الاستقلال والاتكال١
يطالع المستفيد مئات من كتب الفلسفة والأدب وعلوم العمران، فلا يعتم أن يستقل منها ما يأخذ مأخذه من العقول، ويحدث أثرًا في النفوس، ولا عجب، فقد تنصرف وجهة الألوف إلى خدمة العلم وبث الملكات الصحيحة، فإذا فوضل بينهم ووضعت أعمالهم في ميزان النصفة وعلى محك الاستبصار يكثر الشائل ويقل الراجح، والمؤثرون في الأفكار في كل الأعصار والأمصار أندر من الغراب الأعصم والكبريت الأحمر، على أن كل من بذر بذورًا طيبة لا ينفك مثلوجًا فؤاده مهما تأخر نباتها وإيتاؤها، لعلمه بأنها ستؤتي أكلها عاجلًا أو آجلًا إذ لاءمتها طبيعة المنبت، وأحسنت تعهدها أيدي القائمين عليها.
وقد وقع شيء من هذا — إن صح حدسي — للكتاب الذي ألفه المسيو أدمون ديمولان الفرنساوي، وعربه أحمد فتحي بك زغلول المصري المسمى «سر تقدم الإنكليز السكسونيين»، فإنه أثر في الفرنسيس أثرًا حسنًا، وسرى قول مؤلفه في بلاد الإفرنج منذ نحو خمس سنين، فتُرجم إلى لغاتهم، وتناولته ألسن الناقدين والمسلمين، وعاد بعض المنشئين يرون رأي صاحبه، وينطقون بلسانه، ويكتبون بقلمه، ودل كثير من أهل العلم على مواقع الفساد من تربيتهم، ونقص الاستعداد من عاداتهم، وأشاروا إلى تخلفهم في حلبة تنازع البقاء عن جيرانهم الألمان والإنكليز والأميركان تخلفًا يُخشى معه أن يبتلعهم الجنس السكسوني، فيكون مستقبل العالم له دون سواه.
هكذا يقولون، وغير منكر أن الفرنسيس نفعوا الإنسانية نفعًا لا تنكره، وكفاهم مفاداتهم بأبنائهم مرارًا تخفيفًا من سلطة الملوك ورفعًا لغشاوة جهالة ظلت مسدولة على أوروبا قرونًا، جعلتها وراء شعوب الأرض، فخلعت ربقة الاستعباد، وقررت حقوق الإنسان وقواعد الحرية والإخاء والمساواة، ونشرت المعارف في الأطراف حتى ابتذلت، واشترك في الأخذ من بحرها المحيط عامة الطبقات، فأصبح الحراث الفرنساوي يقرأ ويكتب، ويفهم أكثر من بعض من ندعوهم بالمنورين في بلادنا، وما يأخذه الآن بعض علماء الفرنسيس على أمتهم إن هو إلا من باب الاستزادة من الفضيلة، والدعوة إلى الكمال والسبق في ميدان التغلب والسيادة، نعم، إنه ليستنشق من غال المكتوب رائحة الغرض، ويعترض على بعضهم مبالغتهم في وصف أعراض الضعف، حتى أوشكت الفائدة أن تضيع، وينسب كل ما يخطونه إلى التشيع والتحزب، ويؤيد ذلك أن ما يكتب صادر من بلاد تأصل فيها الانشقاق الداخلي، وراجت بضاعة الأحزاب، وساد فيها تباين الآراء، فلا يكتب الملكي أو الكهنوتي إلا ويرمي ببصره إلى القديم يمجده، والتليد يبكيه وينشده، ولا يجهر الجمهوري إلا ويفاخر بما تم على يديه من ارتقاء ونماء، ولا ينبري الفوضوي أو العدمي أو الاشتراكي إلا ويستدعي الأمثلة، ويستجيش البراهين إعلانًا بدعوته واستتمامًا لرغبته، ولكن فرنسا ما زالت بفضل أساسها القديم أم المدنية وربيبة الحضارة، وإن تقهقرت في سياستها وأخلاقها، فلمرتبتها الميزة على سائر الشعوب الأوروبية خلا السكسونيين، ولكن صحة الوطنية التي عُرف بها مساعير أبطالها ومشاهير رجالها جعلتهم اليوم يفرطون في النصح والقدح.
