سماع الألحان١
أجمعت الأمم من جميع الطبقات (الموسيقى الشرقي) على حب الألحان حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم، ولكل أمة ألحان ونغمات يستلذونها، ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم، ولا يفرح بها سواهم إلا بتعود سماعها، أو بمعرفة مواقع الطرب في أي لحن كان، ومن الدليل البيِّن على أن لها تأثيرًا في النفوس كون الناس يستعملونها تارة عند الفرح واللذة والأعراس والولائم، وأخرى عند الحزن والغم والمصائب والمآتم، وطورًا في بيوت العبادات والأعياد، وآونة في الأسواق والمنازل وفي الأسفار والحضر وعند الراحة والتعب وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهلاء والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.
قال ابن ساعد: ومنفعة الموسيقى بسط الأرواح وتعديلها وتقويتها وقبضها أيضًا؛ لأنه يحركها إما عن مبدئها، فيحدث السرور واللذة، ويظهر الكرم والشجاعة ونحوها، وإما إلى مبدئها فيحدث الفكر في العواقب والاهتمام ونحوها؛ ولذلك يُستعمل في الأفراح والحروب وعلاج المرضى تارة، ويُستعمل في المآتم وبيوت العبادات أخرى.
قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطيبة، فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد. وقال: إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو، بل للمنافع الذاتية ولذة الروح الروحانية، وبسط النفس، وترويق الدم، أما من ليس له دراية في ذلك، فيعتقد أنه ما وُضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بأمانيها.
قال الغزالي في الإحياء: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرًا عجيبًا، فمن الأصوات ما يُفرح ومنها ما يُحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يُضحك ويُطرِب، ومنها ما يَستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس، ولا ينبغي أن يُظن أن ذلك لفهم معاني الشعر، بل هذا جارٍ في الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج، وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده، فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه، والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال، إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها، وتصغي إلى الحادي ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل، وهي لا تشعر به لنشاطها.
فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقى — رضي الله عنه — قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه، فرأيت في الخباء عبدًا أسود مقيدًا بقيد، ورأيت جمالًا قد ماتت بين يدي البيت، وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: أنت ضيف ولك حق، فتشفع في إلى مولاي، فإنه مكرم لضيفه، فلا يرد شفاعتك في هذا القدر، فعساه يحل القيد عني، قال: فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتًا طيبًا، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالًا ثقالًا، وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته، فلما حطت أحمالها ماتت كلها، إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمرَه أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل، وقطع حباله، ووقعت أنا على وجهي، فما أظن أني سمعت قط صوتًا أطيب منه.
قال الغزالي بعد إيراد ما تقدم: فإذن تأثير السماع في القلب محسوس، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص، مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة؛ ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود — عليه السلام — لاستماع صوته، ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقًا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب.
قال حجة الإسلام: إن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يُبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها، فإن فيه سماع صوت طيب موزون، مفهوم المعنى، محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب، ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره، والموزون ينقسم إلى المفهوم، كالأشعار وإلى غير المفهوم، كأصوات الجمادات، وسائر الحيوانات، أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم، بل هو حلال بالنص والقياس، أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وللإنسان عقل وخمس حواس، ولكل حاسة إدراك، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ، فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن، وبالجملة سائر الألوان الجميلة وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة، وللشم الروائح الطيبة وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة، وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة، وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة، وللعقل لذة العلم والمعرفة، وهي في مقابلة الجهل والبلادة، فكذلك الأصوات المدرَكة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها، فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها.
ونقل الغزالي أيضًا عن أبي طالب المكي إباحة السماع عن جماعة فقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم، وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال: لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق، ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي، وله جوارٍ يُسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية، قال: وكان لعطاء جاريتان يلحنان، فكان إخوانه يستمعون إليهما، قال: وقيل لأبي الحسن بن سالم: كيف تُنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يستمعون، فقال: وكيف أنكر السماع، وقد أجازه وسمعه من هو خير مني، فقد كان عبد الله بن جعفر الطيار يسمع وأنا أنكر اللهو واللعب في السماع.
