الموسيقى الغربية
مدعاة السرور، مجلبة النشأة، مسلاة الحزين، مفرجة الكروب، مهونة الخطوب، عنوان الحياة الداخلية، مظهر الأخلاق القومية، مصورة الفواعل النفسية أصدق عامل على التحمس والتحسس، أقوى دافع إلى النهوض، معلمة أنفع الدروس الشريفة، مذكرة بالمطالب العالية مما لا يعلمه الضعف، دافعة عن مزالق الشباب وطيش الحلوم، فيها يتجلى العقل البشري الفعال بإشارات وأي إشارات، تعمل عملها في الأفئدة والوجدانات.
هذه هي الموسيقى، وهذا ما يتوخاه الغربيون منها؛ ولذلك تجد لها في كل صقع من أصقاعهم نغمة ورنة، وفي كل مملكة من ممالكهم وترًا خاصًّا، بل أوتارًا تهز القلوب وتعمل عملها فتقوي الضعيف، وتجبر الكسير، وتهيب بالمستمع إلى ميدان المضاء، وتُمكن فيه أواخي الحزم والعزم، وتطرد عنه الوساوس والهواجس وتجعله في الذروة، تشرف على التصورات البشرية فيتدبرها في سره، ويهيم ويتعلم ويطرب ويسلو.
تدخل الموسيقى عندهم في معظم مظاهر الحياة الخاصة والعامة، فلا مجتمع دينيًّا كان أو مدنيًّا، ولا ملهى ولا مسرح ولا ملعب ولا مرقص ولا مطعم ولا فندق إلا وللموسيقى في الغالب دخل كبير فيها، يتعلمونها صغارًا ويرضعون حبها مع اللبن؛ لأن الحاجة إليها مغروسة في الفطرة البشرية، والدافع إليها الطبع أولًا ثم التطبع، فكيف بهما إذا اجتمعا؟! ولذلك يحسنها أو يستحسنها رب الأسرة وصاحبة البيت، والطفل والابنة، والفتى والفتاة، والسيد والمسود، والموسر والمعسر، والعامل والماهن، والغلماني والكاهن، والكبير والصغير، والقائد والجندي، تساووا في حبها، وأجمعت كلمتهم على عموم نفعها والأخذ بحظ منها.
قال لي من طاف أميركا الشمالية وتوغل في ريفها وقراها: إن أصغر فلاح فيها يملك آلة البيانو يطرب عليها هو وأهله وأولاده وأصحابه، وقالت مدام دي ستيل: إنك لا تجد في سكان المدن ولا القرى ولا الجنود ولا الحراثين من لا يعرف الموسيقى في ألمانيا، ففي أحقر كوخ تسمع صوت الموسيقى على نحو ما تسمع ذلك في إيطاليا إلا قليلًا، والأولاد والطلبة يطوفون يوم الأحد في الشوارع يمجدون الله وينشدون الأناشيد الحماسية.
آلات الموسيقى متحدة في الغرب، ولكن الصور التي تخرجها مختلفة، وإن أسمعوك في بلد ما هو من صنع غيرهم، فتسمع في كل أمة ألحان رجال الفن في أمة أخرى، وأمم الغرب مهما تباعدت في المقاصد، وتباينت في المصالح لا تجدها إلا متفقة في تمجيد المغنين من الموسيقيين يضربون أوتارهم من غير نكير، ولو بلغ الحقد أو التنافس أو التنابز مداه في صدورهم، فليس لهم شيء أجمعوا على تقديسه مثل نغمة تصدر في يد صناع، ولحن يلحنه نفس نفيس.