(١) استقلالهم
وبعد، فإن الأمم من حيث كيانها قسمان: استقلالية واتكالية، فالأمة الاستقلالية هي التي طُبعت على حب الانفراد، يعتمد كل فرد منها على نفسه لا على حكومة ولا جمعية ولا حزب ولا عشيرة ولا أسرة:
ومثالها الشعوب الإنكليزية السكسونية، والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة، فيتوكأ كل فرد على غيره، وأعظم مثال لها الأمم الشرقية حاشا سيدتها الأمة اليابانية العظيمة، فإن التربية الاستقلالية عندها على ما يبلغنا قائمة على أعظم هياكلها، وأبناؤها أبعد المشارقة عن النشأة الاتكالية.
وبديهي أن العلم وحده لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يُقرن بالعمل، وفرنسا وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون وأهل الصحافة والأدب، بحيث تعذر قبول من تخرجهم المدارس العالية باسمها، فسدت في وجوه الناشئة أبواب الرزق؛ لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس ونحوها من المدن الحافلة؛ ليستمتع برفاهها وأنسها ولو عاش في قل، وزهدوا في الاشتغال بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة، وذلك غير معهود عند من كان دمه سكسونيًّا؛ إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أيه حرفة مهما كان علمه واستعداده؛ ليضمن لنفسه وذويه مرتزقًا فسيحًا وعيشًا استقلاليًّا لبابًا، فإن لم يجد ما يعمل في بلاده يغادرها؛ ليستعمر مكانًا آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش بلندن أو برلين، والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار، وإن شئت فقل في أقاصي صحاري أفريقيا حيث الوحوش ضارية، والسموم لافج، والعيش مر المذاق.
وتأييدًا لذلك أنقل هنا ما صرح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيس بهذا الشأن قال: «يزعمون أن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل، وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقبًا كبيرًا، هجم عليه أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحرف الشريفة ووظائف الحكومة جملة، بحيث وجب على الأمة ألَّا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة قرون، حتى صار جرحًا نغارًا، وضربة مبرحة، وأعني بذاك الشر داء الاستخدام والتوظف.
لا جرم أن الحركة التي بدأت طلائعها في فرنسا زمن فيليب الجميل أزعج أمرها على عهد لويس الرابع عشر، فزاد الحال إشكالًا على أثر عودة الملكية إلى فرنسا، واستيلاء أسرة بوربون على منصة الحكم، وصار على عهد الجمهورية الثالثة الحالية أدهى وأمر، فإذا نشأ الأبناء على آسال آبائهم ولم يصلح حالهم يضيعون مجد أسلافهم، ويخربون مملكة قويت على الحوادث، على حين تعدهم عدتها في شدتها، وبيدهم إنقاذها وإسقاطها.
كل هذا نتيجة تغير التربية وانتشار المعارف بين الأفراد وكثرة الكفاءات في كل فروع العمل، فمن العقل والحالة هذه أن يتدرع الفرنسيس بسلاح من العمل مفيد، ويعتاضوا من الركوب على متن عمياء بالجري في طريق جديد من إتقان المبادئ الصحيحة والأخلاق الفاضلة.
يلزمنا رجال مهذبون لا رجال متعلمون، وفي فرنسا طبقتان من المدارس، أولاهما للصغار وثانيتهما للكبار، وبعبارة أجلى مدارس الصناع ومدارس المفكرين، أما حسن التربية الإنكليزية السكسونية ورجحانها على التربية الفرنساوية، فهي قائمة فيما أوتيه بعضهم من الصفات الشخصية مثل المروءة وحسن الخلق والحصافة والبداهة والجرأة والإقدام على المشروعات والاكتشاف والافتتاح والمخاطر، فبدلًا من أن تنمي فرنسا في نفوس أبنائها هذه الصفات تغرس فيهم ملكات حب التآلف والاجتماع، تبث فيهم التأثر بدل المروءة، وتبث فيهم الخشية من أقوال الناس، فيشاكل المرء الجمهور بأقواله وأفعاله بدل تنشئتهم على خلق يبقى فيه الإنسان مستقلًّا بنفسه، وبدل الحصافة التي يتأتى بها للمرء إيجاد الأشياء بذاته تقوى فيه ملكة الذاكرة التي تعيد عليه ذكر الأشياء التي يحفظها مما عثر عليها غيره بالتجارب، وعوضًا عن البداهة التي يتمكن بها المرء من تطبيق ما أوجده بنفسه تبث فيه الثقة، فيصبح عرضة لأغراض حكامه، وبدل الجرأة تبث فيه الحذر، وبدل الإقدام على المشروعات والفتوح والاستنفاض (فتح البلاد) تبث فيه ملكة الاقتصاد والسلم وحب السكن، وبدلًا من اقتحام المخاطر تحسن له الرضى بالاستخدام.
