقف على مائدته إذا أكل أربعة وعشرون طبيبًا، وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم. ولقد قيل: إنه اجتمع لسيف الدولة بن حمدان ما لم يجتمع لغيره من الملوك، كان خطيبه ابن نباتة الفارقي، ومعلمه ابن خالويه، ومطربه الفارابي، وطباخه كشاجم وخزان كتبه الخالديان (وهما يشبهان الأخوين الإفرنسيين ليكونكور)، والصنوبري ومداحه المتنبي، والسلامي والوأواء الدمشقي، والببغاء، والنامي، وابن نباتة السعدي وغيرهم، بل إنه اجتمع ببابه ما لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وكان أديبًا شاعرًا، محبًّا لجيد الشعر شديد الاهتزاز بما يُمدح به. ولقد أورد صاحب اليتيمة من شعراء سيف الدولة، وممن كانوا يقصدونه من الآفاق؛ لينفقوا من أدبهم في سوقه ما هو بهجة النفوس مدى الأيام، وربما قل في الملوك من مُدِح بمثل ما مُدح به سيف الدولة، حتى إن كلًّا من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد السميساطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت.»
وكل هذه الإجادة في الشعراء وتخريج الرجال كانت منبعثة من وراء إعطاء سيف الدولة للمال بدون حساب، أجاد شعراء الشام؛ لأنهم رزقوا ملوكًا وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء، هم كما قال الثعالبي: بقية العرب المشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلَّا أديب جواد، يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل، وبنو ورقاء أبو محمد جعفر، وأبو أحمد عبد الله أبناء ورقاء الشيباني من رؤساء عرب الشام وقوادها، والمختصين بسيف الدولة، وكان جعفر من بيت أمرة وتقدم وآداب، وكان المقتدر يجريه مجرى بني حمدان، وتقلد عدة ولايات، وكان شاعرًا كاتبًا جيد البديهة والروية، وكان يأخذ القلم، ويكتب ما أراد من نثر ونظم، كأنه عن حفظه، وكان بينه وبين سيف الدولة مكاتبات بالشعر والنثر مشهورة.
وإن بابًا يقف فيه أمثال أبي الطيب المتنبي، وأبي عبادة البحتري من الذين انتهت إليهم الرئاسة في هذه الصناعة، ومثل النامي، والببغاء، وكشاجم، والصنوبري، وابن خالويه، وابن جني، والبازيار، والصفيري، والناشئ، والبنص، والرقي، وابن نباتة، والفارابي، وابن كشكرايا، وعيسى الرقي، وغيرهم من العلماء والبلغاء والشعراء والندماء؛ إن بابًا يقف فيه أمثال هؤلاء هو باب ولا شك عظيم، وفضل صاحبه على الآداب جسيم.
•••
تجلت في عهد سيف الدولة في ديار الشام روح غريبة في الأدب العربي، وظهر بمظهر لم يسبق له عهد مثله، ولا جاء في القرون التالية شبه له ونظيرًا لهم إلَّا إذا كان على عهد الأمويين، ولم تبلغنا أخبار شعرائه، وقد استفاد من هذه الحركة الأدبية القاصي والداني، كان أبو بكر الخورزي في ريعان عمره، قد دوخ بلاد الشام، وحصل من حضرة سيف الدولة بحلب في مجمع الرواة والشعراء، ومطرح الغرباء والفضلاء، فأقام ما أقام بها على أبي عبد الله بن خالويه، وأبي الحسن السميساطي، وغيرهما من أئمة الأدباء، وأبي الطيب المتنبي، وأبي العباس النامي وغيرهما من فحول الشعراء، بين علم يدرسه وأدب يقتبسه، ومحاسن ألفاظ يستفيدها، وشوارد أشعار يصيدها، وهو أحد أفراد الدهر وأمراء النظم والنثر، وكان يقول: ما فتق قلبي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ هذا المبلغ بي إلَّا تلك الطرائف الشامية، واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي.