هذا ما قال الغزالي، ونقله في السماع وفوائده، والمحرم منه في الإسلام ما كان مانعًا عن العمل والعبادة محركًا للشهوات البهيمية، كما أن آلات الطرب يكون حكمها حكم السماع والتلحين، وفي هذه المسألة مرادات واختلافات بين العلماء في القديم والحديث، ولكن العقلاء منهم اختاروا التوسط، والتوسط محمود في كل حال، فإنهم لم يقبلوا أن يخرجوا بالناس عن الطبع والطبيعة؛ لأنهم إذا منعوا ما هو ضروري من ضرورات الحياة لا يعود الناس يبالون ويسيرون بلا وازع، وعلى كل فإن الاعتدال هو غاية الغايات حتى في العبادة.
نحن في عصر أصبح فيه الغناء من الفنون ذات القواعد والروابط والأصول؛ ولذلك ترى المنشدين والمغنين والموسيقيين يختارون من الألحان ما يناسب الظرف الذي هم فيه، وتراعى به حالة المستمعين، وقد ادعى بعضهم أن من النغمات ما يطيب في يوم ولا يطيب في آخر، وبعض الألحان قد يكون لها من التأثير ما لا يكون لغيرها، ولا شك أن للحالة النفسية التي يكون عليها المغنِّي والمغنَّى له دخلًا كبيرًا في الطرب، فقد وقع لنا أن طربنا مرات بشباب الراعي في الجبال أكثر من سماع الناي والقيثارة، وأن راقنا الغناء الطبيعي أكثر من المصنع الموقع على الألحان، وكثيرًا ما يسمع المرء أمهر الموسيقاريين بين المنشدين، فلا يرتاح كما يرتاح لسماع بدوي في البادية يحدو ويتغنى، كأن النفس لا تميل إلا إلى الطبيعي من الأشياء الخالي من الطلاء الصنعي.
قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والقينات، وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم، وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرًا فاشيًا، وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب، وكانت العرب تسمي القينة الكرنية والعود الكران والمزهر أيضًا هو العود وهو البربط، وكان أول من غنَّى في الإسلام الغناء الرقيق طويس، وهو علم ابن سريج والدلال ونؤمة الضحى، وقالوا: غناء كل مغنٍّ مخلوق من قلب رجل واحد وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعًا، وكانوا يقولون: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب منه مطرب محرك ويستخف، وضرب ثان له شجى ورقة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة.
الغناء مؤثر في البهائم فكيف لا يؤثر في الإنسان، هو يؤثر في الطيور والهوام، ولطالما شوهد العصفور والشحرور يرفرفان أمام مغنٍّ مطرب وآلة موسيقية شجية، وقد أخذهما الطرب فاقتربا يستمعان للأغاني، ورنات المثالث والمثاني كما يقترب الطروب من الأناسي، وشوهد أن الأفاعي خرجت من أوكارها تستمع لنغمة شاد أو ضربة موسيقار، بل شوهد أن من الغناء ما تهتز له جوانب القصور، وترتج رفوفها وحيطانها، ولعل ما قيل من أن صوت فلان يطرب الجماد له من الواقع أو الوقائع ما يؤيده.
الألحان تصفي الأرواح، وتبعث النشاط في النفوس، فبها قد يجسر الجبان في ساحة الوغي، ويكرم الشحيح، ويرق الكثيف، ويلين القاسي، ويقوى الضعيف، ويعدل الظالم، ويعطف اللئيم، وخير الأغاني والأناشيد ما كانت ملحنة بألحان تناسبها معربة الألفاظ جيدة المعاني، وما قيل من أنه ليس على المطرب أن يعرب ليس صحيحًا من أكثر وجوهه، فإن لجودة اللفظ والمعنى تأثيرًا لا ينكره إلا مريض الذوق بعيد عن مناحي الآداب سقيم الفهم.
قال يزيد بن عبد الملك يومًا وذكر عنده البربط: ليت شعري ما هو؟ فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو، محدودب الظهر أرسح البطن، له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حرك أعطافه وهز رأسه.
وقد ورد في الكتاب والسنة وسيرة أعاظم سلف الأمة إشارة إلى الغناء، وإلى تجوزهم في سماعه، وهم — ولا شك — أحسن قدوة في هذا الباب، قال القرطبي: ومن الاستدلال بالكتاب من ذلك أي على الغناء قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ، قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة: هو الغناء، وقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ، قال مجاهد: إنه الغناء والمزامير، وَأَنتُمْ سَامِدُونَ، قال ابن عباس: هو الغناء، ومن السنة ما خرجه الترمذي أن النبي ﷺ رجع من بعض مغازيه، فجاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله! إني كنت نذرت إن ردَّكَ الله سالمًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها: إن كنتِ نذرتِ فاضربي، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عمر، فألقت الدف تحتها، فقال النبي ﷺ: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. وفي حديث عائشة أن امرأة زُفَّت إلى رجل من الأنصار، فقال رسول الله ﷺ: يا عائشة! أما كان معهم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو. واللهو هو الغناء.