إن دماغ الجنس السكسوني متمدد ومحدود، وذكاءه تحليلي وجنسه جنس العمل والكد، وعلى عكسه دماغ الجنس الفرنساوي؛ فإنه موسع وذكاؤه تأليفي، وهو خيالي يعشق التصورات، وبالجملة يعنى الجنس الأول أبدًا بالحقائق على حين يفضل الثاني الأفكار والخواطر، يجيد السكسوني في الغالب القيام على الأعمال المادية، وبعض الفرنسيس يحرزون قصب السبق في ميادين الذكاء المتسعة الأطراف.
ألا وإن قيمة الجنس السكسوني بمجموعه، وقيمة الجنس الفرنساوي بخياره، فالإفرنسي المتوسط لا يساوي الإنكليزي المتوسط، والإفرنسي العالي يساوي أكثر من إنكليزي عالٍ، ولكن الخيار من الفرنسيس لا يشغلون المكانة التي يستحقونها؛ لأنهم مغلوبون للأخلاق الحالية، لم يستوفوا شروط النفع ولا أتموا أدوات التهذيب.
(٢) اتكالنا
بمثل هذا اللسان يخاطب الكاتب الفرنساوي أمته، ويقرعها تقريعًا أمر من الصاب والعلقم؛ لتستفيق من غشية تخشى مغبتها، وتفلت من الوقوع في مخالب أسود السكسون؛ لئلا يكون حظها في الوجود حظ الأمم البائدة كالرومان واليونان والفرس والعرب، وما القصد من إيراد كلامه بنصه إلا ليحصل التمثيل بيننا وبين أمة نشابهها في الأعراض، وإن كانت أعلى منا جوهرًا.
ولعله يخيَّل لبعض سكان هذه الديار أن الفرنسيس مثلهم في الانحطاط، وأن لهم بهم قدوة حسنة وأعظم سلوى، ولكن شتان بين حالنا وحالهم، ورجالنا ورجالهم، وحضارتنا وحضارتهم، أمة تشخص الداء، وتفكر في وصف الدواء، أو تشعر بنقصها وتسعى إلى كمالها، وأمة موقنة بأن داءها عين الصحة لا بأس عليها ولا خشية من ناحية حياتها، يرضيها نقصها فلا تريد استبدال غيره به، وكل من محضها النصح رمته بانحلال عقدة الوطنية والمروق من عهود الحمية وصدق التابعية.
لا جرم أن الرجل الفرنساوي الراغب في الاستخدام لا يشبه الرجل المصري أو السوري أو العراقي مثلًا، فإن الأول يستعد ليحسن الاضطلاع بما يوسد إليه من أمر أمته، ومعظم هؤلاء على نقص في المدارك وانحطاط في الفضيلة، يطمحون إلى السعادة والسيادة بلا سابق معرفة سوى أواصر القربى أو التقرب أو أواخي المؤاخاة والتزلف أو وشائج الدرهم والدينار.
ولقد أصبح من الرأي المقرر بين الناس أن كل من ليس له علاقة بالحكام كعضو أصيب بالآكلة لا حيلة فيه إلا بالبتر أو الموت، بيد أنه لا تثريب على الفقير إذا رشح ابنه لأي خدمة كانت ليرتفع بها من الدنية، ما دامت البلاد صفرًا من أصناف المعاش الذي يزعج صاحبه عن العيش الاتكالي ويورده موارد الاستقلال، بل اللوم كل اللوم على رجل يعد من نواصي أهل وطنه وعليتهم وله من العقار والقرى ما يسد عوزه وعوز مئات معه، وهو على ما له من الاعتبار بين جيله وقبيله يسف إلى الاستخدام في وظيفة؛ ليتباهى بها أمام العدو والصديق.
أعرف رجلًا في إحدى مدن الشام الحافلة له عراقة في محتده، وأصالة بين قومه وسعة من دنياه، وتراه مع هذا يصرف من نهاره وليله في نيل الزلفى من الأمراء كبتًا لخصومه، فيبذل كل عام في هذا السبيل من الصفراء والبيضاء ما يكفي لإعالة ألف نسمة من أصحاب البأساء، وكلما طعن في السن يزداد غلوًّا في مباديه وإصرارًا على نكاية أعاديه، وهو دائمًا أجول من قطرب وأشغل من ذات النحيين، ومساعيه أبدًا مخفقة، وآماله مخيبة، وهكذا حال خصمه اللدود له مال وبنون ومقام بين أهل حيه كريم، ولكن لا يهدأ له بال إلا بالجلوس على أرائك الحكم، ومقاعد التصدر، يتلمس لبنيه إذنًا بملازمة الدواوين، مزاحمة لأولاد الفقراء ليستأثروا بعد بالرواتب دونهم، وينالوا المعالي بنفوذ والدهم عفوًا صفوًا.
ولو عقلا لاستعاضا عن التلهي بهذه السفاسف بإدارة شئون مزارعهما الواسعة، وتحسين طرقها وتنمية غلاتها وثمراتها، ولكن هو حب الرئاسة يستلب الألباب وفي الأمثال: «يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة.»
ولطالما سمعنا أن فلانًا غادر سكنه ومسكنه، تاركًا دخلًا يكفيه وعياله لأن يعيش عيش الاستقلال، فيوكل به من يسرق نصفه لينتظم في سلك الموظفين، ويأخذ من استخدامه ما يوازي النصف الذي فقده بغيابه ويغتذي من دماء الأمة سحتًا بحتًا وحرامًا محضًا ليقال عنه: إنه من الموظفين، ويخاطَب بالفضيلة والسعادة، ثم إذا كثر سواد أقرانه يقضي حياته قلق الضمير، وربما أنفق كل ما يملكه من تراث آبائه؛ ليرتقي إلى وظيفة أعلى من وظيفته، ويسبق من سبقوه أو هم لاحقوه، وما الموظفون في الحكومات الاستبدادية براغبين أن يعدوا من ممثليها ليحموا ما يملكونه من اعتداء المعتدي، وتعسف الظالم كما هي دعواهم، بل ليكونوا جلادين في تلك الدولة، ويسوغ لهم إتيان كل منكر أرادوه بلا وازع ولا رادع.
ألا وإن الأمثال لكثيرة على من آثروا العيش الاتكالي، ورضوا بالإسفاف إلى الدنايا كأصحاب الأوقاف ممن يرضون بالكفاف من العيش، ويقنعون بدريهمات تأتيهم من وراء أجدادهم، أضف إلى زمرتهم من حبسوا أنفسهم في الصوامع والجوامع مثل المدرس والمؤذن والخطيب ممن يكتفون بالنزر من المشاهرات، يقبضونها ببذل ماء المحيا، ويصرفون لأجلها من الأوقات ما لو صرفوه في بيع الثرى لأثروا به، ثم يرقبون ما يأتيهم من أجور الطلاق والمناكحات، ويتلمظون بطعام الولائم والوضائم، ويقنعون بتقبيل الأيدي ومصافحة المريدين، وكذلك حال الرهبان والقسيسين وسائر من يتصرف باسم الدين، وهم فائضون عن الحاجة، فكلهم يتقربون بالفاقة إلى مولاهم، ويستوكفون أكف الصدقات، وينتظرون قيم الصلوات والدعوات، وهذا الخلق مستحكم من المسلمين بحكم التربية أكثر منه بغيرهم من الطوائف.