قام سيف الدولة بهذه النهضة الأدبية، وقد كاد القرن الثالث في الشام يخلو من الشعراء والأدباء؛ لأنهم قصدوا بغداد عاصمة الملك، وبقيت الشام بمعزل، ولم ينبغ في هذا العصر غير رجال في الحديث والمغازي والفقه، وضعف الأدب حتى أخذ ابن حمدان بيده وأيدي المشتغلين به، فكأن القرنين السالفين كانا كالمقدمة للكاتب الكبير الذي صدر في القرن الرابع، وشرحَه نوابغ الأدب العربي أحسن شرح، وفيه قام أساطين الشعر وأبو تمام وأبو الطيب وأبو عبادة، وإليهم انتهت الزعامة في الإجادة.
بلادنا بلاد الشعر، والشعر كان مبدأ دخول العرب في الحضارة، لم يحرصوا على شيء حرصهم على روايته ودرايته، وأشد ما يكثر الشعراء في أرض صح إقليمها، واعتدل نسيمها، وطابت تربتها وأديمها، وصفت أمواهها وسنح نميرها، وكثرت ظلالها بأشجارها، وغردت أطيارها في أسحارها، وهذه الحالة على حصة موفورة في القطر الذي يتاخم جزيرة العرب من شمالها، فكان شعراء الشام وما يقاربها أشعر من شعراء العراق، وما يجاورها في الجاهلية والإسلام، والسبب في تبريزهم قديمًا وحديثًا على من سواهم في الشعر قربهم — كما قالوا — من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبُعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض إلَّا لسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.
وإذا أضيفت إلى هذه الأسباب الطبيعية أسباب أخرى من تنشيط ملك، وإعجاب أمة بعمل العالم، أو الشاعر والكاتب، تفتحت القرائح وتجلى نبوغ الأفراد في أجمل مظاهره، كما جرى في أيام سيف الدولة الذي يشبه من كثير من الوجوه لويس الرابع عشر ملك فرنسا، هذا مع اعتبار الفرق بين العصرين، فإن ابن القرن التاسع لا يتأتى أن يكون مثل ابن القرن التاسع عشر، وابن غربي آسيا لا يصح بحال من الأحوال أن يشبه ابن غربي أوروبا، ولكن الرجال قد يتشابهون على كل حال، ووجه الشبه ظاهر بين الملكين، ولا سيما فيما يتعلق بالمعارف والآداب، ولكن عمل لويس الرابع عشر اتصل بعده، وما زال في نمو وعلو، وعمل سيف الدولة زال — ويا للأسف — بزواله، وهذا أهم فرق بين هذا الشرق وذاك الغرب، هناك يتسلسل الفكر قرونًا، وهنا ينقطع ويتحول، هناك تتناوله الجماعات بعد الأفراد فتحسنه وتزيد فيه، وهنا يُدفن مع صاحبه، ولا يبقى غير تذكاره، فعاش الشرق بالفرد وعاش الغرب بالجماعة.
لو أُلهم سيف الدولة أن يقتصد قليلًا من جوائز الشعراء فقط، خل عنك سائر إسرافاته، ويعمل فيها عملًا يكل أمره إلى إبقاء الأجيال التي جاءت بعده، لأثر وحده في مدنية الشام أكثر من تأثير الرومان واليونان، ولما نسي اسمه إلَّا من دواوين الأدب وأسفار المحاضرات، ومن قام أمره بالاستبداد ولم يحفل بآراء أصحاب الرأي، تضمحل سلطته عند أول عارض داخلي أو خارجي يعرض لها. إن سيف الدولة مثل الاستبداد الممزوج بالعقل، وحب الأدب والشعر؛ لأنه كان شاعرًا مجيدًا، جيد الطبع، كريم النفس، وكانت فائدته الشخصية أقل من فائدة الآداب عامة على يده، وجعل الشهباء مركز دائرته، فأصبحت في سنين قليلة عاصمة الآداب، فأورثنا شعراء سيف الدولة وأورثوه مجدًا لا يبلى على وجه الدهر جديده. ا.ﻫ.