الشرقي أمام الموسيقى الغربية كالمقلد بالسمع، أو كمن يسمع بأذن غيره، يطول به العهد حتى يطرب لها طرب أهلها بها؛ لأن موسيقاه وأغانيه تخالف موسيقاهم وأغانيهم؛ ولأنه ألف نغمات أخرى، فهو وإن لم يفهمها ولكنها قريبة من مصطلح قومه، مؤتلفة مع مناخه ومحيطه ودرجة رقية وتاريخية، فالعربي يطرب من الموسيقى التركية، وبالعكس للمجاورة والألف، والفارسي يحب الموسيقى العربية لتَمازج تاريخ أمته بالعرب، وكلما قويت الروابط بين الأمم وسهلت الشقة وارتفعت تأثيرات التخوم، والمبعدات بين القلوب، زاد طرب الجار من نغمة جاره.
سمعت الموسيقى في أكثر بلاد الغرب في إيطاليا والنمسا والمجر وسويسرا وألمانيا وإنكلترا وفرنسا وهولندة والبلجيك وإسبانيا، فكان طربي بالموسيقى الإسبانية أكثر من غيرها؛ لأنها تترشح من الأنغام العربية لتَمازج تاريخ العرب بتاريخ الإسبان، وكذلك تُطرب النفس بالموسيقى التركية لأنها ترشح من موسيقاته، وقد أتت قرون والعرب والترك متلاحمون في البلاد مشتدة روابطهم متحدة كلمتهم.
ولقد طربت من موسيقى أهل الغرب الأقصى وأهل الجزائر وأهل فارس طربي من الموسيقى الشامية، ودون طرب كل عربي بالموسيقى المصرية؛ لأنها أرقاها، وقد بلغت بالنسبة إلى سائر البلاد مرتقاها، تأثرتُ مرة لنغمة فارسي كان ينشدني قصيدة من نظمه في الحرية، وتأثرت مرة من فتاة صربية في قطار كانت ترنم بنغمتها الوطنية، وأنا لم أفهم معاني الفارسي ولا الصربية، ولكن ما ذهبَت إليه النفس من التذكارات فعل فيها فعله فأخرجها عن كثافتها، وسمعت مؤخرًا مغنية إسبانية في مسرح الأولمبيا في باريز تتغنى بالإسبانيولية، وتبيع بنفسجًا ترشقه على الحضور، فكان منظرها وحركتها ونغمتها من أجمل ما رأته العين في الغرب، وطربتُ به حقيقةً، وما ذلك إلا للأثر الناتج عن تأثيرات الموسيقى، وما يتذكر الإنسان من الوقائع والحوادث.
كان لنا في بر الشام موسيقى راقية، فكادت تندثر لزهد الناس في هذا الفن؛ لأنه دليل ارتقاء الأمة، والأمة كانت مشتغلة بنفسها ترجع القهقرى، وكان المشتغلون بهذا الفن مرذولين ممتهنين، فبينا نجد الموسيقار والمنشد في الأمم الأخرى عشير الملوك والرؤساء والعلماء منعمًا مرفهًا، إذا مات مشى في جنازته العظماء — كما فعل الفرنسيس بجنازَتي سان ساينس وفوريه الموسيقيَّيْن، وعدُّوهما من المفضلين على أمتهم، ومجدوهما وقدسوهما، ترى مثيلهما في أرضنا مهانًا لا يؤبه له، إن أخذ بفنه عاش فقيرًا ومات خاملًا حقيرًا، وكم من نابغة في الموسيقى عندنا تخلى عن هباته خشية أن يلحق به العار، وزهد نفسه طوعًا أو كرهًا بما يحبه، وكان في مستطاعه أن يبرز فيه لعلمه بضيق العيش من هذا الباب؛ ولأن صاحبه لا يُعد في الطبقة التي هو حريٌّ أن يعد فيها.
ولو لم نر من نهضة الموسيقى آخرًا وتشريف قدرها في مصر اليوم لسجلنا بأن هذه الأمة العربية جمعاء منحطة، وأي انحطاط عن أمم الحضارة الحاضرة، ولقلنا: إنها أمة مات شعورها في كل معنى، وهي والأمم المتوحشة سواء في أوضاعها وعاداتها وأسباب هنائها وراحتها.