إليك شرح الاتكال المجسم الذي شكا منه كبار الفرنسيس، وهو عندنا في أرقى درجاته، ولا نشكو ولا نتبرم، وأما شكواهم من كثرة المرشحين للحِرف الأدبية فيقابله شكوانا من قلتهم إذا لم نقل من فقدهم، يعوزنا الصحفي العلامة، والطابع الماهر، والطبيب النطاسي، والمحامي الحاذق، والاقتصادي المدرب، والرياضي المنجذ، والطبيعي المتعقل، والمهندس الفطن، والسائح الثابت، والممثل الفاضل، ممن تبرم بكثرتهم في فرنسا صاحب سر تقدم الإنكليز السكسونيين، ولكننا نحن في غنية عن هذا العدد الدثر من الحاجب والكاتب والمصاحب، والجاسوس والمسجل، والرئيس والمرءوس، بل وألوف مؤلفة من أصحاب الرواتب بلا عمل الذين يأكلون مال الأمة بالباطل، ويعيشون على عاتقها حملًا ثقيلًا، فلا هم بوجودهم ينفعونها، ولا هم عن مغرمها غافلون.
أين حال الأغنياء والأعيان المتهافتين على المناصب في بلادنا من أهل تلك الطبقة في إنكلترا مثلًا حيث الحكومة تخطبهم، والشعب يطلبهم، وشتان بين خاطب ومخطوب.
كتب أحد سراة بريطانيا إلى صديق له يقول: دع الناس يطلبون الأرزاق من الدولة، فأنا لا أنحو منحاهم؛ لأنني أقدر أن أكون غنيًّا بتسامي عن الدنايا، ولا أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية، فإني أعمل في بستاني بيدي وأجتزئ بالقليل من النفقة عن الكثير.
وهو — كما رأيت — كلام من يوقن أن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش، بل كلام من ارتقى وتهذب وعلم علم اليقين أن الحكومات ليست إلا خادمة للأمم، وأن الشعب في غنية عنها ولا غنى لها عنه، فمتى يكون مثل هذا القول لسان حال أعيان بلادنا حتى لا يكونوا على أمتهم أضر من العث في الصوف والدودة في الكرمة، ولكن المشارقة انغمسوا في مضال الجهالة منذ قرون، حتى أصبحوا يقدسون حكامهم ومن انتسب إليهم، وغالوا في تعظيمهم إلى أن بلغوا بهم منازل الألوهية، وأنشئوا يستحلون لهم المحارم، ويطلقون عليهم ألقاب الربوبية.
وما برح الناس يبحثون عن داء المجتمع الإنساني، ويصفون له الأدوية وهو لا يزداد إلا تفشيًّا، وقد أعضل ما يسميه الغربيون بالمسألة الاجتماعية، حتى حار في طبها رجال العلم والسياسة، وأصبحت شغلًا شاغلًا لأهل المدارك السامية، ولذا قال صاحب سر تقدم الإنكليز السكسون: ليست المسألة الاجتماعية عبارة عن مساعدة الأفراد، كما أن مسالة الحياة لا تقوم بكثرة تناول الأدوية والعقاقير؛ إذ ليست المساعدة أو العقاقير من وسائل الحياة الطبيعية، وليست الحكمة إلا ما أدت إلى الاستغناء عن تلك الوسائل الصناعية، وليس من حل للمسألة الاجتماعية إلا جعل الأفراد بحيث يستطيع كل فرد منهم أن يقوم بأمر نفسه، وأن يرتقي بجده وعمله؛ لأن سلامة الاجتماع كالسلامة الأخروية تقوم بكل واحد على حدته، وعلى كل واحد أن يسعى إليها، وقولي هذا لا يروق في أعين الذين اتخذوا السياسة حرفة وغيرهم ممن طلبوا رزقهم من انحطاط الأمة، وضعف مدارك الطبقات النازلة، وكانت منفعتهم في بقاء الناس دائمًا على حالة يشبهون فيها القاصرين، حتى يتيسر لهم أن يكونوا عليهم أوصياء.
ولما فرض عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — العطاء، قال للمسلمين: إني كنت امرأ تاجرًا، يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أنه يحل لي في هذا المال، وعليٌّ ساكت فأكثر القوم فقال: ما تقول يا علي؟ فقال: ما أصلحك وعيالك بالمعروف ليس لك غيره. فأخذ عمر قوته، وإن لنا في غير هذين الإمامين من رجال سلفنا الصالح الأسوة الحسنة في فضيلة الاستقلال وترك الاتكال، ولنا الأسوة في الأمم الحية لعهدنا التي نرى آثارها باهتين شاخصين، فالعبر بين أيدينا ومن ورائنا وعن أيماننا وشمائلنا ولكننا لا نعتبر.