وحكي أن رسول الله ﷺ قدم من سفر، فصعد النساء على السطوح يضربن بالدفوف ويقلن:
روى ابن عبد ربه في العقد الفريد: قال بعض أهل التفسير في قول الله: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ هو الصوت الحسن، وقال النبي ﷺ لأبي موسى الأشعري لما أعجبه صوته: لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود.
كان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر به نعيم الآخرة، وقال أحمد بن أبي دؤاد: إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم، فيقع علي البكاء حتى إن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله.
وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وأن أفراخها تستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن، قال في العقد: وأردف النبي ﷺ الشريد فاستنشده من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحسانًا لها، فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه، قالوا الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحن حسن، وأجازوا ذلك في القرآن وفي الأذان، فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها؛ لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر، وما الفرق بين أن ينشد الرجل «أتعرف رسمًا كاطِّراد المذاهب» مرسلًا أو ليرفع بها صوته مرتجلًا، وإنما جعلت العرب الشعر موزونًا لمد الصوت فيه والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.
واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي ﷺ لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها، قالت: نعم، قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا، قال: أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:
واحتجوا بحديث عبد الله بن أويس ابن عم مالك، وكان من أفضل رجال الزهري، قال: مر النبي ﷺ، بجارية بظل قارع وهي تغني:
فقال النبي ﷺ: لا حرج إن شاء الله.
حدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال: حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان، وعنده جارية في حجرها عود، فلما دخل الشعبي أمرها، فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده قال: صدقتم، ثم قال للجارية: هاتِ ما عندك، فأخذت العود وغنت:
فقال الشعبي: الصغير أكيسهما — يريد الزير — ثم قال: يا هذه، أرخي من بمك وشدي من زيرك، فقال له بشر: وما علمك، قال: أظن العمل فيهما، قال: صدقت، ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.
أرق معاوية ذات ليلة، فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله (ابن جعفر وكان ضيفه أنزله في دار عياله بالشام) وأخبره بخروجي إليه، فذهب فأخبره، فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية، فلم ير في المجلس غير عبد الله، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان، قال معاوية: مُرْه يرجع إلى مجلسه، ثم قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان، قال: مُرْه يرجع إلى مجلسه، حتى لم يبق إلا مجلس رجل، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين، قال له معاوية: فإن أذني عليلة، فمُرْه فليرجع إلى موضعه، وكان موضع بديج المغني، فأمره ابن جعفر فرجع إلى موضعه، فقال له معاوية: داوِ أذني من علتها، فتناول العود ثم غنى:
فحرك عبد الله بن جعفر رأسه، فقال معاوية: لِمَ حركت رأسك يا ابن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لاقيت عندها لأبليت، ولئن سئلت عندها لأعطيت، وكان معاوية قد خضب، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا، وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه فغناه بديح:
فطرب معاوية طربًا شديدًا، وجعل يحرك رجله، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك، فقال معاوية: كل كريم طروب، ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني، فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه، وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب.
روى المبرد في الكامل، قال: حدثت أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة، فسمع من عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة، فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر، قال: إذن فاخثر له من العطاء. وحدثت أن معاوية قال لعمرو: امض بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو، وسعى في هدم مروءته حتى ننعي عليه أي نعيب عليه، فعله يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدخلا إليه وعنده سائب خاثر وهو يلقي على جوار لعبد الله، فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية، وثبت سائب مكانه، وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاوية عمرًا، فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه، فأمر بالكراسي، فألقيت وأخرج الجواري، فتغنى سائب بقول قيس بن الخطيم:
وردده الجواري عليه، فحرك معاوية يديه، وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه، فجعل يضرب بهما وجه السرير، فقال له عمرو: اتَّئد يا أمير المؤمنين، فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالًا وأقل حركة، فقال معاوية: اسكت لا أبا لك، فإن كل كريم طروب.
ولا بأس هنا أن نختم هذا الفصل بأبيات في صنعة الغناء، نقلها الشريف المرتضى في أماليه قال: أخبرنا المرزباني قال: حدثنا علي بن هارون قال: حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله يصف جارية مغنية قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة الغناء، واستحسانه مثل هذه الأبيات: